|
إضاءات
بناء نظام سياسي مؤسساتي في الدولة يتطلب الاعتماد على هيكلية قانونية منسجمة مع التطور الحضاري في العالم ومتطلبات المجتمع الدولي عبر منظماته ومؤسساته الشرعية. لقد عانى العراق قبل نشوئه كدولة، ومازال يعاني، من القهر والاستبداد وهيمنة الأنظمة الدكتاتورية التي تعكس انعدام دولة القانون بمفهومها الحديث. يظهر، للأسف الشديد، أن المعنيين بالشأن العراقي ومستقبل العراق من القوى السياسية والفكرية تفتقد للبرنامج السياسي وفق الأسس القانونية، الذي يعطي أملاً جديدًا للعراقيين، في بناء نظام ديمقراطي مؤسساتي، يمنح الفرصة المتكافئة لجميع القوى السياسية وشرائح المجتمع بممارسة نشاطاتها وطقوسها سلميًا، وفق ما تقتضيه المصلحة العليا للبلاد وبالشكل الذي ينسجم مع التطور للأنظمة السياسية في العالم. وقد تكون الطائفية السياسية التي شجعها وجذرها الاحتلال من أهم الأسباب في تراجع بناء النظام السياسي الديمقراطي المؤسساتي (دولة القانون).
بورك شباب تونس وبورك جيشها، بحدس ووعي لا زغل فيهما رسما الطريق إلى مستقبل عربي لائق. فالشباب أدرك بالغريزة أن التغيير الحقيقي لا يتم إلا بالشعب ولمصلحته العليا وبوسائله الطبيعية: مجابهة لا هوادة فيها بدون عنف مسلح، إجماع على مبادئ المواطنة وعلى رأسها الحرية، الاحتفاظ بالمبادرة لئلا يتسلق فرد أو فئة على أكتاف الشبيبة، وترميم مؤسسات الدولة دون الانسياق إلى وهم خلق الوطن من لاشيء. أما جيشها فأدرك أنه سياج الوطن والمجتمع لا مؤسسة ريعية أو مجيرة لمصالح فئوية. ولذلك لم ينقد للغريزة الانقلابية التي ترسخت في مجتمعاتنا منذ نصف قرن بحجة إنقاذ الوطن من المضللين (بفتح اللام أو كسرها)، معتبرًا، في تقديري الشخصي، بمغامرة الجيش الجزائري حين ألغى الدورة الثانية من انتخابات عام 1991 فجرَّ البلاد إلى قعر مأساة نلمس الآن بعض نتائجها المدمرة. ولم ينحز، من جهة ثانية، إلى سلطة فقدت شرعيتها حين تناست وظيفتها الطبيعية.
المشفى في اللهجة الشامية مكان الشفاء وهذا غير مؤكد. المستشفى عندنا المكان الذي يلتمس فيه الشفاء وربما من الأطباء. هذه المؤسسة قديمة في الإسلام وفي القدم نفسه تقريبًا في أوروبا. طبعًا هذا كله إلهامه ديني. لذلك سميت المؤسسة في الغرب أوتيل ديو أي فندق الله أو بيت الله إذ المريض من هموم الله. من كانت علته شديدة يذهب به من بيته إلى هذا الموضع الذي يتجمع فيه السقماء ليعرف الطبيب حالهم الصحية ويقدم لهم وسائل السلامة لكون السلامة مبتغى العليل والمعالج معًا. وكلاهما يكافح الموت. وعندما تبطل عند المريض خشية الموت يواري الإنسان مأواه. من ثبتت عنده سلامته يلازم بيته. هناك دائمًا صراع عميق في النفس، ولو على شيء كبير أو قليل من الوضوح، أننا في الاعتلال على طريق الموت أو لم نسلكه بعد. وإذا وصل الإنسان إلى تأكيد الحياة فيه يلازم بيته ويستغني عن المؤسسة. المستشفى إذًا تحديدًا مؤسسة الموت نستقبله أو نحاربه. هي ليست مكان استجمام أو راحة. هي مشوار بين القياس وانكسار القياس حتى إذا سلم الإنسان من بعد علاج يتحرر من صورة المستشفى.
تذهب الفلسفة بعيدًا في مسك المرامي القصية لمباحثها المختلفة، وإذا جاز لنا الخوض في مشكل (التقويم) الذي يذهب مداه الأبعد إلى وضع الأشياء في تقديراتها الصحيحة، فإن ما نريد الوصول إليه هو أن هذا التقويم يعد البوصلة التي ترشدنا، أو هو المهماز الذي نتلمس بواسطته الغاية المبتغاة، أو أنه فيما يتبدى فلسفيًا الغاية ذاتها، وهذه الغاية بذاتها التي تدخل حيز التطبيق الفلسفي؛ أما إذا أردنا الذهاب أبعد من ذلك والوقوف على التقسيمات الفلسفية التي ترد إليها الغاية بذاتها، فهي تعود من حيث الأصل إلى الحق والخير والجمال؛ فمجموعة هذه القيم عبارة عن قيم ذاتية أو ما اصطلح عليه بالقيم الداخلية، إذ إنها تقابل داخل الدائرة الفلسفية قيمًا خارجية، فإذا ما أخذنا (الورد) على سبيل المثال لا الحصر فإنه قيمة ذاتية أي إن المظهر الجمالي فيه لا يتعداه، أما قيمة (الحصان) فيكمن فيما يؤديه من خدمات لغيره. وإذ نحن بهذا الصدد فلا بد لنا من أن نؤصل موضوعة (الخير) التي تعود إلى فلسفة الأخلاق وموضوعة الجمال التي تعود إلى فلسفة الجمال، أما قضية الحق والصواب فتعود إلى علم المنطق. عود على بدء نقول إن فلسفة الأخلاق تتبار في الشروط التي تتوافر في الأفعال الإنسانية لكي تصبح موضوعًا خلقيًا أو هي "العلم الذي يضع المثل العليا التي ينبغي أن يسير السلوك بمقتضاها".
إن طرح مسألة الأحوال العامة المسيطرة على بلادنا من زاوية الخوف يجب أن يظل نسبيًا. فعندما ننظر إلى الوضع على مستوى الزمن اليومي والآني المتسارع نجد أن الخوف يجد لنفسه مبررات جدية. لكن اتخاذ بعض المسافة والنظر إلى الأمور على المدى البعيد والمتسم بالبطء بحسب بروديل، يجعلنا نجد ما يهوِّن من مخاوفنا. يلعب المثقف، عبر تموضعه المفترض كوسيط فاعل بين المجتمع والسلطات القائمة فيه، دورًا محوريًا في إحداث دينامية تساهم في عملية التغيير التي تسمح بنهوض هذا المجتمع الذي ينتمي إليه. هذا ما برهنت عليه تجارب الشعوب عمومًا، وتجربة العرب أنفسهم في عصورهم الذهبية. لكن الملاحظ تعثُّر هذه الدينامية راهنًا، وعقم محاولات التغيير الراهنة؛ مع أن بدايات تشكل الدولة الوطنية في المجتمعات العربية كانت واعدة وشهدت بدايات القرن العشرين انطلاق مشاريع تنموية على قدر من الجدية بحيث أن الرهان حينها بين المراقبين ومتتبعي حركة المجتمعات وديناميتها، كان لمن يكون السبق في النمو، لليابان أم لمصر! فلننظر أين أصبحت اليابان اليوم وأين أصبحت مصر، وارثة حضارة الفراعنة العظيمة وكبرى الدول العربية حجمًا وإمكانات مهدورة!
لست أخفي أنِّي (افتراضيًّا) – كمعظم أبناء مدينتي – غير معجب بِمَنْ يحكمونها ويديرون شؤونها، وأنِّي، في أحسن الأحوال، قد مللتُهم، ما يجعلني أحلم بتغييرهم. ولست أخفي أيضًا أنه (افتراضيًّا طبعًا، وبالتأكيد) لو كان في وسعي التعبير عن رأيي هذا في حرية، ولو كان في وسعي العمل على تغيير واقع الحال هذا، لسارعت إلى القيام بذلك في حدود الممكن، وبأفضل الطرق وأكثرها رقيًّا وإنسانية، فانتخبت لقيادة مدينتي، من بين مرشحين أحرار فعلاً، مَن أعتقد أنهم الأفضل (من حيث المناقب ومن حيث البرامج التي يضعونها) لتمثيلي وللتعبير عن مصالحي وتطلعاتي في إدارة شؤونها. ولكن...
بعد عشرة أيام من السجن يطل وجه وائل غنيم أمام الحشد مستغربًا شبه مذعور من حماسة المستقبلين: لست بطلاً، لست بطلاً! والبطولة لا أحد يدعيها من شباب هذه الحركة، مع أن أداءها المتقن الذي لم يتعثر مرة واحدة يوحي ببطولة مدهشة. فلعل سرها الحميم في هذا الموقف الجماعي المنبعث من وعي جميل عنوانه العقد المدني. ينبئ نجاح الحركة الشعبية في مصر بعد تونس بمرحلة جديدة حبلى بتحولات جذرية لم تتكشف ملامحها بعد ولن تقوى المؤسسة التقليدية مهما بلغت سطوتها على تجييرها أو ردعها. إنها تشكل منعطفًا لا مرد عنه، بل ثورة في مفهوم الثورة التقليدي منذ بداياتها عام 1789 في فرنسا، تعيد تأسيسه على العقد المدني بعد أن قام واستتب في المجتمع العربي على نخبوية التنوير المتماهية أحيانًا مع نبوية تقدس الفرد، من قائد ملهم إلى مفكر فذ إلى نبي.
مؤخرًا أعلن كلٌّ من ولسون ولويد جورج عن عزمها الذي لا يلين لمواصلة القتال حتى النصر النهائي، وفي الهيئة التشريعية الإيطالية عومل الاشتراكي مرغاري كمجنون لأنه تكلم بضعة كلمات إنسانية طبيعية. واليوم وبثقة غبية بالنفس ينفي مبعوث وولف الإشاعة عن وجود مُقترح ألماني جديد للسلام: "ألمانيا وحلفائها ليس لديهم أدنى سبب لكي يكرروا عرضهم الشهم للسلام". بعبارة أخرى يستمر الوضع كما كان عليه، وإذا ما حاولتْ ورقة عشب وديعة أن تشق التربة فإن جزمة عسكرية سوف تسحقها على الفور. أيضًا، وفي الوقت نفسه، نقرأ بأن مفاوضات السلام قد بدأت في برست–لتوفسك، وأن السيد كوهلمن افتتح الجلسة بالإشارة إلى أهمية عيد الميلاد، وتحدَّث بكلمات من الإنجيل عن السلام على الأرض، فإذا كان يعني ما يقول، وإذا كان لديه أدنى فهم لتلك الكلمات الهائلة، فإن السلام محتوم. لكن، لسوء الحظ، فإن تجربتنا عن الاقتباسات المأخوذة من الكتاب المقدس التي يتفوه بها رجال الدولة غير مشجعة حتى الآن.
قليلةٌ جدًا، في حدود علمي، إن لم تكن منعدمة، تلك الدراسات التي تعالج، فلسفيًا وحقوقيًا، مفهوم السلطةِ عندنا نحن العرب، ومكانَ الإنسان فيها، ومعناها، ثقافيًا واجتماعيًا وحضاريًا (السلطة شيء، والسياسة شيء آخر). الأبحاث التي قام بها خبراؤنا في علوم السياسة والدولة، لا تتعدى وصف الممارسات، وسَرْدَ الأشكال، وكيفيات تداول الحكم: بقيت في حدود الظاهر المباشر، ولم تتجاوزها إلى الخوض في الأسس والدلالات. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تبدو الحاجة مُلِحَّةً إلى أن نعرف لماذا تتغيَّر أشكال الحكم عند العرب، ويتغير رجالُه، لكن السلطة تبقى هي هيَ: واحديَّةً، وطغيانيَّة؟ ولماذا لم نَنجحْ، نحن العرب، منذ خمسة عشر قرنًا حتى الآن، في إقامة دولةٍ مدنيَّة، بالمعنى الحقوقي الإنساني المعروف، والمتَّفق عليه، كونيًا؟
في القرن الثامن عشر، وفي انطلاقة الدفاع عن سلامة النفس والجسد في أوروبا، نشأ تحالف بين داعية حنبلي من آل شيخ ومحمد بن سعود على قاعدة الدم بالدم والهدم بالدم باستعارة جملة محمد بن عبد الوهاب نفسه. وكما يقول مؤرخو الوهابية، فقد أنكر ابن عبد الوهاب الشرك والبدع، و"أمر الناس بالمعروف، وألزمهم به بالقوة فمن أبى المعروف الذي أوجبه الله عليه، ألزم به وعزر عليه إذا تركه ونهى الناس عن المنكرات، وزجرهم عنها، وأقام حدودها. مثل قتل الساحر وجلد المخمور وقطع يد السارق ورجم الزاني المحصن". كان يمكن لهذه المدرسة أن تخمد في جزيرة العرب، إلا أن الحرب المقدسة التي خاضتها قامت بدور تاريخي يذكر لها هو توحيد الجزيرة العربية. ثم جاءت الثروة النفطية لتجعل منها إيديولوجية محافظة ضرورية للتصدير لمواجهة المد التقدمي في العالمين العربي والإسلامي.
أجدني، بادىء ذي بدء، أعود، في هذا الخصوص، إلى ما عبَّرتْ عنه، في منتهى البلاغة، سيمون ڤايل حول حاجة الإنسان إلى الأمن حين قالت: الأمن حاجةٌ أساسية للنفس. ويعني الأمنُ عدمَ وقوع النفس تحت وطأة الخوف أو الرعب، إلاَّ إثْرَ اتِّفاق ظروف عرَضية ولفترات نادرةٍ وقصيرة. فالخوفُ أو الرعبُ، كحالاتٍ نفسيةٍ تدوم طويلاً، هما نوعان من السم قاتلان أو يكادان يقتلان، سببُهما احتمالُ البطالة أو القمعُ البوليسي أو وجود محتَـلٍّ أجنبيّ أو توقُّعُ اجتياح محتَمل أو أيُّ بلاء آخر يبدو أنه يتجاوزُ الطاقةَ البشرية. كان الأسيادُ الرومانُ يَعرِضون سوطًا في البهو على مرأى العبيد، مع العِلْم أنَّ هذا المشهدَ يضع النفوسَ في حالةٍ بين الحياة والموت الضروريةِ للرِّق. من جهة أخرى، ينبغي على البارِّ، عند المصريين [القدماء]، أنْ يتمكَّنَ من القول بعد الموت: "لم أسبِّبِ الخوفَ لأحد." حتى وإنْ لم يكن الخوفُ سوى حالةٍ كامنة، بحيث لا يشعرُ به المرءُ عذابًا إلاَّ نادرًا، فإنه دائمًا مرَض. إنه نصفُ شللٍ للنفْس. مشيرًا إلى أن الموضوع الذي سأتناوله في هذه المقالة هو موضوع مبدئي وإشكالي وفي منتهى الأهمية.
|
|
|