الحياة المزدوجة
جان بودريار
يوجد
حل آخر للتبادل المستحيل للحياة، وهو مبادلتها بحياة مزدوجة.
هكذا حال رومان Romans، الشخصية الرئيسية
في دعوى إجرامية في التسعينيات، فبسبب عدم جرأته على الاعتراف لعائلته
أنه أخفق في دراسة الطب، أقام حياة كاملة موازية، شبهُ مسيرة طبية،
مواصلاً استغلال عائلته ماليًا بالسبل كافة حتى اليوم الذي يقتلهم فيه
جميعًا (يقتل أبويه، وزوجته وولديه) ولا يستثني من ذلك، بشكل غامض، إلا
مدبرة المنزل، وفي اللحظة الأخيرة.
لماذا ارتكب هذه المجزرة؟ في اللحظة التي كان سيُكتشف فيها، لم يحتمل
أن يكفَّ من آمن به عن تصديقه، فلا يجب أن يكتشفوا الحقيقة. لذلك لم
يبق إلا حل وحيد: إلغاؤهم. لأن الانتحار لم يكن كافيًا لمحو الخداع في
نظر عائلته. كل هذا منطقي: فهو يجنبهم خزي أن يعرفوا الحقيقة.
هناك فرضية أخرى وإن لم تكن الوحيدة: كل جريمة تتطلب بشكل خفي أن تكون
مكشوفة. لكن هذه المرة، نجح الاصطناع بشكل مفرط، وما يلومهم (رومان)
عليه هو أنهم لم ينجحوا في اكتشاف الخدعة، ولم يستطيعوا طوال الحياة أن
ينفذوا إليه، وتركوه يغرق في ضلاله ومكره، جاعلين منه آلة محاكاة
حقيقية. تبعًا للمنطق ذاته، نجت الخادمة من الموت لأنها توقفت عن
تواطئها الأعمى. هو لم يتعرف على هذه المرأة كخادمة، في النهاية، إلا
لكي يكسر هذه النشوة، هذا الانصياع الدرامي لدوره الآخر. لم تكن لتسمح
له بإعلان مسؤوليته إلا جريمةٌ حقيقية. نحن أمام شخصية مناقضة لشخصية
المجرم الاعتيادي الذي يلغي منطقيًا كل من يستطيع الكشف عنه. هذا
تمامًا ما أخذته عليه العدالة وفق منطق نفسي سليم: "لا نحطم من نحب.
(هو يقول إنه احتفظ لهم، حتى في لحظة الجريمة وبعد، بكل عاطفته). في
أسوأ الأحوال نقوم بالانتحار". لم يستطيعوا تصديقه أنه بإلغائهم أراد
أن يجنبهم خيبة الأمل الكاملة. كل هذا دقيق على الرغم من ذلك: لو لم
يكونوا قد وثقوا به بشكل كامل لما كان قد قام بقتلهم.
شخصية باهتة مأساوية ومن دون رياء لئيم، إنه ليس صنفًا إجراميًا أبدًا.
دخل إلى هذه الحياة الثانية بشكل عفوي ومن دون ترصد، وعاشها كما يعيش
الناس حياتهم العادية. وبطريقة معينة، أصبح أهله وناسه هم الحياة
الثانية، وبالتالي، بإلغائهم يجد من جديد حياة واقعية وهوية. هم حاضرون
الآن في كربه كمجرم (وفي الذكرى الهائجة لأبيه التي شهد بها خلال
المرافعة) بشكل أكثر مما كانوا عليه في أثناء حياتهم. أو ربما ضحى
بإرادة منه بحياته الحقيقية على حساب حياته الموازية، وفق القاعدة التي
تقول إن لا مكان للواقعي ولآخَره معًا.
على أي حال، لدينا هنا المعادل لمأساة سببها الغيرة. فهو يغار على
صورته الذاتية الموجودة لديهم. ويجب أن تبقى هذه الصورة سليمة بأعينهم،
وستبقى كذلك بهذه الطريقة حتى الموت. هذا هو منطق المأساة العاطفية
بعينه: إذا أفلت منك الموضوع، ليغب إذًا بشكل نهائي، أي... ليختفي.
ما هو فذٌّ في هذه الحالة، هو إيقاظ الشك الجذري: ماذا لو كان كل وجود
"طبيعي" يخبئ مصطنعًا ناجحًا – من دون أن يكون شاذًا ولا خياليًا،
وإنما عادي تمامًا- وجودًا موازيًا من دون انقطاع مع الآخر (من وقت
لآخر، المتوازيان يلتقيان، وهنا الكارثة)؟ احتمالية خيالية: سنحاط
حينها بالمهووسين بالكذب من دون أن نعلم عنهم شيئًا، لا شيء يميز بين
رجل "عادي" ومنافق نكرة يسير بحرية تحت مظهر مألوف (كالجواسيس
"النائمة" في بلد أجنبي "نوقظها" يومًا ما). من وجهة النظر هذه، أكثر
المواطنين عدمًا يصبح، في الوقت نفسه، محطَّ أنظارٍ ومشتبهًا به. كل
واحد يصبح قادرًا افتراضيًا على قتل عائلته ليتجنب سطوع الحقيقة. كل
شيء يصبح ممكنًا، منذ اللحظة التي يمكن فيها كلُّ حياة أن تخفي وراءها
حياة أخرى. لم تعد هنالك حاجة لتغيير الحياة، يكفي أن يكون لدينا منها
اثنتين.
والشيء بالشيء يذكر. فمن زاوية الارتياب، لا يتطلب الأمر إلا النظر إلى
العالم السياسي والاجتماعي لنرى أنه مصنوع من عدد لا يحصى من المهن
الزائفة والموازية، ومن المضاربات والاحتيالات غير المكشوفة أبدًا، ومن
جرائر مبتدئٍ "عمياء"، ومن ألغاز لن نعلم عنها شيئًا. غير أن هذا الدجل
وهذا الاختلاس يتلاشى عادةً داخل النظام ذاته، بينما، بالنسبة لرومان،
الممثل الصغير في التمثيلية النفسية الخاصة به، ينتهي الأمر من خلال
تصفية حسابات مع الواقع الحقيقي.
ما أدانته العدالة في شخص رومان هو الارتياب الخيالي الذي أثقل عاتق
الهوية الشخصية، وبالتالي النظام الاجتماعي بأكمله. هذا يستحق تمامًا
السجن مدى الحياة.
هو لم يُخلف أبدًا بالأخلاق، وإنما فقط بالواقع الحقيقي، وهو أمر أكثر
خطورة. إنه "صادق" عندما يدَّعي العجز عن شرح تسلسل المحاكاة، ذلك أن
هذه المحاكاة حدثت منذ بداية التواطؤ الصامت للآخرين. المحاكاة هي مثل
النبوءة، تستمد قوتها من الحقيقة الواقعية.
لا حاجة بالمحاكاة إلى دافع مبدئي، فعملية الدفع هذه تحدث داخل
السيرورة ذاتها من دون علاقة السبب والنتيجة. لذلك، من العبث مساءلة
رومان عن دوافعه، أو جعله يعترف بأي شيء، لأن لا مسؤولية إلا إزاء
الأسباب، بينما هو لا يمكنه الحديث إلا عن التسلسل المصيري، تسلسلِ
النتائج الذي لا يمكن مقاومته. لا معنى لكل هذا، لكن هذا هو كل ما في
الأمر. الجريمة الكاملة هي الجريمة التي لا مقصد مختبئ وراءها، هي
الجريمة التي تتبع سيرورة الفكر فحسب.
الحل الذي يقدمه رومان حل متطرف. هو لا يراهن على حيوات متعددة كبطل
رينهارت، ولا "يؤدي" دورًا بالمعنى الدقيق، بل يتردد على حياته الذاتية
كما على حياة الآخرين، ويمارس نوعًا من الغرائبية الجذرية، من الانفصال
المميت.
يوجد أشكال أخرى من الغرائبية أكثر اعتدالاً من الاستراتيجيات الدقيقة
الازدواجية، منها دور الممثل كما يظهر في
Paradoxe sur le comédien
(مفارقة حول الممثل) لـ ديدرو، أو في
Werfremdungseffekt
(ظاهرة
التغريب) لـ بريخت – بعيدًا عن كل قسرٍ ماهوي نفسي، وعن كل هذا التشنج
التقمصي الذي يتصدر المشهد اليوم.
يوجد لدى الممثلين، في أفضل الحالات، نوع من المسافة يضمن عدم اختلاط
الأدوار والصور. يجب على آخر الممثل، أي الشخصية، أن يدعم غرائبيتها،
وإلا فسيبدد القدرة المشهدية في تصنع مسرحي. وعليه أن يحفظ العنصر
الاختلافي الوهمي، والعنصر الاختلافي الآخري، بغاية إنقاذ الطاقة
الخاصة بالمشهد. من أجل تحقيق ذلك، عليه في النهاية أن يكون متكبرًا،
أن "يؤثر" في دوره لا أن يجسده، ليقول ضمنيًا: هذا ليس أنا، ولا علاقة
لي بذلك. فالتكبر هو أن تقاوم سهولة التماهي مع أيٍّ كان وأيٍّ يكن،
مثلها بذلك مثل ما تدعونا إليه نزعتنا النفسية المحافظة. إذا كان لا بد
من أن نكون غرباءَ في حياتنا الخاصة، فلنحيَ بالأحرى الغرائبية
الجذرية.
هل يجب اعتبار هذه المسافة، هذه الطلاقة إزاء الوجود الخاص استثناءً أم
أنها حاضرة هنا دائمًا ومسبقًا؟ فعليًا، أصبح هذا المجتمع أدائيًا
وعملياتيًا، لكن من دون تصديقنا لذلك، وفي أكثر الأحيان، من دون إدراك
عدم التصديق لذلك، إننا لاأدريون من دون أن نعلم بذلك، ونعيش من هذا
الانفعال الآتي من تشكك عميق يقوم على الإيغال الزائد والإفراط. نحن
هنا أمام تصلف للمجال العملياتي، وعصابٍ للأدائية نشكل، نحن، ممثليها
الجماعيين، وتحمينا من البهيمية، أي من الوظيفية الخالصة (عُد إلى
كوجييف Kojève وثنائيته التعاقبية
بين النزعة التكبُّرية اليابانية والنزعة الحيوانية الأمريكية). لذلك
فإن "اضطرابات الحضارة" هذه ليست أبدًا خطرة لدرجة التصريح بها، لأننا
نؤدي بشكل سري تمثيلية التكنولوجيا والأداء، تمثيليةَ المعلومة
والانفعال. نقوم بضبط المسافة على "الواقع"، الواقعِ المفرط لعالمنا،
كما نضبط عدسة كاميرا التصوير على النظرة المقرَّبة وعلى تنظيرٍ مجسَّم
للمؤثرات، لكن من دون أن ننخدع نحن بها. لكن أثر التضخيم ودُوار
المحاكاة يُعجبنا وبإمكاننا – تمامًا لأننا لا نعتقد به– أن نذهب أبعد
بكثير في السيناريو العملياتي مما إذا كنا نعتقد به.
هذا هو من دون شك سر التكنولوجيا اليابانية، سرُّ الوجدان البطولي،
سرُّ هذه النزعة البطولية الوظيفية لإمبراطورية الشمس. لكن، حتى في
الغرب، يظهر شيء ما من هذا الإطلاق للقيم مصحوبٌ بتكثيف للممارسات.
هكذا تظهر الأعمال business
كلعبة أدائية أكثر فأكثر، لعبةٍ لطاقة قصوى داخل سيناريو المشروع الذي
لم يعد متشددًا orthodoxe،
وإنما متناقضًا. هي شبيهة بطاقة انتحارية تنتشر هكذا داخل سيناريو
النمو والمضاربة بأي ثمن. لكنها بالأخص طاقة ينتج تحريرها عن تهدئة
للرهانات، وعن انهيار الغايات والقواعد الضاغطة.
وهذا، إلى حد ما، عكس الـرابط المزدوج الذي لا مخرج منه: انتهى التوتر
التناقضي من الجهتين، من جهة الغايات ومن جهة الوسائل – الأداء وحده هو
المهم - نشاطٌ زائد غير مستثمر وغير مؤدلج قائم على عدم إيمان أساسي
بجوهره، إنه "طَلْق"، بالمعنى الحرفي للكلمة. المقاول المعاصر (وكلنا
مقاولون) لاأَدَريٌّ (وكذلك العامل، ولكن لأسباب أخرى!).
ومع ذلك، ألا يوجد على تخوم هذا اللااستثمار وهذه الشفافية وهذه
الطلاقة، ألا يوجد، في نهاية هذا الانفعال العام، شكل آخر من الذهان
والسوداوية يتربص بنا؟
على أي حال، انتهت اليوم جدلية الشخصية والممثل – تلك التي نجدها في
الوجوه، والملابس، وإشارات السينما في عصر الأربعينيات والخمسينيات
الذي كان محكومًا بمسرحة الشخصية، حتى في العالم اليومي. هنا، ما زلنا
في ما يسميه سارتر ميتافيزيقا نادل القهوة الذي يتحدث كنادل القهوة،
ويشبِّه نفسه لنادل القهوة، الخ. اليوم، أُقصي كل هذا المسرح الاجتماعي
والنفسي، وكل هذا التمثيل النفسي الوجودي، عبر السلوك التوجيهي
والتفاعلي لمجتمعٍ من دون ممثلين (هكذا، أصبحنا نجد فيه نوعًا من الشعر
يُشار إليه في السينما بالأبيض والأسود).
ستبقى ثورة مايو 68 مخلصة، في إشارتها وخطابها، لهذه البلاغة الثقافية
(الأمر الذي لا يلغي عنها عنف الحدث الرمزي). لم يعد عصرنا قادرًا على
تزويدنا بمشهد وممثلين حتى أننا لن نكون مضحكين، ولو بدرجة خفيفة،
بالنسبة للمستنسخين الذين سيأتون بعدنا، كما هي شخصية الخمسينيات
بالنسبة لنا. تخلصنا من كل هذه الوجوديات الرثة، لكننا فعليًا موجودات
رثَّة، رثَّة بالأيديولوجيا، ورثَّة بصراع الطبقات، ورثَّة بالتاريخ.
إننا أفرادٌ فاعلون ومتفاعلون لم نعد نقص لبعضنا قصصًا، ولم نعد نشبِّه
أنفسنا بنادلي القهوة. ذاك الزمن الجميل، السنوات الأولى من القرن
العشرين، كان زمن الإحساس بالذنب وزمن سوء النية – كان سارتر أفضل من
أمسك بهذا الانعطاف التاريخي – تترجم الظلال المتحركة لسينما ذلك الوقت
بشكل جيد ورائع هذا الاحتضار المابعد رومانسي، والعادي في ذلك الوقت،
للذاتية، وكل تموجات الشخصية التي بطلت، وكذلك مفارقات الحرية.
من يهتم اليوم بالحرية، وبسوء النية وبالوجود الأصلي؟ سقط القناع
تاركًا مكانه للوضوح المنعدم الدلالة للواقع، وللكتابة الآلية
للافتراضي. اضمحلت الأدوار، ومعها الهيستيريا المميزة للزمن الجميل
Belle époque،
هستيريا الديكور والمشهد، بلاغةُ زمن مازال في صراعٍ مع مرحلةِ المرآة
للحداثة وليس منذورًا للمرحلة النهائية للشاشة، مرحلةِ صَرَع بارد
وعطالة عالية التوتر لم يعد رائجًا فيها المثلثُ الذهبي للواقعي
والرمزي والخيالي، المثلثُ الذي لم يعد يظهر في البورصة العقلية للقيم.
ترجمة: د. جلال بدلة
*** *** ***