|
إضاءات
يحظى
مصطلح "ثقافة" باهتمام متزايد في عصرنا.
والكلمة، بالعربية، هي المصدر من فعل ثَقِفَ
أو ثَقُفَ، وتحتمل معنيين: إما الحذق
والخفَّة والظُّرف في الفهم والحديث، وإما
تهذيب الشخصية الإنسانية وتأديبها والمضيَّ
بها إلى أسمى درجات الكمال – والمعنى الثاني
هو الذي سيكون موضوع حديثي اليوم.
"لسان
الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده"، تغنَّى الشاعر
العربي قديمًا. أو بتعبير آخر: المرء نصفُه
أداءٌ لساني، ونصفه الآخر ثراءٌ داخلي. فمن
قُيِّضَ له أن يجمع بينهما على درجة من الكمال
كان مبدعًا، وساهم إبداعُه في إثراء الثقافة.
والثقافة تغتني بالأفراد، لكنها تتجاوزهم.
فالثقافة جماعية بطبيعتها؛ بل إنها لا تقوم
وتزدهر، في اعتقادي، إلا إذا اندرجت في مشروع
جماعي يعبِّئ طاقات الجماعة في سبيل هدف
مشترك. قد يقوم خارج هذا المشروع فردٌ مثقف أو
مثقفون أفراد، ولكن لا يمكن أن تقوم ثقافة
متكاملة. ويعني ذلك، بالتالي، أنه قد تقوم
ثقافة أفراد، أو ثقافة نخبة محصورة العدد،
دون أن تقوم ثقافة جماعية، تشكِّل مجتمعًا
بأكمله أو بأغلبيته. وأخشى أن تكون تلك حالنا
اليوم؛ وهي أسوء الحالات في عصر تهيمن فيه
وسائلُ الاتصال بمختلف أشكالها. أصحاب
الديانتين الكبريين – الإسلام والمسيحية –
واقعون في مصيدة اللغة، لأن اللغة مصيدة، من
حيث إن الطاقة المدلولية التي تختزنها الكلمة
قد تخرج بناطقها عن القصد الذي أراده، والغرض
الذي رمى إليه. فمبدع الكلمة كثيرًا ما يقع
أسير كلمته: فبدل أن تدل عليه كلمتُه يغدو هو
دليلاً عليها – خاصة إذا كانت الكلمة موحية
بطبيعتها، وتحمل أبعادًا كثيرة قد يريد
صاحبُها بعدًا واحدًا منها – لكنها ما تلبث،
كالانشطار الذري، تولِّد أبعادًا، وتنشر
أجواء، تغريه باللحاق وراءها: لقد تفلَّتتْ
من قبضته ليقع هو في قبضتها. كلٌّ
يريد أن يكتب هذه المرحلة التي لا يمكن أن
تُسمَّى، في إطار الوضع العربيِّ الراهن،
بأقلَّ من "مرحلة الانهيار العربي". كلٌّ
يريد أن يكتبَ – فاصِلاً بين اللغة والواقع،
رافعًا راية بغداد، متأرجِحًا بين هولاكو "الوحْشية"
وهولاكو "المدنيَّة". لكن،
ما من أحدٍ يريد أن يقرأ هذه المرحلةَ، حقًّا. القراءة
مؤجَّلة. بشكلٍ أو بآخر، لسببٍ أو لآخر.
|
|
|