|
إضاءات
بعكس أولئك الذين انخرطوا انخراطًا تامًّا في مسار الثقافة العربية الإسلامية التقليدية، فشكَّلوا بذلك عقبةً كأداء في طريق أيِّ توجُّه نحو الحداثة أو الاندراج في ثقافة الألفية الثالثة من عصرنا، الذين يرفضون رفضًا متشددًا تصحيح مسارهم أو العودة النقدية إلى ذاتهم، وكذلك بعكس أولئك الذين أداروا ظهورهم للثقافة العربية الإسلامية وتعاملوا معها بتعالٍ وعنجهية بحجَّة انشغالاتهم الثقافية بمواضيع المُعاصَرة – بعكس أولئك جميعًا، نجد محمد أركون يسعى مناضلاً ليتبوأ موقعه المتمايز في ميدان المعرفة: فلا هو في المعسكر الإسلامي التقليدي ولا هو في المعسكر الحداثي، بل يحاول أن يستقل لنفسه بموقع خاص يحترم قواعد البحث العلمي، التاريخية والأنثروپولوجية، ويحمل هَمَّ المجتمعات الإسلامية في آنٍ معًا؛ وهو موقع صعب لأنه يتعرض فيه للهجوم من كلا المعسكرين!
يكاد الكلامُ على «أزمة مزمنة» تعصف بحركات المعارضة العَلمانية العربية أن يكون مسلَّمةً عامة – في أوساط المعارضين العَلمانيين قبل غيرهم. يُشار في هذا الصدد عادةً إلى ضآلة «شعبية» هذه الحركات وإلى تشرذمها المتأصِّل المؤسف. بيد أن أساس الأزمة، في رأينا، أساس فكري، يتصل بغياب أو ضحالة أو اختلاط القيم والرؤى والمفاهيم التي من شأنها أن تفعم بالحياة صورةَ مجتمع ناهض ومتحرِّر أو تشحذ إرادة قطاعات أوسع من الناس من أجل بنائه. إن أفكارًا مثل الحرية (بما فيها حرية الاعتقاد الديني) والمساواة والتسامح والمواطَنة واستقلال الضمير تبدو شاحبة أو مجردة جدًّا؛ أي أن المُثُل الأساسية لِما قد يكون مجتمعًا متحررًا وسيدًا لنفسه غير واضحة وغير محسومة، وبالطبع غير مُمأسَسة.
تَرافَقَ نشوءُ الحركات البيئية في ستينيات القرن العشرين مع دراسات وتأملات فكرية متناثرة ترى إلى المشكلات البيئية من منظور مختلف عمَّا هو سائد في البحوث العلمية. ومع تفاقُم هذه المشكلات وتحوُّلها إلى أزمة شاملة على الصعيدين المحلِّي والعالمي، بدأت هذه الدراساتُ بالتحول إلى تيار عريض يضم مدارس متنوعة تتلاقح فيها الأفكارُ الفلسفيةُ مع المفاهيم التي أدخلتْها الإيكولوجيا. تفرعت الإيكولوجيا Ecology كفرع علميٍّ من البيولوجيا في أواخر القرن التاسع عشر في سياق التشعب المتزايد للاختصاصات المعرفية، الناجم عن فتوح الثورة العلمية وتوالي اكتشافاتها في الميادين كافة. وقد ابتكر هذا المصطلحَ العالمُ الداروِني الألماني إرنست هايكل في العام 1886 مستعملاً الكلمة الإغريقية oikos ("منزل الأسرة")، ونَقَلَ الدلالة إلى "منزلنا الأرض" Earth-household. وكانت الإيكولوجيا تعني عنده دراسة العلاقات التي تربط داخليًّا بين أعضاء كوكب الأرض. وفي العام 1909، استعمل عالم البيولوجيا البلطيقي ياكوب فون يوكسكل لأول مرة مصطلح "بيئة" environment الذي يعني الوسط المحيط بالكائن الحي، فأصبحت الإيكولوجيا العلم الذي يدرس العلاقات المتبادلة بين الكائن الحي وبيئته. وتتخذ هذه الدراسة موضوعًا لها المنظومة الإيكولوجية الكوكبية (الأرض ككل) والمنظومات الإيكولوجية الجزئية التي تتكون منها. ويعرَّف بـ"المنظومة الإيكولوجية" ecosystem بأنها مجتمع من الكائنات الحية وبيئتها المادية يتفاعلان كوحدة إيكولوجية متكاملة غير قابلة للاختزال.
ممَّا حفظتُه عن الأستاذ جودت سعيد قولُه: "إنَّ الانحباس في اللحظة التاريخية يشوِّش الوعي والإدراك" – وقد يخلق اليأس! لكن تسريح النظر في اتجاه الماضي ورصد الحركة الإنسانية عِبْرَ التاريخ يمكِّننا من وضع اللحظة الحاضرة في سياقها التاريخي، بحيث لا تستولي على وعينا، بل تتحول إلى لبنة تساهم في بلورة وعي موضوعي يتمكن من رصد اللحظة الحاضرة باعتبارها جزءًا من الصورة، بدلاً من أن تكون الصورة كلَّها، فتسدَّ علينا آفاق الفهم والمعرفة.
التجديدُ في الدين جهدٌ فكري يقوم له الإنسانُ المثقفُ لطرح معرفة جديدة ومفهوم جديد عن الدين. إنه بمثابة مدرسة فكرية ينتمي إليها باحثٌ يسعى إلى طرح رؤى دينية متصالحة مع الحداثة، مع التأكيد، في آنٍ معًا، على أهمية العلاقة الروحية الإيمانية بالله. فالباحث هنا لا ينتمي إلى المدرسة الفقهية التقليدية المحافظة، التي هي في الواقع مدرسة تاريخية ماضوية ليست على وفاق مع الحداثة لأنها تسعى إلى تركيب الماضي على الحاضر أو القديم على الجديد.
شكَّل النصُّ
الديني الإسلامي سلطةً فكريةً وثقافيةً
حكمتْ، منذ بدايات الإسلام، عمليةَ مجمل
الإنتاج الفكري العربي الإسلامي في العصرين
الأول والوسيط وحدَّدتْ أبعاده واتجاهاته.
ويمكن لنا أن نميِّز بين تيارين ندَّعي أنهما
شكَّلا الاتجاهين الأساسيين في الفكر العربي
الإسلامي وهيمنا على العملية المذكورة في
مجملها: 1.
التيار
الأول أكَّد على العقل وعلى ضرورة إعماله
في النصِّ الديني، مميزًا بين "ظاهر" و"باطن"
لهذا النص: هذا تيار العقل وما تمخض عنه
لاحقًا من فقه التأويل. 2.
أما
التيار الثاني فقد رفض التأويل العقلي،
حاصرًا مهمة العقل في مجرد إعادة القراءة (التفسير):
وهو الذي مثَّل له الفقه الظاهري ذو
العقلية النصِّية والإيمانية التسليمية. اعتدتُ، منذ أن تيسَّر لي الأمرُ، أي منذ فترة قريبة، أن أقومَ كلَّ سنة في الصيف بزيارة إلى قصَّابين، القرية التي ولدتُ فيها. أقول: «منذ فترة قريبة»، لأنَّ هذه الزيارة لم تكن ممكنةً قبلها بسبب من الأوضاع الشخصية والعامة: فقد بقيتُ مُبعَدًا عن سورية عشرين سنة كاملة لم تطأها قدماي (1956-1976)؛ ثم أضيفتْ إلى هذه السنوات سنواتُ الحرب الأهلية في لبنان، حيث اضطررتُ للسفر إلى پاريس والإقامة فيها.
للولايات المتحدة الأمريكية دورٌ مساندٌ حيوي تلعبُه في دراما التحول الديموقراطي في الشرق الأوسط عِبْرَ ما طرحتْه من أفكار ومبادرات للإصلاح في "الشرق الأوسط الكبير". وحتى يتسنَّى لها أن تلعب هذا الدور جيدًا، يجب على صُنَّاع السياسة الأمريكيين أن يتجنَّبوا إغراءات التصرف كمخرجين أو منتجين للأعمال الدرامية. فإذا اختار الأمريكيون دور المساند، لأمكن لهم مساعدةُ الممثلين الإقليميين في الوصول إلى مستويات جديدة من الأداء الفنِّي؛ أما إذا اختار الأمريكيون دور المنتج أو المخرج، فسوف يواجهون مقاومةً من اتحاد الممثلين. وفي أفضل الحالات، فإن جهودهم في التخطيط لعملية التغيير وفي تنسيقها سوف تواجه الاتهام بـ"الأبوية"، بل أسوأ من ذلك، الاتهام بالاستعمار الجديد.
الثقافة عاملٌ جبَّار من عوامل النشاط الإنساني؛ فهي موجودة في كلِّ ما نراه ونشعر به. «الإدراك البريء» لا وجود له؛ فكل ما نراه ونفهمه يصل إلينا مصبوغًا بتوقُّعنا وبقابليتنا لاستقباله، إذ تتموضع الثقافةُ في جذوره. فنحن نرى العالمَ عِبْرَ نظَّارات مصبوغة بثقافتنا. ويستخدم عددٌ هائل من البشر هذه النظارات، حتى دون أن يشكِّكوا في وجودها أصلاً. وهذه النظارات اللامرئية الملقِّنة للقابلية تؤثِّر بقوة أكبر من خلال بقاء «النظارات الثقافية» غير مرئية. فما يفعله الناس يتوقَّف مباشرةً على ما يؤمنون به؛ كما أن عقائدهم، بدورها، تتوقَّف على رؤيتهم المصبوغة ثقافيًّا لأنفسهم وللعالم المحيط.
بدايةً، يجدر بي التنويهُ بنقطة مهمة، ضرورية في نظري: لا أقصد بكلامي على "الموروث الديني" ذلك الموروث الذي عادةً ما تحتفظ به أيةُ أمَّة كجزء من منظومتها الثقافية، وتتناوله كمعرفيات تراثية أو كقيم معرفية أو كفلسفات روحية، مجردة، بالتالي، من سلطة الاستحواذ والهيمنة والتوجيه والوصاية؛ بل أقصد به الموروث الديني المتداوَل في العقل الجمعي وفي البيئة الاجتماعية والثقافية للعالم الإسلامي عمومًا – ذلك الموروث الذي لم يزل يحظى بسلطة التوجيه والوصاية وسلطان الأمر والنهي، ويستمد مشروعيتَه في الوصاية والهيمنة والتوجيه والحاكِمية من كونه لم يزل يتميز، في الصورة الذهنية الشعورية والعقلية الثقافية الإسلاميتين، بالطابع اللاَّزمني، الأبدي، اليقيني والغيبي والمطلق. وعليه، فهو الموروث ذاته الذي لم يزل يحدِّد للفرد المسلم ماهيةَ وجوده الكياني والحياتي، ويتدخل في تشكيل ثقافته وقناعاته وأخلاقه وشعوره وسلوكه، وحتى هيئته الخارجية، ويعيِّن له طبيعةَ علاقته مع "الآخر" ومع عالم الأشياء من حوله.
|
|
|