الطائفيَّة، الديالكتيك والبرغماتية.. من منظور المنطق الحيوي
حوار مع
حمزة رستناوي
حاوره: حكمت أبو حسون
سؤال: يقول الياس مرقص ثمة مذهبان المذهب الجدلي والمذهب الوضعي، ما
رأيك بالمقولة وأين يقع المنطق الحيوي؟
حمزة رستناوي:
لا تُصنَّف نظرية المنطق الحيوي ضمن المذاهب الجدلية أو المذاهب
الوضعية. الحيويَّة هي فهم الوجود الكوني والاجتماعي كطريقة تشكُّل
ديناميكية، وليس كوجود جوهراني ثابت، بغض النظر عن تسمية هذا الجوهر
الثابت
Substance:
روح – مادة - مطلق- جنس - أخلاق – آلهة.. الحيوية نقيض الموت والقصور
والجمود[1].
المذهب الجدلي/الديالكتيكي سواء في الهيجلية
Hegel's
Dialectical Idealism
أو في الماركسية
Marx's
dialectical materialism
يقوم على فكرة الجوهر ولكن بشكل موارب، الجوهر في
الهيجلية وثيق الصلة بالكلِّي المُتعالي غير المتعيَّن المُحرِّك
للتاريخ، ويأخذ هذا الجوهر في الهيجلية أسماء مختلفة من قبيل الفكرة
الكلية أو العقل الكلي أو روح الطبيعة أو روح الشعب (وفقًا لانحياز
أوربي–جرماني). بينما الجوهر في الماركسية هو المادة والماديَّة
الديالكتيكية حيث يكون الوعي مجرد عرض ثانوي. تؤكِّد المذاهب
الجدلية/الديالكتيكية على صفة الحركية ودور تناقض الفكرة كمحرِّك
للتاريخ بينما وفقًا لنظرية المنطق الحيوي "المسار الديالكتيكي في
الفكرة التي تنتج نقيضها ومن ثم تركيب يشملهما معًا هو مسار احتمالي قد
يحدث في بعض أو كثير من الحالات، وهو ليس بمسار حتميٍّ يعبِّر عن
غائيَّة يمكن أن نطلق عليها مسمَّيات من قبيل منطق التاريخ وعقل الكون!
في المادية الديالكتيكية نجد نضال الأضداد ووحدة المتناقضات ونفي
النفي. النمطية هنا واضحة جدًا، فالتضاد والتناقض بين الأشياء هي حالة
لها أسبابها ينبغي دراستها"[2]،
بينما الصراع في المنطق الحيوي هو أحد
احتمالات الوجود، هو حالة يمكن تفسيرها ومقايسة حيويتها، حالة مشمولة
في احتمالات مربع حال المصالح، حيث يشمل: العزلة – الصراع – التعاون –
التوحيد[3].
المذاهب الوضعية – خصوصًا الوضعية المنطقية
Logical
positivism
- هي خطوة مهمة في تطوُّر فلسفة العلوم عمومًا. تنفي هذه الفلسفات وجود
بُعد عقائدي-ميتافيزيقي للكينونة الاجتماعية، وتعتبر الحديث عنه بدون
معنى وقيمة، ولا تعطي أية إجابة حول سؤال هوية الكائن والكون، وتعتبر
ذلك مجرد سفسطة ومضيعة للوقت. بينما يقدِّم المنطق الحيوي إجابة
مُحدَّدة تقول بأنَّ الكون/الكائن هو شكل حركي احتمالي احتوائي نسبي،
لا ينفي المنطق الحيوي وجود بعد عقائدي–ميتافيزيقي للكينونة
الاجتماعية، ولا يهمل تأثير هذا البعد في تشكُّل الكينونة الاجتماعية
نفسها وتفاعلها مع المحيط الحيوي. وفي سياق المقارنة ما بين المذاهب
الوضعية ونظرية المنطق الحيوي لا بأس من استحضار مفهوم البرهان الحيوي.
البرهان الحيوي هو برهان ثلاثي الجذور: برهان الحدوث (التجريبي) -
برهان الفطرة (أولويات الحياة والعدالة والحرية) - برهان وحدة
المعايير. الفلسفات الوضعية وخصوصًا البرغماتية
Pragmatism
تهتم فقط بنتائج الأفكار وتغفل دور مصدر وسياق هذه الأفكار، بينما
المنطق الحيوي يرى أنَّ كل نتيجة هي سبب وكل سبب هو نتيجة، ولا يفصل
الكائن عن المصالح والصلاحيات التي يتحوَّاها ويعرضها هذا الكائن،
الأفكار أيضًا في المنطق الحيوي هي مصالح وصلاحيات يمكن مقايستها
استنادًا إلى تقنية وحدة مربع المصالح بالاستناد إلى مرجعية البداهة
الحيوية الكونية للمصالح المشتركة، بينما لم تطوِّر المدارس الوضعية
بما فيها البرغماتية أي تقنية قياسية في هذا الشأن. البرغماتية لا تقول
بوجود معايير مُحدَّدة عامة للأخلاق تضبط حدود المنفعة، فالأخلاق من
وجهة نظر برغماتية متغيرة وهي مجرَّد انعكاس لوضع المجتمع وتطوره
ومصالح أفراده. فالعبودية كانت قيمة أخلاقية في عصر معين بينما أصبحت
لاأخلاقية عقب ظهور المجتمع الصناعي وتطور سياسي معيِّن (توماس
جيفرسون) بينما يؤكد المنطق الحيوي على معايير فطرية برهانية عامة هي
أولويات الحياة والعدل والحرية، معايير سارية البداهة وملزمة لكل الناس
والمجتمعات عبر العصور، ويفسر المنطق الحيوي خرقها وعدم الالتزام بها
بسبب وجود عائق – مادي أو معنوي- يمنع سريان هذه الأولويات دون أن يشكك
بوجودها، فالعبودية - بغضِّ النظر عن العصر والمجتمع - لا يمكن أن تكون
قيمة أخلاقية ومقبولة ، بقرينة أنَّ كل إنسان - بما فيهم الفلاسفة -
يرفض أن يكون عبدًا.
سؤال: في تطبيقك للمذهب الحيوي على موضوع الطائفة والطائفية نلاحظ
الدوران حول فكرة الانغلاق التي أراها جوهرًا تتميز به المذاهب
الإيمانوية والأيديولوجيات بشكل عام، حيث أن أي فئة أيديولوجية أو
صاحبة نحنويَّة متخمة حسب ماكس فيبر، هي مغلقة على نفسها بطبيعة
تكوينها الأولي وباتت جوهرًا تتميز به، فجميع المذاهب الأيديولوجية
عدمية تتنكر للآخر وتعتبر نفسها الفرقة الناجية إن كانت ذات أصل ديني
أو صاحبة الحقيقة الكلية إن كانت ذات منشأ سياسي اجتماعي. هل يمكن لك
أن توضح أكثر عن الانغلاق المُعتقدي وفق المنطق الحيوي؟
ح. ر.:
في تقنية وحدة مربع المصالح
ISU)
Interest Square Unity
(
يوجد أربع قيم حيوية، يمكن ترتيبها تصاعديًا: القيمة الحيوية رقم 1 هي
العزلة حيث تتوافق مع الانغلاق والتوتر المنخفض، القيمة الحيوية رقم 2
هي الصراع حيث تتوافق مع الانغلاق مع التوتر المرتفع. القيمة الحيوية
رقم 3 هي التعاون أي انفتاح مع توتر منخفض، وأخيرًا القيمة الحيوية رقم
4 هي التوحيد أي الانفتاح مع توتر مرتفع. المنطق الحيوي لا ينظر إلى
مصالح الانغلاق والعزلة على أنها خطأ أو شتيمة. العزلة هي الدرجة
الحيوية الأدنى لأي مصالح ولكنها لا تخلو من حيوية ولا يعني أنها مضادة
بالضرورة للحيوية طبعًا إن لم تكن سلبية لأصحابها ومحيطها، بل هي تعني
اقتصادًا منكمشًا يوفر الجهد ويخفف إيقاع المصالح في حدود دنيا، وقد
تكون حالة ضرورية بحكم السياق السياسي الاجتماعي الخ. لا يوجد مصالح أو
كينونة هي فقط ودائمًا انعزالية، فكل كينونة وكل مصلحة تتراوح ما بين
هذه القيم الأربعة وتتنقل بينها.
كل فلسفات الجوهر والأيديولوجيات الشمولية تدَّعي وجود جوهر ثابت لها،
أرسطو هو أول من أسَّس نظريًا لمفهوم الجوهر، وهو - وفق أرسطو -
الماهية، الموجود القائم بذاته المستغني عن غيره، فهو الذات القابلة
لتوارد الصفات المتضادَّة عليها أي الأعراض.
إنَّ الإيمان بالفهم الجوهراني للهوية – سواء أكان الكائن ماديًا أو
معنويًا - يحوِّل العنصرية إلى جزء أصيل من هوية الكائن، ونصبح أمام
عقائد الفرقة الناجية وشعب الله المختار والحزب القائد وديكتاتوريَّة
البروليتاريا.. إلخ. الفهم الجوهراني الانغلاقي للدين كان شائعًا عبر
التاريخ البشري ولكن الزمن تغير. هناك مستجدات ينبغي أخذها بعين
الاعتبار ربطًا بثقافة ومصالح العصر الذي نعيش فيه.
كيف نحكم على مصالح دينية أو سياسية بأنها عنصرية؟ منطق الجوهر الثابت
هو الجذر المنطقي للعنصرية، في العنصرية يوجد مصالح أو قضايا غير
برهانية أو ناقصة أو منافية للبرهان تفرض نفسها على الآخرين، المشكلة
هي في محاولة إلزام الآخرين بما لا يلزمهم بداهة وبرهانًا. شخص يؤمن
بأن القرآن الكريم - أو أي كتاب مقدَّس آخر - كتاب مُنزَّل من الله
تعالى وكتاب خالد نقول له هذا حقُّك ويدخل ضمن نطاق حرِّية المُعتقد.
ولكن هذه قضيَّة مُختلف عليها منقوصة البرهان – بمقياس عامة الناس عبر
العصور – وإيمانك موضوع احترام مالم تُلزم الآخرين به (فَمَنْ شَاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر). الدليل الأهمُّ على عدم وجود
جوهر ديني أو طائفي هو ببساطة أنَّ كل إيمان ديني أو انتماء طائفي ما
هو إلا فعل مُكتسب بفعل التربية من الأسرة والمجتمع والبيئة، وكل تغير
في سياق الكينونة الاجتماعية البشرية من جهة الزمان أو المكان أو
الحوادث السياسية سوف ينعكس تغيُّرًا في خيارات الإنسان العقائدية،
وهذا ليس باكتشاف جديد! بل هو معروف للناس والدارسين عبر التاريخ،
ولكنَّا بحاجة دومًا إلى استعادته والتذكير به في المجتمعات التي تنتشر
فيها لوثة الإيمان الانغلاقي.. بغية تحرير الإيمان من القصور الكائن..
باتجاه إيمان انفتاحي حيوي يُسعد الإنسان ويفيد المجتمع.
سؤال: أليست مبادئ المنطق الحيوي هي نفسها مبادئ نظرية العلوم الحديثة
(الحركة وحدها المطلق، النظرية النسبية الحديثة، مبدأ عدم التعيين
لهايزنبرغ أو السلوك الثنائي للجسيمات الأولية) وبالتالي يقوم المنطق
الحيوي بإضفائها على المجتمع والإنسان العاقل بتجرد واغفال ميزة التفكر
وانعكاساتها على المجتمع، من خلال قدرة الإنسان الذاتية على الفعل
وإنتاج الأفكار وبالتالي تغيير الواقع ضمن رغباته؟!
ح. ر.:
مبادئ القانون الحيوي هي مبادئ مُستمَّدة من نظرية العلوم، هذا صحيح
إلى حدٍّ كبير فهي لم تولد من فراغ، بل باستقراء ودراسة أبستمولوجيا
العلوم، إنَّ عملية تطبيقها بشكل آلي أو تعسفي على الإنسان والمجتمع هو
محذور يجب التحوُّط له. لكن يوجد لدينا نقطتين يجب الوقوف عندهما:
أولاً- طبيعة مبادئ القانون الحيوي نفسها، الكائن سواء أكان إنسانًا أو
كأسًا أو حُبًّا أو قمرًا هو شكل وليس جوهرًا وهو طريقة تشكل لأبعاد
وجود هذا الكائن. نعم لا يوجد جوهر ثابت يميز الإنسان، ولكنَّ بالتأكيد
يوجد ما يُميِّز الإنسان عن غيره. لا تنبغي مُساواة الإنسان بالكأس،
ولا ينبغي النظر إلى الإنسان من زاوية علم الميكانيك ومثالها النظرية
السلوكية في علم النفس. ولإيضاح الفكرة سأمثِّل عليها بالكأس، فالكأس
له بعد زماني، بعد مكاني، بعد مادي فيزيائي.. إلخ. للإنسان أيضًا أبعاد
زمنية ومكانية ومادية فيزيائية.. إلخ. لكن الإنسان يتميَّز بأبعاد
إضافية تناسب الشكل الإنساني، منها مثلاً البعد العقائدي، حيث لا يمكن
تجريد الإنسان من بعده العقائدي ليصبح مثل الكأس بلا عقيدة ودين! وجود
البعد العقائدي عند الإنسان هو ما يجعلنا نناقش موضوع الطائفية والصراع
الطائفي والأديان وهذا غائب عن عالم الكؤوس، ومن أبعاد الشكل الإنساني
أيضًا البعد العلمي الرمزي وضمنًا اللغة وهذا ما يقتضي خصوصية أخرى
للإنسان مقارنة بعالم الجمادات.. إلخ.
ثانيًا- القوننة الحيوية لها شقين، الأول هو القوننة الحيوية الكونية
وهي تنطبق على كل الكائنات جميعًا بما يشمل الجمادات والنباتات
والحيوانات وصولاً إلى الإنسان. أما الشق الثاني فهو القوننة الحيوية
الاجتماعية، وهي تعيُّنٌ خاص بالكينونة الاجتماعية البشرية. الإنسان
والكأس والقمر والحب كلُّها أشكال حركية احتمالية. مثلاً، الإنسان في
اللحظة التي يموت فيها ويتحول إلى جثة، سوف يفقد البعد العلمي الرمزي،
ويفقد البعد العقائدي الديني، فليس ثمَّة دين لجثة هامدة!
*** *** ***
مراجع مفيدة للتوسع:
-
المنطق الحيوي: عقل العقل،
رائق النقري، باريس، 1987، أطروحة دكتوراه من جامعة باريس.
-
الغريب النجس في الخطاب السياسي [الثورة/الحرب السورية ما بين الحيوية
والعنصرية]،
حمزة رستناوي، دار كتابوك، باريس، 2017.
-
في البحث عن منطق الحياة (منطق الأم التي تحب أولادها وتكره الفلاسفة)،
حمزة رستناوي، دار فضاءات، عمَّان، 2018.