|
متطلبات دولة القانون
بناء نظام سياسي مؤسساتي في الدولة يتطلب الاعتماد على هيكلية قانونية منسجمة مع التطور الحضاري في العالم ومتطلبات المجتمع الدولي عبر منظماته ومؤسساته الشرعية. لقد عانى العراق قبل نشوئه كدولة، ومازال يعاني، من القهر والاستبداد وهيمنة الأنظمة الدكتاتورية التي تعكس انعدام دولة القانون بمفهومها الحديث. يظهر، للأسف الشديد، أن المعنيين بالشأن العراقي ومستقبل العراق من القوى السياسية والفكرية تفتقد للبرنامج السياسي وفق الأسس القانونية، الذي يعطي أملاً جديدًا للعراقيين، في بناء نظام ديمقراطي مؤسساتي، يمنح الفرصة المتكافئة لجميع القوى السياسية وشرائح المجتمع بممارسة نشاطاتها وطقوسها سلميًا، وفق ما تقتضيه المصلحة العليا للبلاد وبالشكل الذي ينسجم مع التطور للأنظمة السياسية في العالم. وقد تكون الطائفية السياسية التي شجعها وجذرها الاحتلال من أهم الأسباب في تراجع بناء النظام السياسي الديمقراطي المؤسساتي (دولة القانون). لقد وجدت من المفيد مناقشة العلاقة بين الدولة والقانون، وبشكل مختصر، وصولاً إلى تسليط الضوء على العلاقة بين السلطة والقانون وبالتالي ماهي طبيعة النظام السياسي الحالي وفق هذه المعطيات. مفهوم الدولة الدولة مفهوم معقد خضع لتغيرات مختلفة أثناء دورة تطور المجتمعات وتبعًا لاجتهادات وتحليلات الفقهاء والفلاسفة والتجربة عبر التاريخ، إلا أن هناك شبه اتفاق على عناصر الدولة الرئيسية المتمثلة بـ: الشعب والأقليم والسلطة. ورغم أن هذه العناصر أساسية لنشوء الدولة من الناحية الفعلية، إلا أن تحققها لا يعني بالضرورة وجود الدولة من الناحية القانونية، إلا في حالة الاعتراف بها من قبل المنظمات الدولية وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. والدولة هي شكل من أشكال التضامن الاجتماعي الذي يتميز عن التجمعات العادية الأخرى، بوجود هيئات منظمة لها نفوذ أو سلطة بحدود أقليم الدولة المعترف بها. تمثل السلطة النظام السياسي للبلد، والتي من خلالها تجري ممارسة النشاطات المختلفة على جميع الأصعدة تلبية للحاجات المختلفة في الدولة سواء كان ذلك على نطاق الشعب أو الأقليم وعلى الصعيدين، الداخلي والخارجي. لذا فإن السلطة من أهم عناصر الدولة، وتبعًا لهذا العنصر (السلطة) تتحدد طبيعة النظام السياسي في الدولة، دكتاتوريًا كان أو ديمقراطيًا. وبسبب ضعف العلاقات الدولية للفترة ما قبل القرن التاسع عشر، لم يكترث القانون الدولي بشكل الأنظمة السياسية (دكتاتورية أو ديمقراطية)، بقدر اهتمامه بمدى سيطرتها الكاملة على وحدة الأقليم وإدارة الشؤون الداخلية من خلال هيئاتها المختلفة. إلا أن الأمر اختلف جذريًا وبشكل تدريجي خاصة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية واضمحلال دور الأحزاب الأيديوجية التي تؤمن بسيطرة الحزب الواحد وقيادته للنظام السياسي في الدولة. مفهوم القانون منذ أواخر القرون الوسطى، استقر المجتمع الدولي على تجاوز مرحلة القوانين اللاهوتية والميتافيزيقية واعتماد القوانين الوضعية. والقانون الوضعي هو خلاصة الفلسفة الوضعية في تفسير الظواهر الاجتماعية من خلال التجربة والاستقراء، فلم يعد القانون مجرد تصورات وتأملات غيبية تفرضه مفاهيم دينية أو عقائدية معينة، وإنما هو علم يقوم على الملاحظة في تشخيص الظواهر الملموسة أو المحسوسة عن طريق معايشتها ومن ثم تكريسها لخدمة الدولة. كان القانون في بدايات نشوئه ينظم شؤون الحاجات الملحة في الدولة، كحفظ الأمن والنظام ومحاربة الجرائم وحماية الممتلكات. وبمرور الزمن توسعت حدوده لتشمل جميع القواعد التي ترتكز عليها السلطة لإدارة شؤون البلاد العليا، وكل ما يتعلق بالشؤون الحياتية للأفراد منذ تكوين الفرد في رحم أمه كجنين، وإلى ما بعد وفاته فيما يتعلق بدفنه وتصفية تركته. ثم تجاوز القانون حدود تنظيم شؤون المؤسسات والأفراد داخل الدولة ليحكم العلاقات بين أعضاء المجتمع الدولي. وعليه فإن القانون من الأهمية بمكان بحيث أصبحت له مظاهر عديدة تتدخل لتنظيم جميع المفاصل في الدولة: القانون الدولي ينظم شؤون العلاقات الدولية. القانون الدستوري ينظم شؤون السلطات والشؤون السياسية العليا في الدولة. قانون العقوبات ينظم شؤون الجريمة والعقوبة. القانون المدني ينظم الإلتزامات وحقوق البيع والشراء والإيجار وغيرها. وهناك المئات من القوانين التي تنظم جميع الشؤون الأخرى في المجتمع. وبما أن القانون لا وجود له إلا من خلال السلطة، وأن السلطة لا يمكن أن تمارس واجباتها إلا من خلال القانون، فإن القانون شرط أساسي لاستمرار السلطة وبالتالي فأنه هو الأداة لتشخيص طبيعة السلطة في الدولة. بعبارة أخرى، إن كيفية تشريع القوانين كفيلة بتشخيص طبيعة النظام السياسي السائد في الدولة. السلطة والقانون مما تقدم يتضح لنا أن السلطة والقانون من أهم مقومات الدولة، وأن طبيعة العلاقة بينهما تحدد مدى الاقتراب من المفاهيم الحديثة لها، وبالتالي يتضح مدى أهمية صناعة القوانين بما ينسجم مع متطلبات وحاجات المجتمع. هذا الترابط العضوي بين السلطة والقانون مرَّ بمراحل مختلفة عبر التاريخ: كان الفلاسفة والمفكرون وفقهاء القانون في القرون الوسطى يروجون لإرادة الحاكم المطلقة في تشريع القوانين ومنهم المفكر الأيطالي ميكيافلي (1469-1527) والمفكر الفرنسي جان بودان (1530-1596) اللذان أكدا على ضرورة دمج السلطة بالدولة التي تمثلها إرادة الحاكم المطلقة في تشريع ما يشاء من القوانين لتوطيد سلطانه دون اكتراث بمطاليب الشعب. وظهر فيما بعد فلاسفة بريطانيون أمثال توماس هوبز (1588-1679) وفقهاء أمثال جون استن (1790-1859) الذين كانا بنفس الاتجاه في تمجيد إرادة الملوك والحكام. لقد وجدت هذه الأفكار أرضية لها في الفكر القومي الألماني في القرن التاسع عشر من خلال الفلسفة الهيغلية (1770-1838) التي جاءت لتمجد سلطة الدولة والتي كان لها تأثير في ظهور حركة التوحيد التي قادها بسمارك في نهاية القرن التاسع عشر. كما ظهر فلاسفة ألمان كالفيلسوف أهرنك (1818-1892) الذي طور وعمق هذه النظرية وأطلق عليها HERRSCHOFT THEORY وأصبحت هذه النظرية الأساس لأفكار النازية لتنفيذ مآربها دون الأكتراث بأبسط حقوق الإنسان. ومن جانب آخر بلورت الماركسية أفكارها عبر البيان الشيوعي لعام 1848، حيث شخصت طبيعة الدولة بأنها تجسيد لسلطة الحاكم المستبد، وأنها أداة للقهر والظلم. إلا أن الماركسية جاءت ببديل في تكريس دمج السلطة بالدولة من خلال سيطرة الحزب الواحد تحت قيادة "دكتاتورية البروليتاريا" التي أصبحت السلطة المطلقة في تشريع القوانين باعتبارها الممثلة الحقيقية لإرادة الشعب – على حد تعبير الماركسية. واستمرت دوامة تمجيد سلطة الدولة عبر القرن العشرين من خلال الأحزاب النازية القومية والأحزاب الطبقية (الشيوعية). وبالرغم من انتهاء دور تلك الأحزاب تاريخيًا، إلا أن مخلفاتها مازالت موجودة في بعض الدول التي تشكل الأحزاب الشمولية، كحزب البعث، نموذجًا لها، فهو يرى بأن الدولة هي السلطة السياسية التي تقوم بجميع الوظائف في الدولة "التشريعية والتنفيذية والقضائية"، ولا محل للاستقلال أو الفصل بين هذه السلطات، وبالتالي فإن القوانين ما هي إلا ترجمة لإرادة السلطة السياسية (انظر قانون اصلاح النظام القانوني لعام 1977). في المقابل، إلى جانب ظهور الأفكار والأحزاب النازية والطبقية في القرن التاسع عشر، تعمقت الأفكار الديمقراطية، وظهر فلاسفة يدعون إلى الفصل بين السلطة والدولة وتقييد سلطات الحاكم، أمثال الفيلسوف البريطاني جون لوك (1632-1704) والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778) الذين طورا نظرية العقد الاجتماعي وأكدا على أن الشعب هو مصدر جميع السلطات في الدولة، وأن القوانين يجب أن تكون انعكاسًا لإرادة الشعب وليس لإرادة الحكام، وأن العلاقة بين الشعب والحكام علاقة تعاقدية تفرض على الطرفين حقوقًا وواجبات مما لا يجوز لأي منهما تجاوزها، وبالتالي فإن للشعب الحق في فسخ هذه العلاقة التعاقدية والمجئ بحكام جدد دون المساس بكيان الدولة وكذلك القوانين التي شرعت من قبل السلطة التشريعية (البرلمان) في الدولة. لقد تبلورت فكرة الشرعية من خلال انتشار هذه الأفكار على النطاق العملي، ومن خلال التحول إلى الأنظمة الديمقراطية التي تعتمد مبدأ الفصل بين السلطات وصناديق الاقتراع للوصول إلى السلطة وتداولها سلميًا. الخلاصة تؤكد لنا التجربة في العالم أن الأنظمة السياسية المبنية على أساس اندماج شخص الحاكم أو الحزب كسلطة في الدولة، واتخاذ القوانين كقواعد فوقية لتكريس الهيمنة والقهر وهدر حقوق الإنسان، أصبحت متخلفة عن ركب التطور الحضاري في العالم، وأن بقايا هذه الأنظمة لا مكان لها بين أعضاء المجتمع الدولي، وعلى الأنظمة المعنية أن تفكر وتصحو من سباتها وتتجه نحو التغيير قبل فوات الأوان وقبل أن تستلم الشعوب زمام المبادرة في التغيير بما ينسجم مع تطلعاتها نحو الحرية والديمقراطية. إن اطلاق التسميات (دولة القانون) جزافًا كما يفعل الحزب الطائفي الحاكم في العراق، لا يستطيع أن يموه الحقيقة القائمة على دمج الحزب الحاكم بل الشخص الحاكم كسلطة في الدولة وذلك من خلال السيطرة على جميع السلطات في الدولة ومؤسساتها الحيوية كالجيش وقوى الأمن الداخلي والخارجي وتسخيرها لتقوية مآربه الدكتاتورية بشكل تدريجي واضح للقاصي والداني. وستكون مثل هذه الدكتاتورية (دكتاتورية الطائفية السياسية) من أشرس أنواع الدكتاتوريات على الإطلاق في العالم، لما سترتكبه من مجازر وإبادات جماعية لخصومها من الطوائف الأخرى، وإن المؤشرات واضحة على مدى الثمان سنوات الماضية. في نفس الوقت ندعو قوى التغيير أن تكون بمستوى المسؤولية في تعميق مفاهيم دولة القانون والسعي إلى تبني برنامج سياسي للتغيير يكون للقانون بمفهومه الليبرالي دوره الفاعل في ارساء جميع المؤسسات في الدولة، وليكن العراق النموذج المتميز في المنطقة بعد التخلص من النظام الدكتاتوري الطائفي الحالي وإنهاء دورة العنف الدموي وتحريم جميع ألوان الأحزاب الطائفية والعنصرية من ممارسة أي نشاط سياسي في العراق. ٭ رئيس جمعية الحقوقيين العراقيين-بريطانيا.
|
|
|