الثورة عقد مدني وإلا فلا، وكذلك الدولة

 

بطرس الحلاق

 

بورك شباب تونس وبورك جيشها، بحدس ووعي لا زغل فيهما رسما الطريق إلى مستقبل عربي لائق. فالشباب أدرك بالغريزة أن التغيير الحقيقي لا يتم إلا بالشعب ولمصلحته العليا وبوسائله الطبيعية: مجابهة لا هوادة فيها بدون عنف مسلح، إجماع على مبادئ المواطنة وعلى رأسها الحرية، الاحتفاظ بالمبادرة لئلا يتسلق فرد أو فئة على أكتاف الشبيبة، وترميم مؤسسات الدولة دون الانسياق إلى وهم خلق الوطن من لاشيء. أما جيشها فأدرك أنه سياج الوطن والمجتمع لا مؤسسة ريعية أو مجيرة لمصالح فئوية. ولذلك لم ينقد للغريزة الانقلابية التي ترسخت في مجتمعاتنا منذ نصف قرن بحجة إنقاذ الوطن من المضللين (بفتح اللام أو كسرها)، معتبرًا، في تقديري الشخصي، بمغامرة الجيش الجزائري حين ألغى الدورة الثانية من انتخابات عام 1991 فجرَّ البلاد إلى قعر مأساة نلمس الآن بعض نتائجها المدمرة. ولم ينحز، من جهة ثانية، إلى سلطة فقدت شرعيتها حين تناست وظيفتها الطبيعية.

وكذلك فعلت شبيبة مصر وجيشها في سياقهما الخاص. وعلى هذا نرجو أن تستمر شبيبة اليمن، التي التزمت بعقد مدني لاعنفي مع أن السلاح متوفر لديها كالهواء وتداوله آهون عليها من مضغة قات. وكل البوادر تبشر بأن جيشها سيبقى وفيًا لشعبه ومتقيدًا بشرفه العسكري. وقد يقرر التاريخ لاحقًا، بعد انقشاع المأساة عن شعب ليبيا بما فيها تدخل دولي غير مأمون العواقب، أن الشبيبة ربما استعجلت في الانسياق إلى العنف المسلح في مجابهة حاكم أرعن متستر بثياب ثوري، ارتأى نفسه نبيًا يبتدع نظامًا – هو الجماهيرية – ما أنزل العقل فيه من سلطان، ويسن نظرية – هي الكتاب الأخضر – تعتمد الهلوسة بدل الفكر وتذل المواطن لترفع من شأن صاحبها. نترك الحكم للتاريخ، علمًا أن الالتفاف على انتفاضة البحرين، باللجوء إلى "درع" لا تقي الجزيرة ولا الخليج بقدر ما تقي مصالح أهل الحكم وهيمنة أجنبي نصِّب رقيبًا على توازنات إقليمية هشة، قد يقوم حجة عند بعضهم على ضرورة استعمال العنف.

ما أمس حاجة سورية اليوم إلى التحلي بهذا الوعي النبيل. فالبلد على شفير الهاوية، بعد سلسلة من المآسي المتواترة، حفزتها الانقلابات العسكرية المتتالية منذ فجر الاستقلال، واستفحلت بعد انفصام الوحدة مع مصر. فهلا أدركت الشبيبة أن المطالبة بالكرامة، كرامة المواطن والإنسان – وطالما افتقدناها! – لا تستقيم واللجوء إلى سلاح كان سبب فقدانها، ولا تتعايش مع أي موقف فئوي، ناهيك عن أي ضغينة تجاه أي مجموعة من أبناء الوطن! وهلا اعتبرت بشبيبة تونس ومصر التي عرفت كيف تتجاوز التشكيلات الحزبية والفكرية القائمة لتخرج من حلقة مفرغة من تجاذبات عقائدية (تدور عادة في عالم من المطلق: قومجية، ماركسوية، إسلاموية، ليبرالية هوجاء...) جمدت الحراك الشعبي، لتعيد الحياة إلى نخبنا المترهلة. فالعقد المدني يقتضي لم الشمل بالترفع عن هوى الانتقام للدفاع عن المصلحة العامة، واعتماد معايير نضالية جامعة تستبعد العنف بشكل قطعي. رحم الله أرواح ضحايانا الغوالي، ولن نكون أوفياء لذكراهم إلا ببناء وطن لا يسمح أن يتكرر مثيل لمأساتنا بهم.

وهلا أدرك المسؤولون أن الشعب ليس بالضرورة أداة مشاعة بيد الخصم الوطني أو العدو الخارجي، ولا كائنًا منفلت العقال ينساق بالفطرة إلى العصبية العمياء والهيجان الطائفي، كأن لا وعيًا ذاتيًا يحصنه ضد أصحاب الهوى، ولا شعورًا بالمسؤولية تجاه أهله الأقربين والأبعدين يهديه إلى الصواب، ولا تطلعًا إلى عيش كريم بالتواصل مع أبناء الوطن يستحر بين ضلوعه. فالشعب – ومنه خرجوا – هو الركيزة وعليه تشاد كل شرعية. وهلا عرفوا قبل فوات الأوان ألا يفرطوا برصيد إيجابي يحسب لهم عند المواطنين، يقوم على أمرين: أولهما عدم الرضوخ لابتزاز بعض القوى العالمية المهمينة حفاظًا على سيادة القرار الوطني في القضايا الأساسية وعلى رأسها قضية فلسطين. وثانيهما رضى الأهل، رغم كل شيء، عن سياسات جنبتهم حروبًا أهلية اجتاحت الجوار ولولا ستر الله ووعي المواطن لقوضت مصير الوطن. ألا إن أبغض الحرام عند الوطن حرب (أيًّا كانت دعواها) تزج بالمواطن دون أن يدري ضد جار له لا يختلف عنه إلا بانتماءات ثانوية ليس له فيها من قرار.

غير أن الإجماع على ثوابت وطنية تجاه العربدة الإسرائيلية والداعمين لها، الذي منه يستمدون قسطًا من شرعيتهم، لا يقوم مقام صك تخويل بالتصرف الكامل في أمور الوطن وإلى أجل غير مسمى. فالشبيبة – وبعضهم غير بعيد العهد بها – لا تستنيم إلى حالة الركود مهما حلت ولا تطمئن إلا إلى حراك مستمر، هو جوهر الحياة – قالها الشابي الحاضر اليوم بقوة حدسه: فَما الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِ. إن الحفاظ على السلم الأهلي يقتضي الآن الخروج من القوالب الآسرة التي فات أوانها ولا تعد إلا بمزيد من الانفجار، والمبادرة إلى موقف حراكي حواري. كما أنه يحتم ابتكار أواليات جديدة، مع الشعب وله، تضمن قيام دولة القانون والحرية والمصلحة العامة، أي دولة مبنية على عقد مدني يجمع عليه المجتمع، وبأسرع من يمكن. لا بأس من تقديم تسهيلات اقتصادية لمواطن ينزلق يومًا بعد يوم إلى مستوى الفقر وأحيانًا البؤس. لكن ذلك التدبير يبقى مرهمًا مسكنًا لا يجدي ما لم يعالج الشر من أصله بتدابير عاجلة:

-       مكافحة الفساد بشكل جذري – أي باقتلاعه من جذوره الضاربة في صلب الاقتصاد السياسي، حيث يختلط المال العام بالمال الخاص – بحيث توظف الثروة الوطنية في سبيل الإنماء المتكامل.

-       استقلالية الهيئة القضائية لتصبح قادرة على تنفيذ القانون دون الرضوخ لأصحاب نفوذ يضعون أنفسهم فوق القانون.

-       إفساح المجال للتعبير الحر، وفقًا للمعاهدات الدولية، حتى ينظم المجتمع نفسه في تيارات سياسية سلمية، منبثقة بالحوار من إرادة الشعب، كما في جمعيات أهلية غير سياسية تعمل في المجال المدني.

-       الإعداد لانتخابات نزيهة على كافة المستويات – بعد رفع حالة الطوارئ – قائمة على معايير المواطنة التي أجمع عليها الشعب السوري منذ الاستقلال.

ولا بد، وبموازاة ذلك، من إيجاد الطريقة الأنجع، وبموافقة كافة الفئات، لإعادة الجيش لوظيفته الطبيعية قبل أن يزج في المنطق الانقلابي، وذلك بفصله عن الميدان السياسي، لكي يبقى درعًا للوطن يقي حدوده من الأخطار الخارجية، وسياجًا للمجتمع يحميه بكافة أطيافه ومكوناته التاريخية وتعدديته – تعددية هي مصدر ثراء إنساني خوَّل منطقتنا هذه أن تكون مهدًا رئيسًا للحضارة الإنسانية جمعاء؛ تعددية تصبح حين تتردى عامل تفتيت طالما استغله الأجنبي والمغامر. جيش سياج للوطن يحمي المستضعفين منا – ألسنا كلنا مستضعفين بشكل أو بآخر في نسيج تعددي؟ ومن هذا المنظور، يتضح اليوم أن انجاز أتاتورك التاريخي لا يقوم على تدابير علمانية شكلية فرضت قسرًا، بل بالأحرى على تهيئة جيش تركيا الحديثة ليصبح قادرًا على السهر على المصلحة العليا دون المصلحة الفئوية، مما خلق المناخ الملائم لقيام تيارات سياسية لافئوية عبرت عن رغبات الشعب وسهلت التدوال السلمي للسلطة، بل ساهمت في تطوير تيار ديني متصلب في تحيزه إلى تيار وطني ديمقراطي، هو حزب أردوغان الذي لا يزال منذ عدة دورات انتخابية يحظى بثقة الشعب، بعد أن أعد تركيا لتصبح قوة اقتصادية وسياسية فاعلة تحمي مصالحها، فيما تساهم على نحو إيجابي في حل القضايا المستعصية في المنطقة (مما يمهد لقيام مجتمعات ديمقراطية نامية). النموذج التركي إياه هو الذي أنار، باعتقادي، مسار الجيشين التونسي والمصري، ولولا موقفهما النبيل لما تم ما تم.

العملية معقدة والطريق طويلة. وإيانا من استعجال طائش أهوج. المهم هو المبادرة إلى الشروع بها فورًا. فالتواني ليس في مصلحة أحد، سوى المتربصين الشامتين والمستهترين. ذلك هو الثمن الذي يجب أن يبذل لتبقى سورية وفية لنضال أجيال من الشرفاء لم يوفروا دونه أعمارهم وغالبًا ما كانت غضة (رحمك الله، يوسف العظمة، تضحي بشبابك، ودون غيرك من مسؤولين، لتنير مستقبل شعبك)، وأمينة لتاريخ نهضوي، به يعتد رغم عثراته كل سوري بلا استثناء.

ولا يجوز أن يتناسى أحد أن عهد أبوية النخبة، سياسية كانت أم فكرية، دينية أم اقتصادية، طبقية أم ثقافية، قد ولى أو كاد. وأنه لا بد من استبدال العلاقات العمودية الهرمية بعلاقات أفقية تواصلية، ينم عنها ذلك الولع الهائل لدى الشبيبة بالتواصل عبر الشبكات الالكترونية، ويشرِّع لها توق إنسان العصر إلى التحكم بمصيره الفردي والجماعي، توق رأينا ملامحه فى تجاعيد وجوه مسنين وعجائز طافوا شوارع تونس والقاهرة ومدن أخرى... إلى جانب أبنائهم وأحفادهم.

السماء تنزل الوحي لمن يتقبله بحريته المطلقة، لكنها، ومنذ انقضاء القرون الوسطى ولا سيما منذ انتصار الثورة الفرنسية بقيمها الجامعة، تخلت للإنسان عن مسؤولية بناء عالمه. فله ألا يخطئ السبيل، وإلا فعليه تقع الواقعة. في ذلك عظمته مقابل بؤسه المحتمل.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود