في تذكر أكرم
أنطاكي
محمد علي عبد الجليل
لم
أَكُنْ أَعرِفُ أنَّ حضورَ أَكْرَمَ أنطاكيٍّ مُتغلغِلٌ في حياتِـيْ
إلى هذا الحدِّ. رُبَّما لأنَّهُ كان شاهِدًا على قِصَّة حُبِّيْ
لِــقَمَرَ الَّتي أعادت خَـلْـقيَ مِن جديدٍ. ورُبَّما لأنَّ في
نَفْسِ أكرمَ العُليا سِحْرًا خاصًّا يَصْنَعُ تَـفَـرُّدَه. ورُبَّما
لأنَّ إنِّـيَّتَـيْـنا الفَـرديَّـتَـينِ أو نَـفْـسَـيْــنا
الـعُــلْـيَـيَـــيْـنِ (أو جِـسْـمَـيْنا العِـلِّـيَّـيْـنِ)
تَـتَـشابَـهانِ فَـتَـتَـجاذَبانِ. فناهِـيْـكُم عن الوجهِ الطفوليِّ
الذَّي مازال أكرمُ يُـطِلُّ به علَيَّ مِن نوافذِ أحلاميَ
الَّليليَّةِ، كُـنْتُ كُلَّما أَرَدْتُ أنْ أستريحَ مِن عناءِ اليومِ
في ظِلِّ حُلُمٍ نهاريٍّ لا أجِدُ سِوى ذكرياتي مع أكرمَ أستلقي في
حِضْنِها أُدَفِّئُ بحرارتِها عِظامي شِتاءً وأَتبرَّدُ بِنَسيمِها
صيفًا. وكُلَّما احتَجْتُ إلى قِسْطٍ مِن الراحة فَتَـحَ ليَ أكرمُ
بيتَه في مَرمريتَّا ومَكْتَبَه في دِمَشْقَ وفَرَشَ ليَ صُورًا ناعمةً
مِن أحداثٍ وأشخاصٍ مازالت بصَماتُهم في تلافيفِ دِماغي. كان أكرمُ
مُسانِدًا لي ومُـعْجَـبًا بفكرةِ أطروحتي للدكتوراه. مازال أكرمُ معي
يُساندُني. ومازال صوتُه يشجِّعُني ويُدافِعُ عن أفكاري وهذياناتي
ويُعجَبُ بِـما أَكتُبُ...
لقد أَصبحَ أكرمُ رمزًا لوطنٍ مفقودٍ، أو لِأَقُـــلْ أَصبحَ وطنًا
لنفسيَ وخَمرةً أنتشي بذِكْرِ رحيقِها. وتقولُ نَفْسي لِنَفْسِها: "متى
تعودُ يا أكرمُ؟ لقد رحلْتَ وأخذْتَ معكَ سُوريَّــتَــكَ الَّتي هي
سُوريَّتي. ولم يبقَ لنا يا أَكْرَمُ مِن بَعدِكَ سِوى الشَّتاتِ..."
ورَغْمَ أنني لا أقتنِعُ بكِذْبةِ الوَطَنِ ولا بِخِدْعةِ العُروبةِ
ولا بِسرابِ القوميَّاتِ ولا بِـوَهْمِ الأديانِ، فإنَّني أرى أكرمَ
ذلكَ الوَطَنَ السُّوريَّ الآراميَّ السِّريانيَّ العربيَّ الكُرديَّ
الشَّركَسِيَّ التُّركمانيَّ الأَرمنيَّ المسيحيَّ الإسلاميَّ
اليهودِيَّ اليزيديَّ المدنيَّ العَلمانيَّ الكَونِيَّ الرَّاحِلَ إلى
غياهبِ الذَّاكِرةِ.
فِي طَريقِ عَودتِي مِن رُوما عامَ أَلفينِ وثلاثةٍ إلى ما يُسَمَّى
مَجازًا "الوَطَنَ" الذي حَمَلَ مُصادفةً اِسْمَ "سُورِيَّا"، وكانت
تِلْكَ رِحلتِي الأُولى خارِجَ ذلكَ الوَطَنِ الـمَزعومِ، كُنتُ
وقتَئذٍ مسكونًا بفكرةِ التعرُّفِ على أكرمَ. وكانت أفكاري تسبِقُني
إلى لقائهِ قَبْلَ أنْ تَهبِطَ الطائرةُ في مَطارِ دِمَشْقَ. ثمَّ
أَصبحَتْ بَعدئذٍ كلُّ عَودةٍ إلى "الوَطَنِ" المزعومِ مُرتبطةً
بزيارةِ أكرمَ. ولمْ تَــعُــدْ "مَعابرُ" و"أكرمُ" توأمَينِ فحَسْبُ،
بل أصبحَتْ "سُورِيَّا" و"أكرمُ" توأمَينِ أيضًا. وأَصبحَ مِن غَيرِ
اليَسيرِ علَيَّ إنْ لمْ يَكُنْ مستحيلاً زيارةُ "سُورِيَّا". وحتَّى
إذا زُرْتُها فإنَّها فقدَتْ جُزءًا كبيرًا مِن معناها بفُقدانِ أَكرمَ
أو لِأَقُــلْ إنها رَحَلَتْ مع أكرمَ وسَكَنَتْ ذاكرتي وصارَ مِن
السَّهلِ علَيَّ أنْ أحمِلَهما حيثُ تنقلُني الأقدارُ وصارت الأرضُ
وطنًا. إنَّه لَيصعبُ علَيَّ تَـخَــيُّــلُ رحيلِ أكرمَ الحاضرِ في
قلبي. لقد أصبحَ لغيابِ أكرمَ قوَّةُ الحضورِ.
وما زالَ القِدِّيسُ الَّلاعُنفيُّ أكرمُ أَنطاكيٌّ يُتابِعُ جِهادَه
السِّلْميَّ مِن خلالِ أقلامِ أصدقائه ومواقفِهم، كما كان يَطْلبُ
ويَفعلُ صديقُنا القِدِّيسُ-الوليُّ السُّوريُّ الهوى الـمُغيَّبُ
الرَّاهبُ بُولصُ [پاولو دالّوليو
Paolo Dall’Oglio] الذي حزِن على
فِراقه لأكرمَ ولسوريَّا حتَّى إنه كان يراسلُنا مِن بريدٍ إلكترونيِّ
بعنوان: "مطرود زعلان" (matrudzaalan@gmail.com).
غابَ أكرمُ وهو لا يزال حاضرًا بَعْدَ أَنْ ردَّ أَجسامَهُ الدُّنيا
إلى أُمِّهِ الكُبرى وراحَ ثالوثُه الأعلى إلى الفِرْدَوسِ [ديفاخان
Devachan] يَسْبَحُ في
الغِبْطةِ ويَرُشُّ علينا من رحَماتِه.
آيكس-أون-بروڤانس،
20-09-2015
*** *** ***