الإنترنت.. والمثقف
حوار مع
مصطفى الحداد
أجرى الحوار: أحمد الخمسي
سؤال: كيف تنظرون إلى الإنترنت؟ وكيف تقومون الدور الذي تلعبه المواقع
الثقافية فيه؟
مصطفى الحداد:
الإنترنت، كما تعلم، لا يعدو أن يكون سندًا أو حاملاً. لذلك لا يمكن أن
ننتظر من السند أو الحامل أن ينوب عنا في إنتاج الثقافة أو الفكر أو أي
شيء آخر. الإنسان هو الذي ينتج الأفكار ويبدع الرؤى ويُفصِّل الثقافات
تفصيلا. والإنترنت نفسه قبل أن يصير واقعًا هو فكرة أبدعها الإنسان.
هذا إذا شئتَ هو البعد المبدئي في هذه القضية. لكننا، إلى جانب هذا
البعد المتصل بالمبدأ، يجب علينا أن ننتبه إلى أن للسند دورًا في إعادة
تشكيل ما يسْنِدُ، أو في توجيه ما يَحْمِل. الأسانيد بعبارة أخرى فاعلة
ومؤثرة، وليست محايدة كما قد يُظَن. وهذا واضح من مراجعة تاريخ الحوامل
أو الأسانيد. فكلما كان يظهر حامل جديد إلى الوجود، كانت رؤى الناس إلى
ما ينتجون تتغير وتتبدل. بل إننا غالبًا ما نصف لحظات الانتقال هذه
بأنها ثورات. وهذا في رأيي وصف دقيق لا اعتراض عليه، ولا يمكن بحال
تأويله على المجاز. حصل هذا مع ظهور الكتابة، وحصل أيضًا مع ظهور
الطباعة، وحصل كذلك عند ظهور المذياع وبعده التلفزيون، وهو يحصل الآن
مع ظهور الإعلاميات وخصوصًا الإنترنت. وفي كل مرة كُنتَ تجد الناس
ينقسمون إزاء الجديد قسمين أو فريقين: فريق محافظ، أو ضيق الأفق، مشدود
إلى الوراء، ينادي بالوقوف سدًا منيعًا أمام الجديد، ويستنفر الجهود
لتحصين القديم والدعاية له؛ وفريق آخر ثوري، أو ليبرالي، ينخرط بحماسة،
منقطعة النظير أحيانًا، في الدفاع عن الجديد. هذا حال الناس دائمًا.
ولن تجد لهذه السنة تبديلا.
الغريب في الأمر أن استقراء التاريخ يبين أن النصر كان دائمًا حليف
الفريق الثاني في كل المعارك التي دارت في أعقاب ظهور هذه الحوامل
الجديدة: انتصرت الكتابة على المشافهة، وانتصرت الطباعة على النسخ
باليد، وانتصرت الصورة الصوتية والمرئية على الحرف المقروء، وها نحن
نتهيأ اليوم لانتصار مارِدِ الإنترنت على ما عداه؛ إنه مارد يكثف
الحوامل السابقة جميعَها ويجاور بينها على نحو نسقي وسلس غير مسبوق.
بالنسبة إلى الشق الثاني المتعلق بالدور الذي تلعبه المواقع الثقافية
الموجودة على الإنترنت، وهو شق بالغ الأهمية في سؤالك، فلا أعتقد أن
هناك تقويمًا علميًا دقيقًا في المغرب أو في العالم العربي لهذا الدور:
ليس هناك، حسب علمي، جرد لهذه المواقع الثقافية، ورصد لقيمة كل واحد
منها. وليس هناك إحصاء دقيق ومحايد لعدد زوارها، مصحوب باستطلاع آرائهم
عنها، وعن قيمة مشاركتهم فيها، وعن مدى استفادتهم معرفيًا منها. وعلى
ذكر الاستفادة المعرفية هاهنا يجب أن ننبه إلى أننا غالبًا ما نخلط بين
شيء اسمه المعلومات، وشيء آخر مختلف جذريًا اسمه المعرفة. فالإنترنت
مملوء بالمعلومات، ويمكن أن نقول، على الأقل من جهة الظاهر، إن هذه
المعلومات متاحة وفي متناول كل جالس أمام حاسوب مقترن بالشبكة في أي
منطقة في العالم. فيمكن لهذا الجالس، أيا كان، أن يسبح في بحر
المعلومات ويغرف أو يخزن منه ما شاء أو استطاع في حاسوبه، وتصبح هذه
المعلومات ماديًا في متناول نَقَراته. لكن السباحة وسط المعلومات،
والغرف منها، لا يجعلان من هذا الجالس شخصًا عارفًا أو عالمًا بما يملك
من معلومات. قضية المعرفة تختلف كليًا عن قضية وجود المعلومات في
متناول اليد. المعلومة لا تتحول إلى معرفة إلا إذا فكها الإنسان
وأدرجها تصوريًا في نسقه المعرفي، بحيث تصير جزءًا لا ينفك عنه، واشتغل
عليها ووظفها أو استثمرها في سياق بحث أو اختراع أو مشروع أو برنامج أو
رؤية هو صاحبها. من هذه الجهة يكون تقويم الاستفادة من المعلومات التي
تزخر بها شبكة الإنترنت أمرًا شائكًا، إن لم نقل بالغ التعقيد، يتطلب
منا ونحن نتحدث عنه الالتزام بشيء من الاحتياط كثير.
هناك أيضًا مشاكل أخرى لا تقل أهمية تتصل بما يعرف بالفجوة الرقمية في
بلداننا: كلفة الحواسيب، ومعدلات توزيعها غير المتكافئ على مجموع
السكان، وتدني قدرات الارتباط أو الاقتران عبر الإنترنت
Connectivity،
وانخفاض مستويات التدريب وبناء القدرات
training and capacity-building
في مجال تكنولوجيا المعلومات، إلخ. فلكي نصوغ حكمًا
في هذا المجال يجب أن نكون قد استوفينا شروط صوغ هذا الحكم. وهذا أمر
أعتقد أننا ما زلنا بعيدين عنه.
غير أن هذا لا يمنعنا من إبداء بعض الملاحظات العامة حول هذا الموضوع.
فحسب تجربتي المتواضعة في هذا الباب، ألاحظ انتشارًا كبيرًا للمواقع
الثقافية التقليدية (التي قد نتحدث عنها فيما بعد)، كما ألاحظ أيضًا أن
لدى قطاع واسع من المثقفين المغاربة إحجامًا أو حيطة أو ترددًا، إذا
شئتَ، في الإقبال على التعامل مع وسيط الإنترنت. هناك في السنوات
الأخيرة، حقيقة، تحسن نسبي في إقبال عدد لا يستهان به من المثقفين
المغاربة على فتح مواقع وإنشاء مدونات على الإنترنت. الناشطون
السياسيون والنقابيون والجمعويون والصحافيون في المغرب تفوقوا، حسب
رأيي، في هذا الجانب على المثقفين، إذ ما زال هناك تردد واضح لدى هذه
الفئة الأخيرة عندنا. وهذا يظهر جليًا عند زيارة مواقع أو مدونات كثير
من المثقفين. فأغلب هذه المواقع تعكس تخصصات هؤلاء المثقفين الأكاديمية
الضيقة ولا تميل عنها إلا لمامًا. ومعلوم أن الكاتب أو المفكر لا يصبح
مثقفًا بالمعنى الاصطلاحي إلا إذا استعمل معرفته الأكاديمية استعمالاً
عموميًا. فالمثقف في الاصطلاح الأكثر رجحانًا هو المثقف العمومي
public intellectual،
وليس الكاتب النابغة، أو المفكر الأكاديمي المبرز، أو الخبير الماهر
والمقتدر. هؤلاء، على الرغم من باعهم ومن علو شأنهم، لا يمكنهم أن
يصبحوا مثقفين، بالمعنى الدقيق والراسخ في هذا الاصطلاح، إلا إذا
تصرفوا فيما يعرفون وحولوه من حدود النبوغ والأكاديميا والخبرة إلى
الحدود العمومية التي تكون مبدئيًا في متناول الجميع. هناك تردد إذًا.
وهذا التردد في رأيي ليس ببعيد عما أشرتُ إليه أعلاه بخصوص انقسام
الناس إلى محافظين وليبراليين إزاء الحوامل الجديدة. وهنا يبدو لي أن
المثقف المغربي يحمل بين جناحيه مكونًا محافظًا قويًا إزاء الإنترنت،
وأقصد هنا على وجه التحديد المثقف الذي لا يكف، آناء الليل وأطراف
النهار، عن الدفاع عن قيم الحداثة، كالإيمان بتطور العلم وأهمية
التكنولوجيا والتسامح والتواصل وأهمية النقاش العام والاعتدال والحرية
والعيش المشترك والديمقراطية والاختلاف...
اللافت في هذا السياق هو أن المثقف الذي نسميه أو نصفه عادة بالتقليدي،
والذي يحتاط أو يجادل أو يشكك في كل القيم المذكورة أعلاه، ليس محافظًا
في هذه النقطة على وجه التحديد، أي في إقباله على استعمال الإنترنت.
وهذا – لعمري - إشكال من صميم علم الاجتماع، يستحق أن نُعمل النظر فيه
للكشف عن أسبابه: لماذا يكون المثقف الحداثي "تقليديًا" ولماذا يكون
المثقف التقليدي "حداثيًا" في هذه النقطة تحديدًا؟ لهذا السبب ربما
انتشرت المواقع والشبكات الثقافية التقليدية على الإنترنت وقلت المواقع
والشبكات المحسوبة على الحداثة.
سؤال: هل يمكنك أن تصف لنا بعض هذه المواقع الثقافية التي وسمتها
بالتقليدية؟
م. ح:
إن الذي يفتح محرك البحث غوغل، مثلاً، على واجهته العربية، ويبادر
بالبحث عن موضوع معين، أيًّا كان هذا الموضوع، سيفاجأ بكَمِّ المواقع
والشبكات التقليدية الهائل، وسيلاحظ للتو، ومن دون أن يُجهد نفسه، مدى
تقصير من يصنفون أنفسهم في خندق الحداثة. بل إن جولة سريعة في ربوع هذه
المواقع والشبكات ستقنعك بأن قسمًا لا يستهان به مما يسمى بالإرهاب
الموجود في العالم اليوم، لعب فيه التأطير عبر الإنترنت دورًا رئيسًا
(واحد من الشباب المغاربة فجر نفسه في مقهى للإنترنت في الأحداث
الإرهابية الأخيرة بالمغرب). فمعظم النقاش المفضي إلى الإرهاب والذي
ينعكس على العالم الواقعي فيفجره ويحدث الرعب فيه، لا يجري في هذا
العالم الواقعي، بل يجري في العالم الافتراضي، عالم الإنترنت، وتحديدًا
على هذه المواقع.
علاقة الإنترنت بالإرهاب لا تقف، بالمناسبة، عند كثرة المواقع التي
تحتفي به وتشجع عليه، بل تتعدى ذلك إلى شيء آخر أعمق غالبًا ما لا
نلتفت إليه. فالإنترنت استحدث صيغة جديدة في فهم الإسلام والدعوة إليه
لا قبل للناس بها، صيغة لا يسعى أصحابها إلى تأسيس أمة واقعية عن طريق
الحشد والتعبئة الجماهيرية والشعبية المتعارف عليها في التقاليد
السياسية المعهودة، بل صيغة يعلن أصحابها الانتماء إلى أمة متخيلة أو
افتراضية فضفاضة، مقطوعة صلتُها بالواقع، لا يجسدها من حيث الشكل شيء
آخر أفضل مما يجسدها وسيط الإنترنيت الافتراضي هو نفسه. هذه الصيغة في
فهم الدعوة إلى الإسلام لا تحشد من الناس إلا أفرادًا غاضبين، متناثرين
في أرجاء المعمور، فقدوا صلتهم بواقعهم المحلي، بما في ذلك إسلامهم
المحلي الذي تربوا عليه، فتغسل دماغهم وتنسق بينهم وتحولهم إلى قنابل
موقوتة على أهبة الانفجار.
إلى جانب هذه المواقع والشبكات التقليدية الموصولة بالإرهاب، توجد
شبكات ومواقع ثقافية تقليدية أخرى تعتمد نضالاً يستند إلى الأخلاق
morality-focused activism
ويعول عليها. فهي مواقع وشبكات تتخذ شكل "مقاولات
أخلاقية صغرى"، يشرف عليها ويسيرها ناشطون وفاعلون مهذبون جدًا، بل
غالبًا ما يكونون من ذوي النباهة الدعوية الذين لا يجارون في الصبر
وحسن الإنصات؛ ناشطون تحذوهم الرغبة الجامحة في تحقيق نوع من إعادة
الانتشار لقاموس سلفي تقليدي مخصوص يصف الفضاء العمومي، وما يعتمل فيه
من أفعال، بصيغ خطابية تعرض إعراضًا عن السياسة؛ صيغ تستند أو ترتد في
مجموعها إلى مقولتي الحلال والحرام، أو إلى ما هو إسلامي وما هو غير
إسلامي. الاعتقاد الرئيس الذي يوجه المشرفين على هذه المواقع هو
إلحاحهم الشديد على أن الفضيلة (الأخلاقية) هي الطريق الرئيس إلى بناء
المجتمع الخَيِّر؛ وهو الاعتقاد نفسه تقريبًا الذي سبق للفيلسوف
الألماني هيجل أن انتقده انتقادًا لاذعًا في كتابه مبادئ فلسفة الحق
حين صادفه عند مونتسكيو. والغاية التي تنشدها هذه المواقع والشبكات،
التي تتخذ كما قلنا صورة مقاولات أخلاقية صغرى، هي أن تولد لدى جمهور
المُبحرين والزوار، المُهَدَّدِين بالتحديث من كل جانب، الحاجةَ
الدائمة إلى معرفة "موقف الدين" من هذا الأمر أو ذاك، حتى لو كان هذا
الأمر أو ذاك داخلاً في الباب الذي تشمله الآية القرآنية، في سورة
المائدة، التي توصي بأن "لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تسؤكم".
في مقابل هذا مازال المثقف المغربي الحداثي تأخذه الرعشة هيبةً من
إمساك الفأرة بيده. إنه يعتقد أن إنشاء موقع أو مدونة أو منتدى للحوار
على الإنترنت والتعبير عن رأيه، وتلقي آراء الآخرين، فيما يجري ويدور
من أحداث، صغيرة عابرة أو كبيرة معقدة، يقوض صدقية المعرفة أو الثقافة
واتزانها كما يتصورها. هذا التصور عن المعرفة في نظري خطير ونخبوي، بل
تصور رجعي بالمقاييس كلها تقريبًا، وينبغي أن يُراجَع قبل أن يصيح
الديك. فالإنترنت اليوم جبهة رئيسة ومتقدمة من جبهات الصراع بين قيم
الحداثة وقيم القدامة. ولا يمكن للمثقفين المغاربة ذوي الميول الحداثية
أن يضعوا أصابعهم في آذانهم تاركين قطاعات واسعة من الشباب تتسكع في
بحر لا يأمل الداخل فيه العودة ناجيًا منه.
سؤال: هل تعتقد أن بإمكان المثقفين أن يلعبوا دورًا إصلاحيًا أو
علاجيًا في هذا الباب؟
م. ح.:
عندما ألح هنا على دور المثقف، لا أفهم هذا الدور من منظار علاجي
أبدًا، فضلاً عن أنني لا أفهمه في ضوء الأطروحة 11 الشهيرة لماركس حول
فيورباخ. المثقفون ليسوا أطباء. وخطابهم لا يتوجه إلى المجتمع ليغيره،
أو ليقيم فيه النظام، أو ليبسط تعقيده، أو ليوقف كل خلاف فيه. ميزة
خطاب المثقف قائمة، حسب رأيي، في كونه لا يلج المجتمع إلا لكي يضيف
توابل جديدة من عدم اليقين إلى خليط التوابل الأخرى التي تنهض عليها
تجربة الناس الجماعية في المجتمع. فنحن في حاجة، سواء في المغرب أو في
العالم العربي بوجه عام، إلى الكثير من عدم اليقين... لقد أنهكنا
اليقين. من يستطيع أن ينكر، مثلاً، أن الشاب الذي يفجر نفسه وهو في
مقتبل العمر لا يعاني يقينًا مفرطًا بأن الدنيا أظلمت إلى الأبد، وأن
الناس من حوله كلهم كفار؟ ومن يستطيع أن ينكر أن الذي يتأهب ليهاجر
بعيدًا على قوارب الموت ليس متيقنًا من أن الحياة في الوطن أضحت
مستحيلة؟ ومن يستطيع أن ينفي أيضًا أن النخب السياسية الحاكمة ليست
متيقنة من أن سياساتها الاستبدادية واللااجتماعية التي تتبعها هي
السياسات الوحيدة الكفيلة بحل مشاكل المجتمع؟ الخ. إن عدم اليقين الذي
يترتب على خطاب المثقف من شأنه أن يشكك الكل فيما يدعونه ويخفف من
غلوائهم ويردهم إلى عدم اليقين الذي هو عين الصواب. توابل المثقف
باختصار تشبه، من وجوه شتى، كما قال برونو لاتور، تلك الجزيئات
البروتينية المُعدية منزوعة النواة الأسيدية التي اكتشفها ستانلي
بروساينر واستحق عليها جائزة نوبل سنة 1997.
فعندما نلح على أهمية ولوج المثقف عالم الإنترنت فإننا نريد أن ننبه
إلى أن الإنترنت أصبح الوسيلة المثلى لنشر اليقين الملغوم وتعميم كثير
من التسطيح والتنميط، خصوصًا في بلدان كبلداننا تعاني تفشي الأمية،
وتراقب نُخَبُها، وهي عاجزة فاتحة فمها، انهيار منظومات التعليم فيها.
فإطلاق المثقف الحداثي للحبل على الغارب في هذا الباب يزيد الطين بلة
ولا يجعلنا نتصور المستقبل صراحة إلا في حدود كارثية.
سؤال: هل تقتسمون التخوف مع الحريصين على ترويج الكتاب، والذين يرون أن
النشر الإلكتروني يخل بعملية إنتاج الكتاب، هذا الكتاب الذي هو في
نهاية المطاف المحفز الأساسي للمؤلف والناشر والموزع؟
م. ح.:
أي كتاب تتحدث عنه يا أخي أحمد؟ كم ننتج في العالم العربي من كتاب في
السنة (أقصد هنا العدد ولا ألتفت إلى القيمة)؟ كم نترجم في العالم
العربي بأسره من كتاب مقارنة ببلدان جارة لنا في المتوسط، كإسبانيا أو
البرتغال أو اليونان؟ لقد قرأنا أنا وأنت تقرير التنمية الإنسانية في
العالم العربي وناقشنا بإسهاب معضلة إنتاج الكتاب وتداوله في أكثر من
ندوة ولقاء؛ ووقفنا على الإحصائيات المخجلة المتصلة بهذا المجال. الوضع
محبط، بل خطير جدًا. ليس هناك، على وجه الدقة، نشاط حقيقي ذو صلة
بالكتاب في بلداننا... إلقاء اللوم على الإنترنت ليس سوى ذريعة من لا
حول له ولا قوة. أزمة الكتاب وترويجه عندنا سابقة على ظهور الإنترنت.
ولو أن هذه الذريعة كانت وجيهة، لحورب الإنترنت في الدول التي تغرق
أسواق العالم بالكتب. الكتب والصحائف تُنشر على الأوراق والناس
يشترونها، والكتب والصحائف نفسها تنشر إلكترونيًا والناس يقرأونها و/أو
يطلبون شراءها من على الشاشات. ولا علاقة لهذا البتة بذاك. هذا أمر
معمول به في جل الدول التي تنتج الكتب بغزارة (باستثناء فرنسا التي
مازالت في حيرة من أمرها مثلنا، لأسباب أخرى تختلف عن أسبابنا): معمول
به في الولايات المتحدة، وفي كندا، بما في ذلك الكيبيك، وفي بريطانيا
وأستراليا ونيوزيلاندا... بل إن الكتاب الكبار والصحافيين، من ذوي
الشأن والباع، يشترطون على الجهة التي ينشرون فيها، إذا لم تفتح موقعها
مجانًا للمبحرين عبر الإنترنت، أنهم سيعيدون نشر مقالاتهم على مواقعهم
الشخصية في الصورة التي نشرت بها في الأصل عند تلك الجهة.
وهذا ينطبق أيضًا على الجامعات. فهناك سعي حثيث للانتقال من عصر جامعات
اللَّبنات
brickuniversities،
أي الجامعات التقليدية التي تقوم على البنايات والأقسام والمدرجات، إلى
عصر جامعات النَّقَرات
click universities،
أي الجامعات الافتراضية التي تتحكم فيها النقرات. زر مواقع الجامعات في
هذه الدول التي أشرتُ إليها أعلاه. وإذا كنت شغوفًا بالتعرف على
المستوى الذي وصل إليه دمج التعليم الجامعي في سياق المعلوميات، افتح
مواقع الدروس في أشهر الجامعات في العالم وأقواها: ستجد الدروس في
معظمها ملخصة ومفتوحة فتحًا على الملأ، في العلوم الصُّلبة وفي
الإنسانيات والعلوم الاجتماعية على حد سواء (زر – على سبيل المثال لا
الحصر – موقع
OpenCourses
بمعهد مساشوسيتس للتكنولوجيا). وإذا خفي عليك حرف
في شيء منها، أو أردت نصحًا، ما عليك إلا أن ترسل مايلاً إلى صاحب
الدرس نفسه تستفتيه، فيباغثك قبل أن يرتد إليك طرفك بالجواب. زر موقع
جامعة كولومبيا، حيث كان الراحل إدوارد سعيد. واذهب إلى أرشيف الندوات
والأيام الدراسية والمحاضرات المصورة بالفيديو هناك، وسترى. الشيء نفسه
يقال عن جامعات أخرى في الولايات المتحدة، وعن جامعات كثيرة في
أستراليا ونيوزيلاندا وكندا بما في ذلك الكيبيك. إذا جربت هذا مع
الجامعات الفرنسية، التي مازلنا ندين لها بالولاء، لن تجد شيئًا مما
ذكرته لك. وإذا وجدته فاعلم أن المشرفين عليه يشتغلون ضمن البراديجم
الأنغلوأمريكي وليس القارِّي، وأغلب كتاباتهم بالإنجليزية (زر موقع
المعهد الفرنسي متعدد التخصصات المسمى بمعهد جان نيكو
J .Nicod
مثلاً).
هذا ليس سخاء أنغلوأمريكيا كما يمكن أن نتصور. إنه بالأحرى إدراك لدور
القوة الناعمة في الهيمنة والسيطرة، وإدراك لأهمية غزو العقول والقلوب
وتشكيل الرأي العام وتوجيهه على نطاق كوني. لكنه أيضًا، في وجهه
النقدي، ثمرة جهود مناضلين وناشطين منشقين من بين العلماء والمفكرين
والأساتذة الذين يستغلون التكنولوجيا إلى أقصى حد مستطاع ليجعلوا
المعرفة أو المعلومات متاحة على نطاق كوكبي. فكمال المفكر أو المثقف أو
الكاتب، بالمعنى الأرسطي للكمال، هو القارئ، وليس شيئًا آخر. ثم إن
الكتاب والمفكرين والمثقفين يراهنون اليوم على قراء كونيين وليس على
قراء عموميين فقط. الفضاء المعرفي والثقافي أصبح كونيًا أكثر فأكثر
وسيزداد، ولم يعد عموميًا كما كان إلا عند من لا يُعتد البتة برأيه.
سؤال: ما هو دور المثقفين في تنوير الرأي العام، خصوصًا في سياق هذا
التضارب القائم بين الحاجة الماسة والأبدية للقراءة والمثاقفة، والتي
ستفرز أشكالاً من الإنتاج الفكري والأدبي، وبين تراجع الشكل الورقي
الموروث من الكتاب؟
م. ح.:
الشكل الورقي أو الكتاب الورقي لن يتراجع. هذا في رأيي إشكال زائف.
فكما لم يَكُفَّ الناس ويتوقفون عن المشافهة عند اختراع الكتابة، أو عن
الخط باليد عند اكتشاف الطباعة، أو عن قراءة الصحف عند ظهور المذياع
والتلفزيون، كذلك لن يكف الناس عن قراءة الكتب الورقية عند ظهور النشر
الإلكتروني على الإنترنت. لم يسبق لحامل جديد أن ألغى حاملاً قديمًا أو
أزاحه. ليس هناك قطيعة بين هذه الحوامل كلها. بل إن الحامل الجديد يوسع
من مجال الحامل القديم، ويفتحه على مغامرة جديدة إذ يدرجه ضمنه. المشكل
الحقيقي المطروح علينا اليوم هو أن نجد ما ننشر، وأن يكون هذا الذي
ننشره أصيلاً من جهة أولى، ودالاً بالنسبة إلى فضائنا العمومي المحلي
من جهة ثانية، ومتناغمًا مع الفضاء الكوني الذي نحن مندمجون فيه من جهة
ثالثة وأخيرة. وهذا أمر يقع بعضه على عاتق المثقفين، ويقع بعضه الآخر
على عاتق الدولة (تأهيل النظام التعليمي تأهيلاً حقيقيًا في مستوياته
كلها وتحديثه، وتحديث قطاع الثقافة والفنون بوجه عام)، وقسم لا يستهان
به يقع على كاهل المجتمع وقواه الحية من أحزاب ومنظمات مدنية أيضًا.
إنه كما ترى أمر شمولي، من صميم مسألة التنمية بمعناها العام، ومن صميم
الموقف من العالم الذي نعيش فيه بوجه أعم. وأريد هنا أن أوضح نقطة
أعتقد أنها جديرة بأن نفض النزاع حولها تتصل بمفهوم القراءة (قراءة
الورقات، وقراءة الشاشات)، يجب علينا أن نقيم فرقًا بين نوعين من
القراءة: نوع يسمى بالقراءة الحاجية
lecture besoin،
أي القراءة المتصلة بالبحث، والوثائق والمعلومات عمومًا، وهذا النوع
أعطاه وسيط الإنترنت دفعًا قويًا غير مسبوق؛ وبين القراءة الاختيارية
أو المنتقاة
lecture choisie،
أي القراءة المريحة والمتأنقة الموصولة بالشغف وبالهواية وبالطقوس
المتعارف عليها. هذا النوع الأخير من القراءة سيظل وسيستمر في الوجود.
ولا أظن أن هناك تضاربًا بين هذين النوعين من القراءة. بيد أن إغفال
هذا التمييز بين النوعين يدخلنا مباشرة في اللاتاريخية. القراءة
الحاجية أصبحت في أيامنا هذه أمرًا لا يمكن تلافيه.
أما الناشرون في أوطاننا، إذا استثنينا ناشرين قلائل معروفين، فماذا
فعلوا بالكِتاب وكاتبه قبل أن يظهر النشر الإلكتروني؟ كم يتقاضى الكاتب
من درهم أو ريال على ما ينشر؟ وهل تحكم كاتب، باستثناء قلة قليلة
اشتهرت، في عدد الطبعات التي خضعت لها كتبه؟ مجال النشر والناشرين في
العالم العربي سارت بذكر مثالبه الركبان. ولو أن الإنترنت يؤثر سلبًا
في دَور الناشر لثار عليه الناشرون في العالم قاطبة. وهذا ليس حاصلاً.
اسمع ما قاله دوني أوليفين
Denis Olivennes،
مدير مجلس إدارة شركة الفناك الفرنسية، حين سُئل: "هل أصبح المكتوب
مهددًا؟"، وهذا السؤال بالمناسبة لا يثار بحدة تزيد عن اللزوم إلا في
فرنسا، أجاب من غير تردد قائلاً: "لا أعتقد ذلك، العكس ربما هو الصحيح.
لم يسبق للناس أن كتبوا وقرأوا هذا العدد الهائل من الكتب إلا بعد ظهور
الإنترنت. فإذا كنا نستطيع القول قبل ظهور الإنترنت إن المكتوب كان
مهددًا بسبب ظهور الوسائط السمعية البصرية، فإننا لا نستطيع أن نقول
ذلك البتة مع الإنترنت".
الناشرون والعاملون في قطاع الكتاب والنشر تعايشوا مع الوضع، وطوروا
أدوات وأساليب ملائمة للإبقاء على التقاليد الكتابية والقرائية
المتعارف عليها باستخدام الإعلاميات نفسها. الناشرون بالمناسبة ليسوا
تجارا بالمعنى المتعارف عليه عند عموم الناس. التجارة في عملهم ليست
سوى مكون من مكونات أخرى كثيرة. وهذا الذي ذكرته عن أن سوق الكتاب
الورقي لم يتأثر تجده أيضًا واضحًا في التقارير المتصلة بالمعارض
الدولية في بقاع العالم المتقدم كلها. فعندما يكون لديك جمهور متعلم،
وقع تدريبه على أن يقرأ في كل مكان، في المقهى وفي الحافلة وفي الحديقة
وفي قاعات الانتظار، فضلاً عن البيت، ويعمر المكتبات العمومية بكثافة،
لا يمكن أن يكون الكاتب ولا الناشر منزعجين. المشكل كما أسلفت متصل
بتنمية الإنسان، أي بالرفع من مستواه على جميع الصعد وتأهيله، وليس
بالإنترنت، أو الهاتف المحمول، أو بوجود الماء المالح في البحر...
المشكل في رأيي هو أن بقاءنا (بالمعنى الدارويني للبقاء) صار مرتبطًا
ارتباطًا أوثق من أي وقت آخر مضى بإنجاز التنمية التي صرنا نتحدث، بل
نُطْنِب في الحديث عنها أكثر مما نعمل من أجلها. وهذه التنمية يجب أن
تطال الإنسان، وليس البشر فقط. يجب أن ننتقل من تنمية البشري فينا إلى
تنمية الإنساني. يجب على الثقافة المغربية، بمكوناتها السياسية
والفكرية والفنية، أن تنتج سردية أو حكاية جديدة عن المغرب المعاصر،
حكاية يتشوق الشباب المقبلون على الحياة إلى أن يلعبوا فيها دور
الأبطال. فالأوطان هي في حد ذاتها حكايات
nations are in themselves narrations،
كما كان الراحل إدوارد سعيد يردد. الخطورة التي يمكن أن يمثلها السيل
المعلوماتي العارم الذي يأتي من الإنترنت هي خطورة تتوقف على تماسك
حكايتنا عن أنفسنا وأخذ بعضها بعناق بعض. وتماسك الحكاية، كما تعلم،
يلعب فيه المثقفون والمفكرون والفنانون والصحفيون، نساء ورجالاً، دورًا
بارزًا يفوق، على الأرجح ، دور السياسيين والخبراء ورجال الأعمال.
فانكفاء المثقف المغربي الحداثي على المكتوب والمرسوم في الأوراق دون
سواه سيفاقم غربته، وسيعيق انتشاره، وسيخل بدوره الرئيس في صوغ الوجه
الإنساني الأصيل للحكاية المغربية.
نحن اليوم في أمس الحاجة إلى سردية أو حكاية قوية جدًا عن المغرب
(حكاية سياسية وحقوقية واقتصادية واجتماعية وفكرية متماسكة وقابلة
للحياة) تعيد إلى الشباب الثقة بالنفس وبالمستقبل، وتزودهم بما يحفز
على الإقبال بنهم على الحياة. ما يبينه الإنترنت بالملموس، حتى نكون
صرحاء، هو أن البلدان التي تفتقر إلى حكايات متماسكة ومندمجة، تشد من
أزرها، يعاني مواطنوها إنهاكًا فادحًا في الهوية... وأشد ما تخشاه
الدول أو الحكومات في هذه البلدان اليوم هو أن يسارع مواطنوها، من
الشباب خاصة، إلى حيازة هويات أخرى، هويات تحيل على حكايات قومية أو
دينية أو مذهبية أو سلوكية غريبة توجد معروضة في كل ناحية من نواحي
الفضاء الافتراضي السَّيار الذي ترعاه الإنترنت. فالأسف الذي يبديه بعض
المثقفين أو بعض الناشرين على الكتاب الأنيق والمزخرف، لا أعتقد أنه
أسف في محله، بالنظر إلى هول التحديات الحقيقية المطروحة علينا وعلى
العالم اليوم. المشكل الحقيقي في رأيي أبعد من أناقة طبع الكتاب ونوع
ورقه أو زخرفه. علينا باختصار أن نعي أننا نعيش في مجتمع الخطر أو
المجازفة، ولا يمكننا أن نتدارك المشاكل التي نتخبط فيها، والتي سيزداد
هولها مستقبلاً، بالإعراض عن العالم والانزواء في الأركان. يجب على
العكس من ذلك أن نواجه هذه المشاكل، ونستعمل في حلها الوسائل المتاحة
هنا والآن نفسَها. فهناك حيث الداء يوجد الدواء. وفي المغامرة أيضًا
قدر لا يستهان به من النجاة.
07-02-2008
**** *** ***
عن مدونة
philosophia
http://mustafahaddad.blogspot.com