|
أيُّ دور لمسيحيي الشرق في آتي الأيام؟
حين تتعامل الجماعات مع نفسها على أنها أقليات، ويصيبها رهاب من صنع يديها، تحكم على نفسها بالحرب المستديمة أو بالفناء تشريدًا وهجرة، فالخوف شرُّ الناصحين وشلل الفكر. في شرقنا المعقد، تسعى بعض الجماعات، الدينية كالمسيحيين، أو الإثنية كالأكراد، في بعض مراحل تاريخها إلى حماية أجنبية أو إلى ما بات يسمَّى اليوم "تحالف الأقليات" خوفًا من أكثرية سنية يتم إلصاق شتى التهم وأشنع الصفات بها. لا يفعل ذلك سوى تأجيج أحقاد لا بد ستنفجر، وتعزيز خوف يدفع خيرة شباب هذه الجماعات إلى مضاعفة الجهود للهجرة خارج الشرق. يمكن نقاش الموضوع من زاوية التاريخ الماضي، كما من زاوية الحاضر الشاهد. غير أن رؤيةً لمستقبل الجماعات، ولا سيما المسيحية، في الشرق الذي شهد مولد السيد المسيح، لا يمكن أن تنفصل عن المواقف السياسية لقياداتها ولا عن الخيارات الخلاَّقة التي يستطيع حراك المسيحيين الاجتماعي ابتكارها. خوف في غير محله من الجماعات الإسلامية السنية يشير التاريخ القريب إلى أن استمرار التنوُّع العرقي والديني والمذهبي في المشرق العربي انعقد، على مدى خمسة عشر قرنًا، في ظل خلافة إسلامية لم تعصمها أحكام الإسلام الحنيف من الشطط. إلا أنها، في المحصلة، كانت أرحم بكثير وأرأف برعاياها، من أوروبا التي اجتثَّت مسلميها وطردت يهودها وكادت تبيد من بقي منهم، وأفنت شبابها في حروب الكاثوليك والبروتستانت. يشهد تاريخ منطقتنا، من دون أن نصفه بالملائكية والكمال، على تواصل أرحب وعلى نظرة أكثر تقبُّلاً للاختلاف الديني، كما يشهد على تولي المسيحيين واليهود والصابئة أرفع المناصب وبعض أقربها إلى الخلفاء. وفي التاريخ القريب، لم تمنع مسيحية بعض الوجهاء من تولِّيهم رئاسات حكومة وجمهوريات في مصر وسوريا ولبنان، ولم يكن ذلك بفضل تحالفهم مع أقليات أخرى بل بفضل الانخراط الفاعل في حركة المجتمع وتوقه إلى التحرر من المستعمر آنذاك. أما حاضرنا الشاهد، فيؤكد أن الخوف على المسيحيين ليس من حكم الجماعات الإسلامية السنية لسوريا. فقد رأينا أن الجماعات الإسلامية لم تسيطر على مصر ولا على تونس، إثر ثورتيهما، على رغم كونها متينة التنظيم وقادرة على التعبئة. كما كانت سبقت هاتين الثورتين مراجعة "الإخوان المسلمين" لمواقفهم الفكرية، في مصر، بما لديها من تأثير على الجماعات الإسلامية الأخرى. وفضلاً عن النزاعات الداخلية المشتتة لقوة الجماعات الإسلامية سياسيًا ما بين الصوفية والسلفية و"الأخوان" وغيرهم، وإضافة إلى الوعي الجماهيري الحاسم، في مصر وتونس، وبروز هامشية التحرك الإسلامي في الداخل السوري، فإن التجربة الوحيدة لتسلُّم جماعة إسلامية، من طراز قريب من "الأخوان المسلمين"، أي التجربة التركية، لا تشهد على أيِّ بطش بالأقليات، ولا على أيِّ تطبيق لأحكام الذمِّية في وقت لا تلهج به شعوب المنطقة سوى باسم الحرية! في حالة مصر تحديدًا، تكشَّف، بعد سقوط النظام، أن شطرًا وازنًا من الجرائم في حق الأقباط إنما كان بقرار من النظام نفسه أو بتساهل منه كي يستمر في إخافة الناس بفزَّاعة الإسلاميين. أما العراق، على رغم اختلاف ظروفه عن الثورات العربية اختلافًا تامًا، فإن أوضاع المسيحيين فيه كانت جزءًا مما جرى على أهله كافةً، بطوائفهم وأعراقهم، نتيجة لحكم مديد من الاستبداد وتربية الأحقاد، تلته مرحلة احتلال عسكري وفوضى أمنية انفجرت فيها كل هذه الأحقاد، بمساعدة لا تخفى من الدول الشقيقة والجارة. في عبارة أخرى، من جهة أولى، ليس ما يؤكد أن آتي المستقبل سيشهد حكمًا مديدًا للجماعات الإسلامية السنية، حتى وإن كان في حكم المؤكد أن هذه الجماعات ستكون لاعبًا سياسيًا مهمًا بين لاعبين آخرين. من جهة ثانية، فإن الديموقراطية التي تفتح للأكثريات أبواب الحكم، لا تعني البتة أن هذه الأكثريات ستضطهد الأقليات من شعوبها، أو تنفيها، أو تقتلها، ففيها من جرائم الأنظمة الديكتاتورية عِبَر. من جهة ثالثة، فإن الجماعات الإسلامية السنية ليست شيطانًا ينبغي إبقاؤه في قمقم القمع والاستبداد، بل هي تشكيلات سياسية تنشأ وتتطور وتتكيف مع الظروف، والقمع يحوِّلها عنفية في حين إن الحياة السياسية تجعل منها، على غرار المسيحيين الديموقراطيين في أوروبا، قوة سياسية مهمة ذات شرعية اجتماعية ولديها الرغبة في تطوير مجتمعها، ولكن مع التقيد بقيود اللعبة الديموقراطية. وحده الحوار والتفاعل السياسي مع هذه الحركات، ما يجردها من بذور العنف التي تنطوي عليها، كما تنطوي عليها كل حركة مقموعة في العالم. في المقابل، فإن أبلسة هذه الحركات مقدمة أكيدة للحروب معها. ابتكار المستقبل على هدي التعدد الحضاري إن نظرة الجماعات المسيحية إلى نفسها كأقليات، يعني أنها تساهم في صوغ صورة مجتمعاتنا عن ذاتنا في صورة التنازع الطائفي. ولما كان المسيحيون، ما بين الهجرة والتراجع الديموغرافي، أعجز عن حسم الصراع إذا ما اصطفوا إلى أيٍّ من أطرافه في أيٍّ من البلدان المعنية (في الأخص، سوريا ولبنان والعراق)، فإن نظرتهم هذه تغذي النزاع وتطيله لكن من دون إنهائه، ولا بد أن تنالهم نيرانه في آخر الأمر. لذا ينبغي التساؤل إن لم يكن من الأجدى للمسيحيين أن يساهموا في الجهود الساعية إلى صوغ صورة مغايرة لهذه المجتمعات. لقد كان المسيحيون أول الداعين إلى تحديث مجتمعاتنا والقائمين بهذا التحديث، والشروع في بناء دولها، وذلك بسبب من علاقتهم السبَّاقة بأوروبا، ولكن أيضًا بسبب من ثراء حراكهم الاجتماعي وحيوية نشاطاتهم الفكرية والاقتصادية غير المقيَّدة بقيود السلطنة الإسلامية وبطء حركتها وطمأنينة أهلها إلى هيمنتهم طويلاً. وليس من سبيل لهم إلى الاستمرار في الوجود الفاعل في الشرق، سوى أن يكونوا طليعة محدثيه ومهندسي مستقبله الحضاري. الخياران الآخران ينحصران في التشرذم، أو في العيش الخاضع على وقع تحالفات آنية متبدلة وغير موثوقة النتائج. على المسيحيين إذًا أن يقفوا إلى جانب متنوِّري هذه البلاد في بناء مجتمعات أكثر حرية وتنوعًا وتعددًا وحداثة. أليس أن حيويتهم الاجتماعية وتعدد مراكز قرارهم كانا دائمًا صائنًا لهم من نزعات التسلط والاستبداد التي تعصف بالجماعات الأخرى؟ هذا التعدد الداخلي وإرثه يشكلان مثالاً يمكن احتذاؤه وتعميمه في المجتمع. للمسيحيين خبرة في إدارة تعدد قرارهم السياسي، مثلما لديهم خبرة في أثمان محاولة احتكاره. مثل هذه الخبرة جديرة بالمشاركة وبالتفاعل مع الآخرين. بل فوق ذلك، على المسيحيين أن يشكلوا النموذج الأحلى لممارسة الحرية والاقتناع الفردي والخلاص من أطر التنظيم الطائفي المحدود والمتوتر دومًا. يتميز المسيحيون اليوم، في سوريا وفي لبنان، بقدرة أعلى من الآخرين على ممارسة فرديتهم وعلى الجهر بآرائهم. وهذا ما يسعه أن يشكِّل مصدرًا لغيرة محمودة تحمل مواطنيهم الآخرين على تقليدهم في ذلك. ثمن ذلك، بالطبع، ليس يسيرًا، غير أنه واضح: الخلاص من المؤسسات الطائفية بما فيها مؤسسات الرعاية والتشكيلات شبه العسكرية، تحويل الكنيسة كيانًا روحيًا لا زمنيًا، لا يتدخل في تفاصيل السياسة في خارج إطار تكرار مبادئ احترام الآخر والذات وحرية الرأي والمعتقد وضرورة المحبة والسلام، الانخراط في جهود إنشاء أحزاب وطنية لا تقوم على أساس الطائفة وحدودها بل على أساس الانتماء إلى الوطن الحاضن للجميع والانفتاح على عروبة رحبة وموجزة تشكل المجال الحيوي لكلٍّ منا، ثقافيًا واقتصاديًا. ينبغي التأكيد مرارًا أن التعددية الاجتماعية المسيحية كبَّدت هذه الطائفة، في لبنان على الأقل، خسارات عسكرية مؤكدة على مر التاريخ، إلا أنها أتت بالانتصارات الحضارية الأبرز، وأمَّنت للمسيحية المشرقية حضورًا راسخًا لم يتزعزع ولا تقضي عليه سوى الحروب الأهلية الطائفية. كما ينبغي التذكير بأن المسيحية المشرقية، وإن فقدت تفوقها المالي والعلمي في ظل تطور الجماعات الطائفية الأخرى، لا تزال تملك مخزونًا سياسيًا واجتماعيًا وخبرة لم يستطع المشروع الماروني الأول في لبنان تعميمها وربما لم يرد ذلك، في نهاية الأمر، طمعًا بسلطة كانت كلفة تقاسمها لتكون أهون بكثير من كلفة حروبنا المتواصلة. لا تنتظر مجتمعاتنا إذًا من المسيحية المشرقية افتتاح ارساليات أو جامعات جديدة، كما تتخوف من أن يؤدي عارض الشعور الأقلوي لدى المسيحيين إلى الهجرة من جهة، وإلى التنظير لحروب أهلية مقبلة من ناحية أخرى عبر تمتين النظرة الطائفية إلى المجتمع. المأمول من النسيج الاجتماعي المسيحي أن يستغل فرصة توق الشعوب العربية إلى الحداثة والتحرر والفردانية والديموقراطية، كي ينشر وعيًا مختزنًا بأهمية الحرية، وإرثًا اجتماعيًا قائمًا على التعدد والقبول بالآخر والانفتاح على الآفاق الأرحب للعروبة وللحضارة. يمكن تاليًا، أن تكون المسيحية المشرقية قوة أمل بالمستقبل، ويسعها بجاذبيتها الاجتماعية وحيويتها الفكرية والإبداعية أن تشارك النخب العربية في تغذية آمال الشباب العربي الثائر ومدِّه بصورة مشرقة عما يسع المستقبل أن يكونه. لقد لاحظ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مصيبًا، أيًا يكن رأينا في سياساته، أن أحد الفروق ما بين الثورات العربية وأوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، يكمن في أن دول أوروبا الشرقية ومجتمعاتها كان لديها هدف محدد وواضح تتطلع إليه، هو الانخراط في أفق الاتحاد الأوروبي. وقد تكون في طليعة مهام النخب العربية، والمسيحيون في طليعتها، أن تمنح صورة هذا الأمل بالمستقبل التفاصيل والأسس والسبل التي تجعلها ماثلة للعيان، محفزة للثائرين وحامية لهم من أن تنحرف ثورتهم عما يبذلون كل نفيسٍ في سبيله. الثورات العربية اليوم منعطف تاريخي، يفوق بما لا يقاس الفاجعة العراقية ويفترق عنها بحيث لا يجوز القياس عليها. هذه الثورات تعبِّر عن رغبة الشعوب العربية في الخلاص من الاستبداد والظلم ومن أنظمة يجوز القول إنها تحضُّ على العنف الأهلي (ولدينا مصر وسوريا نموذجين) وهو الخطر الأوثق والأكبر على وجود المسيحيين بكامله في الشرق. لا يجوز اليوم الرهان على غير الشعوب. بل ينبغي تجاوز الرهانات والمواقف الشكلية والإعلامية إلى العمل الفاعل لصوغ صورة جديدة للمستقبل. ثمة شعوب وجدت صوتها، في حناجر القاشوش والشيخ إمام واسكندرلا، ولا تزال تبحث عن صورة جماعية شديدة الثراء بالألوان والوجوه. يسع المسيحيين اليوم أن يحموا هذه الصورة، كما حموا الثورة في ميدان التحرير، من أن تنهزم أمام الطغيان أو أن تنحرف نحو العنف أو نحو استبداد آخر. ويمكن المسيحيين اليوم أن يحجزوا في هذه الصورة مكانهم، بوضع نسيجهم الاجتماعي إلى جانب الآخرين وبالإنضمام إلى حركة شعبية يجد كل فرد فيها مكانه ويستلهم في ذلك ميراث المسيحية المشرقية الحضاري والتعددي والمنفتح. *** *** *** النهار |
|
|