|
لا تـقـتـل*
«لا تقتل» (سفر الخروج: 2، 13) «ليس التلميذ أفضل من معلِّمه، بل كلّ من صار كاملاً يكون مثل معلِّمه» (إنجيل لوقا: 6، 40) «لأنّ كلّ الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون!» (إنجيل متى: 26، 52) «فكلُّ ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم» (إنجيل متى: 7، 12) عندما يُعدم الملوك بموجب حكم قضائي، كما جرى لكارل الأول ولودوفيك السادس عشر ومكسيميليان المكسيكي، أو عندما يُقتلون في ثورات البلاط، كما جرى لبطرس الثالث وبولس ومختلف السلاطين والشاهات والخانات، يسود الصمت عادةً. ولكن عندما يُقتلون دون محاكمة، ودون ثورات بلاط، مثل هنري الرابع وألكسندر الثاني والامبراطورة النمساوية والشاه الفارسي، والآن هومبرت، فإنَّ اغتيالاتٍ كهذه تثير بين الملوك والأباطرة وأقربائهم غضبًا عظيمًا يثير الدهشة، تمامًا وكأنَّ هؤلاء الملوك القتلى لم يشاركوا في جرائم قتل، ولم يستخدموها، ولم يأمروا بها. في حين أنَّ أكثر الملوك القتلى طيبةً، مثل ألكسندر الثاني وهومبرت، كانوا مجرمين، مساهمين ومشاركين - ناهيكم عن الإعدامات المحلية - في قتل عشرات الآلاف من البشر الذين قُتلوا في ساحات المعارك، أما الأشرار من الملوك والأباطرة فقد ارتكبوا مئات الألوف، بل الملايين، من جرائم القتل. لقد ألغى دين المسيح قانون «العين بالعين والسنُّ بالسن»، لكن الناس الذين لم يتبعوا هذا القانون فحسب بل ويتبعونه في الوقت الراهن بمقاييس مهولة، في العقوبات والحروب، وعدا عن ذلك يستخدمونه، وليس عينًا بعين فحسب، وإنما يأمرون بقتل الآلاف دون أية محاكمات، كما يفعلون عند إعلان الحروب، ليس لهم حقٌّ في الاستياء من استخدام هذا القانون بحقِّهم ضمن حدودٍ ضئيلة وتافهة بحيث، بالكاد، يكون هناك ملك أو إمبراطور قتيل واحد مقابل مائة ألف، وربما مليون، قتيل ومقتول بموجب أوامر الملوك والأباطرة وبمباركتهم. لذا، لا ينبغي للملوك والأباطرة ألا يستاءوا بسبب هذه الاغتيالات، مثل مقتل ألكسندر الثاني وهومبرت، فحسب بل يجب أن يُدهشوا من ندرة اغتيالات كهذه بعد قدوة القتل الشامل المستمر التي يقدِّمونها للناس. البشر حشودٌ مخدَّرة إلى درجة أنهم لا يرون دائمًا، ولا يفهمون معنى ما يحدث أمامهم. فهم يرون انشغال جميع الملوك والأباطرة والرؤساء الدائم بالجيوش النظامية، ويشاهدون الاستعراضات والعروض والمناورات العسكرية التي يقومون بها، والتي يتفاخرون بها فيما بينهم، ويهرعون بحماس ليشاهدوا كيف يتحول إخوانهم، المرتدين ملابس مموَّهة موشَّاة حمقاء، إلى آلاتٍ على أصوات الطبول والأبواق، وكيف يهتفون هتاف رجلٍ واحد، وينفِّذون معًا الحركة ذاتها، ومع ذلك لا يفهمون معنى ذلك. لكن هذا معناه، بمنتهى البساطة الوضوح، الاستعداد للقتل ليس إلا. إنه تخديرٌ للبشر لتحويلهم إلى أدواتٍ للقتل، ومع ذلك يقوم به، ويغتبط له، ويفتخر به، الملوك والأباطرة والرؤساء. وهم، المنشغلين بالقتل العمد، محترفي القتل، والمرتدين دائمًا بزَّاتهم العسكرية، وأدوات القتل [السيوف] على جنوبهم، يهلعون ويغضبون عندما يُقتل واحدٌ منهم. إنَّ اغتيالات الملوك، مثل اغتيال هومبرت الأخير، ليست مرعبة في قسوتها؛ إذ إنَّ الأعمال المرتكبة تبعًا لأوامر الملوك والأباطرة - ليست السابقة فقط، مثل ليلة بارثولومي، والمجازر الدينية، وقمع العصيانات الفلاحية المرعب، وإهلاك السجناء في السجون الانفرادية وسرايا التأديب، والشنق، وقطع الرؤوس، والمجازر التي ترتكب في الحروب - لا تُقارن، من حيث قسوتها، بالاغتيالات التي يرتكبها الأنارخيون[1]. كما أنَّ هذه الاغتيالات ليست مرعبة من حيث لاعدالتها؛ فإذا كان ألكسندر الثاني وهومبرت لا يستأهلان القتل، فبدرجة أقل كان يستأهله آلاف القتلى الروس في بلِفنا، وآلاف الإيطاليين في الحبشة. هذه الاغتيالات ليس مرعبة من حيث قسوتها ولاعدالتها، لكنها مرعبة من حيث جنون الذين يرتكبونها؛ فإذا كان قتلة الملوك يقومون بذلك بتأثيرٍ من شعور حنقٍ شخصي حرَّضته آلام الشعب المستعبَد الذي يعتبر أنَّ ألكسندر أو كارنو أو هومبرت هم مسبِّبوها، أو بتأثير شعور إهانةٍ وانتقام وشخصي؛ فإنَّ هذه الأفعال، مهما بلغت درجة لاأخلاقيتها، مفهومة. ولكن، كيف لمنظمة (الأنارخيون، كما يسمونهم الآن)، وبعد أن أقصت بريسّيه، وتهدِّد أباطرة آخرين، ألا تستطيع التفكير بشيء، من أجل تحسين حال الناس، أفضل من قتل الذين يمكن للقضاء عليهم أن يكون مفيدًا بقدر قطع رأس غول الحكايات الذي تنمو له رأس جديدة فورًا؟ فالملوك والأباطرة قد أقاموا، منذ القدم، لأنفسهم نظامًا يشبه نظام البنادق ذات المخزن: ما إن تنطلق رصاصة حتى تحلَّ محلها أخرى مباشرةً. Le roi mort, Vive le roi [مات الملك، عاش الملك!]. فلماذا قتلهم، إذًا؟ ففقط من وجهة النظر الأكثر سطحيةً يمكن لقتل هؤلاء الناس أن يُعدَّ وسيلة خلاص الشعب من الاضطهاد، ومن الحروب التي تهلك الحيوات الإنسانية. جديرٌ وحسب تذكُّر أنَّ مظالمَ وحروبًا كهذه تحدث في كلِّ مكان، بغضِّ النظر عمَّن يتربَّع على رأس الحكم - نيكولاي أم ألكسندر، فريدريك أم ويلهلم، نابوليون أم لودوفيك، بالمرستون أم غلادستون، كارنو أو تُور، ماك كينلي أم أحد آخر -لفهم أنْ ليس أشخاصًا معينين يُسبِّبون هذه المظالم والحروب التي تعاني منها الشعوب. إذ إنَّ مصائب البشر لا تحدث بسبب الأفراد، وإنما بسبب النظام الاجتماعي الذي يعيش في ظلِّه البشر كلهم، مرتبطين فيما بينهم على نحو بحيث أنَّ الكل يخضعون لسلطة بضعة أشخاص، أو غالبًا لسلطة شخص واحد، والذي، أو الذين أفسدهم وضعهم المناقض للبداهة، والمهيمنون على مصير وحياة ملايين البشر إلى درجة أنهم يكونون في حالةٍ مَرَضية، ويكونون دومًا، بدرجة أو بأخرى، مصابين بجنون العظمة، الذي لا يُلاحظ عليهم فقط بسبب وضعهم الاستثنائي. ناهيكم عن أنَّ هؤلاء الناس محاطون، من المهد إلى اللحد، بالترف الأشد جنونًا، ويرافقهم دائمًا جوّ الكذب والتملُّق. وتنحصر تربيتهم ودروسهم كلها في أمرٍ وحيد هو دراسة الجرائم السابقة، وتعلُّم أفضل وسائل القتل، وأفضل التحضيرات للقتل، في عصرنا. إذ إنهم منذ سنوات الطفولة يتعلمون القتل بكافة أشكاله الممكنة، ودومًا يحملون معهم أدوات القتل: السيوف، الشيَّش، ويرتدون مختلف البزَّات الرسمية، ويقومون بمناورات واستعراضات وعروض عسكرية، ويزورون بعضهم بعضًا، ويهدون بعضهم بعضًا الأوسمة والنياشين، وليس فقط لا يُسمِّي أحد ما يقومون به باسمه الحقيقي، أو أن يقولوا لهم إنَّ الانشغال بتحضيرات القتل أمرٌ كريه وإجرامي، بل يسمعون، من جميع الجهات، فقط المباركات، فقط الإعجاب بعملهم. وفي كلِّ خروج أو عرض أو استعراض لهم، يهرع حشد من الناس ليُحييهم بحماس، فيتهيّأ لهم بأنَّ الشعب كله يعبِّر عن مباركته لعملهم. والإعلام الوحيد الذي يشاهدونه، والذي يتوهمون أنه يعبِّر عن مشاعر الشعب كله أو مشاعر أفضل ممثليه، يمجِّد باستمرار أقوالهم وأفعالهم مهما كانت غبية وشريرة، بأكثر الأشكال خنوعًا. أما المقرَّبون إليهم من الرجال والنساء، الروحانيين والدنيويين، أي كل الذين لا قيمة للجدارة الإنسانية عندهم، إذ يحاولون التفوُّق على بعضهم بعضًا بالتملُّق المتأنق، فيتساهلون معهم في كل شيء، ويكذبون عليهم في كل شيء، ولا يعطونهم إمكانية رؤية الحياة الحقيقية. وقد يعيش هؤلاء الناس مائة سنة دون أن يروا إنسانًا حقيقيًا حرًّا أبدًا، ودون أن يسمعوا الحقيقة أبدًا. وإنك تشعر بالهلع أحيانًا عندما تسمع أقوال هؤلاء الناس، وترى أفعالهم. ولكن حريٌّ بك تأمُّل حالهم لتفهم أنَّ أيَّ شخص سوف يتصرف على النحو ذاته إذا ما كان في مكانهم. والإنسان الحصيف، الذي يجد نفسه في مكانهم، يمكنه القيام بتصرُّف حكيم واحد فقط: الخروج من هذا الوضع، إذ إنَّ أي شخص يكون في موضعهم سيفعل الشيء ذاته. وبالفعل، ما الذي يمكن أن يفعله زعيم ما، مثل ويلهلم الألماني الضيق الأفق، الضعيف الثقافة، المغترِّ بمثال اليونكر الألماني، لولا وجود ذلك الغباء والقُبح الذي ينطق به، ولو لم يُقابَل كلامه بهتاف "أُورا" الحماسي، ولو لم يعلِّق عليه إعلام العالم كله كشيء بالغ الأهمية. إنه يقول إنَّ الجنود سوف يقتلون حتى آباءهم إذا ما أمرهم بذلك، وهم يهتفون "أورا"! ويقول يجب فرض الكتاب المقدَّس بالقبضة الحديدية: "أورا". يقول يجب على القوات المسلحة في الصين ألا تأسر أحدًا، بل أن تقتل الجميع، ورغم ذلك لا يدخلونه مستشفى المجانين، وإنما يهتفون له: "أورا"، ويُبحرون إلى الصين لتنفيذ أوامره. أو أن يبدأ نيكولاي الثاني، الوديع بطبيعته، حكمه بإبلاغ الشيوخ الموقَّرين، ردًّا على رغبتهم في إدارة شؤونهم بأنفسهم، بأنَّ الإدارة الذاتية حلم سخيف، ووسائل الإعلام تلك، وأولئك الناس الذين يراهم، يُمجِّدونه على هذا. إنه يقترح مشروعًا طفوليًا وغبيًا وكاذبًا للسلام العالمي، وفي الوقت ذاته يصدر تعميمًا لزيادة عدد القوات المسلحة، ولا حدود للثناء على حكمته وبِرِّه. ودونما أي داعٍ يهين ويُعذِّب، بلا معنى ولا رحمة، شعبًا بأكمله (الفنلنديين)، ومن جميع الجهات يسمع المباركات فقط. ويُعِدُّ، أخيرًا، للحرب الصينية المخيفة في لاعدالتها وقسوتها ومناقضتها لمشروع السلام، والجميع، من كافة الجهات، يمدحونه على النصر، وعلى مواصلة سياسة والده السلمية، في الآن ذاته. فما الذي ينبغي أن يحدث في رؤوس وقلوب هؤلاء الناس حقًا؟ وبالتالي، ليس ألكسندر وهومبرت وويلهلم ونيكولاي وتشامبرلين، الذين يقودون الاضطهادات والحروب، هم المذنبون في قمع الشعوب، والقتل في الحروب، وإنما الذين نصَّبوهم حكَّامًا على حياة الناس، ويقومون بدعمهم. وبالتالي، يجب ليس قتل الألكسندرات والنيكولات والويلهلمات والهومبرتات، بل الكفُّ عن التشبُّث بالنظام الاجتماعي الذي ينتجهم، أي أنانية الناس الذين يبيعون حريتهم وشرفهم من أجل مكاسب مادية تافهة. البشر الواقفون عند أسفل درجات السُّلُم، قسمٌ منهم بسبب تخديرهم بالتربية الوطنية والتربية الدينية الباطلتين، وقسمٌ لأجل المنافع الشخصية، يتخلُّون عن حريتهم وشعورهم بقيمتهم الإنسانية لصالح الذين يقفون أعلى منهم، ويعرضون عليهم منافع مادية. وفي هذا الوضع ذاته يتواجد الذين يقفون بضع درجات أعلى، كذلك بسبب تخديرهم و، على الأغلب، لأجل المصلحة يتخلون عن حريتهم وقيمتهم الإنسانية؛ وكذلك الواقفون أعلى منهم، وهكذا يجري الأمر وصولاً إلى الواقفين أعلى الجميع، أي إلى أولئك الأشخاص، أو ذلك الفرد الذي يتربَّع على قمة الهرم، والذي لا يحتاج إلى امتلاك أي شيء، والذي دافعه الوحيد هو حب السلطة والغطرسة، والمفسَد والمخدَّر عادةً بالسلطة على حياة وموت البشر؛ السلطة المرتبطة بتزلُّف وتملُّق الناس المحيطين به، إلى درجة أنه، ودون أن يكفَّ عن عمل الشرِّ، واثقٌ تمامًا من أنه يُحسن إلى البشرية. الشعوب ذاتها تضحي بقيمتها الإنسانية من أجل منفعتها، وتُنتج هؤلاء الذين لا يمكنهم فعل شيء سوى ما يفعلونه، وبعد ذلك تسخط عليهم، وعلى أعمالهم الغبية والشريرة. إنَّ قتل هؤلاء الناس يشبه تدليل الأطفال ومن ثمَّ ضربهم. فلكي لا يكون هناك اضطهاد للشعوب، ولا تكون هناك الحروب غير الضرورية، ولكي لا يسخط أحد على الذين يبدون مذنبين، ولكي لا يقوموا بقتلهم، يلزم القليل جدًا، وبالتحديد فقط أن يفهم البشر الأمور على ما هي عليه، وأن يُسمُّوها بأسمائها الحقيقية؛ أن يعلموا أنَّ الجيوش أدواتٌ للقتل، وأنَّ جمع القوات وقيادتها - ذلك الشيء ذاته الذي يمارسه الملوك والأباطرة والرؤساء بثقةٍ بالغةٍ بالنفس - إنما هو إعداد للقتل. فقط لو أنَّ كل ملك، أو إمبراطور، أو رئيس، فهم أنَّ واجبه في قيادة الجيوش ليس واجبًا محترمًا وهامًّا، كما يوحي إليه متزلِّفوه، وإنما هو تحضير شنيع ومخجل للقتل، ولو فهم كل فرد أنَّ دفع الضرائب، التي يتمُّ بها تجنيد الجنود وتسليحهم، ناهيكم عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، ليس عملاً حياديًا، وإنما هو عمل سيئ ومخجل من أعمال المشاركة في القتل، وليس مجرَّد تغاضٍ، لزال، من تلقاء ذاته، ما يثير سخطنا على سلطة الأباطرة والرؤساء والملوك، الذين يُقتلون بسببه. وبالتالي ينبغي ليس قتل أمثال ألكسندر وكارنو وهومبرت وغيرهم، بل أن يُبيَّن لهم بأنهم قتلة، والأهم من ذلك، عدم السماح لهم بقتل الناس، ورفض القتل تبعًا لأوامرهم. وإذا كان البشر لا يتصرَّفون على هذا النحو حتى الآن، فهذا يحدث فقط بسبب التخدير الذي تبقيهم فيه الحكومات بحرص للحفاظ على نفسها. وبالتالي، فمن أجل مساعدة الناس للكفِّ عن قتل الملوك، وقتل بعضهم بعضًا، يجب إيقاظهم، وهذا غير ممكن عن طريق الاغتيالات؛ فالاغتيالات، على العكس، تقوِّي التخدير، وتضعف الاستيقاظ منه. وهو ما أحاول القيام به عبر هذه المقالة. 8 آب 1900 ترجمة: هفال يوسف *** *** *** * فصل من كتاب ليف تولستوي: مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية، ترجمة هفال يوسف، معابر للنشر، دمشق، 2009. [1] الأنارخيون: أتباع الأنارخية. حرفيًا: لا-سلطة، وتُترجم، خطأً، الفوضوية، مما سبَّب الكثير من سوء الفهم. من أقطابها ومنظِّريها الكبار في روسيا: باكونين، وكْرَبوتكين.
ذ |
|
|