|
اللاعنف والمقاومةNonviolence and resistance
مباشرةً بعد إصداره الأمر بالهجوم البري على العراق، في شباط عام 1991، خاطب الرئيس بوش أمَّته، قائلاً: «مهما كنتم تفعلون في هذه اللحظة، رجائي لكم التوقف والصلاة من أجل جنودنا في الخليج. ليبارك الله الولايات المتحدة الأمريكية». ويخامرني الشعور بأنه في اللحظة عينها كان الكثير من المسلمين يصلُّون أيضًا إلى ربِّهم لحماية العراق والجنود العراقيين. كيف يمكن للرب أن يعرف أية أمة يدعم؟ الكثير من الناس يصلُّون للرب لأنهم يريدون منه تحقيق بعض احتياجاتهم. فإذا كانوا يرغبون في التنزه، فربما سألوا الله يومًا مشمسًا صافيًا. وفي الوقت نفسه، قد يصلِّي المزارعون الذين يلتمسون مطرًا أغزر من أجل طلب معاكس. فإذا كان الطقس صافيًا، قد يقول المتنزِّهون: «الله في صفِّنا؛ لقد استجاب لصلواتنا». لكن إن كان الطقس ممطرًا، فسيقول المزارعون إن الله قد سمع صلواتـ"هم". هذه هي الطريقة التي نصلي بها عادةً.
بعد خمسين عامًا مضت على رحيل غاندي – اغتيلَ في العاشر من كانون الثاني/يناير 1948 – يبدو أنَّ البشريةَ لم تسمعْ رسالةَ اللاعنف التي أرادَ أنْ يقدِّمَها للعالَم. فالعنف هو دائمًا المادة الأولى لأخبارنا اليومية ومازال يُغرِق تاريخَنا في غياهب الظلمات. فاليومَ كما في الأمس، يرى قليلٌ جدًا من الناس أنه من المنطقي التأكيد على أن اللاعنف الذي يطرحه غاندي هو في الحقيقة الحكمةُ التي من شأنها أنْ تتيحَ للبشر التصديَ للتحديات التي يواجهونها في النهاية هذه للعصر. ما هي الصورة التي يأخذها الغربيُّون اليومَ عن غاندي، وما هي الفكرة التي يُكَوِّنونها عن اللاعنف الذي عاش لأجله ومات لأجله؟ لا ريب في أن الجميع تقريبًا يعرِفون اسمَ هذا الهندي ووجهَه؛ ويعرفون على الأرجح أنه ثارَ على الاحتلال الاستعماري لبلاده وناضل من أجل تحرير شعبه رافضًا اللجوءَ إلى أسلحة العنف الفتَّاكة. لكنهم إذا أقرُّوا بسهولةٍ بأن اللاعنف هو مثال أعلى مثير للإعجاب فإنهم لا يعتقدون مع ذلك بأنه يمكن أنْ يكون ذا فائدةٍ ما لهم من أجل أنْ يواجِهوا مواجهَةً واقعيةً وفعَّالةً الأحداثَ التي تشكِّلُ هنا والآنَ نسيجَ تاريخهم.
عندما يُعدم الملوك بموجب حكم قضائي، كما جرى لكارل الأول ولودوفيك السادس عشر ومكسيميليان المكسيكي، أو عندما يُقتلون في ثورات البلاط، كما جرى لبطرس الثالث وبولس ومختلف السلاطين والشاهات والخانات، يسود الصمت عادةً. ولكن عندما يُقتلون دون محاكمة، ودون ثورات بلاط، مثل هنري الرابع وألكسندر الثاني والامبراطورة النمساوية والشاه الفارسي، والآن هومبرت، فإنَّ اغتيالاتٍ كهذه تثير بين الملوك والأباطرة وأقربائهم غضبًا عظيمًا يثير الدهشة، تمامًا وكأنَّ هؤلاء الملوك القتلى لم يشاركوا في جرائم قتل، ولم يستخدموها، ولم يأمروا بها. في حين أنَّ أكثر الملوك القتلى طيبةً، مثل ألكسندر الثاني وهومبرت، كانوا مجرمين، مساهمين ومشاركين - ناهيكم عن الإعدامات المحلية - في قتل عشرات الآلاف من البشر الذين قُتلوا في ساحات المعارك، أما الأشرار من الملوك والأباطرة فقد ارتكبوا مئات الألوف، بل الملايين، من جرائم القتل.
أعتذر أولاً عن الخوض في شؤونكم الخاصة، وسامحوني إن كنت دسست أنفي فيما لا ينبغي أن تقحم فيه. لكني أحسست أن واجب النصح أولاً، والوفاء ثانيًا لما أوليتمونا إياه من مساندة أيام قراع الفصل العنصري يحتمان عليَّ رد الجميل وإن بإبداء رأي محَّصته التجارب وعجمتْه الأيامُ وأنضجته السجون. أحبتي ثوار العرب؛ لا زلت أذكر ذلك اليوم بوضوح. كان يومًا مشمسًا من أيام كيب تاون. خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة آلاف عام. خرجت إلى الدنيا بعدما وُورِيتُ عنها سبعًا وعشرين عامًا لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد، ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن، إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو: كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلاً؟ أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم. لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير، وهو سؤال قد تحُدِّد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم. إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم.
ذات يوم، من العام 1940، ألحَّ شاب هندي على غاندي بالسؤال: «ما الذي سيجعل، حقًا، البريطانيين يتركوننا وشأننا؟» فأجاب غاندي بتألق: «تقدم استثنائي في الغَزْل». أودُّ أن أتخيَّل ذلك الذي كان من أولئك الثوريين الذين لم يُصدِّقوا أنَّ غاندي كان جادًّا حقًا بشأن اللاعنف. كان يعتقد – ويأمل – أنَّ غاندي كان يبدِّد الوقت بانتظار اللحظة المناسبة لإطلاق ثورة حقيقية، لكن اللاعنف كان الثورة الحقيقية. وحقًا، يغرينا السؤال عن دواليب الغَزْل؟ أجل، دواليب الغزل وكل ما ساندها. ففي ذلك الوقت الذي كان فيه غاندي يصوغ هذه الإجابة، كانت له تقريبًا تجربة خمسين سنة خلف دولاب الغزل، ولم يعد مهتمًا بأن يبدو بارعًا. وبوسعنا الافتراض أنه قصد ما قاله فحسب؛ فلماذا كان لدولاب الغزل المتواضع مثل هذه القوة؟
لا يصدق كثيرون أنه من الممكن وسط هذه الهمجية التي يُعامل بها السوريون من قبل نظامهم، بقاء مساحة لمشاعر أخرى غير الغضب والألم. في الواقع، هناك من لا يزال يقابل البندقية بالورود. يبدو ذلك للوهلة الأولى إفراطًا في حسن النية والطوباوية. لكن ثوار الورد ينظرون إلى الأمر من زاوية أخرى، فهم يأملون أن الثورة قد تغير أكثر من النظام وأبعد. منذ بداية الاحتجاجات، أدرجت لجنة تنسيق داريا في ريف دمشق، مبادرة حمل الورود في جميع المظاهرات. وردة لكل متظاهر. شباب اللجنة هم ممن يتبنون النضال اللاعنفي، ولبعضهم تجارب سابقة في هذا الإطار ضمن ما عُرف بمجموعة داريا التي تعرضت للاعتقال عام 2003 على خلفية تنظيف المدينة وتوزيع "روزنامات" كتبت عليها عبارات ضد الرشوة، والتظاهر السلمي الصامت احتجاجًا على احتلال العراق، وغيرها من الأنشطة التي لم تكن مألوفة على الإطلاق في ذلك الوقت في سوريا. مع ذلك أعجز عن تفسير كيفية استمرار إقناع اللجنة للمتظاهرين بحمل الورود. يبدو المشهد مفارقًا وينتقص من "درامية" الحدث وما يحاط به من عنف في كل مرة تواجه بها المظاهرة بالهراوات والرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع.
ظن الناس في حزيران 1967 أن الاحتلال سيستمر أيامًا أو شهورًا. وعلَّقوا الآمال على الأمم المتحدة ومبعوثيها وقراراتها، منذ المبعوث الأممي (غونار يارنغ). ووضعت نتائج حرب اكتوبر 1973 حدًا لآمالهم بأن تقوم الجيوش العربية بتحريرهم. أما غزو إسرائيل للبنان وحصارها لبيروت في صيف 1982، وما نجم عن ذلك من إخراج منظمة التحرير الفلسطينية وقواتها من لبنان، فقد وضع حدًا للآمال التي علَّقها الناس على الكفاح المسلح لوضع حدٍّ للاحتلال. وكانت الانتفاضة الأهلية اللاعنفية التي انطلقت في 9-12-1987 تعبيرًا عن إدراك الناس بأن حريتهم من الاحتلال لن تتحقق بالجيوش العربية، ولا بالكفاح المسلح؛ وأن عليهم مسؤولية المبادرة إلى مقاومة تضع حدًا للاحتلال الذي كان في حينه قد بدأ عامه الحادي والعشرين. وأدرك الناس أيضًا أن القوة المطلوبة لتحقيق حريتهم غير موجودة في الخارج، وإنما كامنة في داخل كل واحد فيهم. لذا ما عليهم إلا وضع حد للإنتظار والرهان على مشاريع ومؤتمرات ومبادرات كثيرة جدًا فشلت كلها في إنهاء الإحتلال، أو حتى في تقليصه.
|
|
|