ونشير
مرة أخرى إلى أن الرسالة الوحيدة للعلم هي إنارة الطريق. فالحياة قادرة
على الخلق عندما تُزال كل عوائقها السلطوية والعقائدية وعندما تُمنح
حرية الحركة الكاملة.
إذًا كيف سنتمكن من حلِّ هذا التناقض؟
العلم ضروري من أجل التنظيم المنطقي للمجتمع، ولكن من جهة أخرى وبسبب
عدم قدرته على الاهتمام بما هو حقيقي وحيٌّ يجب ألّا يتدخل في التنظيم
الحقيقي والعملي للمجتمع.
ويمكن حلُّ هذا التناقض بطريقة واحدة فقط؛ وذلك عن طريق تصفية العلم
ككينونة أخلاقية متواجدة خارج الحياة بالمطلق ومُمثلة من قبل مجموعة من
علماء ذوي امتيازات مفروضة من الجموع. على العلم أن يُمثٍّل الوعي
الجمعي ويتحول حقًا إلى ملكية عامة. وبدون أن يخسر شيئًا من سمته
الشمولية التي لا غنى له عنها، وبينما يستمر في الاهتمام بالأسباب
العامة حصريًا والشروط والعلاقات الثابتة للأفراد والأشياء، سيصبح
منسجمًا مع الحياة الحقيقية والحاضرة لكل الأفراد.
يوجد
حل آخر للتبادل المستحيل للحياة، وهو مبادلتها بحياة مزدوجة.
هكذا حال رومان Romans، الشخصية الرئيسية
في دعوى إجرامية في التسعينيات، فبسبب عدم جرأته على الاعتراف لعائلته
أنه أخفق في دراسة الطب، أقام حياة كاملة موازية، شبهُ مسيرة طبية،
مواصلاً استغلال عائلته ماليًا بالسبل كافة حتى اليوم الذي يقتلهم فيه
جميعًا (يقتل أبويه، وزوجته وولديه) ولا يستثني من ذلك، بشكل غامض، إلا
مدبرة المنزل، وفي اللحظة الأخيرة.
لماذا ارتكب هذه المجزرة؟ في اللحظة التي كان سيُكتشف فيها، لم يحتمل
أن يكفَّ من آمن به عن تصديقه، فلا يجب أن يكتشفوا الحقيقة. لذلك لم
يبق إلا حل وحيد: إلغاؤهم. لأن الانتحار لم يكن كافيًا لمحو الخداع في
نظر عائلته. كل هذا منطقي: فهو يجنبهم خزي أن يعرفوا الحقيقة.
يمكن
أن نرى بوضوح إلى أي حد وصل التفككُ الأخلاقي لنظامنا إذا فكَّرنا
بالمَدْرسة. فالأخلاق فيها تشكِّل جزءًا من البرنامج، وحتى المدرِّسون
الذين لم يكونوا يُحِبُّون أن يجعلوا منها موضوعَ تعليم عقائدي كانوا
يُعلِّمونها حتمًا بصورة باهتة. وكان المفهوم الرئيسي لهذه الأخلاق هو
العدالة والواجبات التي تفرضها تجاه القريب.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالتاريخ لا تعود الأخلاق تتدخَّل. فلا يجري
الحديث أبدًا عن واجبات فرنسا في الخارج. كانوا يصفونها أحيانًا
بالعادلة والكريمة، وكأن هذا زيادة لها، ريشة على القبَّعة، تتويج
للمجد. فالفتوحات التي قامت بها وخسرَتْها قد تكون بأسوأ الحالات
موضوعَ شك خفيف، مثل فتوحات نابليون؛ ولكن ليست أبدًا الفتوحات التي
حافظَت عليها. ليس الماضي سوى تاريخ نمو فرنسا، ومن المسَلَّم به أن
هذا النمو هو دائمًا خير من جميع النواحي. ولم نتساءل قط إن كانت قد
قامت بالتدمير أثناء نموها. إن التفكير في أنه لم يحصلْ لها ربما أنْ
دمَّرَت أشياءً من مستوى قيمتها قد يبدو أفظعَ تجديف. يقول برنانوس إن
جماعة حركة العمل الفرنسي
Action Française
ينظرون إلى فرنسا كولد يُطلَب منه أن يكبر ويسمن.
إذا
كان مارتن هيدجر قد تساءل عن ماهية العلم وماهية التقنية، فإن يورغن
هابرماس – الفيلسوف الاجتماعي الألماني الشهير ووريث مدرسة فرانكفورت
النقدية يتساءل هنا عن علاقتهما بالممارسة الاجتماعية باعتبارهما أصبحا
أهم قوة إنتاجية. وللإجابة عن السؤال يقيم حوارًا نقديًا مع أعلام
الفكر الغربي من هيجل إلى ماركس وماكس فيبر وهربرت ماركيوز وآخرين،
ويريد من وراء ذلك معرفة الطريقة التي يمكن بها استعادة طغيان حق
التصرف التقني إلى دائرة إجماع المواطنين الفاعلين والمتحاورين، أو كيف
يُتوسط للتقنية والعلم والديمقراطية في ظل شروط المجتمع الرأسمالي
الصناعي المتقدم.
إن
الباحث في القضايا الفلسفية التي طرحها فلاسفة اليونان يجد كثيرًا من
تلك القضايا أثارت جدلاً واسعًا وتركت أثرًا واضحًا في الفلسفات على
مرِّ العصور منذ نشأة التفكير الفلسفي، ومن القضايا التي ينطبق عليها
ذلك "مفهوم التغير والثبات" ومؤداها: هل الوجود متغير أم أنه ثابت؟ لقد
كانت
فلسفة التغير والثبات في الفلسفات الطبيعية قبل سقراط هي محور التفكير
الفلسفي منذ بدء التفلسف: ولا تزال لها أهمية عند الفلاسفة والعلماء
حتى اليوم. فقد بدأ الفلاسفة قبل سقراط بالرد على التساؤلات التي طرحها
عن أصل الكون وتغير ظواهر الطبيعة من حولهم ذلك بالملاحظة والتأمل
العقلي المجرد غير التجريبي فقد اتجه هذا الاهتمام ليعالج المشكلات
التي تتعلق بطبيعة العالم وتغير ظواهر وثباتها.
قدَّمت
الأساطيرُ والأديانُ والفلسفاتُ عدةَ نظريات لتفسير نشأة الكون، ومنها:
نظرية "الخَـــلْق"
création
(التي تبنَّــــتْها الأديانُ الإبراهيمية، اليهودية والمسيحية
والإسلام، المعروفة بتوجُّها النقلي لا العقلي والأسطوري لا العلمي)،
ونظرية "التجلِّي"
manifestation
(التي تُـــفهَم أحيانًا كمرادِف لنظرية "الصُّدور"
["الخُروج" أو "الانبثاق"]
procession)،
ونظرية "الفيض"
émanation
(خاصةً عند الفارابي وإخوان الصفا)، ونظرية
"الواحدية" أو "الحلولية" ["الحلول"] ["الكل هو الله"]
panthéisme،
ونظرية "وحدة الوجود" ["الكل في الله"]panenthéisme
(أو
بترجمة أدق:
unité
de l’Être)
(عند ابن عربي بصورة خاصة)، ونظرية "الأزلية" ["قِــدَم العالَم" أو
"الدهرية"]
éternité.
نحن
نعاني، هذه حقيقة.
لا أتحدث هنا عن صورتنا أمام الآخرين وكلامنا وادِّعاءنا بأننا سعداء،
والأمر نسبي، لكن ما أقصده هو تلك الزاوية التي ننزوي فيها بمفردنا
لأننا عاجزون عن التواصل مع ذواتنا قبل كل شيء وإدراك حجم تعاستنا
وانعزالنا ورغباتنا في أن نكون أفضل! أقصد تلاشي هويتنا الواضحة ما
يعكس تحولنا إلى أدوات، فحتى تتحقق الهوية الإنسانية ينبغي أن نكون
ذواتًا وليس أدوات. ربما نحن ضحايا، أؤكد أننا فعلاً ضحايا. كل ما
حولنا يقول بأننا سيئون، الإعلانات على التلفاز دومًا تذكرك بأن هناك
شيء لا تملكه وبالتالي أنت لست في أفضل حال وكل ما تحتاجه هو الذهاب
واستهلاك أي شيء لتأمين رضىً مؤقت سرعان ما يزول وذلك باستهلاك وسائل
التسلية السلبية عبر الفيديو أو الأفلام أو التعنت الشرائي لكل ما هو
متاح، وتحول الحياة النفسية للإنسان إلى شعار "أنا موجود بقدر ما أملك
وبقدر ما أستهلك". إن هذه الحقيقة الهشة لحياة الإنسان الآن هي التي
تجعله في حالة من الضياع وتدفعه ليقول دائمًا ما هذه الحياة؟ إنها لا
تحتمل. وعلى الرغم من هذا يستمر المرء بأن يكون جزءًا من هذه الدوامة
التي لا تحتمل!
طوال
ألفين أو ثلاثة آلاف عام وحتى الآن، وفي ثقافات كثيرة وحضارات كثيرة،
تعاملت المجتمعات مع نصوص محددة بأسلوب خاص مُلفت. هذه النصوص التي
نسميها الكتب المقدسة استُدعيت في التاريخ البشري كي تخدم فكرة تشمل
مواقف متعددة. لكن ربما علينا التذكير أولاً أن "الكتاب المقدس
Scripture"
مصطلح غربي خُصص للعهدين القديم والجديد اللذين حظيا بإجلال اليهود
والمسيحيين، وإن بشكل مختلف، ولم يخضع هذا المصطلح ولا مضمون ما يمثله
إلى إعادة نظر إلا بصعوبة وفي وقت متأخر. ولذلك تأخر ما نعرفه الآن من
اختلافات عبر القرون، عدا عن الاختلافات بين المجتمعات والنصوص
والمعالَجات، كما لم يُفكَّر مليًا وبكفاية لا بالتشابهات ولا
بالتباينات. ويظهر من الفحص الدقيق أن تحول كتاب إلى كتاب مقدس ليس
خاصية أصلية لنص معين، أو لنوع من النصوص، بقدر ما هو علاقة تفاعل بين
ذلك النص وجماعة الناس (حتى لو أن هذه العلاقة لم تكن ثابتة)، بل لعل
المرء يتحدث عن ميل واسع للتعامل مع النصوص وكأنها "كتب مقدسة": أي ثمة
نزوع لدى البشر لتقديس كتاب.
تُعدُّ
كتابةُ تمهيدٍ لإعادة نشر صفحات نشرناها منذ ثلاثين عامًا
وكأنها تمهيد لكتاب مؤلِّفٍ آخر، باستثناء أننا وعلى الفور نرى
ونستشعر نواقصه بمرارةٍ. النص الذي سنقرؤه موجزٌ لمحاضرات أربع
ألقيت عامي 1946 و1947 تحت عنوان الزمان والآخر، وذلك
خلال السنة الأولى من عمل الكوليج فيلوسوفك التي أسسها جان وول
في قلب الحي اللاتيني. نُشر للمرة الأولى ضمن مجموعة مشتركة
عام 1948 تحت عنوان الاختيار، العالم، الوجود؛ أولى
منشورات الكوليج فيلوسوفك. كنَّا حينها مسرورين للعمل مع جان
إيرش، وألفونس دو ويلينس، إضافة إلى جان وول. لا شك في أنَّ
الأسلوب (أو اللاأسلوب) المحكي لهذا النص، خصوصًا في انعطافات
محددة، كان حادًا وغير متقن. يوجد أيضًا في هذه المحاولات
طروحات لم تكن سياقاتها قد اكتملت بعد، ولم يتم المضي
ببداياتها حتى النهاية، ولا تنظيم شتاتها. كنا قد أشرنا في
ملاحظة تمهيدية عام 1948 إلى كل هذه العيوب التي ربما أدانها
تقدم هذا النص في الزمن.
يخطئ
من يعتقد أن الأفراد هم المسؤولون عن إصدار فتاوى التكفير، إذ بذلك يتم
تجاهل التأثير الذي ما زالت تمارسه تجارب الصراع والحرب المستمرين بين
الأديان، أو بين توجهات معينة من داخل الدين الواحد. كما يتم التغاضي
عن مجموعة من النصوص الدينية في القرآن والسنة تشير جميعها إلى حالة
الارتداد الديني وتوضح أشكال العقاب الدنيوي أو الأخروي المترتبة عنها؛
ففي القرآن مثلاً ورد في سورة البقرة: "وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن
دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ" (الآية 217). والعقاب في هذه الآية عقاب في الحياة
الأخروية يقوم به رب العالمين. وفي السنة ورد: "من بدل دينه فاقتلوه".
والعقاب هنا من جنس العقاب الدنيوي يقوم به أشخاص معينون.
مع
بداية سبعينيات القرن الماضي، وفي غمار حركات تحرُّر المرأة، شرعت لوس
إريغاراي في الكتابة الفلسفية حول الذَّات النسوية. ويمكن تصنيف
محاولتها في خانة إيجاد مكان لخطاب المرأة، مفكِّكة بذلك الخطاب
الذكوري بدءًا من فرويد، وماركس ونيتشه وهيدغر لتحديد ما يتعلَّق بسؤال
المرأة.
تُـعدُّ المحللة النفسانية وعالمة اللسانيات الفرنسية ذات الأصول
البلجيكية لوس إيريـغاراي
Luce
Irigaray
واحدة من أهمِّ وأصعب رائدات الحركة النسوية الفرنسية، نظرًا لأسلوبها
المعقَّد في الكتابة. وغالبًا ما يقترن اسمها بإلين سكسو
Hèléne
Cixous،
وسيمون دي بوفوار
Simone
de Beauvoir
وجوليا كريستيفا
Julia
Kristeva
لتبنيها نظريات التحليل النفسي من أجل مناقشة المسائل النسوية وإثارة
قضايا الاختلاف. لهذا يُعدُّ البعد الأكثر شهرة في فكر إريغاراي،
استثمار التناقضات والافتراضات الجندرية في عمل كل من فرويد وزميله جاك
لاكان، موظِّفة المقاربة التفكيكية؛ حيث نادت بضرورة تفكيك اللغة
لإنشاء نظير نسوي لـمقولات التحليل النفسي التقليدية. إن النساء
باعتبارهن ذوات، يقبعن تحت وضع مقلق، ومتناقض