|
المعارضات العَلمانيَّة العربيَّة:
مسألة فكريَّة أولاً يكاد
الكلامُ على «أزمة مزمنة»
تعصف بحركات المعارضة العَلمانية العربية أن
يكون مسلَّمةً عامة – في أوساط المعارضين
العَلمانيين قبل غيرهم. يُشار في هذا الصدد
عادةً إلى ضآلة «شعبية» هذه الحركات وإلى
تشرذمها المتأصِّل المؤسف. بيد أن أساس
الأزمة، في رأينا، أساس فكري، يتصل بغياب
أو ضحالة أو اختلاط القيم والرؤى والمفاهيم
التي من شأنها أن تفعم بالحياة صورةَ مجتمع
ناهض ومتحرِّر أو تشحذ إرادة قطاعات أوسع من
الناس من أجل بنائه. إن أفكارًا مثل الحرية (بما
فيها حرية الاعتقاد الديني) والمساواة
والتسامح والمواطَنة واستقلال الضمير تبدو
شاحبة أو مجردة جدًّا؛ أي أن المُثُل
الأساسية لِما قد يكون مجتمعًا متحررًا
وسيدًا لنفسه غير واضحة وغير محسومة، وبالطبع
غير مُمأسَسة. لكن
لماذا ننسب الأزمة، إذن، إلى المعارضة وحدها؟
ألا تبدو، والحالة هذه، أزمة تأسيسية
أكثر منها أزمة سياسية؟ – أزمة الدولة
والمجتمع والثقافة، وليس أزمة طرف سياسي
بعينه، دَعْ عنك أن تكون أزمة الطرف الأضعف من
الجميع، أي المعارضة العَلمانية نفسها. بلا
أدنى ريب. بيد أن انصراف تركيزنا هنا على
المعارضة العَلمانية مصدره أن -
أزمتها
ظاهرة للعيان، خلافًا لأطقُم السلطة التي
تحتل الدولة وللحركات الإسلامية التي تضع
يدها على الدين؛ -
كذلك
لأنها في موقع الطرف المُراجِع، العامل من
أجل الإصلاح، الذي يُفترَض فيه أنه متفوق
أخلاقيًّا؛ -
ثم
لأننا نفترض أن التأثير على أوضاعها
إيجابيًّا أيسر نسبيًّا من التأثير على كلٍّ
من الدولة والدين وأهلهما؛ -
وأخيرًا
لأنها، بحكم تكوينها الثقافي المزدوج،
العربي والغربي، في وضع بدئي ربما يؤهِّلها
أكثر من غيرها للانتباه إلى الأبعاد التأسيسية
للأزمة. وفي
سورية، تتظاهر أزمة المعارضة العَلمانية في
شكلين اثنين: 1.
الأول هو ما نسمِّيه،
بعد ياسين الحافظ، بـ«النزعة السياسوية»، أي
الانحصار ضمن منظور السياسة الظرفية أو
المواقفية وتقلُّباتها دون مثال اجتماعي
واضح تسعى وراءه، دون رؤية تغييرية
جاذبة، دون عمق معرفي خاص، ودون تصور
للعالم يتجاوز المتداوَل الدارج في وسائل
الإعلام؛ 2.
أما الشكل الثاني فهو تعريف
الموقع السياسي والاجتماعي بدلالة عقيدة أو
هوية إيديولوجية متقادمة، موروثة عن زمن
الحرب الباردة، قومية عربية و/أو شيوعية،
وتتصل بخبرة أجيال أقدم كانت تدرك العالم عبر
معانٍ وإيديولوجيات كبرى. في الحالين لا
مقام للسياسة: تتحلَّل إلى حركة محض دون فكر
أو تتحجَّر في فكر لا حياة فيه ولا حركة. لكن
إذا كانت أزمة المعارضة العَلمانية فكرية
وتأسيسية في جوهرها، فهل يصح الكلام على «معارضة»
أصلاً؟ ألا يحمل مفهوم «المعارضة» في ثناياه
افتراض أن التأسيسي محسوم ومشترك، وأن
الصراعات السياسية تجري ضمن أُطُر فكرية
وقانونية ومؤسَّسية موحدة، وأنها، تاليًا،
صراعات نسبية لا تمس في شيء أُسُس النظام
الاجتماعي السياسي؟ ألا يمد مفهوم «المعارضة»
جذوره في تربة مجتمعات ديموقراطية في
مؤسَّساتها وثقافتها وسياستها، الأمر الذي
ينال من شرعية هذا المفهوم في مجتمعات ليست
كذلك؟ هذا
أيضًا لا ريب فيه، فيما نرى. ونخمِّن أن مفهوم
«المعارضة» أخذ يُستخدَم في البلدان العربية
في زمن ما بعد الحرب الباردة من باب «التفاؤل»،
أي التعويل على أن من شأن استخدام كلمةٍ ما أن
يشجِّع الواقع الذي يُفترَض فيها أنها
تمثِّله على الظهور. والحال،
إن البيئة الاجتماعية الثقافية السياسية
التي تعمل فيها حركاتُ المعارضة العَلمانية
العربية ترتِّب عليها فعلاً مهماتٍ تأسيسيةً
(أو «نهضوية») لا تقع عادةً على كاهل حركات
المعارضة في مجتمعات ديموقراطية حسمتْ
قيمَها الأساسية ودوَّنتْها في مؤسَّساتها.
تندرج المهمات هذه ضمن ما يسمِّيه ناصيف نصار
بـ«نهضة عربية ثانية». ونفترض أن إشكالية
النهضة تحيط بـإبداع القيم والرؤى الفكرية
المغذية لمثال المجتمع المتحرر أو منابع
الإلهام الفكرية والرمزية لهذا المثال. وإذ
تتقدم إشكالية النهضة، أي التأسيس الجديد،
على إشكالية التغيير السياسي والديموقراطية،
فإن المعارضة تمسي مدعوةً إلى تجاوُز نفسها،
لتغدو حركة تجدد حضاري أو نهضوي. وليس في
ذلك ما يفتي لمصلحة بقاء الأوضاع القائمة،
لكنه بالتأكيد يزيح المسألة السياسية من
الموقع المركزي الذي شغلتْه في العقود
الثلاثة الأخيرة. والحال،
إن تغيير السلطات والنظم السياسية القائمة
سيبقى مرغوبًا، -
أولاً،
لأن بقاء الأطقُم السياسية ذاتها يتسبَّب في
اختناق ثقافي وقيمي وپسيكولوجي
بقدرٍ قد يزيد على الاختناق السياسي ذاته؛ -
وثانيًا،
لأن التغيير السياسي، حتى لو كان عاصفًا وغير
مسيطَر عليه، هو فرصة لرجرجة أوضاع فكرية
وأخلاقية وسياسية متعفِّنة (لا يُتصوَّر
تغيرُها في أيِّ يوم دون ولوجنا أزمنة مضطربة)،
بما قد يحرِّر المخيِّلة ويحرِّض ولادة أفكار
ورؤى ورموز جديدة. ولا
يجري النشاط النهضوي في فراغ ثقافي واجتماعي.
الواقع أننا لا نتصور النهضة إلا كعملية نقد
وإصلاح وعقلنة للعتاد الثقافي والروحي
المتاح – وفي الأساس منه الدين. ويبدو
لنا الدين ممرًّا إلزاميًّا في الحركة
النهضوية، لا لأن تشكلاته الراهنة موالية
للانسداد الحضاري، ولكن، أولاً، لأن لـ«إصلاحه»
طاقةً تحررية، عقليةً وروحيةً وعملية،
كبيرةً جدًّا، لا تضاهيها الطاقةُ التي قد
تتولد من مجرد إصلاح سياسي أو اجتماعي. ومن
ذلك إن إصلاحًا في هذا الاتجاه هو الأقدر على
المصالحة بين مبدأي «الشعب» و«العقل»، أي توسيع
القاعدة الاجتماعية للتحرر الفكري والسياسي
والاجتماعي؛ فعِبْرَ هذه المصالحة،
المبنية على تحرر فكري وإصلاح حقيقي للدين،
يمكن لحركات عَلمانية أن تأمل في «الشعبية»
والهيمنة الثقافية. ويُعوَّل
على نهضة ثانية أن تحقق إنجازاتٍ أبقى على
الجبهة الدينية، الأمر الذي قصَّرتْ عنه
النهضةُ الأولى، إمَّا لأنها انحكمت بروح «توفيقية»
شالَّة للعقل وإما لأنها تصورت أنه يمكن لها
أن لا تهتم بالدين، ولو اتخذ ذلك شكلَ رفضه
دون نقده. وكما
أسلفنا، فإن «المعارضة العَلمانية» في وضع
بدئي يؤهِّلها للانفتاح على أعباء فكرية
وثقافية من هذا النوع النهضوي. وضع «بدئي»
فحسب، لأن تيارات منها نزَّاعة إلى معاداة
غير نقدية للدين وتعبيراته السياسية
والثقافية بدرجة تحول دون الانفتاح النفسي
والفكري المطلوب من أجل الإصلاح في هذا
المجال. وفي أوساط هذه التيارات نفسها يرصد
المرءُ ميلاً غير نقدي بدوره إلى مذهَبَة
العَلمانية والعقلانية أو «تديينهما»، بما
يتعارض جوهريًّا مع «مقاصدهما الأصلية».
ولذلك نتصور أن الاهتمام بإشكالية النهضة
والإصلاح سيدفع إلى إعادة التعريف
بالعَلمانية على نحوٍ ما يدفع إلى إعادة
التعريف بالمعارضة. وكما يؤمَل أن تتحرر
المعارضة من التمركز السياسي الحصري، يؤمَل
أن تتحرر العَلمانية من التمركز الديني
الحصري، بما فيه التمركز المضاد للدين. الافتراض الشائع
اليوم أن الحركات المعارِضة العَلمانية
ضعيفة شعبيًّا، لكنها قوية فكريًّا. هذا وهم
محض: إنها أضعف فكريًّا حتى منها شعبيًّا!
والنهضة (أو النهضة المستأنَفة) هي العملية
التأسيسية التي نتصور أنها تجدد ركائز
ثقافتنا العقلية والروحية والپسيكولوجية،
فتؤسِّس لحلِّ التعارض المزمن بين الشعب
والعقل النقدي المتحرر. أما في غياب التأسيس
النقدي فتشيع شعبويةٌ رثَّة وبدائية، لا
ترتسم مقابلها إلا نزعة «نخبوية» ضحلة
ومنغلقة على نفسها. ***
*** ***
|
|
|