مخاض الروح لولادة الإنسان
محمد حسن
(تموز)
نحن
نعاني، هذه حقيقة.
لا أتحدث هنا عن صورتنا أمام الآخرين وكلامنا وادِّعاءنا بأننا سعداء،
والأمر نسبي، لكن ما أقصده هو تلك الزاوية التي ننزوي فيها بمفردنا
لأننا عاجزون عن التواصل مع ذواتنا قبل كل شيء وإدراك حجم تعاستنا
وانعزالنا ورغباتنا في أن نكون أفضل! أقصد تلاشي هويتنا الواضحة ما
يعكس تحولنا إلى أدوات، فحتى تتحقق الهوية الإنسانية ينبغي أن نكون
ذواتًا وليس أدوات. ربما نحن ضحايا، أؤكد أننا فعلاً ضحايا. كل ما
حولنا يقول بأننا سيئون، الإعلانات على التلفاز دومًا تذكرك بأن هناك
شيء لا تملكه وبالتالي أنت لست في أفضل حال وكل ما تحتاجه هو الذهاب
واستهلاك أي شيء لتأمين رضىً مؤقت سرعان ما يزول وذلك باستهلاك وسائل
التسلية السلبية عبر الفيديو أو الأفلام أو التعنت الشرائي لكل ما هو
متاح، وتحول الحياة النفسية للإنسان إلى شعار "أنا موجود بقدر ما أملك
وبقدر ما أستهلك". إن هذه الحقيقة الهشة لحياة الإنسان الآن هي التي
تجعله في حالة من الضياع وتدفعه ليقول دائمًا ما هذه الحياة؟ إنها لا
تحتمل. وعلى الرغم من هذا يستمر المرء بأن يكون جزءًا من هذه الدوامة
التي لا تحتمل!
من المؤكد أن ما
يروج له هذا النمط الاستهلاكي خاطئ تمامًا، فحتى إن تمكن المرء، بعد
سنوات من القحط والمعاناة النفسية والاجتماعية المستمرة،
من شراء ما يدَّعون أنه سبب للسعادة، فلن يكون سعيدًا، لأن غيره ما
يزال يعاني ولأنه سيكون خائفًا من فقدان ما وصل إليه كما أن هذا النمط
قائم على خلق "حاجات" جديدة بشكل مستمر.
تهدد الحروب العالم
لأنها انعكاس للحياة النفسية واليومية لكن على نطاق أوسع، أي على مستوى
الدول والجيوش والمصالح. فلما إذًا لا نتكافل لتحقيق التغيير الجماعي
والشامل الذي يعيد تعريف السعادة ويدفع الناس إلى تحقيق ذواتهم بأن
يكونوا "هم" لا ما لقنِّوا أن يكونوا.
قلة من سألوا أنفسهم
"حسناً ماذا أفعل هنا على هذه الأرض؟". إنَّ انتفاء القدرة على طرح هذا
السؤال على أهميته تبين الحجم الكارثي للمعنى الحياتي اليومي للإنسان
وانصياعه لشروط السوق بأن يكون كل سعيه هو تحسين قيمته التبادلية وفق
شروط السوق القائمة. هناك تجربة أجراها باحثون أوربيون تؤكد هذا الطرح
عندما جلبوا طلبة وقالوا لهم أنتم مجرد عصبونات فقط وليس هناك وجود لكم
غير هذا الوجود المادي، ثم أخضعوهم لاختبار، وأبدوا ملاحظاتهم على
ازدياد حالات الغش بين هؤلاء الطلاب، لأنهم ربما - أي الطلاب - قالوا
حسنًا نحن سنموت ولسنا غير هذا الجسد المادي وبالتالي نحن نريد كل شيء
الآن وبغض النظر عن الوسيلة ولا مجال للتوقف. ما أريد إيصاله هو أن
الإنسان يجب أن يدرك أنه جزء من وجود كوني وأنه يتكون من جانب روحي
تتمحور شخصيته من خلاله وتتفاعل عبر اتصاله وتكافله مع الطبيعة ومجتمعه
وأسرته أي من خلال تحقيق النضج الإنساني عبر المشاركة، ولتلك الشخصية
الإنسانية رسالتها التي ستستمر معها حتى بعد الموت وكل شيء في حياتنا
خاضع لقانون السبب والنتيجة.
كما لا يجب أن نغفل
الحركة العالمية السائدة باتجاه تخدير الشعوب، عبر كل تلك التدفقات
الإعلانية والترويجية لانعدام القيم والتنافس والنسبوية العصرية التي
يرتكز عليها نخبويون، هكذا يدعونهم، لجعل الحياة تدور في دوامة
الصراعات وتأمين قتل الإنسان لأخيه الإنسان بنفسه وعبر أنانيته وإيهامه
بأن القتل تحقيق لوجوده. هناك قلَّة فقط تتحكم بهذا العالمِ؛ أشخاص
وتكتلات بأسماء دول تتخذ من شعار الديمقراطية عنوانًا بينما قامت
بتغييب الحب واختلاق طريقة لتنظيم الكراهية عبر ما تسميِّه ديمقراطية.
إنه تعميم لفكرة تقول إنه ليس لكَ وجود إلا بمقدار ما تكون حياتك صدى
لحياتهم ورغباتهم.
لا يحيا المرء حياة
حقَّة عندما يكون كل ما حوله يدفعه إلى العيش في مناخ تنافسي عدواني
تجاه ذاته
وتجاه الآخرين، سرًا وعلنًا، هذا المناخ القائم على تورية الهشاشة وعدم
التركيز وحالة التصنُّع وكراهية من هم أفضل منك والخوف ممن هم أقل
وقياس ذلك على مستوى الأمم وتصرفاتها.
هناك أيضًا الحالة
الاجتماعية المحلية والعالمية التي روَّجت لأفكار عليك أن تكون قانعًا
بها، على مستوى أعم وأكثر تفصيلاً ومشاهدة في كل مفصل من حياتنا
اليومية ولو بغير وعي، وإلا فأنت مهدد في كيانك ووجودك.
كل تلك العوامل
جعلتنا نرى أنفسنا أعلى من الطبيعة، ونبرر أن حياتنا تقوم على تدمير
هذه الطبيعة بالفعل المباشر عن طريق التخريب المباشر وغير المباشر، عن
طريق سكوتنا ورضانا الضمني على هذا التخريب، بمعنى آخر القبول والترويج
لنمط التفكير السائد من باب أنَّ مجرد تفكيري عكس التيار سيجعلني في
وضع شاذ في نظر نفسي والمجتمع، وذلك لأن التفكير الطبيعي والسوي وفق
مبادئ العدالة في هذا العصر المقلوب أصبح مدعاة لخوف صاحبه قبل
الآخرين.
نجن نتجاهل أن ردة
فعل الطبيعة على هذا التخريب قد يكون ثمنها الوجود الإنساني بأكمله،
وهذا ما تجلى في السنوات العشر الماضية بزيادة العواصف والفيضانات
والفوضى البيئية والظواهر المبهمة.
نحن نعيش على حافة
الهاوية، وتلك الشرنقة التي نسجناها لأنفسنا لم تعد تحتمل. علينا أن
ندرك أهمية مخاض التغيير العسير وعلينا تحمل المسؤولية الذاتية ومن ثم
الجماعية التعاونية، فليس هناك من سعادة وأهمية نفسية تعادل تلك التي
تنتج عن المشاركة الجماعية في العمل والتواصل والاقتناع بفكرة ما.
علينا أن نخطو لولادة الفراشة التي تجعل حقًا من قيم الحب والتعاون
والعدالة على هذه الأرض تتقدم على الرغبة في التدمير والنرجسية
والكراهية. وعلينا تقدير أهمية أنَّ العمل الجماعي لخير الإنسانية هو
الأعم والأبقى والإيمان بأنَّ التغيير حان وكل منا سيشارك فيه.
هي دعوة للتصالح مع
الذات ومن ثم التنادي والاندماج مع أصوات العالم التي تقول لهذا النمط
من الانحدار الإنساني والوجودي "لا". دعونا نعطي الكراهية قبلة ونتركها
تموت من الخجل.
*** *** ***