|
إضاءات
إطلالة على مأساة الحضارة الغربية لقد تفطن عقلاء الغرب، على اختلاف تخصصاتهم العلمية، إلى أن الإنسان الغربي وصل إلى درجة فظيعة من التأزم الأخلاقي بلغ أوجه في انصباغ جميع علاقاته بصبغة مادية براغماتية. ويمكننا، للتدليل على هذه الحقيقة، أن نستأنس بالشهادات الموالية: ففيلسوف الحضارة الألماني ألبرت شفيتسر (1875-1965) يؤكد قائلاً: نحن نعيش اليوم في ظل انهيار الحضارة، وبالرغم من أن الغرب احتفظ بقوته في معظم مرافق الحياة، إلا أنه روحيًا مصاب بالهزال. أما المفكر الفرنسي روني غينون (1954-1886) فيرى أن الحضارة الغربية بُنيت أساسًا على تغييب المبادئ الأخلاقية والروحية، فهي حضارة مادية متصلدة، وقد كانت صبغتها المادية متمركزة في حدودها، لكنها اليوم تسعى جاهدة إلى تصدير هذه الصبغة المادية إلى الشعوب الأخرى بكل الأشكال الممكنة.
لم تخترع الديانات التوحيدية فكرة الإله الواحد فحسب، بل شكَّل اعتمادها، حسب يان أسمان، ثورة متصلبة لم تترك المجال لغيرها من حقائق الآخرين، ودشنت نوعًا جديدًا من العنف. قلَّة هم علماء الآثار الذين لديهم خصومة مع البابا. يان أسمان هو أحد هؤلاء... وكان الكاردينال جوزف راتزينغر، الذي سيصبح في 2004 البابا بونوا السادس عشر، قد أخذ القلم للتنديد بالصورة المشوِّهة، من وجهة نظره، التي أعطاها هذا المتخصص في تاريخ مصر القديمة لثورة الديانة التوحيدية في كتاب نشره قبيل بضع سنوات. عنوان الكتاب موسى المصري (1997)، لم يكن بديهيًا، ومؤلفه لم يكن في أولى تقاريره النقدية. فمن هو إذن يان أسمان؟ إنه عالم آثار متخصص في تاريخ مصر القديمة ولد عام 1938 في ألمانيا، وهو أستاذ يدرِّس في هايدلبرغ منذ عام 1976، أدار حفريات وأنجز أعمالاً حول الدين والثقافة وتاريخ مصر القديمة توِّجت بجوائز. وفي سياق أشغاله انشغل بحقبة وجيزة مرَّت في التاريخ الفرعوني: في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، أمر أمنحوتب الرابع، المكنَّى بأخناتون، بإسقاط آلهة مصر، ماعدا إله واحد هو "أتون" المعروف أيضًا باسم "رع" (الشمس)، ثم إنه حاول فرض عبادة هذا الإله على مملكته من خلال تدمير صور كلِّ الآلهة الأخرى بطريقة لا تخلو من العنف. غير أن فترة حكمه أثارت استياء جعل خلفاءه من بعده يسارعون بإعادة تنصيب تعدُّد الآلهة ومحو ذكرى هذا النبيِّ المتعجرف. ويمكننا الاعتقاد بأن هذا التشنُّج الأولي، المدفون في الذاكرة المصرية، ألهم (لاحقًا) ثورة دينية نالت نجاحًا أكبر: إنها ثورة تأسيس الديانة التوحيدية العبرية عن طريق نبي جاء من مصر، هو موسى. لقد أشار سيغموند فرويد، وغيره من العلماء قبله، إلى هذه العلاقة في القرابة أو النسب (بين الديانتين) في كتابه موسى الإنسان والديانة التوحيدية (1939).
باربرا برادلي هاجرتي (NPR): سوف أحوِّل هذا إلى أمر شخصي، لو سمحت لي. كنت أستمع إلى هيئة الإذاعة البريطانية BBC – راديو 4 – وكانت مقابلة مع كليكما تعود إلى العام 2007، وبدا أنه جدل حاد جدًا بينكما. هل تذكر تلك المقابلة؟ بيتر هيتشنز: إن كانت تلك المقابلة التي تعنين... كانت قصيرة جدًا. برادلي هاجرتي: حسناً، لكن ليس بمعايير NPR. بيتر هيتشنز: أجل، لكن مع BBC، على خلاف مؤسستك الرائعة. لو كنت محلي وأجرت BBC مقابلة معك، لعرفت أن لديك 15 ثانية قبل أن يقاطعوك. لذا عليك أن تسرعي. برادلي هاجرتي: ما كان مثيرًا للاهتمام بخصوص الاستماع إلى هذا النوع من المشاركة الثلاثية، كما كنا ندعوها في NPR، هو أنها كانت بالفعل حادة إلى أقصى درجة. أنا لم أسمع قدرًا كافيًا من الحب الأخوي في تلك المقابلة؛ كان من الصعب اكتشاف ذلك. أنا أتساءل فقط إن كان هنالك تغير في الطريقة التي تنظران فيها إلى بعضكما البعض، تنظران فيها إلى الجدالات حول وجود الله أو الحياة بعد الموت وضرورة الدين لبلوغ حضارة أخلاقية. كريستوفر، هل تغير أي من تلك الفحوى منذ ذلك الحين التي كنت قد شخَّصتها؟
في اعتقادي أن أحد الأسباب الكبرى التي حالت دون فهم الطائفية وتجنب آثارها هو اختلاط مفهوم الطائفية نفسه وعدم ضبطه، مما أساء أيضًا إلى فهمنا لها كظاهرة اجتماعية وسياسية وبناء تعريف واضح وصحيح لها أيضًا. فقد مال معظم الذين أثاروا مسألتها، في الأدبيات العربية القومية المعاصرة، إلى الخلط بشكل كبير بين التعددية الدينية، أي انطواء المجتمع على تنوع ديني كبير، يتسم إلى حد أو آخر من الانسجام أو الصراع، وسيطرة إحدى هذه الفرق أو الجماعات الدينية على مقاليد الأمور في السلطة أو على مواقع رئيسية منها في سبيل تأمين منافع استثنائية وخاصة لا يسمح بها القانون. أي يخلطون، إذا شئنا التبسيط قليلاً، بين الطائفية في المجتمع والطائفية في الدولة، وهما من طبيعتين مختلفتين تمامًا وليس لهما النتائج ذاتها. الأول يتعلق بطريقة اشتغال المجتمع والثاني بطريقة اشتغال الدولة الحديثة، ولا قيمة له إلا من منظور بناء هذه الدولة.
المقدمة رغم الدراسات العديدة التي تناولت نشأة الديانة اليهودية إلا أن الغموض ما زال يلف الكثير من جوانب هذه النشأة والكثير من مراحل تطورها، إلى درجة يصعب معها إعطاء رأي قطعي بشان أصول أو منابع الديانة اليهودية وحقيقة الكثير من القصص التي تتضمنها، ناهيك عن أفكارها وفقهها وتعاليمها ومما يدخل في نطاق اللاهوت اليهودي. ومما لا شك فيه أن سبب هذا الغموض لا ينحصر في ارتباك المعلومات التي تقدمها المصادر الأصلية لهذه الديانة كالتوراة والتلمود بقسميه البابلي والفلسطيني، بل وحتى في المراجع التي تناولت مسيرة هذه الديانة وأصولها وفروعها، لارتباطها بمرجعيات بعضها معادٍ وبعضها الآخر صديق لليهود الأمر الذي قد يمنح دراستنا جدوى معينة، وقد يخرجها، إذا ما توخينا المنهج العلمي بشكل دقيق، من دائرة الدراسات المكررة التي يكون الهدف منها في الغالب تعليمي أو اختباري محض كديدن معظم الدراسات التي يقدمها الطلبة أو الأكاديميون المبتدئون.
لستُ ندًّا لمارتن لوثر كينغ ولا سورية بقامة أمريكا... لكن لسورية حلمها أيضًا... وأنا عندي حلم! ما زلت أحلم، سأظل أحلم، وفي هذا عيد الأضحى المبارك أريد أن أهدي كلَّ أصدقائي، كلَّ أحبَّتي، كلَّ أبناء وطني، كلَّ حلمي... اليوم، ورغم صعوبات اليوم، ورغم الظلمة البادية في الأفق... بل ولأن الظلمة تطغى في الأفق... أريد أن أثابر على الحلم... وأريد أن أرى، وها إني أرى بصيص نور... أحلم أن سورية ستنهض من كبوتها لتبقى رسالة التاريخ للحاضر والمستقبل. أحلم أن المعارض والموالي، سيعودان أخوين يتساميان فوق كلِّ ألم ويتعانقان رغم الدمع والدم. أحلم أنَّ بنتيَّ ستكبران في مدرسةٍ وفي حيٍّ وفي مدينة وستتخرَّجان من جامعة ولا تُسألان هنا وهناك عن طائفتهما أو مدينتهما أو عرقهما.
كتب محمد جابر الأنصاري في مقال بعنوان الاعتدال الإسلامي، جريدة الحياة بتاريخ 21–5-2009: جرَّب العرب والمسلمون النهوض ومواجهة تحديات هذا العصر المتغير بالتغريب الخالص، فلم يفلحوا، واكتشفت نخبهم الداعية إلى مثل هذا التغريب أن "البذرة" لا تنمو في التربة المحلية، وإنما تذهب عبثًا، كما اعترف بذلك الدكتور محمد حسين هيكل، وزير المعارف المصري الأسبق، وصاحب كتابيْ حياة محمد وفي منزل الوحي وقد ألفهما بعد تحوله الفكري والعقيدي، بين مفكرين آخرين. لا نعلم متى جُرِّب هذا التغريب الخالص الذي يتحدث عنه المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري على الرغم مما "اعترف به الدكتور محمد حسين هيكل وزير المعارف المصري الأسبق". إذ لا وظيفة – في رأيي – لهذا الاعتراف من قبل هيكل بفشل التغريب الخالص غير تبرير تمشيخه المتأخر في سياق أندرج فيه "مفكرون آخرون" كما يقول الأنصاري في نهاية المقطع الذي نستشهد به. ونرجو ألا يكون في حديث الدكتور الأنصاري، صاحب كتاب العرب والسياسة - جذور العطل العميق، الذي تتلمذنا على منهجيته المستقاة من معارف وعلوم غربية أحسن استخدامها في مقارباته النقدية لإشكالياتنا كعرب وكمسلمين، ألا يكون إرهاصات في الاتجاه المومئ إليه.
عدوان حميمان يتصارعان منذ قرنين على الأرض العربية للتحكم بمصير الشعب لصالح نخبة محدودة. عدوان نقيضان ومتكاملان في آن، إذ كل منهما، فيما يعادي الآخر، يستقوي به لتثبيت شرعيته: حداثة مزعومة وآصالة متوهمة. صورتان مشوهتان مقتبستان قسرًا من الآخر الغربي أو الآخر التراثي، لا تحيلان إلى أي واقع في الفكر أو الممارسة، بل تتخذان ذريعة لتبرير الاستبداد. كلاهما شوه وجه نهضتنا كما رسمه روادها المتجذرون في التراث وفي الحداثة معًا (الطهطاوي، الشدياق، البستاني...) وأحبط مشاريعها. أولهم، الطهطاوي، شيخ أزهري قال بالجمع بين "العلوم البرانية" و"العلوم الجوانية" – وهما عنده مرادفان للحداثة والآصالة – وسيلة لإعادة المجتمع العربي إلى التاريخ. استطاع بهذه الصيغة المبسطة أن يرسي أسس المؤسسات المصرية الحديثة، من تربوية وعلمية وفكرية، التي قامت عليها النهضة في مصر. تنبه باكرًا إلى سذاجة هذه الجدلية بين الجواني والبراني، إذ أن الأخذ بعلم لا بد من أن يبدل عالم المتلقي إن لم يكتف باستهلاك مادي مباشر. فدعا في مؤلفاته اللاحقة إلى تمثل روحية هذا العلم، وطبقها في في حياته الشخصية قدر المستطاع: تشهد على ذلك وثيقة تعهد فيها تجاه زوجته ألا يتزوج أخرى وأن يعاملها ندًا لند. انطلق من التراث وغرف من الفكر الإنساني فمهد الطريق للإصلاحيين من أمثال الأفغاني ومحمد عبده لكي يتابعوا مسيرته. فاستنبطوا، بالتفاعل بين البراني والجواني، سلوكًا جديدًا ومبادئ نضال في شتى الميادين: الحرية الفردية، تأويل الدين، نظام الحكم، العلاقة بين الرجل والمرأة... وعلى نفس المنوال نسج بطرس البستاني وفارس الشدياق، مع فارق مهم: أخذا الآصالة بمعناها الثقافي (التراث) لا الديني (الشريعة)، فاستطاعا أن يحرزا إنجازًا مهمًا في الميدان التربوي (المعاهد) والفكري (الموسوعة) والثقافي (الصحافة والرواية) والاجتماعي (المواطنة)، كان رديفًا لعمل الطهطاوي.
حين تتعامل الجماعات مع نفسها على أنها أقليات، ويصيبها رهاب من صنع يديها، تحكم على نفسها بالحرب المستديمة أو بالفناء تشريدًا وهجرة، فالخوف شرُّ الناصحين وشلل الفكر. في شرقنا المعقد، تسعى بعض الجماعات، الدينية كالمسيحيين، أو الإثنية كالأكراد، في بعض مراحل تاريخها إلى حماية أجنبية أو إلى ما بات يسمَّى اليوم "تحالف الأقليات" خوفًا من أكثرية سنية يتم إلصاق شتى التهم وأشنع الصفات بها. لا يفعل ذلك سوى تأجيج أحقاد لا بد ستنفجر، وتعزيز خوف يدفع خيرة شباب هذه الجماعات إلى مضاعفة الجهود للهجرة خارج الشرق. يمكن نقاش الموضوع من زاوية التاريخ الماضي، كما من زاوية الحاضر الشاهد. غير أن رؤيةً لمستقبل الجماعات، ولا سيما المسيحية، في الشرق الذي شهد مولد السيد المسيح، لا يمكن أن تنفصل عن المواقف السياسية لقياداتها ولا عن الخيارات الخلاَّقة التي يستطيع حراك المسيحيين الاجتماعي ابتكارها.
|
|
|