هابرماس والتحـدي العـلمي - التـقـني
التقنية والعــلـم كأيديولوجـــيا
إذا
كان مارتن هيدجر قد تساءل عن ماهية العلم وماهية التقنية، فإن يورغن
هابرماس – الفيلسوف الاجتماعي الألماني الشهير ووريث مدرسة فرانكفورت
النقدية يتساءل هنا عن علاقتهما بالممارسة الاجتماعية باعتبارهما أصبحا
أهم قوة إنتاجية. وللإجابة عن السؤال يقيم حوارًا نقديًا مع أعلام
الفكر الغربي من هيجل إلى ماركس وماكس فيبر وهربرت ماركيوز وآخرين،
ويريد من وراء ذلك معرفة الطريقة التي يمكن بها استعادة طغيان حق
التصرف التقني إلى دائرة إجماع المواطنين الفاعلين والمتحاورين، أو كيف
يُتوسط للتقنية والعلم والديمقراطية في ظل شروط المجتمع الرأسمالي
الصناعي المتقدم.
لقد دفع النجاح المتزايد لأسلوب الإنتاج الرأسمالي وما رافقه من عقلنة
على جميع المستويات إلى قيام تحليلات نظرية تحاول تفسير ذلك آخذة
بالاعتبار تحليل ماركس لرأسمالية المنافسة والاستغلال الحر لرأس المال
الذي لم ينجح في التنبؤ بمصائر الرأسمالية بعد أن تجاوزت مرحلتها
الليبرالية.
كان ماكس فيبر قد أدخل مفهوم العقلانية ليحدد من خلاله شكل النشاط
الاقتصادي الرأسمالي، أي شكل علاقات القانون البرجوازي والسيادة
البيروقراطية، وتعني العقلانية عنده توسيع المجالات الاجتماعية التي
تخضع لمقاييس القرار العقلاني، وهذا يوافقه أمران: الأول تغلغل مقاييس
الفعل الأداتي في نسيج الحياة الاجتماعية (تمدن أسلوب الحياة، مكننة
العلاقات والتواصل)، والثاني، مأسسة التقدم العلمي والتقني وما يرافقه
من تفكيك وهدم للمشروعيات القديمة.
لكن هربرت ماركيوز يلاحظ وبحق أن ما يفرض نفسه فيما يسميه فيبر
بالعقلانية، هو ليس العقلانية بحد ذاتها، إنما وباسم العقلانية، شكل
محدد من السيادة السياسية المضمرة تجلبها معها عقلانية العلم والتقنية
بحيث أن مفهوم العقل التقني هو نفسه إيديولوجيا، والتقنية هي سلفًا
سيادة على الطبيعة وعلى الإنسان، والسيادة في المجتمعات الرأسمالية
المتقدمة صناعيًا تميل إلى فقدان طابعها الاستغلالي القمعي الواضح
لتأخذ طابع العقلانية دون أن تختفي كليًا السيادة السياسية التي أصبحت
مشروطة فقط بالقدرة على والمصلحة في المحافظة على النظام ككل وتوسيعه.
وعلى ذلك تقاس عقلانية السيادة بالحفاظ على النظام الذي بإمكانه أن
يستبيح جعل تزايد قوى الإنتاج المقترنة بالتقدم العلمي التقني أساسًا
لمشروعيته، ويترافق ذلك مع الإخضاع المكثف للأفراد إلى جهاز الإنتاج
والتوزيع الجبار مما يفضي إلى مجتمع شمولي على النمط العقلاني تكون فيه
التقنية خطرًا يهدد بابتلاع الديمقراطية. ومن المفارقات هنا أن هذا
القمع والإخضاع العقلاني الموضوعي يمكن أن يختفي من وعي المواطنين لأن
مشروعية السيادة قد اكتسبت طابعًا جديدًا، ألا وهو الإشارة إلى
الإنتاجية والسيطرة على الطبيعة المتناميتين باستمرار مما يزيد أيضًا
من رفاهية ورخاء الأفراد. هكذا يتم تخفيف حدة العقلانية كمقياس للنقد
ويتم إنزالها ضمن النظام إلى عامل ملطف، ويبدو إذن أن قوى الإنتاج تظهر
على مستوى تكشفها العلمي التقني في توافق مع علاقات الإنتاج بدلاً من
هدمها كما قال ماركس، إنها لا تقوم الآن بدور الأساس التحتي لهدم
المشروعيات السائدة (البناء الفوقي)، بل تغدو هي ذاتها أساس المشروعية،
وهذا هو الأمر المستجد تاريخيًا على صعيد مصائر الرأسمالية، وإن عقلنة
ماكس فيبر ليست بالتالي عملية طويلة الأمد لتغيير البنى الاجتماعية
وحسب، وإنما وفي الوقت نفسه عقلنة بالمعنى الفرويدي: فالدافع الحقيقي
وهو المحافظة على السيادة والمشروعية يتم حجبه تحت ستار من الاعتماد
على العلم والتقنية.
إن المنهج العلمي الذي قاد إلى سيطرة فعالة ومتزايدة على الطبيعة،
وفَّر أيضًا المفاهيم والأدوات من أجل سيطرة الإنسان على الإنسان
بواسطة السيطرة على الطبيعة. لذلك فإن اندماج التقنية والسيادة،
العقلانية والقمع ، تدفع ماركيوز إلى إغراء فكرة علم جديد بمنهجية
جديدة تقود إلى موقف بديل من الطبيعة يقوم بإحلال وجهة نظر تصرف تقني
يحرر إمكانات الطبيعة محل وجهة نظر التصرف التقني الممكن وينتقل من
سيادة قمعية إلى سيادة محرِّرة، وهذا ما يمكن معارضته حسب هابرماس،
فالعلم الحديث لا يمكن اعتباره مشروعًا فريدًا تاريخيًا إلا إذا كان
هناك مشروع بديل واحد على الأقل، وفضلاً عن ذلك لابد للعلم الجديد
البديل أن يتضمن تعريفًا لتقنية جديدة، وهذه فكرة مخيبة للآمال، لأن
التقنية فيما لو أنها ترجع أصلاً إلى مشروع ما، لا يمكن أن تعزى فيما
يبدو إلا إلى مشروع الجنس البشري بأكمله وليس لحقبة مفردة وحيدة أو
طبقة معينة في وضع قابل للتجاوز.
لذلك يضع هابرماس على عاتقه محاولة صياغة مفهوم العقلنة من جديد في
مرجعية أخرى. يتوجه أولاً إلى هيجل وبالتحديد إلى فلسفته الواقعية التي
ظهرت في المحاضرات التي ألقاها في جامعة فيينا بين 1803-1806 حول فلسفة
الطبيعة وفلسفة الروح تحت تأثير دراسته للاقتصاد السياسي.
يميز هابرماس – على خطى هيجل – بشكل أساسي بين العمل والتفاعل ويعطي
لهما تعريفات موسعة. يقصد بالعمل أو الفعل العقلاني الغائي إما فعلاً
أداتيًا أو اختيارًا عقلانيًا أو مركبًا بينهما. ويهتدي الفعل الأداتي
بالقواعد التقنية التي تقوم على معرفة تجريبية، أما سلوك الاختيار
العقلاني فيتبع استراتيجيات تستند إلى المعرفة التحليلية. ويحقق الفعل
العقلاني الغائي أهدافًا محددة في ظل شروط معطاة. ويعرِّف هابرماس
التفاعل بأنه فاعلية تواصلية والمقصود بذلك ممارسة اجتماعية رمزية أي
أنها تتم عبر اللغة المتداولة بين الذوات وتتبع المعايير الاجتماعية
السائدة التي تعرِّف توقعات السلوك المتبادلة. وبالتالي يمكن على مستوى
التحليل الاجتماعي التمييز بين الإطار المؤسساتي لمجتمع ما أو لعالم
الحياة الاجتماعي – الثقافي الذي يتألف من معايير توجه التفاعلات، وبين
الأنظمة الفرعية للفعل العقلاني الغائي التي تكون الأفعال الاجتماعية
فيها مضمونة النتائج من خلال المأسسة.
استنادًا إلى ما سبق، ينتقد هابرماس بعض وجوه اللبس لدى ماركس والتي
تنتهي إلى إرجاع التفاعل إلى العمل كما يبين التحليل الدقيق للجزء
الأول من كتاب الإيديولوجيا الالمانية، ويستعيد الحدس العبقري
لماركس حول الصلة الديالكتيكية بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ليضع
مكانه الزوج الأكثر تجريدًا للعمل والتفاعل وليبين أنه ينبغي أيضًا
استعادة النقد القديم الموجه ضد ماركس بسبب النزعة الاقتصادية المغالية
التي تصبح فيها الفاعلية الأداتية النموذج الذي يفسح المجال لإنتاج كل
المقولات، بحيث أن كل شيء تمتصه ديناميكية الحالة في الإنتاج. إن
اختزال الإطار المؤسساتي لعلاقات الإنتاج في مجرد بنية فوقية للقاعدة
الاقتصادية يعني الخضوع الكلي للقوى المنتجة (أي للأنظمة الفرعية للفعل
العقلاني الغائي) وهذا ما يقابله لحظة تاريخية مفردة لا يمكن تعميمها،
تلك هي مرحلة نمو الرأسمالية الليبرالية. هكذا وقعت الماركسية في خطأ
التفسير من النمط الميكانيكي، ويذكر هابرماس بعض فقرات من البيان
الشيوعي الذي يمدح ماركس فيها البرجوازية مبينًا دورها الاقتصادي
الثوري: فقد كانت الفاعلة في تنمية القوى الانتاجية العملاقة التي لم
تشهدها البشرية من قبل وأدت إلى تسارع منتشر للتاريخ الاقتصادي للكوكب
الأرضي، هذا النمو يطلق خلال فترة قصيرة إلى حد ما نوعًا من طاقة نقدية
للتحرر وستتوقف قيم الاستعمال المنتجة بالتالي عن الخضوع للاستلاب
الاقتصادي الذي يجعل منها مجرد قيم تبادلية وتنتهي علاقات الإنتاج إلى
التصدع تحت ضغط القوى المنتجة التي تتنامى.
خلافًا لما اعتقده ماركس، لا يبدو أن هذه القوى المنتجة تشكل طاقة
تحرير "في كل الظروف". ففي مرحلة رأسمالية تنظمها الدولة أي رأسمالية
دولة الرفاه والرخاء التي أعقبت المرحلة الليبرالية، تقوم القيود التي
يضعها تدخل الدولة على حرية رأس المال بضمان ولاء الجماهير من خلال
نظام مناسب من التعويضات ويدخل صراع الطبقات في حال من الكمون في الوقت
الذي يستمر فيه الاستقرار والنمو الاقتصاديين. يبقى إذن، مهمة وضع
نظرية هذه الرأسمالية المتقدمة المطبوعة بشكل خاص بالتقدم العلمي
والتقني الذي أصبح القوة المنتجة الرئيسية لها.
يسجل هابرماس موافقته على قضية ماركيوز القائلة بأن العلم والتقنية
يقومان اليوم بوظيفة منح التبريرات للسيطرة والسيادة مما يفقد العقل
التقني وظيفته التقنية ويجعله عقلاً ايديولوجيًا، وهذا ما دفع ماركيوز
كما ذكرنا سابقًا إلى اقتراح علم جديد وتقنية جديدة يؤديان من خلال
التأثيرات الراجعة على العمل إلى إنتاج عقلانية جديدة تختلف نوعيًا عن
العقلانية الحالية يكون فيها كل من الإنسان والطبيعة لا موضوعًا
للسيطرة بل شريكًا في علاقة تبادلية. وماركيوز هنا لا يقوم إلا بقلب
ايديولوجيا التقنوقراطيين بإرجاعه العمل إلى التفاعل مفترضًا أن ثمة
تطابقًا آليًا بين الإطارين.
لكن هابرماس يرى أن تطور العمل وتطور التفاعل لا يرتبطان بشكل آلي وأنه
ينبغي التمييز جيدًا بين مفهومين للعقلنة: الأول، عقلنة لا تسعى إلا
إلى تنمية القوى المنتجة وتوسيع القدرة على حيازة الأشياء تقنيًا (ماكس
فيبر). والثاني، عقلنة تكون انعتاقًا تواصليًا وتفاعلاً بعيدًا عن
السيطرة والسيادة. لقد أدت حضارتنا العلمية إلى محو الثنائية بين العمل
والتفاعل في وعي البشر ونحن نشهد إلغاء الفرق بين الممارسة الاجتماعية
والتقنية باختزال الممارسة إلى مجرد إجراءات تقنية مموضعة.
تطرح التقنية تحدٍ لا يمكنها وحدها أن تتصدى له. لذلك ينبغي العمل من
أجل عقد نقاش فعلي يضمن الوساطة بين معرفتنا وقدرتنا التقنية من جهة،
وبين معرفتنا وإرادتنا من جهة أخرى. إن هذه المناقشة يجب ألا تبقى بلا
نتائج سياسية وعليها أن تتيح لنا بوصفنا ذوات سياسية أن نحدد عمليًا في
أي اتجاه وإلى أي حد نرغب في تطوير معرفتنا العلمية والتطبيقات التي
تصدر عنها. وهذه العلاقة التواصلية بين الذوات في مثل هذا الحوار
العقلاني الشامل المفتوح للجميع والبعيد عن الهيمنة، سيتيح للبشر أن
يأخذوا على عاتقهم بوعي سياسي فعلي الديالكتيك الذي يحدث بين مقدرتهم
وإرادتهم والذي من خلاله يمكننا أن نرى في أي اتجاه ستمتد قدرتنا
التقنية في المستقبل.
يعمد هابرماس إذن إلى توسيع دلالي مزدوج لمفهوم العقل، ذلك أنه أدخل
فيه إرادة ذات اهتمام بالتحرر من جهة، والبعد التواصلي لحوار أُعتق من
كل استلاب من جهة ثانية. هذه العقلانية العملية التواصلية تتيح
لهابرماس أن يقترح للعقل برنامجًا أبستمولوجيًا من ثلاثة أقسام على
قاعدة أنثروبولوجيا معرفية يقدمها تحت عنوان المعرفة والمصلحة: فإلى
جانب العلوم التجريبية الدقيقة التي ترجع إلى مصلحة معرفية تقنية، توجد
علوم الروح (العلوم التاريخية – التفسيرية) والتي ترجع بدورها إلى
مصلحة معرفية عملية، ويقترح هابرماس مجموعة ثالثة هي العلوم الاجتماعية
النقدية التي تصدر عن اهتمام بالتحرر في إطار منهجي يقاس بمفهوم التفكر
الذاتي الذي يخلص الذات من التبعية لطغيان التقنية التي أصبحت أقنومًا،
ويتحدد التفكر الذاتي بمصلحة معرفة انعتاقية تتشاطرها العلوم النقدية
مع الفلسفة.
*** *** ***