العدالة والحق

 

د. نزار عيون السود

 

القسم الأول: تاريخ نشوء مفهومي "العدالة والحق"

1.1. صياغة المسألة

إن موضوع العدالة وعلاقتها بالحق قديم قدم العالم والتاريخ. بيد أنه ينتمي إلى عداد المواضيع الخالدة للفلسفة وفقه القانون. وثمة سببان يكسبان هذا الموضوع أهمية حيوية خاصة في الظروف الروسية المعاصرة.

-       الأول، هو أن سقوط "النظام القديم" قد ترافق بأعنف أزمة في العقيدة الرسمية للدولة. لم تعدْ الماركسية- اللينينية أيديولوجية إلزامية معتمدة. وهذا كان من غير الممكن أن لا يؤدي إلى أزمة معينة في الوعي الحقوقي الروسي، لأن الماركسية- اللينينية تحديدًا، كانت تشكل أساسه الفلسفي فترة طويلة. وكان علم الحقوق السوفييتي يستمد منها نظرياته وتصوراته حول القوانين والقيم والمبادئ الأساسية. وكان لا بد من تثبيت وتدعيم هذا الأساس العقائدي المهتز، أو المتهدم، أو استبداله بأساس آخر. والقضايا التي كانت تعد محلولة ومنجزة بصورة نهائية أخذت تُطرح من جديد. ومن هنا يأتي الدور المطرد المتنامي لجوانب علم الحقوق الفلسفية.

-       الثاني، إن الحيف الكبير الذي لحق بغالبية سكان روسيا في "عقدنا العظيم" الأخير، يطرح مسألة العدالة بدرجة عالية من الحدَّة. وكما أشار الباحث (ي. كان): "يلجأ الناس إلى مفهوم العدالة عندما يصطدمون بمثال واقعي أو متخيل من الظلم والحيف".

ومما لاشك فيه، أن لهذه المسألة طبيعتها السياسية. فللعدالة جوانب كثيرة: جانب اجتماعي وآخر اقتصادي، وسياسي وإثني وجوانب أخرى. لكن جميع هذه الجوانب تكتسب طابعًا سياسيًا في المجتمع المتطور، وتحكمها السياسة. يقول الفيلسوف أرسطو في كتابه السياسة:

إن مفهوم العدالة يرتبط بأفكار الدولة وتصوراتها، لأن الحق، الذي يشكل معيار العدالة، يعد قاعدة منظمة للتواصل السياسي. (الكتاب 1، الجزء1، ص 12).

ويكرر فكرة أرسطو الباحث الألماني المعاصر أوتفريد هيفي بقوله:

إن على فلسفة الحق والدولة الأساسية أن تصيغ برنامج العدالة السياسية، وتحدد علاماتها المميزة.

كان من المعتقد، في جميع العصور، ولدى جميع الشعوب، أن الحق عادل. وخلال ذلك، كان يُنظر إلى الحق على أنه تجسيد للعدالة، أو كان يُطرح هدف مطابقته مع العدالة. يمكننا الاستنتاج مما ورد أعلاه، أن العدالة قيمة من قيم الحق، بل ويجب أن تكون القيمة الأكثر استمرارًا وأهمية. فكثير من قيم الحق انتقالي عابر، ومنها المساواة، والمصلحة الوطنية، والمصلحة الطبقية، والتقدم، والتمسك بالعادات القائمة، وحقوق الشخصية. فكلها تظهر في مرحلة تاريخية معينة. وكانت هناك فترات لم يكن معترفًا بها، ولم يكن بالإمكان الاعتراف بها لغياب الأمة والوعي الطبقي والنزعة الفردية، وما شابهها. فالعدالة تنتمي إلى عداد القيم الخالدة للحق أو لمبادئه الرئيسة. وإلى جانب الحق، يمكننا ذكر الخير العام واحترام القوانين (بالمعنى الواسع للكلمة). وعلاوة على ذلك، فالعدالة ليست قيمة الحق الخالدة فحسب، بل وقيمته الأسمى أيضًا. وجميع القيم الأخرى تُقاس بها، وهي فاعلة، بشرط أن لا تعارض العدالة.

إن الموقف من القيم في الحق متباين. تنتشر في أوساط العلماء التجريبيين، الذين يعتمدون الوقائع، ولا يخلوْن من بعض الاستهتار، نظرة مفادها أن القيم عبارة عن وهم، وميتافيزيقية يجدر بالحقوقي المفكر الواقعي التجرد منهما. وكثيرًا ما تُطرح فكرة حول الأساس الذاتي المتحيز لجميع القيم. وقد كتب يقول "ب دانليفي وب. أوليري"، أستاذا مدرسة لندن للاقتصاد والسياسة:

قد يكون من المستحيل الحوار العقلاني المسهب بين الناس المنتمين لآراء مختلفة، على مستوى القيم. فالقيم تعبر عن قناعات وخيارات مفضلة لا وجود لها في الأساس التجريبي.

من الصعب المجادلة حول هذا الرأي، لأن أية قيمة تتشكل (أو تبرز) بصفتها المبدأ الأولي والأسمى، ولهذا بالذات فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، العثور على حجة عقلانية مقنعة بالمطلق. وبوساطة القيم ُتؤسس حلول وقرارات مختلف أنواع المسائل الملموسة المحددة بشكل أو بآخر. ولكن، بماذا، وكيف يمكن العثور على سند ودعامة لهذه القيم ذاتها؟ يمكننا أن نسحب عليها حكم الفيلسوف كانط حول عدم الإثبات المتماثل لوجود الله أو عدم وجوده. ومع ذلك، فإن الحكم على القيم والتمسك بقيم ما، ضروري، مثل ما اعتقد كانط بضرورة الاعتراف بوجود الله، من أجل تأكيد النظام الأخلاقي في العالم. وكما أشار بحق، أستاذ آخر في مدرسة لندن للاقتصاد والسياسة، هو بيتر سيلف: "لا يزال منهج البحث مرتبطًا بالأحكام حول القيم". وبعبارة أخرى، فإن مقاربة فقه الحقوق والقانون، مثلها مثل مقاربة أي علم اجتماعي آخر، تتحدد بالقيم الموضوعة في أساسها. هكذا كان الحال دائمًا. يقول أرسطو في كتابه آنف الذكر:

إن على من يجتمع لوضع بحث حول بناء الدولة الأفضل، أن يحدد مسبقًا، وبالضرورة، أي حياة تستحق التفضيل الأكبر.

ما هي طبيعة القيم في الحق؟ وكيف تتكوَّن؟ وهل هي بحد ذاتها، تولِّد الحق، أم تُستخلص منه، أم تأتي من الخارج من المجالات الأخرى للحياة والوعي الاجتماعي، وهل تعُّد، في هذه الحالة، ملحقة بالمجال الحقوقي لمبادئ أوسع أو أشمل؟ وبعبارة أخرى، هل يمتلك كل جانب من الحياة العامة والخاصة، والنشاط منظومته الفريدة من القيم، ويستخدم القيم الشمولية وحدها، أم يجمع بين هذا وذاك؟ ثمة وجهات نظر مختلفة حول هذه المسائل في الأدبيات الحقوقية، وبخاصة في الأدبيات الروسية المعاصرة.

يقول الأستاذ م. ن. مارشنكو في كتابه الجامعي ذي المجلدين النظرية العامة للدولة والحق، مستشهدًا بكتاب ف. آ. تشيتفرنين الدولة الدستورية الديموقراطية: مدخل نظري:

لقد صدقت الأدبيات الحقوقية الروسية في إشارتها بخصوص محاولات تعريف الحق بأنه "العدالة المعززة معياريًا"، وأن الاستشهاد بالمقولات الأخلاقية للعدالة، والخير والشر هام وضروري في تحديدنا لمفهوم ومواصفات الأخلاق، وليس الحق نفسه. [فهذا] يؤدي إلى اختلاط مقولتي الحق والأخلاق.

وهكذا، فالعدالة، والخير والشر ليست مقولات حقوقية، وعلاوة على ذلك، ليس لها علاقة بالحق والنظرية الحقوقية، ولا تؤدي سوى إلى تعقيد المسألة. ليس هذا الموقف بجديد، وكان يميز باستمرار النزعة الوضعية الحقوقية. فقد وضع الباحث جون أوستين، أكبر ممثل لهذه النزعة في انكلترا في القرن التاسع عشر، الحدود الفاصلة بين الحق الوضعي والأخلاق، رغم أنه كان يعدُّ "الأخلاق الوضعية" جزءًا من الحق، بالمعنى الواسع للكلمة، جنبًا إلى جنب مع الحق الإلهي والحق الوضعي. وبحسب رأي أوستين، فإن مسألة الواجب والعادل لا تُحذف، بل تُنقل إلى خارج أطر فقه القانون، وهو مجال العلوم المختلطة والمتقاربة- كالأخلاق وعلم التشريع. وكان هانس كيلزن، أحد أشهر الوضعيين الحقوقيين في القرن العشرين، ومؤسس "نظرية الحق المحضة" لا يمل من تكرار أن القيم الأخلاقية، بما فيها العدالة، نسبية، وعلى الرغم من ضرورتها فهي عبارة عن مثل أعلى لا عقلاني، وأن العدالة هي من متطلبات الأخلاق، وأن نظرية الحق المحضة تتميز بالاتجاه اللا إيديولوجي، الذي يستبعد الخلط بين الحق الوضعي والحق "المثالي" أو "الأصيل". وهنا المنطق نفسه: إن مقولات العدالة، والواجب، والخير والشر، ورغم كونها مزاجية، وذاتية، ومتبدلة، لها الحق في الوجود، ولكن ليس في أطر نظرية الحق. ويضع كلاسيكيو الوضعية الحقوقية، خلال ذلك، شرطًا جوهريًا ودقيقًا للغاية: فالحديث يدور عندهم حول نظرية الحق الوضعي، وليس الحق عامة. واسم أشهر كتاب للحقوقي أوستين في هذا المجال هو محاضرات في فقه القانون أو فلسفة الحق الوضعي.

هناك وجهة نظر معارضة  تمامًا في الأدب الحقوقي الروسي المعاصر، عرضها الباحث الأكاديمي الروسي ف. س. نيرسيسيانتس في كتابه فلسفة الحق، حيث يقول: "العدالة مقولة حقوقية وتوصيف حقوقي، وليس من خارج الحقوق (ليست معنوية ولا أخلاقية ولا دينية، إلخ). علاوة على ذلك، فالحق وحده هو العادل". وهكذا، فالعدالة إما أنها مماثلة للحق، وتبرز بصفتها مرادفة له، أو أنها تشكل إحدى مواصفات الحق.

إن الفكرة القائلة بأن الحق يجب أن يكون عادلاً - هي فكرة قديمة جدًا، ترجع إلى سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وهي تميز جميع الأنظمة الحقوقية في الماضي والحاضر. أما القول بأنه بدون حق لا وجود للعدالة، فيصعب الموافقة عليه. ومثل هذا التأكيد مقبول في الأنظمة الحقوقية القديمة، حيث لم يبرز الحق بعد، بصفته شكلاً خاصًا لتنظيم سلوك الناس. فنظرية "ريتا" الفيدية الهندوسية، التي تُفسر على أنها قانون عالمي شمولي تخضع له الآلهة والطبيعة والإنسان، ومثلها فكرة " التاو" (الطريق) الصينية القديمة المماثلة، وحتى المفهوم الهندي "دراهما" الأضيق، والذي ينطبق على الإنسان وحده - كلها يمكن مماثلتها بالعدالة، لأنها تحيط بجميع الأشكال الجائزة لسلوك الإنسان، وهي شمولية، وخارج أطرها لا وجود لمعايير قيمية أخرى. ولكن عندما ينشأ التمييز، وعندما يتفرع من قانون عالمي موحد الدين والأخلاق، والحق والعادات، والعقد، وأمر صاحب السلطة وما شابه ذلك، فإن مماثلة الحق وحده بالعدالة، وابتلاع العدالة للحق يعد تعسفيًا ومريبًا إلى حد كبير. أفلا يسلط على الحق سيف العدالة العليا ذات الطابع الأخلاقي؟ وهل هي نادرة الحالات المطابقة للحق، التي لا تصمد أمام النقد من وجهة نظر الأخلاق؟ ذلك لأن الحق شكلاني، مجرَّد، مادي بلا روح، في حين أن الأخلاق دومًا محددة، ملموسة، روحية، إنسانية. إن الوريث الغني يطالب بأن تخصص له، حسب القانون الحصة الأكبر على حساب الوريث الفقير. فهل هذا التصرف قانوني؟ بالتأكيد. ولكن هل هو أخلاقي؟ بالطبع، لا. ويمكننا ذكر عديد من هذه الأمثلة المشابهة. زد على ذلك، أن هذه الأمثلة ليس من مجال العلاقات الشخصية وحده. فالعدالة السياسية لا تقتصر على الحق ولا تتطابق معه دومًا. وفي السياسة ذاتها يمكن عدم أخذ العدالة بعين الاعتبار، دون خرق القانون، لأن معيار الحق الشكلي والسمج في هذه المجال، يتم صقله وتدقيقه بوساطة مبادئ أخلاق أكثر رهافة ودقة.

هذا في حين أن الباحث الأكاديمي الروسي ف. س. نيرسيسيانتس يماثل وبكثير من الإصرار بين الحق والعدالة. وقد كتب يقول:

إن فهم الحق باعتباره مساواة (كمقياس مشترك ومعيار متكافئ لحرية الناس) يشمل في ذاته العدالة أيضًا. وفي سياق اختلاف الحق والقانون هذا يعني أن العدالة تدخل في مفهوم الحق، وأن الحق، من حيث التعريف، عادل، وأن العدالة هي خاصية داخلية ونوعية للحق، فالمقولة والمواصفات حقوقية، وليس من خارج أطر الحق (فهي ليست أخلاقية ولا معنوية، ولا دينية وما شابه ذلك). ولهذا فإن السؤال المناسب حول عدالة القانون أو جوره، هو من حيث الجوهر، سؤال عن الطابع الحقوقي أو غير الحقوقي للقانون، وتطابقه أو عدم تطابقه مع الحق. بيد أن مثل هذا الطرح للمسألة غير مناسبة بالنسبة للحق، لأن الحق (من حيث مفهومه) عادل دومًا، ويعدُّ حاملاً للعدالة في العالم الاجتماعي... فالعدل فيما يعبر الحق عنه، وما يطابق الحق ويتبعه. والعمل بعدالة – يعني العمل بصورة مشروعة قانونية، وفق متطلبات الحق الشاملة والمتكافئة... وأما العدالة فهي الوعي الذاتي للحق والتعبير الذاتي عنه، والتقويم الذاتي له، لهذا، فهي تقويم حقوقي لكل شيء آخر، غير حقوقي.

خلافًا للتصور النظري، المميز للوضعية الحقوقية، هنا لا يُعترف بالعدالة على أنها ذات علاقة مباشرة بالحق فحسب، بل تُعد مقولة حقوقية حصرًا وبصورة استثنائية. فالحق – هو القيمة العليا، أما العدالة فتنخفض إلى مستوى خاصية الحق. وليست العدالة وحدها، بل والحرية، والمساواة - كلها تعتبر غير ممكنة بدون الحق، وتبرز بمثابة مواصفات الحق أو ماهيته. وبخضوعها للحق، وبانحصارها فيه، تغدو العدالة غير ضرورية، فتحذف، ويحل الحق محلها. ويلحظ الباحث الحقوقي جون رولس أن "مبادئ العدالة تنتسب إلى النظرية المثالية". وخلافًا للعدالة، يعد الحق واقعيًا. أما عند الباحث الأكاديمي ف. س. نيرسيسيانتس فيتحول الحق إلى مقولة مثالية، وبهذا المعنى فهو يزيح العدالة بشكل كامل. ولهذا، وبدلاً من علاقة العدالة والحق تُطرح مسألة الحق والقانون، وتكاد تعدُّ بمثابة الموضوع الرئيس في فلسفة الحق.

من المحتمل، أن هذه الصياغة المتكررة كثيرًا لهذه المسألة، التي وضعها الأكاديمي ف. س. نيرسييانتس في عنوان كتابه الحق والقانون قد تأثرت بترجمة كتاب أرسطو السياسة إلى اللغة الروسية، التي وضعها س. ى. جيبيليف ونشرها عام 1911. وقد جاء فيها:

أخيرًا، يعتقد بعضهم أن العبودية باعتبارها نتيجة الحرب، تقوم على أساس الحق، معتمدين خلال ذلك، حسب اعتقادهم ، على مبدأ حقوقي (لأن أي قانون يفترض نوعًا من الحق).

ولكن في طبعة عام 1983 من كتاب السياسة نفسه، حيث قام المترجم س. آ. جيبيليف بمراجعة ترجمته وتدقيقها، نجد هذا المقطع نفسه بصيغة أخرى مغايرة: "أخيرًا، يعتقد بعضهم أن العبودية باعتبارها نتيجة الحرب، تعد عادلة، معتمدين خلال ذلك، حسب اعتقادهم، على مبدأ ما للعدالة (فالقانون هو عادل)". ويؤيد التفسير الثاني هذا المقطع التالي من كتاب السياسة: "القوانين، مثلها مثل أشكال بناء الدولة، يمكنها أن تكون سيئة أو جيدة، وقائمة على العدالة أو على الظلم والحيف".

كان من الأفضل الانطلاق من هذه الترجمة في تحديد إحدى القضايا الأساسية في فلسفة الحق، باعتبارها ليست علاقة الحق والقانون، بل العدالة والحق في جميع أشكاله، بما فيها في شكل القانون.

أما وجهة النظر الثالثة حول مسألة علاقة العدالة والحق، التي تجمع بين وجهتي النظر الأولى والثانية، فتظهر في الأدبيات الحقوقية الروسية المعاصرة على يد الأستاذ و. ي ليست. وهو ينطلق من أن الحق هو ليس العالم كله، بل جزء من الحياة الاجتماعية. ونظرية الحق ليست نظرية منعزلة ولا متقوقعة على ذاتها، ولا يمكنها أن تكون "بحتة"، كما يرى الحقوقي النمساوي هانس كيلزين. إن نظرية الحق ترجع تربتها وجذورها إلى الظواهر الأوسع من الحق والدولة، وإلى النظريات الأوسع- الفلسفية، والتاريخية. يقول الأستاذ و. ي. ليست: "إن ماهية الحق لا  يمكن بلوغها لا بعلم الحقوق التطبيقي، ولا حتى بنظرية الحق العامة، إذا لم تخرج الأخيرة من أطر المقولات الحقوقية". وتعد العدالة إحدى هذه المقولات غير الحقوقية، التي لا يمكن أن تقوم بدونها نظرية الدولة والحق.

1. 2. تاريخ نشوء مفهومي العدالة والحق

بحثًا عن منابع مفهوم العدالة، كثيرًا ما نتوجه إلى أرسطو. فقد اعتدنا تكرار أن أرسطو، ورغم عدم إعطائه تعريفًا عامًا للعدالة، فقد أبرز نوعين منها: العدالة المتساوية والعدالة التوزيعية.

بيد أن أرسطو لم يقتصر على هذا. يقول أرسطو: "إن العدالة تعد فضيلة من فضائل الدولة، أي ما يخدم المصلحة العامة". ثم يعبر عن هذه الفكرة بالتعبير التالي: "المقصود بالصحيح المتكافئ مصلحة الدولة كلها والمصلحة العامة لجميع مواطنيها". وهكذا، فالجانب الأهم من العدالة بالنسبة لأرسطو هو المنفعة العامة والخير العام. وإلى جانب ذلك، يركز أرسطو على علاقة العدالة بالمساواة، دون أن يجعل هذا المبدأ مطلقًا: "من حيث التصور العام، تعد العدالة نوعًا من المساواة"، ولها علاقتها بالفرد والشخصية. "فالمتساوون في الحقوق يجب أن يكونوا متكافئين في الملكية". لكن العدالة قد تكون غير متكافئة: فالعدالة متساوية للمتساويين في الحقوق، وغير متساوية لغير المتساويين، "والعادل بالمطلق لا يمكن أن يكون إلا متكافئًا من حيث الاستحقاق". "والمساواة بالاستحقاق" تعد شكلاً من العدالة التوزيعية، التي يجب أن تسود في مجال السياسة.

هذا، حسب أرسطو، أحد أهم مجالات تنفيذ العدالة. وبصدد الحديث عن العادل والسياسي، يتوجه باستمرار، قائلاً: "إن بناء الدولة الثابت هو البناء الوحيد الذي تتحقق فيه المساواة، حسب الاستحقاق، حيث كل فرد يستخدم ما يملكه"، إن الرائع والعادل بين الكائنات المتماثلة والمتساوية فيما بينها يكمن في التداول (تداول السلطة والخضوع)، لأنه يوفر المساواة، وبالمثل فانعدام المساواة بين الأفراد المختلفين والاختلاف بين المتساوين هما أمران منافيان للطبيعة، ولا يمكن لأي شيء مناف للطبيعة أن يكون رائعًا".

ينطلق أرسطو من ضرورة قيام نظام سياسي عادل أو دولة عادلة، ويحدد علاماتها الجوهرية. ويقول بهذا الصدد: "إن السبب الرئيس لانهيار المدن والحكومات الأرستقراطية هو وجود حالات ابتعاد عن العدالة في بناء دولها". ودون المماثلة بين العدالة وشكل معين من أشكال الدولة (رغم تفضيله الواضح لبناء الدولة السياسي)، يصيغ أرسطو مبدأ نظام الدولة الجيد، أي العادل:

إن الوجود الأفضل، سواء لكل مدينة على حدة، أو للدولة ككل، هو ذلك النظام حيث تتوفر في الفضيلة الخيرات الخارجية لدرجة، يصبح نتيجتها من الممكن التصرف في العمل والنشاط وفق متطلبات الفضيلة.

وبعد مرور أكثر من ألفي عام، دعا الفيلسوف البريطاني الكبير ي. بنتام هذا المبدأ في "المجلة الدستورية" التي يصدرها بـ "تطابق المصالح": فالفضيلة في الدولة يجب أن نافعة ومفيدة للمواطنين، وبخاصة للمسؤولين، ويجب أن تكون المؤسسات مبنية على نحوٍ، بحيث عندما يسعى الحكام لمصالحهم الخاصة لا يمكنهم أن لا يخدموا في الوقت نفسه المصلحة العامة، أو بحسب صيغة بنتام، تحقيق السعادة الكبرى لأكبر عدد من الناس. وقد كتب يقول أرسطو: "إن فضيلة الدولة لها أثرها من حيث أن المواطنين المشاركين في إدارة الدولة هم الفضلاء"، وأن الأهم لأي بناء للدولة هو "أنه يجب أن تسير الأمور فيها، عن طريق القوانين والأنظمة الأخرى، بحيث يستحيل على المسؤولين الإثراء".

يعالج أسطو مسألة العدالة أيضًا في كتابه الأخلاق الذي كتبه قبل السياسة. وقد أكد فيه أن "انعدام العدالة يكمن في أن يمنح الإنسان الحاكم نفسه القسم الأكبر من الخيرات غير النسبية والجزء الأقل من الشرور والأضرار غير النسبية، لهذا فإننا نسمح للقانون أن يحكم وليس للإنسان، لأن الإنسان سيحكم لصالحه وسيصبح مستبدًا". ويقول أيضًا: "إن العدالة تكمن في خير الآخرين".

لقد أرسى أرسطو أسس مفهوم العدالة: فالأنانية المفرطة غير عادلة، أما العدل فيكمن في الاهتمام بالغريب والآخر وفي الخير العام.

مثل هذه الأفكار تطورت أيضًا في العصر الحديث. فقد أكد الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، أن الهدف لأية دولة ولأي تشريع يجب أن يكون الخير الأكبر لجميع المواطنين. بيد أن مفهومه لـ"الخير العام" يختلف مبدئيًا عن أفلاطون منظِّر عدالة اللامساواة أو أرسطو نصير العدالة غير المتكافئة التوزيعية. وحسب مفهوم روسو، ينحصر خير الجميع (الخير العام) في أهم شيئين وهما: الحرية والمساواة".

ويبني الفيلسوف كانط نظرياته في العدالة والأخلاق على احترام القريب، ومراعاة مصالحه. وهنا يكمن جوهر الأمر المطلق، الذي يشكل حجر الأساس في نظرية كانط في الفضيلة والحق. وفي أساسها يكمن، من حيث الجوهر، المبدأ المسيحي المعروف: أحبب لقريبك ما تحبه لنفسك.

أما الفيلسوف الفرنسي الاشتراكي برودون (1805-1865) فقد انطلق في تحديده لمبدأ العدالة من الأمر المطلق الكانطي، حيث يقول: "إن كل ما هو منطقي وعقلاني يمكن للحكمة البشرية أن تقوله حول العدالة، يكمن في القول التالي: تصرف مع الآخرين كما تود أن يتصرف الآخرون معك. لا تلحق بالآخرين ما لا تود أن يلحقه الآخرون بك". وثمة تعبير آخر عن الفكرة نفسها يقول: العدالة هي "اعترافك للفرد الآخر بدرجة مماثلة لاعترافك بنفسك". هذا هو مبدأ العدالة. أما تجسيده الواقعي لدى برودون، كما هو لدى جان جاك روسو، فهو المساواة. ويؤكد برودون أن هذين المفهومين متماثلان. علاوة على ذلك، المقصود بالمساواة، المساواة الفعلية وليست المساواة الشكلية. يقول برودون: "ماذا يعني أن نقيم العدالة؟ إنها تعني أن نعطي لكل فرد جزءًا متساويًا من الخيرات بشرط الكم المتماثل من العمل، وهذا يعني التصرف والعمل بما يتوافق مع مصالح المجتمع". ويقول أيضًا: "ماذا تعني العدالة بدون تساوي الملكية؟ إنها ميزان بوزنات مزيفة".

وسنورد رأيًا آخر في العدالة لحقوقي ألماني كبير، ليس راديكاليًا ولا اشتراكيًا، إنه رودولف فون إييرينغ (1818-1892). يقول إييرينغ:

ضد الادعاء بالدفاع والحماية الذي تطرحه الأنانية الشخصية، يملك المجتمع الحق في الدفاع عن مصالحه. ومصالح المجتمع تتألف مما هو ذو منفعة وفائدة لا لفرد واحد، بل للجميع، مما يمكن للجميع أن يتفقوا عليه... إنها ليست شيئًا آخر سوى العدالة. إنها أعلى من الحرية، فالفرد يعيش لا من أجل نفسه حصرًا، بل ومن أجل العالم؛ ولهذا فإن الحرية، أي ما يوافق مصالح الفرد الشخصية، يجب أن تخضع للعدالة، أي ما تتطلبه مصالح الجميع.

ومن التوجه المبدئي لحماية مصالح الجميع، تنبع نظرية إييرينغ في "الملكية العامة"، التي تتقاطع مع التصورات التي انتشرت في المسيحية والإسلام حول الملكية باعتبارها وصاية، والتي كان قد طرحها أرسطو، كما تتقاطع مع أفكار النزعة التكافلية التي ظهرت ابتداءً عند كانط ومن ثم لدى الحقوقي الفرنسي الكبير ل. ديوغي وأتباعه، والقائلة بأن الملكية عبارة عن وظيفة اجتماعية.

وهكذا ظهرت ومرت، عبر العصور، فكرة تطابق العدالة والمصلحة العامة.

من بين منَّظري العقود الأخيرة الذين بحثوا هذه المسألة، اكتسب الشهرة الكبرى الباحث الحقوقي الأمريكي جون رولس الذي نشر عام 1972 نظريته "في العدالة".

***

القسم الثاني: "نظرية العدالة" لجون رولس

جون رولس منظر أمريكي ليبيرالي. بيد أن فهمه للعدالة كمقولة سياسية واجتماعية، وليس مقولة حقوقية شكلية، مميز ونموذجي. يقول رولس:

إن نظرية العدالة تتوقف على نظرية المجتمع". ويحدد مهمة البحث فيها بقوله: "إن موضوعنا هو العدالة الاجتماعية. والموضوع الأول من العدالة بالنسبة لنا، هو بنية المجتمع الرئيسة، أو بعبارة أدق، الطريقة التي توزع المؤسسات الاجتماعية الرئيسة الحقوق الأساسية والواجبات ومنافع التعاون الاجتماعي. ونقصد بالمؤسسات الرئيسة الدستور السياسي ومبدأ تنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

فالتوزيع الملائم لمنافع المجتمع وأعبائه - هذا هو ما نقصده بالعدالة الاجتماعية، وهو أهم جانب في العدالة عامة. وليس من قبيل الصدفة أن يلجأ رولس إلى كتاب الأخلاق لأرسطو.

2. 1. مبادئ العدالة عند رولس

يصيغ رولس مبدأين للعدالة. يقول أولهما: جميع الأفراد يتمتعون بحريات أساسية متساوية، متماثلة مع الحريات المماثلة للأشخاص الآخرين. أما المبدأ الثاني فيكمن في أن اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية يجب أن تكون منظمة على نحو بحيث تخدم  خير الجميع (وبخاصة الناس الأقل حظًا) وأن تكون مرتبطة بالوضعية وبالمناصب المسموح بها للجميع.

إن المبدأ الأول هو مبدأ سياسي. يقول رولس، إن الحريات الأساسية للمواطنين (حرية الانتخاب والترشيح، حرية الكلمة والتفكير، وحرية الضمير، وحرية الاجتماع، وحرية الملكية والضمانات من الاعتقال التعسفي طبقًا لمبدأ سيادة الحق) يجب أن تكون محددة شرطيًا باعتبارها حريات سياسية. ويؤكد، أن مبادئ العدالة تحددها المقولات والتصورات السياسية القائمة، ولا يمكن النظر إليها بصورة منعزلة عن المؤسسات السياسية. إن البنية السياسية التي تلبي مبادئ العدالة، حسب رأيه، هي الديمقراطية الدستورية.

ويرى رولس، أن نظرية العدالة تتعلق، على الأقل، بثلاثة نماذج من المسائل:

1.    على المواطن أن يقيِّم عدالة التشريع والسياسة الاجتماعية.

2.    على المواطن أن يقرر ماهي الآليات الدستورية المناسبة لتطبيقها على التصورات المتنازعة حول العدالة.

3.    أخذًا بعين الاعتبار لعدم الاكتمال الإداري للعملية السياسية، على المواطن أن يحدد ما هي الحالات التي يجب فيها أخذ القرارات بالأغلبية، والحالات التي يمكن فيها رفض هذه القرارات، أي تحديد أسس وحدود الواجب السياسي. ويبدي رولس، بهذا الخصوص، الملاحظة التالية: "إن النظرية الدستورية للعصيان المدني تقوم بكاملها على مفهوم العدالة". إن جميع هذه الأسئلة، التي تشمل مبدأ العدالة الأول، تحمل طابعًا سياسيًا واضحًا.

أما مبدأ العدالة الثاني، بحسب نظرية رولس، فهو مبدأ اقتصادي-اجتماعي، يرتبط بتوزيع الأرباح والثروات. فاللامساواة التي ليست في صالح الجميع، تعد حيفًا وظلمًا وبعدًا عن العدالة. وبحسب المبدأ الثاني - يوضح رولس - يجب على السياسة الاجتماعية والاقتصادية أن تكون موجهةً نحو التلبية الأكمل للتوقعات الطويلة الأمد للناس الأكثر فقرًا والأقل ثروة، بشرط المساواة العادلة في الفرص والامكانات والحريات المتكافئة. ويقول رولس: "إن اختيار النظام الاجتماعي هو القضية الرئيسة للعدالة التوزيعية". ويقرر أن الاختيار بين الاقتصاد القائم على الملكية الخاصة والاقتصاد الاشتراكي مازال مطروحًا، لأنه يمكن لبنى رئيسة مختلفة أن تلبي مبادئ نظرية العدالة. بيد أن النظام الاجتماعي يجب أن يكون على نحو، بحيث يبقى التوزيع عادلاً، مهما تبدلت الأحوال. وهذا يستدعي توفر مؤسسات سياسية وحقوقية. ويجب أن يتوفر في منظومة السلطة فرع توزيعي خاص، يوفر، عن طريق فرض الضرائب وتنظيم حقوق الملكية، العدالة الممكنة التقريبية للحصص التوزيعية. ويرى رولس، أن العدالة "تستبعد الأشكال المختلفة للأنانية".

وهكذا، يرى الحقوقي الليبيرالي الأمريكي الكبير رولس أن العدالة هي بمثابة خدمة لمصالح الجميع، وللخير العام، والتوزيع المتكافئ إلى حد كبير للمنافع والواجبات، الناتجة عن تفاعل الجميع في إطار المجتمع، ما يفترض تنظيم جزء من الملكية الخاصة واستبعاد الأنانية بضمانة المساواة في الحقوق والواجبات. فالحديث عند رولس يدور حول العدالة الحقيقية، وليس الشكلية، والاجتماعية والسياسية وليس الحقوقية. إن العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، تمامًا مثل الحقيقة التي هي الفضيلة الأولى لمنظومة الفكر. ومهما كانت النظرية أنيقة وموجزة، يجب أن تخضع للرفض أو للتعديل، إذا لم تكن قائمة على الحق. وكذلك القوانين والمؤسسات، فمهما كانت فعالة ومبنية بشكل ناجح، لا بد من إصلاحها أو إلغائها إذا كانت غير عادلة. إن كل فرد يمتلك حصانة قائمة على العدالة، وهذه الحصانة لا يمكن خرقها حتى في المجتمع المزدهر. ولهذا السبب، لا تسمح العدالة بتبرير فقدان البعض لحريتهم على حساب الخيرات الكبيرة للآخرين. ولا يُسمح أبدًا بأن يتحول الحرمان الذي اضطرت لمعاناته أقلية، أن يتحول إلى كم كبير من الأفضليات والامتيازات التي تتمتع بها الأغلبية. وبالتالي، يجب أن تُحدد في المجتمع العادل حريات المواطنين التي تضمنها العدالة، ويجب أن لا تكون مادة للاستغلال السياسي، أو لحساب المصالح السياسية. والشيء الوحيد الذي يسمح لنا بالأخذ بنظرية خاطئة، رغمًا عنا، هو عدم وجود نظرية أفضل. وكذلك الأمر، فانعدام العدالة يمكن أن يكون مقبولاً فقط عند ضرورة تجنب انعدام أكبر للعدالة. إن الحق والعدالة، باعتبارهما الفضيلتين الأوليتين للعمل الإنساني، لا يقبلان الحلول الوسط ولا المهادنة.

2. 2. "محتوى العدالة" عند جون رولس

إن المحتوى الرئيس للعدالة، حسب نظرية جون رولس، هو بنية المجتمع الأساسية، أو بعبارة أدق، الأشكال التي توزع المؤسسات الاجتماعية الرئيسة بموجبها الحقوق والواجبات الجذرية، وتحدد تقسيم ملكيات التعاونية الاجتماعية. ويقصد بالمؤسسات الرئيسة الدستور والبنى الاقتصادية والاجتماعية الرئيسة. وعلى هذا النحو، فحماية القانون لحرية الفكر والكلمة والضمير، والسوق الحرة، والملكية الخاصة لوسائل الانتاج، والأسرة النووية الواحدة - هذه نماذج من المؤسسات الاجتماعية الرئيسة. وإذا ما أخذناها معًا بمخطط واحد، تحدد المؤسسات الاجتماعية الرئيسة حقوق الناس وواجباتهم، وتؤثر على آفاق حياتهم المستقبلية - من يأملوا بأن يصبحوا، وكيف ينوون تحقيق ذلك. إن البنية الأساسية هي المحتوى الأولي للعدالة، لأن تأثيرها عميق للغاية وحاضر منذ البداية. من هذه الناحية، تضع مؤسسات المجتمع منذ البداية، مبادئ اجتماعية أعلى من مبادئ أخرى. وهي بهذا تعمق اللامساواة بصورة جوهرية. وعلى هذا النوع بالذات من حالات وأنواع اللامساواة، الحتمية في البنية الأساسية لأي مجتمع، يجب أن تطبق، بادئ ذي بدء، مبادئ العدالة الاجتماعية. فهذه المبادئ تنظم اختيار النظام السياسي، والعناصر الرئيسة من المنظومة الاجتماعية والاقتصادية. إن عدالة النظام الاجتماعي تتوقف إلى حد كبير، على كيفية تسجيل وتثبيت الحقوق والواجبات الأساسية، كما تتوقف أيضًا، على الامكانات الاقتصادية والظروف الاجتماعية في مختلف فئات المجتمع.

بيد أن تصور البنية الأساسية مبهم للغاية، وليس من الواضح دومًا، ماهي المؤسسات أو علاماتها التي يجب أن تضمها. ومع ذلك، فإن نظرية العدالة للبنية الأساسية تتمتع بقيمة بحد ذاتها، وتوفر المعيار المناسب الذي يجب بواسطته تقييم الجوانب التوزيعية من بنية المجتمع الأساسية. بيد أن هذا المعيار علينا أن لا نخلطه بالمبادئ التي تحدد الفضائل الأخرى، لأن البنية الأساسية والبناء الاجتماعي، عمومًا، قد يكونان فعالين وغير فعالين، وليبيراليين ومقيدين تابعين، كما يمكنهما الاتصاف بمواصفات أخرى كثيرة، عادلة وغير عادلة. إن النظرية الكاملة، المحددة لمبادئ جميع فضائل البنية الأساسية، بموازينها المطابقة، في حال التناقض بينها، هي أوسع من نظرية العدالة؛ إنها المثل الأعلى الاجتماعي. وما مبادئ العدالة إلا مجرد جزء من هذه النظرية، رغم أنها الجزء الأهم. ويرتبط المثل الأعلى الاجتماعي بدوره، بنظرية المجتمع، ورؤية طريقه التي يمكن أن تفهم فيها أهداف التعاون الاجتماعي. حيث أن النظريات والتصورات المختلفة للعدالة تنشأ من المفاهيم المختلفة للمجتمع في تصارع الآراء حول الحاجات الطبيعية والآفاق المناسبة للحياة الإنسانية. ومن أجل فهم أكمل لنظرية العدالة، علينا الوصول إلى تصور أدق للتعاونية الاجتماعية، التي تستخرج منها. لكننا خلال ذلك، علينا أن نحتفظ بتوجهنا وتركيزنا على الدور الخاص لمبادئ العدالة، أو المحتوى الرئيس الذي تطبق عليه.

2. 3. الفكرة الرئيسة لـ "نظرية العدالة".

تكمن الفكرة الرئيسة لنظرية جون رولس في العدالة في أن مبادئ العدالة، بالنسبة لبنية المجتمع الأساسية، تعد مواضيع توافق واتفاق أولي. وهي تلك المبادئ التي يتقبلها ويأخذ بها الأفراد الأحرار والراشدون، الملتزمون بمصالحهم، والمتساوون في وضعهم الأساسي، بصفتها مبادئ محددة ومقررة للتوافقات الأساسية بخصوص اتحادهم وتشاركهم. ويجب على هذه المبادئ أن تنظم جميع التوافقات الأخرى. فهي تخصص أشكال التعاون الاجتماعي، التي يمكنها أن تنشأ، وأشكال الإدارة التي يمكن قيامها. إن هذه الطريقة في بحث مبادئ العدالة يدعوها رولس بـ"العدالة بصفتها نزاهة".

في العدالة بصفتها نزاهة، يطابق وضع المساواة الأساسي الأولي الحالة الطبيعية في النظرية التقليدية للعقد الاجتماعي. ووضع الانطلاق هذا لا يمكن النظر إليه بالطبع، كوضع تاريخي فعلي للأمور، أو على أقل تقدير، كحالة الثقافة البدائية. إن وضع الانطلاق يُفهم على أنه موقف فرضي بحت، يتصف بأنه يؤدي إلى تصور معين للعدالة. وتكمن إحدى الخاصيات الجوهرية لهذا الموقف بأنه لا يمكن لأحد أن يعرف مكانه في المجتمع، ووضعه الطبقي، أو وضعه الاجتماعي، وكذلك ما ستكون عليه وظيفته وحصته عند توزيع الخيرات الطبيعية، والقدرات العقلية، والقوى وما شابه ذلك. ويتم اختيار مبادئ العدالة بصورة سرية، من وراء الستار. وهذه ضمانة بأن لا يربح أحد ولا يخسر أحد عند اختيار المبادئ نتيجة الأوضاع الاجتماعية الطبيعية أو العرضية. وبما أن للجميع وضع متماثل ولا قدرة لأحد على اختراع المبادئ لتحسين ظروفه المحددة، تغدو مبادئ العدالة نتيجة التوافق الشريف أو التراضي. وهذا ما يفسر ملاءمة اسم "العدالة بصفتها نزاهة".

إن المجتمع التي يلبي مبادئ العدالة باعتبارها نزاهة، يقترب من المثل الأعلى للمجتمع، القائم على مخطط طوعي، بالدرجة الممكنة، لأنه قائم على المبادئ التي يجب أن يأخذ بها أشخاص أحرار ومتساوون في ظروف ومواقف عادلة. وبهذا المعنى فإن أفراد المجتمع يتمتعون بإدارة ذاتية، ويأخذون بواجباتهم التي يدركونها بصورة طوعية.

إن العدالة باعتبارها نزاهة، هي مثال على ما يدعوه جون رولس بـ"نظرية العقد". وتكمن الجوانب الإيجابية لمصطلح العقد في أن مبادئ العدالة يمكن تحقيقها، مثل تلك المبادئ التي يختارها أشخاص راشدون، عاقلون، وعلى هذه الطريقة يمكن شرحها وتبريرها بتصور العدالة. إن نظرية العدالة هي الجزء، والأغلب، الجزء الأهم من نظرية الاختيار العقلاني. إن كلمة "عقد" تفترض هذه الكثرة من الفئات والأفراد، كما أن توزيع الملكيات المناسب يجب أن يتحقق طبقًا للمبادئ المقبولة من جميع الأطراف. إن الصفة المميزة لنظريات العقود هي التركيز على الطابع العلني العام للمبادئ السياسية. أخيرًا، لمبدأ العقد والتعاقد تقاليد عريقة كبيرة. فتحديد العلاقات بهذا الاتجاه من الفكر يساعد في صياغة الأفكار ويتفق مع الشرعية الطبيعية. ولهذا ثمة عدة أفضليات في استخدام مصطلح "العقد". وإذا ما اتخذنا الاجراءات الاحتياطية فلن يؤدي هذا المصطلح إلى أي سوء فهم أو إساءة استخدام.

ولكن، وبحسب نظرية جورن رولس، فالعدالة من حيث هي نزاهة ليست بنظرية عقدية كاملة. وواضح أن الفكرة التعاقدية يمكن أن تنسحب على اختيار منظومة أخلاقية بدرجة أقل أو أكثر، أي يمكنها أن تشمل مبادئ لجميع الفضائل وليس للعدالة وحدها. إن رولس يبحث بصورة رئيسة، مبادئ العدالة والمبادئ القريبة منها فقط، ولا يحاول مناقشة جميع الفضائل بصورة منهجية. وجلي أنه إذا ما أصبحت العدالة بصفتها نزاهة نظرية ناجحة، فإن الخطوة التالية ستكون دراسة أعم لما يدعى بـ "الحق كنزاهة".

لا يعتقد رولس أن النظرية العقدية يمكنها حل جميع المسائل الهامة للغاية. بيد أنه من المستحيل أن نقرر مسبقًا إلى أية درجة يمكن لهذه الأحكام أن تتبدل بعد أن نتمكن من فهم المسائل الأخرى.

2. 4. المؤسسات والعدالة الاجتماعية عند جون رولس

إن بنية المجتمع الأساسية، أي بناء المؤسسات الاجتماعية الرئيسة في إطار نظام معين من التعاون، تعد الموضوع الأولي لمبادئ العدالة الاجتماعية، حسب جون رولس. وعلى هذه المبادئ بالذات تحديد وتثبيت الحقوق والواجبات في هذه المؤسسات، وعليها أيضًا أن تحدد التوزيع المناسب لخيرات الحياة الاجتماعية وأعبائها. ويجب عدم الخلط بين مبادئ العدالة للمؤسسات بالمبادئ المطبقة على الأفراد وأفعالهم وتصرفاتهم في ظروف وحالات محددة. فكل نوع من المبادئ يتم تطبيقه على مواضيع مختلفة، ويجب معالجته بصورة مستقلة.

ويقصد جون رولس بالمؤسسة النظام العام من القواعد التي تحدد المنصب والوضع بحسب الحقوق والواجبات المطابقة، والسلطة والحصانة. وتخصص هذه القواعد الأشكال المحددة من الأعمال والأفعال المسموحة والمقبولة، والأخرى المحظورة، وبحسبها تعاقب أفعال وتفرض الحماية على أفعال أخرى، عندما يحدث الفعل العنفي. وكأمثلة على هذه المؤسسات يذكر رولس الألعاب والمراسم، والمحاكم والبرلمانات، والأسواق وأنظمة الملكية.

ويمكن تصور المؤسسة بطريقتين: أولاً، كموضوع مجرد، أي كشكل ممكن من السلوك، يعبر عن منظومة القواعد؛ وثانيًا، كتحقيق لفكر وسلوك أشخاص معينين في زمن محدد، وفي مكان فعل محدد بهذه القواعد المتخصصة. هنا، تنشأ ازدواجية، أي منهما تعد عادلة وأي منهما تعد غير عادلة - مؤسسة الموضوع المحقق التطبيقي، أم المؤسسة باعتبارها موضوعًا مجردًا. الأفضل هنا، اعتبار المؤسسة التطبيقية التحقيقية، المدارة بصورة فعالة ومحايدة، مؤسسة عادلة. أما المؤسسة، باعتبارها موضوعًا مجردًا، فهي عادلة أو غير عادلة بمعنى عدالة أو لاعدالة أي تطبيق لها.

تتواجد المؤسسة في زمان محدد وفي مكان محدد، وأعمالها المتخصصة تمارسها وفقًا للحق والوعي المعلن الجماهيري لضرورة اتباع منظومة من القواعد التي تحددها المؤسسة. فالمؤسسات البرلمانية، على سبيل المثال، تسير على نظام معين من القواعد (أو مجموعة من الأنظمة، بحيث تسمح بالتنوع والتشكيل). وهذه القواعد تتمثل في تعداد أشكال معينة من الأعمال والأفعال، بدءًا بالمشاركة في جلسة البرلمان للتصويت على مشروع قانون، وانتهاءً بطلب منح الكلمة حسب نظام إدارة الجلسة. إن الأشكال المختلفة من القواعد العامة تشكل منظومة متسقة. إن المؤسسة البرلمانية تتواجد في زمن محدد، وفي ومكان محدد؛ ويمارس الناس أفعالاً مناسبة، ويبدون النشاط المطلوب، مع الإدراك العام للتفاهم بخصوص ضرورة التقيد بالقواعد التي توافق عليها الجميع.

عندما يقول رولس أن المؤسسة، وبالتالي بنية المجتمع الأساسية، هي منظومة عمومية علنية من القواعد، إنما يقصد أن كل إنسان مندرج فيها، يعرف، بأن بإمكانه أن يعرف إن كانت القواعد ذاتها، وكذلك مشاركته في النشاط الذي حُدد له، جاءت نتيجة توافق. إن الشخص المشارك في المؤسسة يعرف أن القواعد مطلوبة منه ومن الآخرين. إنه يعرف أيضًا، أن الآخرين يعرفون ذلك أيضًا، وأنهم يعرفون، وأنه يعرف وما شابه ذلك. في الحقيقة، هذا الشرط لم يتحقق دومًا في المؤسسات الواقعية، رغم أنه يشكل فرضية تبسيطية عقلانية. إن على مبادئ العدالة أن ترفق بالنظم الاجتماعية، التي تعد عمومية، بهذا المعنى. وحيث تكون قواعد جزء معين من المؤسسة معروفة فقط لمن ينتسب لهذه المؤسسة، ثمة إدراك يقول، بأن هؤلاء الناس يمكنهم إبداع قواعد لأنفسهم، فقط بذلك القدر الذي يسمح للقواعد المعدة لتحقيق الأهداف المشتركة لجميع الناس، ولا تعارض مصالحهم. إن عمومية القواعد للمؤسسات تضمن أن من يشارك فيها يعرف قيود السلوك التي يتوقعها أحدهم من الآخر، وماهي الأفعال الممكنة والمسموحة. وثمة أساس عام لتحديد التوقعات المتبادلة. وعلاوة على ذلك، ففي المجتمع الجيد التنظيم، حيث يخضع الجميع لإشراف نظرية العدالة التي يتشاركها الجميع، ثمة أيضًا فهم ووعي عام عمومي لما هو عادل وما هو غير عادل. وسأفترض لاحقًا، أن الطابع العلني العمومي لمبادئ العدالة التي اخترناها سيكون جزءًا من معرفتها. وهذا شرط طبيعي للنظرية التعاقدية.

يشير جون رولس إلى الاختلاف بين القواعد التي أقرتها المؤسسة، والتي تحدد فيها حقوق وواجبات مختلفة، وما شابه ذلك، وبين المبادئ (الِحكَم) بخصوص كيفية الاستخدام الأنسب لأفضليات المؤسسة لأهداف محددة. إن الاستراتيجيات والمبادئ العقلانية تقوم على تحليل أي نوع من الأفعال والخطوات المسموحة يقدم عليه الأفراد والفئات، آخذين في الاعتبار مصالحهم وعقائدهم، وكذلك تخميناتهم وتنبؤاتهم حول خطط الناس الآخرين. وهذه الاستراتيجيات والمبادئ لا تعد بحد ذاتها جزءًا من المؤسسات. وهي تنتسب، على الأغلب لنظرية المؤسسات، مثل نظرية السياسة البرلمانية. فنظرية المؤسسات عادة، مثلها مثل نظرية اللعب، التي تحدد القواعد، تأخذ بمثابة معطيات، وتحلل أشكال توزيع السلطة، كما تفسر للمشاركين في التوزيع، كيفية تحقيق وتنفيذ الإمكانات الكامنة فيها. وفي تصميم وإصلاح الهيئات الاجتماعية، لا بد بالطبع من التحقق من المخططات والتكتيكات التي يُسمح بها، وأشكال السلوك التي يُشجع عليها. وبصورة مثالية، يجب أن تكون القواعد مبنية على نحو، بحيث يتصرف الأشخاص الذين يتمتعون بحقوق الأغلبية، في مسار المساعدة على تنفيذ الأهداف المطلوبة اجتماعيًا. إن سلوك الأفراد الذين يسترشدون بالخطط العقلانية، يجب أن يكون متناسقًا ومتناسبًا إلى أكبر حد ممكن، مع النتائج التي لا تعد مقصودة، وغير متوقعة، لكنها مع ذلك، هي الأفضل من وجهة نظر العدالة الاجتماعية. وكان بنتام يعد هذا التنسيق بمثابة تماثل مصطنع للمصالح، أما آدم سميت فاعتبره بمثابة عمل يد غير مرئية. إن هدف المشرِّع المثالي يكمن في رسم القوانين، أما هدف الأخلاقي فيكمن في الدفع نحو إصلاحها. ومع ذلك، فإن الاستراتيجيات والإجراءات التكتيكية التي يمارسها الأفراد، باعتبارها جوهرية لتقويم عمل المؤسسات، لا تعد جزءًا من المنظومة العلنية العامة للقواعد المحددة للمؤسسات.

يمكننا نحن أيضًا التمييز بين قاعدة واحدة (أو مجموعة قواعد)، وبين مؤسسة (أو جزئها الرئيس) وبين البنية الأساسية للنظام الاجتماعي ككل. ويكمن سبب ذلك في أن قاعدة أو بضعة قواعد من تنظيم المجتمع قد تكون غير عادلة، ما لا يصح قوله عن المؤسسة ككل. والعكس صحيح، فقد تكون المؤسسة غير عادلة، لكن النظام الاجتماعي عادل، ككل. وثمة إمكانية ليس فقط بأن تكون قواعد معينة أو مؤسسات غير هامة بحد ذاتها، بل وأيضًا قد توجد في إطار بنية المؤسسة أو النظام الاجتماعي ناحية ما غير عادلة، يتم تعويضها بناحية أخرى. أما الكل الأقل عدالة، فيمكن أن يوجد، إذا ما كان يحوي جزءًا من الأجزاء غير العادلة. كذلك، من الممكن جدًا نشوء وضع، يكون فيه النظام الاجتماعي غير عادل، رغم أنه لا وجود لأي مؤسسة من مؤسساته غير عادلة، إذا ما أخذناها على حدة: فانعدام العدالة يكون نتيجة تركيبها وجمعها في منظومة واحدة. فقد تشجع مؤسسة ما وتبرر تلك التوقعات بالذات، التي تنفيها أو تتجاهلها مؤسسة أخرى. وهذه الاختلافات والتباينات واضحة  إلى حد كاف. إنها تعكس واقع أننا يمكننا في تقويمنا لعمل المؤسسات، النظر إليها في السياق الواسع أو السياق الضيق.

ونشير هنا، إلى أنه ثمة مؤسسات لا تنطبق عليها نظرية العدالة بالمعنى المعروف. فالطقوس عادة، لا يمكن اعتبارها عادلة أو غير عادلة، رغم أنه يمكننا تصور حالات، دون أدنى شك، لا يصح فيها هذا القول، وعلى سبيل المثال، طقوس التضحية بالولد الأول أو بأسرى الحرب. إن النظرية العامة للعدالة يجب أن تفسر في أية حالات، تكون فيها الطقوس والممارسات الأخرى، لا يُنظر إليها على أنها عادلة أو غير عادلة، وتخضع لمثل هذا النقد. وافتراضيًا، نقول بأن عليها أن تشمل بعض أشكال تخصيص حقوق وقيم معينة للأفراد. لكن هذا ليس موضوع بحثنا. حيث أن موضوع بحثنا يقتصر على بنية المجتمع الأساسية ومؤسساته الرئيسة، وبالتالي، الحالات القياسية للعدالة الاجتماعية.

***

القسم الثالث: أهمية نظرية جون رولس

إن جون رولس، ببعثه لتقاليد البحث في مجال الفلسفة السياسية، أكد أن مفهوم "العدالة"، بالنسبة لهذا العلم الاجتماعي، يجب أن يكتسب وضعًا مقولاتيًا، يمكن مقارنته بوضع مفهومي "الحقيقة" لنظرية المعرفة والمنطق و"الجمال" لعلم الجمال. فـ"العدالة"، حسب فكرة رولس، هي الضرورة الأولى للمؤسسات، مثلها مثل "الحقيقة" للمنظومة العلمية. وبتركيزه الاهتمام على القياس السياسي (وليس الميتافيزيقي) لـ"العدالة"، فقد وضع رولس بذلك الحدود لجميع التصورات المطابقة ذات الطابع العقلاني.

إن نظرية "العدالة" عند رولس، من حيث طابعها، تعارض بوضوح نماذج النظريات النفعية. وحسب قناعة رولس، فالسعي النفعي نحو الرفاهية الأكبر للعدد الأكبر من الناس، تؤدي بالضرورة إلى تبعية الفرد المتزايدة للمجتمع. ومثل هذا الوضع للأمور، عندما يكون فرد واحد رهينة لفرد آخر أو للغالبية الاجتماعية، غير مقبول، من وجهة نظر رولس. ففكرة "الوضع الأصلي الأولي" للأفراد، لدى صياغة العقود الاجتماعية، الذي يفترض مساواة الناس الأصلية الأولية، كانت إحدى دعائم بناء رولس لـنظرية العدالة. وكما يشير رولس:

علينا، بطريقة ما من الطرق تخفيف الأثر السلبي لتلك الظروف، التي تدفع الناس إلى استخدام الخيرات الطبيعية والظروف الاجتماعية لمصالحهم الخاصة. فالأطراف المختلفة لا تعرف ما هي الخيارات المتوفرة، وكيف تؤثر في كل حالة خاصة، لهذا فإن على أفراد المجتمع تقييم المبادئ، انطلاقًا من الأحكام العامة. إن الأطراف لا تهتم بالوقائع الخاصة: علاوة على ذلك، لا أحد يعرف مكانته الخاصة في المجتمع، أي وضعه الاجتماعي، وكذلك قواه الخاصة وإمكاناته العقلية. فليس لدينا، غالبًا، تصورنا الخاص للخير، ولا خطة حياتية مثبتة عقلانيًا، ولا حتى معرفة بالمواصفات السيكولوجية الخاصة لنا، كالميل إلى المخاطرة، والتشاؤم أو التفاؤل. من هنا، أستنتج، أن الأطراف لا تعرف الظروف الخاصة للحياة الاجتماعية.

وفي إطار هذا الموقف، حسب رولس، فإن الجهل الذي يساوي بين الجميع والذي يجهد الجميع، مقبول ومحتمل من كل فرد: فلا أحد يدري مصلحته الخاصة، والجميع عاقلون راشدون، ومنزهون عن المصالح المغرضة. وبحسب صيغة رولس:

إن ستار الجهل يحرم الإنسان من كل ما يدفعه نحو اختيار مبادئ التبعية. ولا تكتسب الأطراف المختلفة الوحدة الاجتماعية إلا باعتبارها كائنات حرة، ومتساوية، وعاقلة، فهؤلاء وحدهم يعرفون الظروف التي تجعل من مبادئ المساواة حيوية وملحة.

وتحتل مكانة هامة أيضا، في مقاربة رولس: النزعة الفردية" التي تتركز في الاعتراف بأن الأفراد مختلفون، من حيث المبدأ، في جميع مواصفاتهم (أما أنصار النظرية النفعية فالفرد، بالنسبة لهم، يعد بؤرة هادفة خاصة لتموضع الخير والمنفعة). إن الاختلاف الرئيس بين الأفراد يكمن في أن كل فرد بالذات يعتبر الخير ككل بمثابة خير خاص به. ويضع رولس خارج إطار مخططه الخاص نموذج الكائن الاجتماعي الذي يربط به الناس المثل العليا الشمولية بصرامة، فموضوع تحليله مدعو لإبراز المجتمعات التعددية. يقول رولس: "فالأمر ليس أن الأفراد يُسمح لهم أو يحظر عليهم فعل شيء ما. إن على الحكومة أن تلتزم، قانونيًا، بأن لا تعيق حرية الناس في التفكير بصورة مستقلة". كان رولس يعتقد أن الهدف الرئيس لـ" نظرية العدالة" هو إعادة التصميم العادلة لعمليات توزيع العدالة والخيرات في المجتمع. والمهم، بالنسبة لرولس، ليس التضخيم الأقصى للمنفعة الاجتماعية الكاملة أو المتوسطة، بقدر ما هو معيار "النزاهة" في هذه العمليات. وقد أكد رولس أن:

1.      كل فرد يملك حقًا متساويًا في الحرية، المتماثلة بصورة جذرية مع حرية الآخرين (مبدأ "الحرية المتساوية")؛

2.      أية قيمة (الخير عند رولس ليس شيئًا آخر سوى منحة ربانية) يجب أن تكون في متناول كل فرد (مبدأ "تكافؤ الفرص")؛

3.      اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية، كالثروة والسلطة، على سبيل المثال، تكون عادلة فقط عندما تحمل الخير العام وتعوِّض خسائر أفراد المجتمع الأكثر حرمانًا (مبدأ "الاختلاف").

إن مقولة "العدالة" التي تشكل الهيكل الأساسي لنظرية رولس، يفترض بأنها يجب أن تقترن ببنى المجتمع الأساسية، التي تحدد بفعالية النظام الاجتماعي ككل. وقد أشار رولس بهذا الصدد:

في الدول الديمقراطية، تسعى بعض الفئات السياسية التي وصلت إلى السلطة إلى قمع الحريات الدستورية؛ وثمة أعداء للحرية الفردية حتى بين أساتذة الجامعات... ليس على العدالة المطالبة بضحايا انكار الذات والتطهير الذاتي، ولكن عندما يكون هناك دستور قائم، فليس هناك أي أساس لمنع الحرية عن المعارضين.

وفي بحثه لمسألة واقع وثبات مجتمع "العدالة الاجتماعية"، يؤكد رولس، أن مثل هذا النموذج من البيئة الاجتماعية ممكن وواقعي، لأن:

1.    الناس الشرفاء والعقلاء الراشدين قادرون على التمسك بمبادئ العدالة.

2.    "الأشخاص الأقوياء"، الذين يحققون خيارهم المستقبلي في وضع "ستار الجهل" (أي انعدام التصور الواقعي عن وضعهم في المستقبل)، سيأخذون بصورة مماثلة، بـ"قواعد اللعبة" المناسبة.

يؤسس رولس تحقيق "الاستقرار"، الذي يغدو مجرد واحد من الاحتمالات في حال انهيار" ستار الجهل"، عن طريق استخدام النظريات المعاصرة للانتخاب العقلاني. فالناس "العقلانيون"، حسب رأيه، الذين يحققون انتخابًا سياسيًا صحيحًا (ليس اختيارًا ميتافيزيقيًا بل أخلاقي) لصالح مبدأ العدالة، يبرزون حينها كـأفراد "راشدين"، عقلانيين. وهؤلاء الأفراد الراشدون العقلاء لا يسترشدون بالمبدأ النفعي لتضخيم المنفعة الاجتماعية العامة أو المتوسطة، بل يسترشدون بتضخيم الخير والمنفعة لأقل أفراد المجتمع تمتعًا بالامتيازات. وهذا يعني، من حيث القياس السياسي، توفير "التوافق القانوني"، المقترن بالتعددية الرشيدة للمجتمع.

*** *** ***

مراجع البحث (باللغة الروسية والمعربة):

-       أرسطو، السياسة، ترجمة: س. آ. جيبيليف. موسكو، 1911.
Аристотель. Политика / Пер. С.А.Жебелева. М., 1911

-       أرسطو. السياسة. المدينة الأثينية. موسكو، 1997.
Аристотель. Политика. Афинская полития. М., 1997.

-       خوفي و. السياسة. الحق. العدالة.
Хёффе О. Политика, право, справедливость. М., 1994.

-       أرسطو . السياسة . المجلد 3 . ج 6 / ص 13.
Аристотель. Политика. Кн. 3. VI. 13.

-       أرسطو . المؤلفات . ج 4 ، موسكو، 1983.
Аристотель. Сочинения. Т. 4. М., 1983.

-       مالتسيف غ. ب. العدالة الاجتماعية والحق. موسكو، 1977.
Мальцев Г.В. Социальная справедливость и право. М., 1977.

-        الدولة بمقياس القيم. موسكو، 1999.
Мамут Л.С. Государство в ценностном измерении. М., 1999.

-       نيرسيسيانتس ف. س. النظرية العامة في الحق والدولة. موسكو، 1999.
Нерсесянц В.С. Общая теория права и государства. М., 1999.

-       نيرسيسيانتس ف. س. الحق والقانون. موسكو.
Нерсесянц В.С. Право и закон. М., 1983.

-       نيرسيسيانتس ف. س. فلسفة الحق. موسكو، 1998.
Нерсесянц В.С. Философия права. М., 1998.

-       النظرية العامة للدولة والحق. كتاب أكاديمي في مجلدين. بإشراف م. ن. مارشينكو. مجلد2. موسكو، 1998.
Общая теория государства и права. Академический курс в 2-х т // Под. ред. М. Н.Марченко. Т. 2. М., 1998.

-       برودون. ما هي الملكية أو دراسة حول مبدأ الحق والسلطة. موسكو، 1919.
Прудон. Что такое собственность или исследование о принципе   права и власти. М., 1919

-       رولز ج. نظرية العدالة. نوفوسيبيرسك. 1995.
Ролз Дж. Теория справедливости. Новосибирск, 1995.

-       إيكيموف آ. ي. العدالة والحق الاشتراكي.
Экимов А.И. Справедливость и социалистическое право. Л., 1980.

باللغة الانكليزية:

-      Cahn Е. Justice. — Jn: International encyclopedia of Social sciences. L., 1968. Vol.8.

-      Dunleavy P., O’Leary B. Theories of the state. L., 198

-      Hart H. L. A.. The Concept of Law (Oxford, The Clarendon Press, 1961).

-      Hayek F.A. The constitution of liberty. Chicago, 1968.

-      Morrison W.E. John Аustin. Stanford (Calif), 1982

-      Rawls J. A. Theory of Justinсе. Oxford, 1972

-      Self P. Political Theories of modern government, its role and reform. L., 1985

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني