|
فشل التغريب الخالص: وقائع مستلة من عالم افتراضي
كتب محمد جابر الأنصاري في مقال بعنوان الاعتدال الإسلامي، جريدة الحياة بتاريخ 21–5-2009: جرَّب العرب والمسلمون النهوض ومواجهة تحديات هذا العصر المتغير بالتغريب الخالص، فلم يفلحوا، واكتشفت نخبهم الداعية إلى مثل هذا التغريب أن "البذرة" لا تنمو في التربة المحلية، وإنما تذهب عبثًا، كما اعترف بذلك الدكتور محمد حسين هيكل، وزير المعارف المصري الأسبق، وصاحب كتابيْ حياة محمد وفي منزل الوحي وقد ألفهما بعد تحوله الفكري والعقيدي، بين مفكرين آخرين. لا نعلم متى جُرِّب هذا التغريب الخالص الذي يتحدث عنه المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري على الرغم مما "اعترف به الدكتور محمد حسين هيكل وزير المعارف المصري الأسبق". إذ لا وظيفة – في رأيي – لهذا الاعتراف من قبل هيكل بفشل التغريب الخالص غير تبرير تمشيخه المتأخر في سياق أندرج فيه "مفكرون آخرون" كما يقول الأنصاري في نهاية المقطع الذي نستشهد به. ونرجو ألا يكون في حديث الدكتور الأنصاري، صاحب كتاب العرب والسياسة - جذور العطل العميق، الذي تتلمذنا على منهجيته المستقاة من معارف وعلوم غربية أحسن استخدامها في مقارباته النقدية لإشكالياتنا كعرب وكمسلمين، ألا يكون إرهاصات في الاتجاه المومئ إليه. أعود إلى صلب الحديث لأسأل: أين هو التغريب الخالص الذي فشل؟! هل تم تجريبه من قبل محمد علي، أم عبد الناصر، أم بورقيبة، أم بومدين، أم حافظ أسد؟ أم في تجربة أحمد سوكارنو، أو موديبو كيتا، أو رضى بهلوي؟! قد يسرع أحدهم إلى الاعتراض على تجاهلي تجربة كمال أتاتورك لكونها مضرب مثل "الإسلاميين والقوميين العرب في نسختهم المتأسلمة" على التغريب الخالص. سأترك الحديث في تجربة أتاتورك إلى النهاية لأقول ما يلي: لا شيء من التغريب الخالص في كل تجارب التحديث التي ذكرناها، ولا صلة بين المآلات المأزومة التي أفضت إليها هذه التجارب وجرثومة التغريب الخالص الموضوعة في قفص الإتهام، بل ينبغي التفتيش عن جذور لهذه المآلات – التي يتنطع الكثيرون للنعي على رأسها كما على رأس الميت – في تركيبة الحوامل الاجتماعية لهذه التجارب، وفي غلبة التلفيق على الزوادة الفكرية للنخب التي تصدرت مشهدها السياسي، وفي الركام من محاولات العرقلة الخارجية: بدءًا بالتآمر العلني والمباشر ووصولاً إلى المبَّطن وغير المباشر "الإستراتيجي" الممارس من قبل المركز الإمبريالي: الأوربي ثم الأمريكي على هذه التجارب. وليس التطرف الإسلامي الراهن مقطوع الصلة بما صنفناه تحت عنوان "التآمر الإستراتيجي" الذي يقيم رهاناته على نتائج استفزاز بنية قيد التشكل. لقد شكَّل العالم العربي–الإسلامي مسرحًا لتجريب التآمر الإستراتيجي. ولدينا في القرنين الفائتين أمثلة قد تحرج كثيرًا من السلالات التي لا زالت حاكمة فيه، بل وكثيرًا من الرايات الأيديولوجية التي لا زالت تخفق في سماء هذا العالم العربي-الإسلامي المترامي الأطراف، وكثيرًا من السِيَر الذاتية للبلوكات الدينية والطائفية التي يتشكل منها إجتماعنا العربي-الإسلامي. لنتمعن فقط في وقائع النصف الأول من القرن التاسع عشر فيما يخص مشروعين للتحديث تزامنا وتصادما: مشروع السلطان العثماني محمود الثاني، ومشروع محمد علي في مصر وشطر من آسيا العربية. ولنتتبع الآثار التي تركتها الأصابع الإنكليزية في ملفات تلك المرحلة. ثم، أليست إسرائيل الراهنة، إذا قشرنا عنها أساطيرها التوراتية التي استخدمت كطعم لاصطياد الجاليات اليهودية، بنتًا لهذا التآمر الإستراتيجي على الممكنات التي يفتحها التلاقح الثقافي مع الغرب أمام مجتمعات المنطقة؟ التلاقح الذي لا يمكن تجنب آثاره مهما تحوطت له النخب الحاكمة على المقلبين: الدولي والمحلي؟*. إلا أن تركيزي الحديث عن حصة التآمر الإستراتيجي في صناعة المآلات الراهنة للحداثة في مجتمعاتنا لا يتوخى تعليق فشل تجاربنا على مشجب الخارج كما تميل إلى ذلك أدبيات رائجة، بل لألفت النظر إلى الموقف الحقيقي للنخب الحاكمة الغربية من حكاية التحديث في العالم العربي–الإسلامي، سيما وأنه – أي التحديث وقادته – محشوران في خانة المؤامرة لدى قطاعات واسعة من الرأي العام المحلي المتأثرة بخطاب الإسلام السياسي. ولعل في تعليق مأزق الحداثة الراهن في رقبة التغريب الخالص من قبل مفكرنا الأنصاري الذي نحترم، صدى لصخب "الإسلام السياسي"، أو هو سهم طاش من كنانة سبق وأن أبلت حسنًا. لقد تحول قادة التحديث في المنطقة إلى عملاء للغربين: الاشتراكي والرأسمالي في الخطاب الرائج للإسلام السياسي كما في بعض خطابات اليسار الطفولي. وتحت هذه الغيمة من الغبار الأيديولوجي يجري إخفاء الوشائج التي تربط لحى وجلاليب الكثير من قادة الإسلام السياسي بدوائر الاستخبارات الغربية، إذ إن منطق المصالح المشتركة وما ينحسر عنه لحاف السرية لهذا السبب أو ذاك يؤكد تموضعهم في هذا الموقع. ولا شك في أن عواطف التدين ليست في معرض الإتهام، فهذه العواطف هي موضوع للتلاعب وليست شريكة فيه، وما أتناوله في هذا الحديث هو التوظيفات السياسية في المقدس سواء تلك التي تمارس من داخل دائرة المنتمين إليه أو من قبل من يجدون في هؤلاء شركاء محليين لعرقلة الحداثة كأفق مفتوح للخروج من التخلف، لما سيتبع ذلك الخروج من إخلال بمعادلات النهب والسيطرة المحافظ عليها لا بجفن العين كما يقال بل بالأساطيل الرابضة في مياهنا الإقليمية، وبمد الأصابع إلى نسيجنا الاجتماعي للتلاعب بخطوط التنوع الديني والإثني والمذهبي فيه، وباستجرار ردات الفعل غير العاقلة التي لا تخلو منها بنية قيد التحول، للتحكم بسيرورتنا الاقتصادية–الاجتماعية. وفي هذا الإطار تشكل الحميمية التي يشيعها المقدس كحقل مغناطيسي يتحكم بحركة أفراد الجماعة أهم المعوقات أمام عملية التموضع داخل الدولة الحديثة، فمن هذه الحميمية تتشكل البلوكات المغلقة المستعصية على الذوبان في مشروع الدولة. ولأن هذه الأخيرة هي الحاضنة لجدلية الخروج من القروسطية – كما برهنت على ذلك كل الوقائع التي أعقبت اتفاقية وستفاليا – لذلك عول "التآمر الإستراتيجي" على هذه المسألة حيث أمكن ذلك، فظهرت الكيانات السياسية في المنطقة ملغومة بالدوائر الحميمية المغلقة التي يتوزع عليها النسيج الاجتماعي لهذا الكيان السياسي أو ذاك. بقي من الحديث ما يختص بتجربة التحديث التركية: ألا يقف التغريب الخالص الذي فرضه مؤسس تركيا أتاتورك وراء هذا المآل التركي المختلف، بما فيه ظهور الإسلام السياسي التركي المعتدل؟ أخلص إلى القول: في التجربة العربية على الأقل، لا يقف وراء المأزق الراهن للتحديث تجريبهم التغريب الخالص، بل عدم تجريبه. 22-5-2009 *** *** *** * للتوسع في هذه النقطة انظر مقالتي على موقع الأوان: عمق التأثيرات الإسرائيلية على جدلية المحيط العربي.
|
|
|