|
ضرعا الاستبداد العربي: حداثة مزعومة وآصالة متوهمة
عدوان حميمان يتصارعان منذ قرنين على الأرض العربية للتحكم بمصير الشعب لصالح نخبة محدودة. عدوان نقيضان ومتكاملان في آن، إذ كل منهما، فيما يعادي الآخر، يستقوي به لتثبيت شرعيته: حداثة مزعومة وآصالة متوهمة. صورتان مشوهتان مقتبستان قسرًا من الآخر الغربي أو الآخر التراثي، لا تحيلان إلى أي واقع في الفكر أو الممارسة، بل تتخذان ذريعة لتبرير الاستبداد. كلاهما شوه وجه نهضتنا كما رسمه روادها المتجذرون في التراث وفي الحداثة معًا (الطهطاوي، الشدياق، البستاني...) وأحبط مشاريعها. أولهم، الطهطاوي، شيخ أزهري قال بالجمع بين "العلوم البرانية" و"العلوم الجوانية" – وهما عنده مرادفان للحداثة والآصالة – وسيلة لإعادة المجتمع العربي إلى التاريخ. استطاع بهذه الصيغة المبسطة أن يرسي أسس المؤسسات المصرية الحديثة، من تربوية وعلمية وفكرية، التي قامت عليها النهضة في مصر. تنبه باكرًا إلى سذاجة هذه الجدلية بين الجواني والبراني، إذ أن الأخذ بعلم لا بد من أن يبدل عالم المتلقي إن لم يكتف باستهلاك مادي مباشر. فدعا في مؤلفاته اللاحقة إلى تمثل روحية هذا العلم، وطبقها في في حياته الشخصية قدر المستطاع: تشهد على ذلك وثيقة تعهد فيها تجاه زوجته ألا يتزوج أخرى وأن يعاملها ندًا لند. انطلق من التراث وغرف من الفكر الإنساني فمهد الطريق للإصلاحيين من أمثال الأفغاني ومحمد عبده لكي يتابعوا مسيرته. فاستنبطوا، بالتفاعل بين البراني والجواني، سلوكًا جديدًا ومبادئ نضال في شتى الميادين: الحرية الفردية، تأويل الدين، نظام الحكم، العلاقة بين الرجل والمرأة... وعلى نفس المنوال نسج بطرس البستاني وفارس الشدياق، مع فارق مهم: أخذا الآصالة بمعناها الثقافي (التراث) لا الديني (الشريعة)، فاستطاعا أن يحرزا إنجازًا مهمًا في الميدان التربوي (المعاهد) والفكري (الموسوعة) والثقافي (الصحافة والرواية) والاجتماعي (المواطنة)، كان رديفًا لعمل الطهطاوي. صحيح أن ثنائية الحداثة/الأصالة تفاقمت بعدهم، فأدت إلى مجابهة عقيمة بين حداثة جامحة موالية للغرب عمومًا (الشميل) وآصالة مطلقة (الرافعي) مناوئة لهذا الغرب الذي أصبح المعيار الذي تبنى وفقه المواقف والنظريات. غير أن ورثة الرواد استطاعوا أن يتجاوزوا جدلية الطهطاوي الأولية ليصيغوا حركية متكاملة من الناحية النظرية وتيارًا اجتماعيًا عريضًا، أصبحا عصب الحراك الذي أدى إلى الاستقلال ومن بعده إلى التغيرات الاجتماعية. فلولا طه حسين والعقاد وأحمد أمين، ولولا الكواكبي وفرح أنطون وجبران وغيرهم، لما شهدنا الازدهار النسبي الذي عرفناه حتى سبعينيات القرن الماضي. وفي مواجهة هؤلاء الورثة قامت حركة الإخوان المسلمين كامتداد نافر للحركة الوهابية، دون أن تقوى على أيقاف المد التقدمي. وبقي الصراع بينهما سلميًا طوال فترة النضال في سبيل الاستقلال، ترجح كفة بفعل السلطة الأجنبية القائمة أو بهبة شعبية، مثال ذلك ثورة 1919 أو الحركة الناصرية في مصر. وحين تفاقمت الهزائم – وسببها الجوهري داخلي – تجمد الوضع: نظام ملكي مستند إلى مرجعية أجنبية هنا، وجهاز عسكري مكشوف أو مقنع يستمد شرعيته من قوته الضاربة هناك. وكل منهما فرض رؤيته لمصلحة الفئة التي يستند إليها مستفيدًا من عورات الرؤية المقابلة، مع اشتراك الرؤيتين في الهجانة. فقد كرست حرب 1967 فشل الأنظمة المنبثقة عن الثورات العربية، وانتقل مركز القوى الفعلي إلى المؤسسة السعودية، التي تغلغلت في المجتمعات العربية بتدرج، من العسكري (إعادة بناء الجيوش) إلى الاقتصادي، فإلى السياسي فالاجتماعي فالثقافي بما فيه الإبداع. وسرعان ما تمخضت الأنظمة "الثورية" المنهارة عن ديكتاتوريات صريحة أو مقنعة – أصبحت أحيانًا سلالية – توازي عمليًا الديكتاتورية الملكية في شبه الجزيرة. مع فارق شكلي سوغ الصراع الظاهري: أن هذه الديكتاتوريات تبنت الحداثة شعارًا اجتماعيًا مشفوعًا بليبرالية منفكة العقال دمرت الاقتصاد الوطني والطبقة الوسطى المرتبطة به تقليديًا لتحمي مصالحها وتؤمن ديمومتها، بينما تبنت الملكية السعودية الآصالة شعارًا اجتماعيًا وثقافيًا حماية لديمومتها مشفوعًا بنفس الليبرالية الجامحة. واشترك الجانبان بالنظام الاستبدادي. فقامت بدل الجدلية النظرية الأولى ثنائية عملية إجرائية مدمرة – الباطن والظاهر – دمر الضمير بعد أن دمر المجتمع. هكذا ارتبط الاستبداد بمفهوم شكلي جامد لجدلية الآصالة والحداثة، تُرفع شعارًا يغطي الممارسة القمعية فيما يوفر للسلطة المهيمنة على الدولة استثمار موارد الوطن لمصالحها الخاصة. التيار الأصولي اقتبس التقنيات الجاهزة التي تيسر أساليب العيش المادية، وأبقى على الأسس التقليدية: حكم الفرد أو العائلة، علاقات قبلية، انصياع الفرد للعرف الاجتماعي والديني الذي تحدده المؤسسة المتحالفة مع الحاكم (الوهابية)، ثقافة تراثية مبتسرة ضحلة. أنتج مجتمعًا عصابيًا ممزقًا بين ماض منقرض لا يجيب على أي من أسئلته الحياتية، وحداثة محض استهلاكية منقطعة عن أصولها الفكرية والشعورية وعن المؤسسات التي قامت لتكون ضمانة لها. واستمر، على هزاله، بفضل ثروة طبيعية لا فضل له في إنتاجها ولا في رعايتها التي أوكلها إلى حراسة الأجنبي. استولت النخبة الحاكمة على الثروات تاركة بعض الفتات للشعب. أمَّا الآصالة فشكل جامد فارغ ينقصه النسغ الذي أنتج الحضارة العربية العالمية والرؤية الحية التي أنتجت فكرًا دينيًا جديدًا. آصالة متوهمة تستند إلى حداثة استهلاكية لا روح فيها. هجانة قاتلة. أما التيار الحداثي، وعنوانه الأبكر بلاد الشام، الذي نشأ بفضل مخاض طويل واعتمدته فئات متنامية من الشعب ثم ازدهر في الفترة "البورجوازية"، فبدأ يتقلص شيئًا فشيئًا مع صعود العسكر على أكتاف الأحزاب التقدمية التي انقادت له سعيًا إلى سلطة عاجلة. وانحدر سريعًا بعد الهزائم المتكررة إلى حكم فردي مطلق يدعمه الغرب (مصر) أو يناور بين القوى العالمية (سورية والعراق). لم يبق من الحداثة إلا الشعارات التي تستر استئثار النخبة بالحكم، استئثار هو على نقيض الحداثة القائمة على إنتاج الشعب لمؤسساته السياسية والاجتماعية والثقافية، أي على الحرية والمواطنة. حداثة مزعومة على طرف نقيض من الحقيقية، لا تستمر إلا بآلية عتيقة قدم الزمن. استوى الطرفان في الهجانة. مأساوية الوضع الراهن، في سورية خاصة، تتجلى في الأسلوب الذي يستعمله التياران لإجهاض الانتفاضة الشعبية الحداثية في روحيتها على الإطلاق. شبيبة هبت من غير موقع، متجاوزة الأحزاب والمثقفين وآل الحكم، يقول بأولوية المواطن والمواطنة وكرامتهما: الحق في العمل والعيش الكريم في وجه من يهدم الاقتصاد ويستأثر بريع سريع، الحق في المشاركة في الحياة العامة وإنتاج المؤسسات الديمقراطية في وجه من ينتصب قيمًا على شعب قاصر، الحق في التعبير الحر والإبداع الشخصي في وجه من يفرض أيديولوجيا مفرغة من كل محتوى، حق إقامة وطن لجميع مواطنيه بدون استبعاد أي فئاتها المتعددة الإنتماءات الفرعية في وجه نظام عصبوي (قائم على عصبية المصلحة، لا على الطائفة) يتغذى بكل ما يقيم أود عصبيته. وكان رد النخب ردين. النخبة الحاكمة تسلحت بـ "حداثيتها" متهمة الانتفاضة بأنها مندسة تعمل لحساب التيار المنافس، "أصولية" عربية متحالفة مع الأجنبي تخطط للارتداد إلى عصر ظلامي وهدم قلعة المقاومة ضد العدوان الإسرائيلي. وأطلقت العنان لقواتها الأمنية لتستبيح المدن والقرى على نحو غير مسبوق، فروعت وقتلت وأوقفت الرعيل الأول من الناشطين المعبرين عن روحية الانتفاضة لتثير البلبلة في صفوف الشعب وتحرف مسيرته. كما أنها استفادت من بعض أعمال العنف الطائفية المنحى بل شجعتها لتخيف الأقليات. وفي نفس الوقت حاولت، بعد فترة من التسويف، أن تقوم ببعض الإصلاحات المفروضة من عل وهي تتعلل بحوار وطني لا يستند إلى أي أساس. لا يقوم مخططها في أغلبه إلا على أنها تمثل الحداثة في وجه الأصولية، ولو لم تكن الأصولية قائمة لأوجدتها لتحتمي بها. إنهما توأمان قاتلان. لا ينطلي على أي إنسان أن هذه الحداثة نقيض للحداثة الحقيقية. هذه تقوم على أولية الفرد وحقه في حرية التفكير والتعبير والتنظيم الاجتماعي وإنتاج مؤسساته الممثلة له، بينما الأولى ألغت عمليًا كل حرية فردية في التفكير والتعبير، حلت كافة الجمعيات المدنية، كممت الصحافة لتطلق العنان لأبواقها، حلت النقابات لتعيد تشكيلها فوقيًا، أفرغت الأحزاب من فاعليتها مستعملة حزب البعث وكالة للتشغيل والدعاية وتأطير المجتمع، أنشأت برلمانات طيعة لا تمثل أحدًا، تلاعبت بالدستور الوطني وفق هواها واستدرجت إلى حضنها المؤسسات الدينية وقطاعًا واسعًا من المثقفين بالترهيب والترغيب. طوعت قوى المجتمع لمصالحها. لم تترك له إلا بعض المظاهر الخاصة بالزي والمشرب وفسحة ضيقة في الحياة اليومية ونشاطات التسلية. وأساغت لمن يشاء أن يدخل في منطقها الاقتصادي الليبرالي المدمر. الغريب في الأمر أن بعض القائلين بالحداثة عاملاً ضامنًا لكرامتهم وحتى لديمومتهم رضوا بالصيغة التي فرضها النظام مع أنها نقيضة لما يجهرون به. قوم رهنوا حريتهم الفردية ومبادئ المواطنة الأولية – وهي ركن الحداثة – لاستبداد هو النقيض لها، متعللين بأن شعب غير ناضج للنهوض بذاته فلا بد من "مستبد متنور" لتوعيته، وأعموا بصرهم على حقيقة هذا المنقذ المتنطع لهذه المهمة. إنهم "مثقفون" بالظاهر يتبطنون كل تراث الاستبداد. وقوم قيمون على موسسات دينية، تعرفوا على الحداثة الغربية وأغلبهم تخرج من معاهدها اللاهوتية والفلسفية بل والعلمية، وإذ بهم يلجؤون إلى عباءة المستبد، بل ويؤولون مبادئ الإنجيل بما يناسب هواهم، أو ربما هلعهم. هكذا يقضون على منبع رائع من منابع الحرية ويدبون الذعر وروح الخنوع لدى شعبهم. يدافعون عن وجودهم بالردة إلى طائفية بغيضة طالما اشتكوا منها لدى الآخر، فيساهمون موضوعيًا بتثبيت موقع المستبد ويدكون مشروعيتهم الأخلاقية تجاه الوطن وتجاه المسيحيين وتاريخهم العريق. وخاصة يوفرون الذرائع للطرف الذي يشكون من تطرفه وأصوليته ليستمر في موقفه العقيم. يقابل هؤلاء بعض القائلين بالأصالة. ينادون بالقيم الدينية والإنسانية، غير أنهم باعتمادهم نموذجًا تراثيًا تشريعيًا لا يصلح بأي شكل من الأشكال لعالمنا الحاضر ولا لتطلعات شبيبة الانتفاضة، يجهزون على المواطنة المنشودة، يقيدون الحرية الفردية والحراك الاجتماعي والإبداع. أي أصالة في تقييد الفكر والتصرف الشخصي بمراسيم لا علاقة لها بجوهر الدين كانت صالحة لمجتمعات القرن السابع ولم تتطور مذاك، بل حورب من دعا للاجتهاد في سبيل إعادة إنتاج روحيتها الأصيلة؟ أي أصالة في نسخ مؤسسات دولة قروسطية لتحول دون إرادة الشعب في التحكم بدولته ومؤسساتها الاقتصادية والعلمية والتربوية والنقابية وفي خلق جمعياته المدنية المناسبة؟ أي أصالة في التحكم في إبداع الفرد الثقافي والفني والأدبي، بحيث يستبعد عمالقة تراثنا (من أبي العلاء المعرى إلى أبي نواس إلى الفلاسفة والمتصوفين) وورثتهم الحاليين من مفكرين وشعراء وروائيين ومسرحيين وفنانين تشكيليين وغيرهم؟ وأي حداثة في ابتسار الوطن إلى مجموعة دينية تحيد المجموعات الأخرى المنتمية إلى الإسلام وتحمي المجموعات الدينية غير الإسلامية وتحارب من ارتأى موقفًا غير ديني أصلاً؟ ليس في حديثي أي شكل من الاستبعاد لموقف إيماني فردي، ولن أروج لخطأ مقابل وقع فيه "التقدميون" حين اعتمدوا الإلحاد معيارًا أساسيًا للتقدم فارتدوا إلى تراث وافد نقيض لكنه من نفس الطينة. المهم هو التأكيد على الحرية الفردية والمواطنة أساسًا للوطن المنشود. وفي الأديان من القيم الإنسانية الرفيعة ما يكفي لمن يريد أن يستلهمها في سبيل إنشاء دولة المواطنة ومجتمع المواطنين. وعلى سبيل المثال، لا حرج من قيام حزب – شأن حزب الإخوان المسلمين – يستلهم القيم الإسلامية النبيلة في تكريس كرامة الفرد والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، أي الديمقراطية بمعناها الأصلي، دون مظاهر طائفية ولا استراتجية مبطنة، تمامًا كما قامت، بعد الحرب العالمية الثانية باسم "الديمقراطية المسيحية"، أحزاب أوروبية ساهمت بشكل فعال فى إعادة بناء المجتمعات الأوروبية. ولا ننس أن معظم الشخصيات السياسية والفكرية في فترة من تاريخنا الحديث استطاعت الجمع بين الإيمان الشخصي ومبادئ المواطنة، وهي التي نهضت فعلاً بالمجتمع بعكس "ثورية" ظاهرها إلحادي أو "علماني" وباطنها استبدادي لا ينصاع لأي من قيم المواطنة. الأولون هم العلمانيون الحقيقيون – دون أن يغض ذلك من إيمانهم – بينما الآخرون علمانيون عقائديون يتخذون العلمانية مبدأ مطلقًا أو غطاء كأنه قميص عثمان. فهل كان يوسف العظمة أو شكري القوتلي أو فارس الخوري أو جمال عبد الناصر من العلمانيين الملحدين؟ وعلى كل حال، علينا أن ننتج عملانيتنا كما حداثتنا كما إرثنا من تربتنا لا نقتبسها من الخارج. رحمك الله محمود درويش وأنت القائل: ليس التراث ما نرثه، بل ما نورثه. الفسحة تتسع لتيار إسلامي عصري ينبذ مبدأ الوهابية (الشريعة دستورًا) ويعتمد مبدأ الدستور المدني الذي تبناه عمليًا "الإسلام الشعبي" قبل أن تدهمنا الوهابية، وعليه تركزت دعائم النهضة ثم الاستقلال. ولا بد هنا أيضًا من الاستعبار من تاريخ الإنسانية، ومنها تجربة الديمقراطيين المسيحيين بعد إن تبنوا المبدأ المدني بفصل الميدان السياسي عن الميدان الديني التشريعي. ولنقل صراحة: حزب يستوحي الإسلام أخلاقيًا ويعتمد المواطنة أساسًا، له موقعه الكامل في بناء الوطن. والزمن كفيل بصهره في بوتقة المواطنة الحديثة كليًا، كما شهدنا ذلك في الحالة التركية المعاصرة، خاصة وأن القرائن تشير إلى تطور مماثل يعتمل حزب الإخوان المسلمين من تونس إلى مصر إلى الجزائر، وبشائره كثيرة في سورية. آن الأوان للمنضوين تحت راية التغيير أن يقوموا بما يقتضيه الواجب الوطني والأخلاقي لكي يدعموا زخم الثورة الشبابية بوعيها الرائع كي لا تفترسها قوى الاستبداد من الجهة والقوى الداعية إلى آصالة مبتورة تغتذي اليوم تكتيكيًا من ركن الاستبداد الذي يدَّعي آصالة مشوهة. لا بد اليوم من الالتقاء حول برنامج تأسيسي للمرحلة القادمة يقوم على المواطنة بمعناها الحقيقي: فرد حر يلتقي أفرادًا أحرارًا لبناء وطن العدالة والقانون والتضامن الاقتصادي والاعتراف بالآخر القريب والبعيد. ولنعتبر ببرنامج "المجلس الأعلى للمقاومة" في فرنسا، الذي اتفقت عليه، في خضم نضالهم ضد النازيين، كافة فصائل المقاومة، من ديغوليين إلى شيوعيين مرورًا بالاشتراكيين والمسيحيين الاجتماعيين والمناضلين اللاجئين من أنحاء أوروبا وجلهم من اليهود والوطنيين المستقلين، فعبؤوا القوى الشعبية للنصر. ثم أنجزوا برنامجهم بعد التحرير. وهو الذي جهَّز فرنسا الحديثة بمؤسسات ضمنت نهضتها. وعلى سبيل المثال هي التي أنشأت الضمان الصحي والاجتماعي، نظمت القطاع الاقتصادي وحق العمال فيه، أصلحت التعليم ثم أعادت بناء المؤسسة السياسية التي ضمنت الاستقرار وساهمت في تحرير فرنسا من عقلية الاستعمار وعبئه فاسترجعت نفوذها المعنوي والثقافي والاقتصادي. وقد دامت على ازدهارها إلى أن ارتد الحكم مؤخرًا إلى سياسة ليبرالية أطلسية عدوانية عمياء زعزعت أسس المجتمع. إن تبني هذا الموقف من الضرورة بمكان، ليس فقط لترجيح كفة الحراك الشعبي بتشجيع المترددين والخائفين على الانضمام إليه، فنتجنب خطر حرب أهلية مدمرة لا أحد يرضاها، بل أيضًا لخلق فسحة مدنية يشارك فيها كل من يقبل بالمواطنة أساسًا للمجتمع الحديث، خارج الأطر التراثية المدعاة. إنه ضروري كذلك لتجنب تدخل عسكري أجنبي لم يهب يومًا لمساندة شعب إلا وغدر به في النهاية: فلنعتبر بالثورة العربية الكبرى وما آل إليه الأمير فيصل، وباجتياح العراق باسم الديمقراطية، وبمخاض عسير كلَّف شعب ليبيا أكثر من خمسين ألف قتيل ولم ينته بسقوط الطاغية. إنه ضروري كذلك لحث الضمائر الحية الكثيرة في المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية وأصحاب المصالح، ومعهم المواطنون المغرر بهم من كافة الطوائف ولا سيما تلك التي يتستر النظام الأمني وراءها بالباطل ويتذرع بحمايتها، لحث كافة هؤلاء على الانخراط في حركة التغيير لبناء وطن جديد متضامن. بذا لن يكون الوطن الجديد وطن الانتقام والعنف الأعمى المضاد، وإلا فقد شرعيته. عظمة مانديلا أنه، بعد نضال مرير ضد العنصرية، جعل من أعداء الأمس مواطني اليوم. عبقرية ديغول أنه، بعد أن أحرز النصر على رأس مقاومة بقيت أقلية حتى النهاية، أقنع أتباعه والمواطن الفرنسي أن الشعب الفرنسي مقاوم بمجمله. لم يقم بذلك عن سذاجة بل ليتجنب صراعًا داخليًا مسلحًا قد يؤدي إلى الاحتراب الداخلي، تاركًا للعدالة أن تنظر في قضية المسؤولين المتعاونين مع المحتل النازي. كل منهما بنى وطنًا. ونحن، هل عدمنا من الرجالات (نساء كانوا أم رجالاً) من يرتقون إلى هذا المستوى بفكرهم الإنساني الوطني العميق وبما قدموه طوعًا من تضحيات رائعة في سبيل الوطن؟ آن الأوان للمؤسسات الدينية في كافة الطوائف أن تحتكم إلى ضميرها. وآن الأوان، بعد النداءات المرتفعة من كل حدب وصوب، أن نجتمع على "ميثاق شرف" واضح المعالم مبني على المواطنة يجمع شمل المواطنين لاجبار أصحاب السلطة على الانصياع إلى إرادة الشعب. من حق شبيبتنا علينا، وهي التي أضاءت الشعلة بوعيها المتجذر في قيم المواطنة والإنسانية، ألا نخذل حدسها ومبادئها السامية. لقد فتحت لنا باب الأمل بعد دهر من الديجور، وأثبتت أمام العالم أجمع أنها جديرة بالاحترام والإبداع والريادة، فلا يتطاولن أحد عليها، ولا يسعين أحد إلى سلطة بالتسلق على أكتافها. ولا يحاولن أحد تضليلها. شبيبتنا، لك الشكر ولك المجد. عسانا نكون بك جديرين، فنساهم من موقعنا في مشروعك النبيل. *** *** *** السفير |
|
|