التغير: مفهومه وطبيعته في فلسفة هيراقليطس وأثره على الفكر
السفسطائي
د. حسن كامل إبراهيم
إن
الباحث في القضايا الفلسفية التي طرحها فلاسفة اليونان يجد كثيرًا من
تلك القضايا أثارت جدلاً واسعًا وتركت أثرًا واضحًا في الفلسفات على
مرِّ العصور منذ نشأة التفكير الفلسفي، ومن القضايا التي ينطبق عليها
ذلك "مفهوم التغير والثبات" ومؤداها: هل الوجود متغير أم أنه ثابت؟ لقد
كانت
فلسفة التغير والثبات في الفلسفات الطبيعية قبل سقراط هي محور التفكير
الفلسفي منذ بدء التفلسف: ولا تزال لها أهمية عند الفلاسفة والعلماء
حتى اليوم. فقد بدأ الفلاسفة قبل سقراط بالرد على التساؤلات التي طرحها
عن أصل الكون وتغير ظواهر الطبيعة من حولهم ذلك بالملاحظة والتأمل
العقلي المجرد غير التجريبي فقد اتجه هذا الاهتمام ليعالج المشكلات
التي تتعلق بطبيعة العالم وتغير ظواهر وثباتها.
ولقد تناول كثير من فلاسفة اليونان هذه القضية الفلسفية بالتأمل والبحث
وخاصة الفيلسوفين اليونانيين هيراقليطس (475 – 535 ق. م.) وبارمنيدس
(حوالي 500 ق. م.)، فقد أشار الأول إلى أن الوجود متغير أما الثاني فقد
بيَّن أن الوجود على العكس ثابت. فبعد أن تنوعت القضايا الفلسفية التي
تناولها الفلاسفة
بدت ظاهرة الاستقطاب بين تغير هيراقليطس (كل شيء في تغير مستمر) وبين
ثبات بارمنيدس (الوجود واحد لا يتغير)، وذلك لازم عن تنافر مصدري
المعرفة: الحواس والعقل، ومن ثم بدأت أصول في مبحث المعرفة
(الأبستمولوجيا) كما وضعت بذور المنطق.
ولقد استفاد الفلاسفة في العصور اللاحقة من طرح هذين الفيلسوفين بل إن
الفلسفة بعدهما اختطت طريقها طبقًا لهذين الاتجاهين. وسنتناول في هذا
البحث بالدراسة والتحليل "مفهوم التغير عند هيراقليطس" فحسب، وسنحاول
الوقوف على طبيعته ومكانته في فلسفته. وسنحاول أيضًا الوقوف على مدى
تأثر السوفسطائيين بفلسفة التغير الهيرقليطيه فيما طرحوه من أفكار
وآراء فلسفية. وهذا ما سنعرض له في الشق الثاني من هذا البحث.
بادئ ذي بدء يجب أن ننوه إلى أن الفلاسفة حتى عصر هيراقليطس كانوا
ينشدون الثبات في هذا الوجود لكن هيراقليطس اعتبر ذلك وهمًا لأنه
لا شيء من ذلك موجود فيما يقول هيراقليطس ولا ينبغي لأحد أن يرغب في
وجود عالم راكد. فحيثما تكون هناك حياة فإنها تحيا على تدمير شيء آخر.
فالنار تحيا بموت الهواء والهواء يحيا بموت النار؛ والماء يحيا بموت
الأرض، والأرض تحيا بموت الماء.
إذًا الوجود عند هيراقليطس في حالة تغير وسيلان لا في حالة ركود
واستقرار.
ولقد ترك هيراقليطس كثيرًا من النصوص
التي توضح أن العالم في حالة تغير وسيلان وتدفق على الإطلاق. نذكر منها
على سبيل المثال لا الحصر:
تتجدد الشمس كل يوم.
-
[الشمس علة تغير الفصول] التي تنتج كل شيء.
-
الأشياء الباردة تصير حارة، والحارة تصير باردة، ويجف الرطب، ويصبح
الجاف رطبًا.
-
إنها تفرق وتجمع، وتزيد وتنقص.
-
لا يمكنك أن تنزل مرتين في النهر نفسه، لأن مياهًا جديدة تغمرك
باستمرار. [فريمان: ليس من الممكن أن تنزل مرتين في النهر نفسه، لأنها
تتفرق وتتجمع ثانية، وتقترب وتنفصل].
-
الكون من التغير [إضافة عند فريمان – النار العنصرية في جسم الإنسان.]"
ومن هذا المنطلق أطلق الباحثون والدارسون على هيراقليطس لقب "فيلسوف
التغير"، فجماع فلسفته في إثبات تغير الوجود لا ثباته.
وهو لم يرفض ما طرحه بارمنيدس من قول بثبات الوجود بل إنه أنكر الثبات
تمامًا. فهو يرى أن
كل ما تحت فلك القمر إنما هو في حالة تغير دائم ويتحول إلى أشكال جديدة
وقوالب جديدة، فلا شيء يبقى ولا يثبت ولا شيء يظل كما هو. يقول: "نحن
ننزل في النهر الواحد وننزل فيه، فما من إنسان ينزل في النهر الواحد
مرتين، فهو دائم التدفق والجريان" وهو لم يكتف بإنكار الثبات المطلق بل
أنكر أيضًا ثبات الأشياء النسبي فهو مجرد وهم.
ولذلك فإن ما يطرحه الآخرون أن الوجود ساكن قول عار عن الصحة.
وليست فكرة التغير التي طرحها هيراقليطس فكرة جديدة في مجال التفكير
الفلسفي بل هي فكرة قديمة، أما الجديد الذي طرحه هيراقليطس فهو
أن التغير كلمة نسبية وأن ما ندعوه تغير بطيء أو تغير في رداء خفي، وأن
كل مركب إنما يتحلل تدريجيًا، فكل شيء يأتي ويذهب ويحدث هذا بنسب
مختلفة.
ويعد التغير جوهر فلسفة هيراقليطس، فهو الأساس الذي تقوم عليه فلسفته،
وذلك يعني أنه يرفض الوحدة. فهيراقليطس
لم يذهب إلى ما ذهب إليه الفلاسفة الطبيعيون الذين ردوا الموجودات إلى
أصل واحد وجعلوها مادة التغير، ولكنه بعد ذلك لم ينكر الوحدة في العالم
وإن كانت وحدة صيغت من اتحاد الأضداد.
إذًا لا مجال للثبات في هذا الوجود بل الوجود متغير باستمرار، فالوجود
دائم التدفق والسيلان، فلا يبقى شيء على طبيعته على الإطلاق، إنه يتغير
إلى ضده.
وليس فقط الشيء الواحد يتحول إلى شيء آخر، بل أيضًا هذا الشيء الواحد
لا يستقر لحظة واحدة على حال واحدة وإنما هو ينقلب دائمًا باستمرار من
حال إلى حال؛ فالشيء يكون حارًا، ويكون باردًا، ويكون حارًا من جديد،
وهكذا باستمرار. وهكذا في جميع الأشياء: لا تثبت لها صفة واحدة ثباتًا
دائمًا أو على الأقل ثباتًا لمدة غير قصيرة. ومن هنا يقول هيراقليطس
بأن كل شيء يشمل ضده ويحتويه، لأن كل شيء حين يتغير، يتغير من ضد إلى
ضد، فلابد له إذا أن يكون حائزًا من قبل على الشيء الآخر لكي يمكن هذا
التغير أن يتم.
وهكذا يؤكد هيراقليطس على تغير الوجود وسيلانه باستمرار. ولكن يوجد في
المقابل من يرى أن رأي هيراقليطس ليس صحيحًا تمامًا، لأنه إذا كان
الوجود يعتريه التغير إلا أنه يعتريه الثبات أيضًا.
ويرتبط مفهوم "التغير" عند هيراقليطس بمفهوم "التضاد"، بعبارة أخرى إن
تغير الموجودات يعني – كما ذكرنا سابقًا – تحول أو تغير الشيء إلى ضده
أو نقيضه. وهذا ما عبَّر عنه هيراقليطس في كثير من نصوصه التي نذكر
منها على سبيل المثال لا الحصر:
-
الإله
هو النهار والليل، الشتاء والصيف، الحرب والسلم، الشبع والجوع، ولكنه
يتخذ أشكالاً مختلفة كالنار التي امتزجت بالتوابل سماها كل شخص حسب
طعمها [فريمان: إذا امتزجت بدخان البخور سماها كل شخص حسب مزاجه].
-
الضد هو الخير لنا.
-
الصحة والمرض واحد.
-
الزوجان كل ولا كل، يرسمان معًا أحدهما تحت الآخر، مؤتلفان ومتنافران.
الواحد يتكون من جميع الأشياء، وتخرج جميع الأشياء من الواحد.
-
القوس تسمي الحياة، ولكن فعلها موت.
-
الخالدون فانون. والفانون خالدون، وأحدهما يعيش بموت الآخر.
-
الطريق إلى فوق وإلى أسفل واحد أي نفس الطريق.
-
ما يوجد فينا شيء واحد: حياة وموت، يقظة ونوم، صغر وكبر، فالأولى [من
الأضداد] تتحول والأخيرة تصبح الأولى.
-
إننا ننزل ولا ننزل النهر الواحد، إننا نكون ولا نكون.
نستنتج من هذه النصوص أنه يوجد صراع أو كفاح بين تلك الأضداد، وهذا
الصراع أو الكفاح غير قائم على الظلم بل هو قائم على العدل، ولذلك
ينتهي إلى تغليب أحد طرفي الصراع على الآخر وهكذا دواليك. وهذا ما عبر
عنه هيراقليطس من خلال نصوصه التالية:
-
تحب الطبيعة أن تختفي.
-
أخطأ هوميروس في قوله: "لو أن التنازع زال من الآلهة والبشر" ولكنه لم
ينظر إلى أنه كان يدعو إلى هلاك العالم، فلو استجيب دعاؤه لذهبت جميع
الأشياء.
-
الحرب ملك وأب كل شيء، وهي التي جعلت بعض الأشياء آلهة وبعضها الآخر
بشرًا، وبعضها أحرارًا وبعضها عبيدًا.
-
يجب أن نعرف أن الحرب عامة لكل شيء، وأن التنازع عدل، وأن جميع الأشياء
تكون وتفسد بالتنازع [فريمان: والضرورة]"
نستفيد من ذلك أن الصراع أو الحرب بين الموجودات هي أساس الوجود عند
هيراقليطس، ففي الصراع حياة الموجودات وموتها. وهذا الصراع غير قائم
على الظلم – كما أسلفنا – بل هو قائم على العدل. ويختلف هيراقليطس بذلك
عن إنكسمندريس ( 547 – 610 ق. م.) الذي زعم بدوره أن ثمة صراعًا بين
الموجودات، وهو القانون الذي يحكم وجود الأشياء. فهيراقليطس
يرد على إنكسمندريس على النحو ذاته، فانكسمندريس كان قد قال: إن
الأشياء في صراع بعضها مع بعض، وأن هذا الصراع مطبوع بـ "ضروب من
الظلم" تقترفها هذه الأشياء. ولكن هيراقليطس يعلن أن الصراع هو قانون
الأشياء، وأنه العدل ذاته، وليس يولد أي نوع من الظلم.
وسواء كان الصراع قائمًا على الظلم عند إنكسمندريس أو على العدل عند
هيراقليطس إلا أنه في كلا الحالتين لا ينتهي إلى انتصار أحد الضدين على
الآخر.
فإن ميتافيزيقا هيراقليطس تشبه
قرينتها عند أناكسمندر، في أن فكرة العدالة الكونية تسودها، وهي عدالة
تمنع الكفاح بين الأضداد من أن ينتهي بنصر تام لضد على ضد.
إن قانون التضاد أو الصراع بين الموجودات لا ينتهي إلى فناء الموجودات
بل يفضي إلى التناغم والائتلاف بينها. ويبدو ذلك بوضوح في قوله:
يجهل الناس كيف يكون الشيء مختلفًا ومتفقًا مع نفسه، فالائتلاف
Harmonia يقوم على الشد والجذب بين الأضداد، كالحال في
القوس والقيثارة.
وهذا الائتلاف الظاهر أمام أعيننا ليس هو الائتلاف الأفضل بل الائتلاف
الأفضل هو الائتلاف الخفي،
الذي يمكننا أن ندركه بواسطة البصيرة أو العقل. والائتلاف أو الوحدة
بين الأضداد لا يمكن تفسير التغير بدونها. فهو يرى
أنه من الحكمة أن نعرف أن كل الأشياء واحدة، فالحديث عن هيراقليطس أنه
فيلسوف الكثرة دون إشارة إلى الوحدة هو حديث مبتسر، إذ كيف يمكن أن
يذكر عنه القول بتوتر المتضادات دون أن يشار إلى أن ذلك مظهر التوازن
والتوافق.
وفكرة التضاد والائتلاف بين الموجودات فكرة قديمة كذلك مثل فكرة التغير
فقد تطرق إلى القول بالتضاد بين الموجودات – كما ذكرنا سابقًا –
إنكسمندريس، أما القول بالائتلاف بينها فقد قال به فيثاغورث (500 – 582
ق. م.) فعلى الرغم من أن هيراقليطس
لم تكن لديه الميول العملية التي اتسم بها الأيونيون السابقون له، فإن
جذور تفكيره النظري كانت ترجع إلى تعاليم الأيونيين وفيثاغورث معًا.
فقد سبق أن قال انكسيمندر إن الأضداد المتنافسة تعود إلى اللامحدود
كيما تكفر عن تعدياتها كل على الآخر. ومن جهة أخرى قال فيثاغورث بفكرة
الانسجام. ومن هذين العنصرين وضعه هيراقليطس نظرية جديدة، هي أهم كشف
وإسهام في الفلسفة، وهي النظرية القائلة أن قوام العالم الحقيقي هو
التآلف المتوازن بين الأضداد. فمن وراء صراع الأضداد، وفقًا لمقادير
محسوبة، يكمن انسجام خفي أو تناغم هو جوهر العالم.
وإذا كان الطبيعيون الأوائل بالإضافة إلى فيثاغورث قد أقروا بتضاد
الموجودات وائتلافها إلا أن هيراقليطس خالفهم ولم يسر على دربهم
فهو لم يبحث عن أصل الأشياء وبدايتها، كما أنه لم يلتمس وحدة خارج
الكثرة أو المتضادات ولكن الوحدة عنده في الأضداد نفسها، فهي كثيرة
وواحدة في آن واحد، إن أصل الموجودات ليس مجرد مادة طبيعية محسوسة، كما
أنه ليس مجرد حقيقة ميتافيزيقية، إنه الاثنان معًا فالنار الكونية تغذي
اللهب وتخضع للتغير ولكنها توجه التغير وهرقليطس في كل ذلك لا ينشد
الوضوح على حساب الحقيقة مادامت الحقيقة ذاتها مبهمة غامضة ذات مظاهر
متناقضة.
إن التغير يعني تحول الموجود إلى ضده وذلك لا يعني فناء أحد الطرفين –
كما ذكرنا سابقًا – بل يكمن وراء هذا التضاد وحدة من الأضداد. ثم يعقب
هذه الوحدة تضاد وتستمر هذه الدورة لأن التغير أو الصيرورة هي حقيقة
الوجود. ولذلك يعد التغير – على نحو ما أسلفنا – هو جوهر فلسفة
هيراقليطس
فالوحدة أو الاتساق الذي يشير له هراقليطس لا يخلو من توتر هو سرُّ
ديمومة الصيرورة، أي أن الاتساق الذي يعقب التضاد غير ثابت فلابد من أن
يفضي إلى تضاد يعقبه اتساق وهكذا دواليك. لذلك اتصفت سيرة الموجودات
التي نشاهدها بالسيلان الدائم، الذي يرمز إليه هراقليطس بسيلان ماء
الجدول المنساب على الدوام. وهذا الرمز لا يشهد على الصيرورة الدائمة
وحسب، بل على سنة التضاد والاتساق المتعاقبين اللذين لا يختلفان إلا في
الظاهر، "فنحن"، كما يقول "لا نستطيع أن ندوس في الجدول ذاته مرتين".
وقد يعترض نفر من الباحثين بأن فلسفة هيراقليطس ليست متسقة مع بعضها
بعضًا حيث إن قوله بالوحدة يتعارض مع قوله بالتغير الدائم. لكن هذا
الاعتراض مردود عليه، فلا تناقض
ينتج عن القول بالوحدة الوجودية عند هرقليطس والتزام نظرية التصير
الدائم للأشياء، لأن المذهب ينهض في أساسه على تغير في الكيف مع أصل
ثابت هو قانون التغير بالذات... وعلى هذا الاعتبار فميتافيزيقا هرقليطس
– كما يقول الفيلسوف رسل - فيها قدر من الديناميكية يقنع أشد المحدثين
ميلاً إلى الحركة. وفي هذا كثير من الصحة والنصفة للرجل الحكيم.
ولقد أشار هيراقليطس إلى علة أولى مادية طبيعية للموجودات على غرار
الطبيعيين الأوائل السابقين عليه، وهي النار، التي تنشأ عنها الموجودات
وإليها تفنى.
وترك هيراقليطس نصوصًا تبين ذلك، وتشير كذلك إلى كيفية كون الأشياء عن
النار، ومن هذه النصوص:
-
وهذه هي الصور التي تتحول إليها النار: أولاً البحر، ثم نصف البحر أرض؛
ونصفه الآخر أعاصير. [أو ينابيع
Prester].
-
هناك تبادل بين النار وبين جميع الأشياء كالتبادل بين السلع والذهب، أو
الذهب والسلع.
-
وتصبح الأرض بحرًا، وذلك طبقًا لنفس القانون الذي تحولت إليه الأرض من
قبل.
-
النار تحيا بموت الأرض؛ والهواء يحيا بموت النار، والماء يحيا بموت
الهواء، والأرض تحيا بموت الماء.
-
عندما تعلو النار على جميع الأشياء فإنها سوف تحكم عليها وتدينها.
-
البرق [أي النار] يحرك العالم [جميع الأشياء].
-
هذا العالم
kosmos
وهو واحد للجميع، لم يخلقه إله أو بشر، ولكنه كان منذ الأبد، وسوف يوجد
إلى الأزل، إنه النار، التي تشتعل بحساب
Metra
( بمقياس – بنسبة ) وتخبو بحساب.
مما سبق نلاحظ أن طبيعة الوجود عند هيراقليطس نارية، فالنار عنده تشير
إلى مفهوم التغير على نحو حسي. لقد اختار هيراقليطس النار مبدأ أولَ
للأشياء لأنها العنصر الفعال الذي يؤدي إلى حدوث ما نلاحظه من تغير في
كثير من العمليات الفنية والطبيعية.
ولعل أحدنا يتساءل: هل هيراقليطس أشار إلى أن الموجودات دائمة التدفق
والسيلان لأن علتها الأولى هي النار أو أنه زعم أن المبدأ الأول هو
النار لأنه زعم أن الموجودات في حالة صيرورة باستمرار؟ يجيب د. بدوي
على هذا التساؤل بقوله:
إن الروايات والمنطق ينطقان بصحة الرأي الثاني القائل بأن هرقليطس جعل
النار المبدأ الأول لأنه رأى أن الأشياء كثيرة التغير أو دائمة
السيلان. فأرسطو وسنبلقيوس في شرحه على أرسطو يقولان لنا إن هرقليطس قد
جعل المبدأ الأول هو النار، لأنه رأى أن هذا المبدأ هو – من بين
المبادئ كلها – الذي يتمثل فيه دوام السيلان، أما المبادئ الأخرى فلا
يتمثل فيها هذا الدوام في السيلان. والنار التي قال عنها هرقليطس إنها
أصل الأشياء لا يجب أن تفهم بمعني روحي وإنما يجب أن تفهم أيضًا بمعني
حسي مادي بوصفها هذا العنصر الذي يدركه الحس، وهذه النار هي مصدر
الأشياء كلها، وعنها تصدر الأشياء.
إذًا نار هيراقليطس نار غير مادية لكنها تصير نارًا مادية. إنها نار
إلهية، وعاقلة، وأزلية وأبدية، إنها قانون العالم (اللوجوسlogos
)، ولكنها يعتريها
ضعف فتصير نارًا محسوسة.
ويشير هيراقليطس إلى أن هذا الوجود يحكمه قانون عام لا يمكن أن ندركه
بالحواس، إنه اللوجوس، وهذا القانون سنة كونية عقلية حتمية تحكم جميع
الأشياء، فاللوجوس يخضع له هذا الوجود المتدفق باستمرار. ويظهر ذلك في
نصوصه ومنها:
ومع أن هذه الكلمة... أزلية، إلا أن الناس يعجزون عن فهمها عند سماعها،
كأنهم يسمعونها لأول مرة. ذلك أن الأشياء ولو أنها تجري مطابقة لهذه
الكلمة، إلا أن الناس يبدون كأنه لا تجربة لهم بالأشياء، عندما يضفون
الأسماء والأفعال، كما أفعل ذلك في تفسير الأشياء حسب طبيعتها ونوعها.
وهناك من الناس من لا يشعرون بما يفعلون وهم أيقاظ، كما لا يشعرون بما
يفعلون وهم نيام.
ينبغي إذن أن يتبع الإنسان ما هو مشترك [للجميع – أي القانون العام].
ومع أن كلمتي... عامة إلا أن معظم الناس يعيشون وكأن لكل واحد حكمته
الخاصة.
ونستنج من ذلك أن اللوجوس أو الكلمة هي القانون أو النظام الذي يخضع له
الوجود بكل ما فيه من موجودات. ولكن يوجد من الباحثين والدارسين من يرى
أن اللوجوس أو الكلمة عند هيراقليطس تعني كلمته هو التي سيلقيها علينا،
ولا يقصد بها هذا القانون الذي يخضع له الوجود. ولكن الأرجح أن
هيراقليطس يقصد بالكلمة هنا القانون الذي يحكم الجميع ويرشد الإنسان في
حياته.
يتضح مما سبق أن هيراقليطس جعل الحواس مصدرًا لمعرفة الوجود المحسوس،
والمعرفة التي تأتينا من هذا الطريق عنده لا تمثل حقيقة الأشياء، فهي
معرفة قاصرة، ومحدودة، ونسبية. وجعل العقل أيضًا مصدرًا آخرًا للمعرفة
ولكنه وحده الذي يستطيع أن يصل إلى معرفة حقيقة الأشياء، إنه وحده الذي
يمكنه أن يدرك التضاد القائم بين الأشياء، ووحده الذي يستطيع أن يدرك
القانون العام (اللوجوس) الذي يحكم هذا الوجود. وميز هيراقليطس بذلك
بين العالم الحسي والعالم غير الحسي على نحو ما فعل بارمنيدس، الذي جعل
هو الثبات الطابع العام للوجود عكس هيراقليطس الذي أكد على تدفق الوجود
وسيلانه باستمرار. ويري هيراقليطس أن العقل الكائن في الإنسان جزء من
العقل الإلهي، وحتى يتمكن العقل الإنساني من معرفة حقيقة الوجود من
الضروري أن يتحد بها وعندئذ يصل الإنسان إلى السعادة. وهذه الطريقة
التي اتبعها هيراقليطس في الوصول إلى حقيقة الوجود أشبه بطريقة
المتصوفة في معرفة الحقيقة بالمعرفة المباشرة وبالاتصال.
وفيما يتعلق بسعادة الإنسان عند هيراقليطس فهي تكون – على نحو ما ذكرنا
سابقًا – في معرفة العقل حقيقة الوجود بعبارة أخرى في معرفة العقل
القانون المسيطر على الوجود، وفي إدراكه قانون الصيرورة والتضاد القائم
بين الموجودات وما يوجد خلف هذه الأضداد من ائتلاف. عندئذ يشعر الإنسان
بالرضا والسعادة، وتلك السعادة التي لا تكون في اللذات الحسية. يقول:
تبتهج الثيران حين ترعي الكشني [فريمان: إذا كانت السعادة في اللذات
الحسية، فيجب أن نسمي الثيران سعداء حين يرعون الكشني].
ولا يستثني هيراقليطس القيم الإنسانية من الحكم الذي أطلقه على المعرفة
أنها نسبية، فالأخلاق البشرية عنده أيضا نسبية.
وإذا ما انتقلنا إلى الشق الثاني من هذا البحث، وهو معرفة مدى تأثر
السوفسطائيين بمفهوم التغير عند هيراقليطس من عدمه. فجدير بالذكر أن
ننوه إلى أن الوقوف على هذا الأمر يعد الدافع الرئيس للباحث للخوض في
موضوع هذا البحث. وقبل أن ننتقل إلى استجلاء آراء السوفسطائيين فيما
يتعلق بموضوع البحث. يجب أن ننوه إلى أن الفلسفة قبل عصر السوفسطائيين
كانت منشغلة بالبحث عن مسائل الوجود الطبيعي، ومعرفة العلة الأولى
للأشياء، وهل هي علة واحدة أم أكثر من علة... إلخ. وجاء السوفسطائيون
ووجهوا التفكير الفلسفي وجهة أخرى وهي الاهتمام بالإنسان، أعني
الاهتمام بمسائل المعرفة والأخلاق أكثر من الاهتمام بمبحث الوجود.
ويعد بروتاجوراس (ولد حوالي 490 ق. م.) وجورجياس (380 – 475 ق. م.) من
أبرز السوفسطائيين حيث سار على دربهما كل من أتي بعدهما من
السوفسطائيين، فلم يضف اللاحقون عليهم جديدًا لما تركه هؤلاء. ولذلك
سنقف على آراء كليهما فيما يتعلق بمباحث الوجود، والمعرفة، والقيم.
ففي مجال المعرفة أشار بروتاجوراس إلى أن الحواس هي المصدر الوحيد
لمعرفة حقائق الأشياء. يقول:
الإنسان مقياس الأشياء جميعًا. فهو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس لا
وجود ما لا يوجد.
يعني ذلك أن الحواس معيار وجود ما يوجد والعكس صحيح، فما أرى أنه حقيقي
فهو حقيقي وما أرى أنه غير حقيقي فهو غير حقيقي. إذ الادراكات الحسية
عند بروتاجوراس
هي الأشياء الوحيدة التي توجد على الحقيقة، وأنها المادة الوحيدة التي
تكون منها الصورة التي لدينا عن العالم. وجميعها – من حيث المبدأ -
صادقة بدرجة متساوية، حتى لو غيرتها أو شوهتها الحمى أو المرض، شرب
الخمر أو الجنون.
ولقد أشار أفلاطون إلى ما طرحه بروتاجوراس في محاورته ثياتيوس،
حيث يشير فيها إلى أن الحس مصدر معرفة حقائق الأشياء عند بروتاجوراس.
يقول:
سقراط: حسنًا، إنك أنقذت نفسك من تعليم مهم جدًا بشأن المعرفة، إن هذا
الرأي هو رأي بروتاجوراس حقا، مع أن لديه طريقة أخرى لإيضاح الفكرة
عينها. يقول "إن الإنسان هو مقياس كل الأشيـاء، إنه المقياس لوجود
الأشياء التي تكون، ومقياس للاوجود الأشياء التي لا تكـون". إنك قـرأت
هذه
العبارة في أعماله؟
ثياتيتوس: أوه نعم، قرأتها مرارًا.
سقراط: ألا يقول "أو يعني" أن الأشياء تكون لك مثلما تظهر لك، وتكون لي
كما تبدو لي وأننا أنت وأنا رجلان.
ثياتيتوس: نعم، إنه يقول ذلك.
ويستطرد أفلاطون في حديثه عن مبدأ بروتاجوراس فيضرب لنا مثلاً يوضح
المقصود من مبدأ بروتاجوراس أعني ليبين أن الحس هو المصدر الوحيد
للوقوف على حقائق الأشياء وليس العقل كما يزعم سقراط (339 – 419 ق. م.)
الذي أقر بالعقل مصدرًا لمعرفة حقائق الأشياء مقابل ذلك الطرح
السوفسطائي. يقول:
سقراط: ... إن رجلاً حكيمًا مثله لا يتكلم سفاسف على الأرجح. دعنا
نحاول فهمه: خذ مثلاً، إن الريح عينها تهب من كل صوب، وبرغم ذلك فإن
واحدًا منا يمكن أن يشعر بالبرد بشـكل طفـيف وأن لا يشعر الآخر؟
ثياتيتوس: حقيقي تمامًا.
سقراط : وبعـد أن تكـون الرياح باردة في هكذا وقت أم لا، ليس بالنسبة
لنا بـل على نحـو قاطع، أو هـل
يمكننا أن نقول، كما قال بروتاجوراس، إن الريح تكون باردة لمن يكون
باردا، أو أنـها ليست
كذلك لمن لا يكون باردًا؟
ثياتيتوس: أفترض الرأي الأخير.
سقراط: وعلاوة على ذلك، فالريح تظهر كذلك لكل منهما؟
ثياتيتوس: نعم.
سقراط: "وتظهر" تعني الشيء عينه مثلما "يدرك هو بالحس".
ثياتيتوس: حقًا.
سقراط: إذن فإن الظهور للعيان والإدراك بالحس يتطابقان في حالة الحر
والبرد، وفي حالات أخرى مشابهة، لأننا يجب أن نسلم بأنهما يكونان لكل
إنسان كما يدركها بالحس فقط مثلما يكونان حقًا.
ثياتيتوس: نعم.
سقراط: إذن فإن الإدراك الحسي يكون في وجود على الدوام، وكونه الشيء
عينه كالمعرفة فهو لا يخطئ.
نستفيد من ذلك أن الحواس لا تنقل للإنسان معارف مزيفة بل إنها تنقل له
معارف حقيقية، فالحواس لا يعتريها الخطأ على الإطلاق. ولعل بروتاجوراس
قصد من وراء ذلك توجيه سهام النقد اللاذع للإيليين وفي مقدمتهم
بارمنيدس الذين زعموا أن العقل وحده يدرك حقائق الأشياء أما ما توصله
الحواس من معارف فهو وهم وخداع. إن قول بروتاجوراس [الإنسان مقياس
الأشياء جميعًا]
ينطوي على نقد مبطن للإيليائيين، ومنهم زينون الذي تعرف إليه في أثينا.
وعلى الرغم من غموض قوله هذا، فلا شك أنه أراد من ورائه نقض الدعوي
الإيليائية بقطعية معرفة الوجود، والتدليل على أن الفرد هو المقياس.
ويستطرد أفلاطون في عرضه لمبدأ بروتاجوراس، فينوه إلى أن قول
بروتاجوراس يعني أنه لا توجد حقيقة مطلقة، فالحقيقة متغيرة باستمرار،
وهو في ذلك يتفق مع فلسفة التغير عند هيراقليطس ويعارض ثبات بارمنيدس.
يقول أفلاطون:
سقراط: سأشرح لك وأخبرك عن محاورة سامية، محاورة، تعلن أن لا شيء في
العالم يكون واحـدًا بنفسه، أو يمكن أن يدعي هذا بحق أو من هذا النوع؛
لكن إذا سمي أي شيء كبيرًا فسيظـهر أنه صغير أيضًا، وإن دعي ثقيلاً
فسيبدو خفيفًا، وهكذا دواليك. ليس هناك شيء واحد، ولا هذا، ولا ذلك. إن
كل تلك الأشياء التي نعلن أنها تكون تأتي إلى الوجود من الحركة،
والتغيير، ومن المزج مع بعضها بعضًا. وإن وجب التكلم بشكل غير صحيـح،
فإنه لا يوجد وجـود علـى الإطلاق، بل توجد صيرورة دائمة ومستمرة. يمكن
افتراض أن كل الفلاسفة المتعاقبين اتفقـوا معـك في هــذا، يا
بروتاجوراس، ما عــدا بارمنــيدس، أخص بالذـكر منـهم هيراقلــيطس،
ايمادوقــلوس وبقــية الفلاسفة. وهكذا يمكن أنهم فعلوا فعـل الأسياد
العظماء لنوعي الشعر الهزلي والمأساوي، أي أوجده هناك ايخارموس، أمير
الشعر الهزلي، وهوميروس أمير الشعـر
المأساوي، وعندما يغني الأخير عن: المحيط حيث نشأت الآلهة والأم ثيوس،
ألا يعني أن كل الأشياء تكون نتاج التغير المتواصل أو السيلان الدائم
ونتاج الحركة.
يترتب على ذلك أنه لا يوجد حقيقة تكون في نطاق العقل إلا ويدركها
الإحساس، ففي مقدور الأخير أن يدرك حقيقة الأشياء، فمعرفة حقيقة
الأشياء ليست حكرًا على العقل، بل إن الحواس وحدها القادرة على معرفة
حقائق الأشياء. إن ما لدينا من حقائق هي
التي يعتنقها بعض الناس في ظروف خاصة، وقد تكون الأقوال المتناقضة
حقائق متساوية القيمة في اعتقاد أشخاص مختلفين أو في أزمنة مختلفة.
والحقيقة كلها والخير والجمال، أمور نسبية شخصية.
يتضح من ذلك أن المقصود بـ"الإنسان" في مقولة بروتاجوراس الإنسان الفرد
وليس الإنسان العام، مما يترتب عليه أنه لا مجال للحقيقة المطلقة عند
بروتاجوراس على نحو ما يذكر أفلاطون. ولذلك فإن السوفسطائيين لا يملكون
معرفة حقيقية بل إنهم يدعون المعرفة. يقول أفلاطون:
الغريب: وقد قلنا إنهم يجادلون عن كل الأشياء.
ثياتيتوس: حقًا.
الغريب: ويبدون لمن يريدهم أنهم ممتلئون حكمة، بسبب ذلك؟
ثياتيتوس: بالتأكيد.
الغريب: لكنهم ليسوا كذلك، فذلك قد أبين أنه مستحيل.
ثياتيتوس: مستحيل طبعًا.
الغريب: لقد أظهر السوفسطائي آنئذ أن لديه نوعًا من المعرفة التخمينية
أو الظاهرية عن كل الأشياء فقط التي ليست حقيقية.
وهذا نفس ما انتهي إليه أرسطاطاليس (384 – 322 ق. م.) فيما بعد، فعنده
أنه طبقًا لمقولة بروتاجوراس يكون الشيء ونقيضه حقيقيتين، فالشيء يبدو
للبعض جميلاً ويظهر للبعض الآخر في نفس الوقت غير جميل.
وهكذا يثبت السوفسطائي الشيء ونقيضه في وقت واحد. وإذا طبق هذا المعيار
على الأخلاق فإنه لن يوجد قانون خلقي عام يحتكم إليه الناس في
معاملاتهم مع بعضهم البعض، فمن الممكن أن يكون الشيء خير وشر في أن
واحد، فما أرى أنه خير بالنسبة لي فإنه خير بالنسبة لي، وما تراه خيرًا
بالنسبة لك فإنه خير بالنسبة لك.
وفيما يتعلق بالدين فهو لم يتمكن من إثبات وجود الآلهة. يقول:
لا أستطيع أن أعلم إذا كانت الآلهة موجودة أو غير موجودة ولا هيئتها ما
هي، لأن أمورًا كثيرة تحول بيني وبين هذه المعرفة: غموض الموضوع وقصر
العمر.
نستنتج من ذلك أنه غير قادر على حسم موقفه تجاه الآلهة: هل هي موجودة
أو غير موجودة؟ ولكن يرى نفر من الباحثين أن تبريره غير كاف، ويبرر ذلك
بأنه تأثر في ذلك بشك هيراقليطس. فيبدو أن مذهب بروتاجوراس نتيجة حتمية
لمذهب هيراقليطس.
وبالنسبة لجورجياس فإنه أراد أن ينفي المعرفة والوجود تمامًا، ويبدو
ذلك من خلال حججه: لا شيء موجود، وإذا وجد شيء فإنه لا يمكن معرفته،
وإذا أمكن معرفته فإنه لا يمكن نقل المعرفة به إلى الآخرين.
وجورجياس لا ينتمي إلى المدرسة الإيلية بل إنه من رواد السوفسطائيين،
وهو لا ينكر اللاوجود فحسب بل هو ينكر أيضًا الوجود. والإيليون لم
ينكروا الوجود فهو أساس فلسفتهم.
بل أكثر من ذلك فإن جورجياس عارض المدرسة الإيلية، فحججه تقوم على
المغالطة ولا تستند إلى قواعد المنطق. فجورجياس
كان يهدف إلى معارضة فلسفة بارمنيدس ليؤيد المذهب الطبيعي لدي أستاذه
أنباذوقليس ولكنه في معارضته لبارمنيدس قد نقض مذهب أنباذوقليس كذلك،
إذ عارض أحادية الوجود وتعدده معًا.
ولقد طبَّق السوفسطائيون المتأخرون أمثال هيباس، وبروديقوس، وأنطيفون
(القرن الرابع ق. م.) آراء بروتاجوراس وجورجياس على مجالات السياسة
والأخلاق. فلا حقيقة موضوعية، ولا قانون خلقي عام، فكل شيء يؤسس على
المشاعر والانفعالات والعواطف. ولذلك أصبح كل شيء نسبيًا يختلف من شخص
إلى آخر في جميع المجالات. ولا مجال لثبات الوجود بل الوجود متغير،
والحقيقة تكون فيما نحس به فحسب، ولا صحة لوجود حقيقة خلف ما نحس به.
ولقد استفاد السوفسطائيون من الفلاسفة السابقين عليهم وخاصة هيراقليطس
صاحب فلسفة التغير والصيرورة
فيمد "هيراقليطس" و"أنباذوقليس" و"الإيليون" و"ديموقريطس" السوفسطائيين
بالأسلحة التي يشهرونها في وجه أعدائهم... وينهل "برتاجوراس" على
الأخص، من "هيراقليطس" ويستوحي "جورجياس" "أنباذوقليس" وهو صقلي مثله.
ولكن ما قاله هؤلاء الرجال العظام، بطريقة كثيرًا ما تكون غامضة أو
صعبة الفهم، يحيله السوفسطائي إلى لغة تروق، ويزينونه بمحاسن لفظية
فتسود، إذن، الصياغة اللفظية على المعاني التي تتغير وتتكيف حسب ما
تقتضيه الظروف.
وبالنسبة لما استفاده بروتاجوراس من هيراقليطس، فإن مبدأه "الإنسان
مقياس الأشياء جميعًا" يقوم على أساس مذهب التغير والصيرورة عند
هيراقليطس، فقد أشار بروتاجوراس إلى أن التغير هو القانون العام
للوجود، وهذا ما يظهر في تفسير أفلاطون وأرسطاطاليس لمقولة بروتاجوراس
التي وحَّد فيها بين المعرفة والإحساس.
وعلى الرغم من ذلك نجد نسبية الأحكام عند بروتاجوراس تختلف عنها عند
هيراقليطس. فالأخير
يؤكد الطابع العام المطلق لما هو مشترك، على عكس فكرة النسبية التي
كانت تنمو في ذلك العصر نتيجة للمقارنات التي كانت تجري بين العادات
المتباينة للشعوب المختلفة فالموقف الهرقليطي مضاد للرأي البرجماتي
الذي قال به السفسطائيون، والذي أعرب عنه بروتاجوراس... فيما بعد بقوله
أن "الإنسان مقياس الأشياء جميعا".
ويمكننا أن نقرر أنه كما استفاد بروتاجوراس من هيراقليطس إلا أنه خالفه
أحيانًا.
الخاتمة
1.
إن الوجود عند هيراقليطس في حالة صيرورة وسيلان باستمرار، فالأشياء
الباردة تصير حارة أي أن التغير يعني عنده تحول الشيء إلى ضده. وتعد
فلسفة التغير جوهر فلسفته. ويرتبط بقوله بالتغير بذلك تضاد الموجودات
وتناقضها، فإننا ننزل النهر ولا ننزل.
2.
يوجد صراع أو حرب بين هذه المتضادات أو المتناقضات، فالحرب ملك. وهذا
الصراع غير قائم على الظلم وإلا فنيت كل الموجودات بل هو قائم على
العدل، ففي الصراع وجود الموجودات لا فنائها. ويوجد خلف هذا الصراع
وحدة أو ائتلاف من الأضداد أو المتناقضات.
3.
أشار هيراقليطس إلى علة أولى مادية للموجودات هي النار، فيبدو في النار
التغير الذي نشاهده في الوجود، ومن صعود النار وهبوطها تكون الأشياء.
ولكن يوجد مقابل ذلك اللوجوس (القانون) الذي يسيطر على هذا الوجود،
فاللوجوس هو العلة الحقيقية لهذا الوجود.
4.
العقل وحده يمكنه إدراك اللوجوس وحقيقة الوجود: التغير، والتضاد،
والائتلاف بين الأضداد. أما الحواس فهي تدرك العالم المحسوس المشاهد
فحسب. والأخلاق البشرية عنده نسبية على غرار المعرفة الحسية.
5.
اتفق السوفسطائيون مع هيراقليطس أحيانًا واختلفوا معه أحيانًا أخرى،
فقد تأثروا بفلسفته عن التغير وبنوا عليها آراءهم، فمقولة بروتاجوراس
"الإنسان مقياس الأشياء جميعًا" عمادها تغير هيراقليطس، ونفي جورجياس
المعرفة والوجود أساسه أيضًا تغير هيراقليطس.
6.
اعتبر بروتاجوراس الحواس مصدرًا لمعرفة حقائق الأشياء – لا العقل كما
يرى هيراقليطس – فالحواس تدرك حقيقة الوجود، ولما كانت تتغير من شخص
إلى آخر، وتتغير عند الشخص الواحد من وقت إلى آخر، لذلك فالمعرفة
متغيرة ونسبية.
7.
إن الأخلاق عند السوفسطائيين بدورها تتغير من شخص إلى آخر بل إنها
تتغير عند الشخص الواحد من وقت إلى آخر، فالأخلاق بذلك نسبية ومتغيرة
هي الأخرى، فلا مجال لقوانين خلقية عامة يحتكم إليها الناس جميعًا.
*** *** ***
قائمة المصادر والمراجع
أولاً: العربية:
1.
أحمد أمين، زكي نجيب محمود، قصة الفلسفة اليونانية، ط 7، 1970
م، السلسلة الفلسفية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة.
2.
د. أحمد فؤاد الأهواني، فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط
[محاضرات ألقاها عام 1953 – 1954 م]، ط 1، 1954 م، دار إحياء الكتب
العربية عيسي البابي الحلبي وشركاه.
3.
د. أحمد محمود صبحي، في فلسفة الحضارة: 1. الحضارة الإغريقية،
مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية.
4.
أفلاطون، ثياتيوس، المحاورات الكاملة نقلها إلى
العربية إلى العربية شوقي داود تمراز، 1994 م، إصدار الأهلية للنشر
والتوزيع.
5.
ألبير ريفو، الفلسفة اليونانية: أصولها وتصوراتها، ترجمة د. عبد
الحليم محمود، أبو بكر ذكري، 1958 م، الناشر مكتبة دار العروبة،
القاهرة.
6.
د. أميره حلمي مطر، الفلسفة عند اليونان، 1965م، دار مطابع
الشعب.
7.
إيرفين شرودنجر، الطبيعة والإغريق، ترجمة: د. عزت قرني، راجعه
د. صقر خفاجة، الألف كتاب (428)، 1962 م، مطبعة دار التأليف، الناشر
دار النهضة العربية.
8.
برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة د. زكي نجيب محمود،
راجعه أحمد أمين، ط 2، 1967 م، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
9.
برتراند رسل، حكمة الغرب: عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها
الاجتماعي والسياسي، ترجمة د. فؤاد زكريا، عالم المعرفة، سلسلة كتب
ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،
(62)، 1983 م.
10.
بنيامين فارنتن، العلم الإغريقي، ترجمة أحمد شكري سالم، مراجعة
حسين كامل أبو الليف، الألف كتاب (160)، 1958 م، ملتزمة الطبع والنشر
مكتبة النهضة المصرية.
11.
ثيوكاريس كيسيدس، سقراط، نقله إلى العربية طلال السهيل، 1987 م،
مكتبة الفارابي.
12.
د. جعفر ال ياسين، فلاسفة يونانيون من طاليس إلى سقراط، ط 2،
1975 م، طبعة منقحة ومزيدة، ساعدت جامعة بغداد على نشر هذا الكتاب،
منشورات عويدات بيروت – لبنان.
13.
د. حربي عباس عطيتو، ملامح الفكر الفلسفي عند اليونان، 1992 م،
دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية.
14.
حميده أحمد السيد عبد الرسول، التغير والثبات في الفلسفة اليونانية
قبل سقراط وأثر ذلك في الوجود والمعرفة، بحث لنيل درجة الماجستير
غير مطبوع، بإشراف أ. د. حسن محمد الشرقاوي، 1991 م، قسم الفلسفة، كلية
الآداب – جامعة الإسكندرية.
15.
شارل فرنر، الفلسفة اليونانية، ترجمة تيسير شيخ الأرض، ط 1،
1998 م، دار الأنوار بيروت، لبنان.
16.
د. عبد الرحمن بدوي، ربيع الفكر اليوناني: خلاصة الفكر الأوروبي،
سلسلة الينابيع، ط 5، 1979 م، الناشر وكالة المطبوعات الكويت، دار
القلم بيروت، لبنان.
17.
د. علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي عند اليونان، ط 1، 1964
م، الناشر منشأة المعارف الإسكندرية.
18.
د. علي سامي النشار وآخرين، هيراقليطس فيلسوف التغير وأثره في الفكر
الفلسفة، ط 1، 1969 م، دار المعارف.
19.
فلوطرخس، الآراء الطبيعية، ضمن كتاب أرسطاطاليس "في النفس"،
"الحاس والمحسوس لابن رشد"، "النبات" المنسوب إلى
أرسطاطاليس، راجعها على أصولها اليونانية وشرحها وحققها وقدم لها عبد
الرحمن بدوي، الناشر وكالة المطبوعات - الكويت، دار القلم بيروت –
لبنان.
20.
د. ماجد فخري، تاريخ الفلسفة اليونانية من طاليس (585 ق. م.) إلى
أفلوطين (270 م.) وبرقليس (385 م)، ط 1، دار العلم للملايين.
21.
د. محمد على أبو ريان، تاريخ الفكر الفلسفي: ج 1. الفلسفة اليونانية
من طاليس إلى أفلاطون، ط 2، 1965 م، الدار القومية للطباعة والنشر.
22.
د. محمد فتحي عبد الله، المعرفة عند فلاسفة اليونان، بدون.
23.
محمود السيد مراد، فلسفة التنوير لدى السوفسطائيين، بحث لنيل
درجة الماجستير بإشراف أ. د. نصار محمد عبد الله، 1995 م، قسم الفلسفة
كلية الآداب، سوهاج، جامعة أسيوط.
24.
د. مصطفى النشار، تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي: ج 1.
السابقون على السوفسطائيين، 1998 م، الناشر دار قباء للطباعة
والنشر والتوزيع.
25.
د. مصطفى النشار، تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي: ج 2.
السوفسطائيون – سقراط – أفلاطون، 2000 م، الناشر دار قباء للطباعة
والنشر والتوزيع، القاهرة.
26.
و. ك. س. جثري، الفلاسفة الإغريق من طاليس إلى أرسطو، ترجمة
وتقديم د. رأفت حليم سيف، مراجعة د. إمام عبد الفتاح إمام، بدون.
27.
ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، ط 3، 1986 م،
اختارته وأنفقت على ترجمته الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية،
مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
28.
وولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة مجاهد عبد المنعم
مجاهد، 1984 م، دار الثقافة للنشر والتوزيع.
29.
يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، 1999 م، لجنة التأليف
والترجمة والنشر، ملتزم طبع هذا الكتاب مكتبة النهضة المصرية.
ثانيًا: الأجنبية:
-
Aristotle : Physics , the works of Aristotle
,translated into english undereditor of Ross ( W .D. ) , 1930 , at
the university press Oxford , printed Great Britain.
-
Aristotle : Metaphysics , the works of Aristotle ,
translated into english undereditor of Ross ( W.D. ) 1963. at the
university press Oxford , printed Great Britain.
-
Freeman ( Kathleen ) : The pre – Socratic philosophers
, 1971 , Oxford Basil Well
-
Hollingdalel ( R. j. ) Western philosophy : an
imtroduction , copyright ©1979 , Kahn &Averill – London.
-
Leaertius ( Diogenes ) : Lives of eminents
philosophers with an emglish translation by : Hicks ( R.D. ) , (
L.C.L.
-
Lewis ( John ) : History of philosophy , 1973 , the
English university press Ltd.
شارل فرنر، الفلسفة اليونانية، ترجمة تيسير شيخ الأرض،
ط 1، 1998 م، دار الأنوار بيروت – لبنان، ص 32.
د. ماجد فخري، تاريخ الفلسفة اليونانية من طاليس (585 ق.
م.) إلى أفلوطين (270 م) وبرقليس (485 م)، ص 54. وللمزيد
من التوضيح ينظر:
تأتي برهنة جورجياس - على نحو ما يذكر د. الأهواني - على هذه
الحجج على النحو التالي:
1 – لو يوجد شيء.
(أ) لا يوجد اللاوجود.
(ب) لا يوجد الوجود (1) كشيء أزلي (2) أو مخلوق (3) أو أزلي
ومخلوق (4) أو واحد (5) أو كثير.
(ج) لا يوجد مزيج من الوجود واللاوجود.
2 – إذا وجد شيء فلا يمكن إدراكه.
3 – إذا أمكن إدراكه فلا يمكن نقله إلى الغير.
1 – لا يوجد شيء:
إذا وجد شيء، فيجب أن يكون موجودًا، أو لا موجودًا، أو موجودًا
ولا موجودًا معًا. ولا يمكن أن يكون لا موجودًا، لأن اللاموجود
غير موجود. إذ لو وجد لكان في نفس الوقت موجودًا ولا موجودًا،
وهذا مستحيل. ولا يمكن أن يكون موجودًا، لأن الوجود غير موجود،
إذ لو كان موجودًا فيجب إما أن يكون أزليًا أو مخلوقًا، أو هما
معًا. ولا يمكن أن يكون أزليًا؛ إذ لو كان كذلك فلا أول له،
وما لا أول له فغير محدود. وما لا حد له فليس له مكان. إذ لو
كان له مكان لوجب أي يحوي في شيء آخر، فلا يصبح بذلك غير
محدود، لأن الذي يحوي أكبر مما يحوي، ولا شيء أكبر من
اللامحدود. ولا يمكن أن يحوي نفسه، وإلا كان المحوي والمحوي
شيئًا واحدًا، ويصبح الموجود شيئين، أي المكان والجرم، وهذا
باطل. فإذا كان الموجود أزليًا كان لا محدودًا؛ وإذا كان
لامحدودًا، فلا مكان له؛ وإذا لم يكن له مكان، فهو غير موجود.
كذلك لا يمكن أن يكون الموجود مخلوقًا، إذ لو كان كذلك فيجب أن
ينشأ من شيء، إما من موجود أو من لا موجود، وكلا الأمرين
مستحيل. كذلك لا يمكن أن يكون الموجود أزليًا ومخلوقًا في وقت
واحد، لأن الأزلي والمخلوق متضادان، فلا يوجد الموجود. ولا
يمكن أن يكون الموجود واحدًا، وإلا كان له حجم وأمكن قسمته إلى
ما لا نهاية له؛ وعلى أقل تقدير كان له ثلاثة أبعاد هي الطول
والعرض والعمق. ولا يمكن أن يكون كثيرًا، لأن الكثير حاصل
الجمع بين عدد من الوحدات، وحيث كان الواحد غير موجود، فكذلك
الكثير. ومن المستحيل أن يكون الشيء مزيحًا من الوجود
واللاوجود. ولما كان الوجود غيـر موجـــود، فـــلا شيء موجود.
2 – إذا وجد شيء فلا يمكن إدراكه:
إذا لم تكن المعاني العقلية حقائق، فلا يمكن أن تعقل الحقيقة:
ذلك أنه إذا كان الشيء المدرك أبيض، فالبياض هو موضوع الفكر.
وإذا كان الشيء المدرك غير موجود، فاللاوجود موضوع الفكر. وهذا
يساوي قولنا: "إن الوجود، أو الحقيقة ليس موضوع الفكر، ولا
يمكن أن يدرك" وكثير من الأشياء التي تكون موضوع الفكر ليست
حقيقية، فنحن قد نتصور عربة تجري على الماء، أو رجلاً له
أجنحة. كذلك مادامت المبصرات هي موضوع البصر، والمسموعات موضوع
السمع، ومادمنا نسلم بأن المبصرات حقيقية دون أن نسمعها،
والعكس بالعكس؛ فعلينا أن نسلم بأن المدركات حقيقية دون أن
نبصرها أو نسمعها. ولكن هذا يعني الاعتقاد في أشياء كالعربة
التي تجري في ماء البحر.
بناء على ذلك ليست الحقيقة موضوع الفكر، ولا يمكن للفكر أن
يدركها. فالعقل الخالص، في مقابل إدراك الحواس، أو حتى
باعتباره معيارا صادقا كالإدراك الحسي، أسطورة.
3 – إذا أمكن إدراك شيء فلا يمكن نقله إلى الغير.
الأشياء الموجودة هي المحسوسات؛ فموضوعات البصر تدرك بالبصر،
وموضوعات السمع تدرك بالسمع، ولا تبادل بينها، فلا يمكن لهذه
الإحساسات أن يتصل بعضها ببعضها الآخر. ثم إن الكلام هو طريق
الاتصال بين الناس، وليس الكلام من نوع الأشياء الموجودة أي
المحسوسات؛ فنحن ننقل الكلام فقط لا الأشياء الموجودة. وكما أن
المبصرات لا يمكن أن تصبح مسموعات، فكذلك كلامنا لا يمكن أن
يساوي الأشياء الموجودة مادام مختلفًا عنها. يضاف إلى ذلك أن
الكلام يتركب من المدركات التي تتلقاها من خارج أي من
المحسوسات، لذلك ليس الكلام هو الذي يخبر عن المحسوسات، بل
المحسوسات هي التي تخلق الكلام. هذا إلى أن الكلام لا يمكن
أبدًا أن يمثل المحسوسات تمامًا، مادام الكلام مختلفًا عنها،
وكان كل محسوس مدركًا بعضو الحس الملائم له، والكلام بعضو آخر
وبناء على ذلك، مادامت موضوعات الإبصار لا يمكن أن تعرض على أي
عضو سوي البصر، وما دامت أعضاء الحس لا تتبادل إدراكها، فكذلك
الكلام لا يمكن أن يخبر شيئًا عن المحسوسات. من أجل ذلك إذا
وجد شيء وكان مدركًا، فلا يمكن الإخبار عنه.