|
محـمَّـد أركـون والعَـلْمَنَـة المـنفتحـة
بعكس أولئك الذين انخرطوا انخراطًا تامًّا في مسار الثقافة العربية الإسلامية التقليدية، فشكَّلوا بذلك عقبةً كأداء في طريق أيِّ توجُّه نحو الحداثة أو الاندراج في ثقافة الألفية الثالثة من عصرنا، الذين يرفضون رفضًا متشددًا تصحيح مسارهم أو العودة النقدية إلى ذاتهم، وكذلك بعكس أولئك الذين أداروا ظهورهم للثقافة العربية الإسلامية وتعاملوا معها بتعالٍ وعنجهية بحجَّة انشغالاتهم الثقافية بمواضيع المُعاصَرة – بعكس أولئك جميعًا، نجد محمد أركون يسعى مناضلاً ليتبوأ موقعه المتمايز في ميدان المعرفة: فلا هو في المعسكر الإسلامي التقليدي ولا هو في المعسكر الحداثي، بل يحاول أن يستقل لنفسه بموقع خاص يحترم قواعد البحث العلمي، التاريخية والأنثروپولوجية، ويحمل هَمَّ المجتمعات الإسلامية في آنٍ معًا؛ وهو موقع صعب لأنه يتعرض فيه للهجوم من كلا المعسكرين! إن انشغالات أركون بكلِّ ما ينظِّر له لهُو في سبيل مساعدة الثقافة الإسلامية على الاندراج ضمن الحداثة[1]. وهذا ما حاول أن يفعله في العصور الوسطى كبارُ مفكِّري الإسلام، من أمثال ابن رشد وابن خلدون ومسكويه؛ لكن عملهم، للأسف، توقَّف ومساعيهم أُحبِطَتْ، فلم يبقَ في الساحة إلا المتشددون، "أصحاب الرؤوس اليابسة" من الكتَّاب والمنظِّرين!
لا نستطيع أن نفهم أركون وفكره إلا إذا عرفنا الموقع الذي يحتله وينطلق منه. فهو، كما يقدِّمه لنا مترجمُه المبدع هاشم صالح، يحتل موقعًا مرموقًا داخل الساحة الفرنسية – كأستاذ في السوربون، كمدافع عن حقوق الجاليات الإسلامية المغتربة في فرنسا وشتى أنحاء أوروبا، وكممثل للتراث الإسلامي في أرقى مستوياته وأكثرها نبلاً وإنسانية. ويجعله هذا الموقع في حالة مواجهة مع الفكر الأوروبي والمفكرين الأوروبيين: فهؤلاء (أو معظمهم) ما إن تُلفَظ كلمةُ "إسلام" أو "عرب" أمامهم حتى يتخيلوا شبح التعصب وعدم التسامح واحتقار المرأة وعدم الاعتراف بقيم العالم الحديث، وبخاصة حقوق الإنسان، إلخ. بالطبع فإن أركون لا ينكر وجود أزمة بين التراث الإسلامي وبين العصر، لكنه ينظر إلى هذه الأزمة من منظار تاريخي: فمن الواضح أن المجتمعات العربية الإسلامية تعاني من تأخُّر اقتصادي وعلمي وتقني لا يتيح لها أن تحترم حقوق الإنسان كما كانت أعلنتْها الثورة الفرنسية في العام 1789 أو الأمم المتحدة في العام 1948؛ لكن ذلك ليس عائدًا إلى تعصب أزلي أو أبدي لاصق بالإسلام أو بالعرب بوصفه إسلامًا وبوصفهم عربًا، وإنما هو عائد، بكلِّ بساطة، إلى التفاوت التاريخي بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الحديثة. إن تقبُّل موضوع العلمنة (وكذلك سائر موضوعات الحداثة) أو رفضه ليس صفة أزلية معلَّقة في الفراغ، وإنما هو خاصية مرتبطة بإكراهات المجتمع، بدرجة تطوره المادي ومدى بحبوحته الاقتصادية أو عدم بحبوحته، بمدى مراجعته لتراثه مراجعةً نقديةً وتنويريةً جذريةً أو عدم مراجعته له، إلخ. في المقابل، فإن مفهوم العلمنة الذي فرضتْه الجمهورية الفرنسية الثالثة كان صارمًا جدًّا وخاضعًا خضوعًا تامًّا للدين الوضعي، أي عبادة العلم بدلاً من العبادة الدينية التي كانت سائدة في أثناء سيطرة الكنيسة المسيحية. ويقصد أركون بذلك أن الحلَّ الذي قدَّمتْه فرنسا لمشكلة العلمنة/الدين أمسى الآن قديمًا، وهي تبحث عن صيغة جديدة للعلمنة، أي علمنة منفتحة على أبعاد الإنسان كلها، بما فيها البُعد الديني والروحي. وهذا، بالطبع، لا يعني التراجع عن المكتسبات السابقة للعلمنة: بمعنى أن الحلَّ لن يكون في العودة التقليدية إلى الدين، – فهذا شيء غير ممكن وغير معقول، – وإنما يكمن الحل، كما يراه أركون، في البحث عن صيغة جديدة للعلمنة الروحية أو للمذهب الإنساني الروحي من خلال دراسة مقارنة للخبرات الروحية كلِّها في المجتمعات البشرية كافة. فالعلمنة الفرنسية لم تؤدِّ فقط إلى حذف تعليم الدين كعقائد دوغمائية ولاهوتية قروسطية (الشيء الذي يوافق عليه أركون تمامًا)، لكنها أدت أيضًا إلى حذف تعليمه كنظام ثقافي وتاريخي سيطر على عقول البشر طوال قرون وقرون. لقد تغيرت الأمور الآن بعد مرور أكثر من قرن على ترسيخ العلمنة على الطريقة الفرنسية، وأصبح تعديل مفهومها ممكنًا دون أن تخشى فرنسا على نفسها وعلى تماسُك مجتمعها. أصبحت العلمنة واثقة من نفسها وراسخة الجذور لأن الثقافة التي تحتضنها قوية جدًّا؛ وبالتالي، فقد أصبح في إمكانها فتح هذه الإضبارة من جديد وإعادة النظر في حلول كانت اعتقدت أنها نهائية وعالمية، هذا في حين أن تلك الحلول كانت مرتبطة بظروف معينة لم تعد موجودة: ظروف المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر والصراع ضد الإكليروس ومعاداته للحداثة وحقوق الإنسان والديموقراطية. من هنا نجد أن محمد أركون يتحدث من موقع متقدم، حتى على المجتمع الفرنسي؛ فما بالك بالمجتمعات العربية الإسلامية التي لم يُتَحْ لها إلى الآن أن تشهد المرحلة الأولى من العلمنة حتى! وفي هذا الصدد، يفرِّق أركون، في جميع كتاباته، بين العَلمانية المنفتحة على أبعاد الإنسان كلِّها وبين العَلمانية الوضعية (السائدة في فرنسا منذ القرن التاسع عشر) التي اعتقدت أن المرحلة الدينية من تاريخ البشرية قد انتهت بمجيء عهد العلم وأنه، بالتالي، لا داعي للاهتمام بالدين أو بدراسته منذ ذاك فصاعدًا. ففي رأي أركون أن الدين يشكل بعدًا من أبعاد الإنسان أساسيًّا، فلا يجوز أبدًا أن يُستبعَد من مجال الدراسة. وهو، بالطبع، يتفق مع المنظور العَلماني في نبذ الطريقة التقليدية أو "التبشيرية" من المدارس والجامعات لأنها تشحن النفوس وتُلهِبُ الحساسيات الطائفية بين التلاميذ والطلاب (يهودي، مسيحي، مسلم، بوذي، إلخ)، أو حتى بين أتباع الدين الواحد (كاثوليك وپروتستانت، سنَّة وشيعة، إلخ)؛ لكنه لا يرى أيَّ مانع من دراسة الأنظمة الدينية واللاهوتية ضمن منظور تاريخي وعلمي مسؤول، كما يفعل هو في السوربون أو كما يفعل كبار الباحثين في مجال تاريخ الأديان (في الجامعات الألمانية بالأخص). إن المفهوم المنفتح الذي يقدِّمه أركون عن العَلمنة يضع الروح في أعلى منزلة ويقدس العاطفة الدينية المنزَّهة عن الأغراض والمآرب الدنيوية. كل ما في الأمر هو فك الارتباط بين مؤسَّسة الدولة وبين المذاهب الدينية وطبقة رجال الدين، لأن الدولة لجميع المواطنين، وليست لأبناء هذه الطائفة أو تلك، لهذا المذهب أو ذاك؛ إنها لجميع أبناء المجتمع المدني دونما تمييز. لقد أتاحت العلمنة لرجال الدين أن يستقلوا بأنفسهم فيما يخص الأمور العقائدية والروحية وأن يتفرغوا للبحث الحرِّ في هذه الأمور ولتعميقها دون أن يخشوا تدخُّل السلطة في شؤونهم. والواقع أنه لا يمكن تشكيل مجتمع مدنيٍّ متماسك ومتراص إلا بهذه الطريقة. من هنا سبب إخفاق غالبية المجتمعات العربية الإسلامية الحالية في تشكيل المجتمع المدني الحديث وتفكُّكها إلى فئات وطوائف وإثنيات متقوقعة على ذاتها، مغلقة دون الآخرين. *** *** *** [1] انظر، مثلاً، كتبه: الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، أين هو الفكر الإسلامي؟، نزعة الأنسية (دار الساقي، لندن)، وكذلك نقد العقل الديني (دار الطليعة، بيروت).
|
|
|