|
غاندي المتمرِّد: ملحمة مسيرة المِلْح*
بعد خمسين عامًا مضت على رحيل غاندي – اغتيلَ في العاشر من كانون الثاني/يناير 1948 – يبدو أنَّ البشريةَ لم تسمعْ رسالةَ اللاعنف التي أرادَ أنْ يقدِّمَها للعالَم. فالعنف هو دائمًا المادة الأولى لأخبارنا اليومية ومازال يُغرِق تاريخَنا في غياهب الظلمات. فاليومَ كما في الأمس، يرى قليلٌ جدًا من الناس أنه من المنطقي التأكيد على أن اللاعنف الذي يطرحه غاندي هو في الحقيقة الحكمةُ التي من شأنها أنْ تتيحَ للبشر التصديَ للتحديات التي يواجهونها في النهاية هذه للعصر. ما هي الصورة التي يأخذها الغربيُّون اليومَ عن غاندي، وما هي الفكرة التي يُكَوِّنونها عن اللاعنف الذي عاش لأجله ومات لأجله؟ لا ريب في أن الجميع تقريبًا يعرِفون اسمَ هذا الهندي ووجهَه؛ ويعرفون على الأرجح أنه ثارَ على الاحتلال الاستعماري لبلاده وناضل من أجل تحرير شعبه رافضًا اللجوءَ إلى أسلحة العنف الفتَّاكة. لكنهم إذا أقرُّوا بسهولةٍ بأن اللاعنف هو مثال أعلى مثير للإعجاب فإنهم لا يعتقدون مع ذلك بأنه يمكن أنْ يكون ذا فائدةٍ ما لهم من أجل أنْ يواجِهوا مواجهَةً واقعيةً وفعَّالةً الأحداثَ التي تشكِّلُ هنا والآنَ نسيجَ تاريخهم. غاندي لم "يبتكر" اللاعنفَ. فكلمةُ لاعنف هي ترجمة للمصطلح السنسكريتي أهيمسا ahimsa المستخدَم في النصوص الفلسفية للأدبيات الهندوسية والجاينية [اليانية] jaïniste والبوذية. وهذه الكلمة مكوَّنة منى بادئة النفي a [أ] ومن الاسم himsa [هيمسا] الذي يعني الرغبةَ في الأذى، في تعنيف كائن حي. الأهيمسا هي إذًا السيطرة على رغبة العنف في الإنسان والتخلِّي عنها. واللاعنف موجود في صُلْب كبرى موروثات الحكمة التي تشكِّل التراثَ العالميَّ للبشرية. وهكذا علَّمَ اللاعنفَ كلٌّ من الماهاﭭيرا والبوذا وﭙـاتانجالي ويسوع. الماهاﭭيرا، "البطل الأكبر"، أو الجاينا أيضًا، "المنتصر" ["المظفَّـر"]، واسمُه الحقيقي ناتاﭙـوتا ﭭـردامانا Nâtaputta Vardhâmana، عاش في القرن السادس قبل الميلاد في شمال شرق الهند. ويُعَدُّ مؤسسَ الجاينية jaïnisme، على الرغم من أن تعليمه يتأصل مباشرةً في موروث موغل في القِدم. عاصرَ البوذا وكان يكبره ببضع سنوات. ومع كونه ابنَ مَلِك لدولة إقطاعية صغيرة، وكان قد ناهزَ الثلاثين من عمره، وفي حين أنه كان متزوجًا وأبًا لطفلة، فقد ذهبَ ليعيشَ في الغابة ونذرَ نذورَ النُّسَّاك الأربعة التي كان أولها الأهيمسا. وبعد أنْ بلغَ المعرفةَ بالممارسة الدؤوبة للتأمل والتطهر، "خلال الثلاثين سنة التالية، طاف عدةَ مناطقَ في الهند، مقدِّمًا في كل مكان رسالتَه في السلام والحب واللاعنف تجاه كل كائن حي"[1]. وكما أشار ﭙول دي بروي Paul de Breuil، فإن عظَمة أخلاق الأهيمسا: تفرض نفسها في الجاينية بكلمات سامية: "يجب عدم قتل أي نوع من الكائنات الحية وأي جنس من المخلوقات وأي صنف من الحيوانات وأي كائن من أي نوع ولا إساءة معاملته ولا شتمه ولا تعذيبه ولا مطاردته. هذا هو التعليم النقي والخالد والثابت للدين والذي نادى به الحكماءُ الذين يدركون العالَم[2]. سيكتب غاندي: "تُعَلِّم الجاينيةُ الرحمةَ بالمخلوقات الحية وواجبَ اللاعنف"[3]. عاش البوذا، الـ"مستنير"، الذي كان اسمه سيدهارتا غوتاما، في شمال الهند أيضًا في القرن السادس قبل الميلاد. وأول الوصايا الخمس التي علَّمها لتلاميذه تتعلق باللاعنف: لا أرى من بين هذه التصرفات العديدة إلاَّ سلوكًا واحدًا إذا التزمنا به والتزمنا به دائمًا نحصل على السعادة بين البشر ونحصل على السعادة في أعالي السماء وننال بلوغَ النيرﭭانا: إنه عدم قتل الكائنات الحية[4]. وفي نص آخر علَّم البوذا أن من بين الطرق الثماني التي تتيح للإنسان التحررَ من كل إرادة سيئة فتتيح له بذلك بلوغَ الحكمة هناك "النية الصحيحة" التي تستوجب "نيةَ عدم الأذى"، و"الكلام الصحيح" الذي ينطوي على "تجنب الكذب وتجنب النميمة وتجنب الشتيمة"، والعمل الصحيح الذي يقوم على "تجنب القتل"[5]. نجهل كلَّ شيء عن حياة ﭙـاتانجالي. ولا نعرف إنْ كان قد عاش في القرن الرابع أم في القرن الثاني قبل الميلاد. مع ذلك نعتبره مؤلِّفَ [مجموعة] اليوغا-سوترا التي تعرض وتُصنِّف، في نص قصير مؤلَّفٍ من 195 قولاً مأثورًا [مثلاً] مكتوبًا بالسنسكريتية، أحدَ أقدم الموروثات الفلسفية للهند. إنَّ الأهيمسا وفقًا لتعاليمه هي أُولى "القواعد الخمس للحياة في العلاقة مع الآخرين[6]". هذه القواعد للحياة هي عالمية [صالحة لكل زمان ومكان]، لأنها "لا تتعلق لا بطريقة عيش ولا بمكان ولا بعصر ولا بظروف[7]". وما يعكِّر سلوكَ الإنسان، عندما يخالف هذه القواعدَ الخاصة بالحياة، هو أفكاره، و"هذه الأفكارُ، مثل العنف، سواء عشناه أم حرَّضْنا عليه أم وافقْنا عليه، يسبِّبها الجزعُ والغضب والخطأ[8]". فإذا كان الإنسانُ من خلال موقفه الداخلي يعيش حالةَ لاعنف فإنه يستطيع التوصلَ إلى نزْعِ فتيلِ عنفِ الآخرين: "إذا استقرَّ أحدكم في اللاعنف فإن العداوةَ ستزول من حوله[9]". لقد أقرَّ غاندي بأن نظرية اللاعنف "قد وضعَها وصاغها ﭙـاتانجالي[10]". وما بَرِحَ يسوع الناصريُّ الذي عاش في فلسطين في بداية تاريخنا الميلادي يُعَلِّم أصحابَه اللاعنفَ. فيضع يسوعُ لشابٍّ يسأله أيَّ صلاح يعمل لتكونَ له الحياةُ الأبديةُ يضع وصيةَ "لا تقتلْ" في المقام الأول من بين الوصايا التي يجب عليه حفظُها لكي "يدخلَ الحياةَ[11]". كما يطلب يسوع من أصحابه ألاَّ ينتقموا من الشرير وأنْ يُحِبُّوا أعداءهم في كل الأحوال وألاَّ يرجموا الزانيةَ وأنْ يغمدوا سيوفَهم وأنْ يديروا خدَّهم الآخر لمن ضربهم على خدهم الأيمن. سيطالب غاندي، من جهته، صراحةً بهذا الإرث الرباعي ويؤكد اتِّباعَه، ببساطةٍ وتواضُعٍ، الطريقَ التي خطَّها هؤلاء المعلمون الكبار في البشرية. لكنَّ مساهمةَ غاندي كانت أساسيةً لفهم اللاعنف وتحديدًا لأنه أراد أنْ يأخذَ على محمل الجد هذه التعاليمَ في حين أن الذين ينادون بها حادوا عنها في أغلب الأحيان. لا شك في أن هناك مرحلةَ ما قبل غاندي ومرحلةَ ما بعد غاندي سواء في التفكير الفلسفي حول فريضة اللاعنف التي تؤسس إنسانيةَ الإنسان أم في تجريب استراتيجية العمل اللاعنفي التي تتيح الحلَّ السِّلْمي للنزاعات. كتبَ غاندي: اللاعنفُ التام هو الغياب التام لسوء النية mal-veillance تجاه كل حي. [...] ويُعبَّر عن اللاعنف بشكله الفاعل من خلال حب الخير bien-veillance لكل ما هو حي. إنه الحب الخالص[12].[13] قيل غالبًا بأن اختيارَ كلمة "لاعنف" غير موفَّق لأنها تحمل صيغةَ السلب. لكنْ لأنَّ ثقافتنا غَرَسَتْ فينا مفهومًا سلبيًا عن اللاعنف. فكلُّ عنفٍ يمارَس على الإنسان هو اغتصاب: اغتصاب لهُويَّتِه، لشخصيته، لإنسانيته. العنف يجرح ويمزِّق إنسانيةَ من يتعرَّض له. لكن الإنسان لا يُعاني فقط من العنف الذي يتعرض له، إنما يُعايِنُ أنه هو نفسه قادر على ممارسة العنف على الآخرين. الإنسانُ، عند التفكير، يكتشف نفسَه عنيفًا. والعنف يجرح ويمزِّق إنسانيةَ من يمارسه أولاً. إنَّ كلمةَ "لاعنف" حاسمةٌ لأنها تُعَبِّر عن رفض جميع عمليات الشرعنة التي تجعل من العنف حقًا للإنسان ولأنها تتيح بذلك نزعَ الشرعيةِ عنه. هذا الرفضُ يفتح الطريقَ إلى حب الخير للإنسان الآخر. وكتبَ غاندي أيضًا: ليس هناك من لفظة إنكليزية أخرى يمكنها أنْ تُعَبِّر عن جميع معاني أهيمسا أفضلَ مما تُعبِّر كلمةُ براءة innocence. يمكن اعتبارُ كلمتَي أهيمسا وبراءة مفردتَين مترادفتَين[14]. في الواقع، إنَّ الأصلَينِ الاشتقاقيَّينِ لهاتين الكلمتين متماثلان: فكلمة in-nocent مشتقة من اللاتينية in-nocens والفعلُ nocere (أساءَ، آذى) مشتقٌّ هو الآخر من nex، necis بمعنى الموت العنيف، القتل. وهكذا فإن البراءة، بالمعنى الدقيق للكلمة، هي فضيلة من لا يرتكب بحق الآخرين أيَّ عنف قاتل. غير أنه في أيامنا هذه، توحي كلمةُ براءة بالأحرى بالنقاء المشكوك فيه لمن لا يرتكب الشرَّ عن جهل وعجز أكثر منه عن فضيلة بكثير. لا يمكن خلط اللاعنف بهذه البراءة، إلاَّ أنَّ التواءَ المعنى هذا له دلالة: وكأنَّ عدمَ ارتكابِ الشرِّ يَنِمُّ عن ضَرْب من ضُروب العجز... إنَّ اللاعنف يردُّ الاعتبارَ للبراءة كفضيلة الإنسان القوي وكحكمة الإنسان العادل. وهكذا فإنَّ اختيارَ اللاعنف يعني إرادةَ احترامِ حياة جميع الكائنات الحية. لكنَّ غاندي يعي أكثر من أي إنسان آخر أنه قد يكون من الحماقة أنْ يدَّعيَ المرءُ عيشَ لاعنف مطْلَق (أيْ، بحسب المعنى الاشتقاقي لهذه الكلمة، منفصلاً dé-liée عن الواقع)؛ فاللاعنف لدى الإنسان لا يمكن أنْ يكونَ إلاَّ نسبيًا (أي مرتبطًا re-liée بالواقع). فيؤكد أنه "مادمنا كائناتٍ متجسدةً فإنَّ اللاعنفَ الكاملَ ليس إلاَّ نظريةً كنظرية النقطة أو كنظرية الخط المستقيم عند أقليدس، لكنْ يجب علينا السعيُ للاقتراب منه في كل لحظة من حياتنا"[15]. ويشير إلى أنَّ مبدأ اللاعنف واسع ومرن. ولسنا سوى بشرٍ فانين بدون دفاع، واقعين تحت الضربة الهائلة لقوى العنف. إنَّ لِمقولةِ "الحياةُ تتغذَّى من الحياة" معنىً عميقًا. فالإنسان لا يمكنه أنْ يعيشَ لحظةً واحدةً بدون أنْ يقومَ بفعلِ عُنْفٍ نحو الخارج، سواء عن قصد أم عن غير قصد. فحتى بمجرَّد أنه يعيش – يأكل ويشرب ويتحرَّك حوله – فإنَّ ذلك ينطوي بالضرورة على نصيب من عنف ومن هدْمٍ لحياةٍ، مهما كان ذلك النصيبُ ضئيلاً جدًا. فالذي نذرَ أنْ يعيشَ اللاعنفَ يبقى إذًا مخْلصًا لإيمانه إذا كانت الرحمةُ هي الدافع لجميع أفعاله وإذا اجتهدَ بأفضل ما يستطيع لكي يتجنَّبَ تدميرَ الكائنات الحية حتى أصغرِها وإذا سعى إلى صَوْن كل ما يعيش وناضلَ كذلك باستمرار ليتحرَّرَ من القبضة القاتلة لقوى العنف. فلا تزال الرصانةُ والرحمةُ تَكْبُرانِ فيه؛ مما لا يمنع ألاَّ يصلَ أبدًا إلى التحرر الكامل وإلى عدم ارتكاب أفعالِ عنفٍ تجاه الخارج[16]. وإذا كان لا يمكن للاَّعنف أنْ يكونَ مطْلَقًا فيجب أنْ يكون جذريًا radicale (من اللاتينية radix الذي يعني الجذر)، أيْ يجب أنْ يسعى إلى استئصال جذور العنف، إلى إزالته من خلال القضاء على جذوره الثقافية والإيديولوجية والاجتماعية والسياسية. في جنوب أفريقيا حيث أقام غاندي من عام 1893 إلى عام 1914 أسَّسَ لأول مرة مقاومةً لاعنفية. وكان هدفه آنذاك هو إتاحة الفرصة للهنود المهاجرين في ذاك البلد ليحصلوا على الاعتراف بحقوقهم واحترامها أمام سلطة البيض العنصرية. فيما بعد، في عام 1942، يروي أنَّ "المسألة كانت بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت، وأنا أعالج هذه المشكلة حضرني ذلك المنهجُ في اللاعنف (this method of ahimsa [هذا المنهج في الأهيمسا]). لم تكن الإجراءات المختلفة التي اتَّخذْتُها في ذلك الحين عملَ إنسانٍ راءٍ أو حالم. كانت فِعْلَ رَجُل عملي في صراع مع مشاكلَ عملية"[17]. وعندما بدأ غاندي تنظيمَ هذا الكفاحِ اقتبسَ من اللغة الإنكليزية تعبيرَ "passive resistance" [مقاوَمة سلبية] ليشيرَ إلى المنهج الذي يطبِّقه. ويَذْكُر أنه "كلما كانت أقليةٌ صغيرةٌ بين ظَهْرانَيْ الإنكليزِ تستنكر تشريعًا معيَّنًا ضارًا كانت بدلاً من التمرد تتبنَّى موقفَ المقاومة السلبية من خلال عدم طاعة القانون ومن خلال التعرُّض للعقوبات بسبب عصيانها"[18]. إلاَّ أنه يدرك في الوقت الذي يكبر فيه الكفاح أن هذا التعبير "يسبِّب الالتباسَ بلا أدنى شك"[19] و"يكاد يثير سوءَ فهم فظيع"[20]: كتبَ يقول: كانت المقاومة السلبية تُفهم على أنها سلاح الضعيف وكان يُنظَر إليها على هذا الأساس. وعلى الرغم من أنها تتجنَّب العنفَ، وهي التي لم تكنْ ممكنةً للضعيف، لم تستبعد استعمالَه بحسب رأي من يلجأ إلى المقاومة السلبية إذا استدعَت الظروفُ ذلك[21]. يرى غاندي أنه من الضروري إيضاحُ أنه إذا تخلَّى هنودُ جنوبِ أفريقيا عن اللجوء إلى العنف فليس ذلك عن ضعف فيهم، بل على العكس لأنهم يمتلكون قوةَ التغلُّب على رغبتهم في الثأر من أجل البحث عن حل سِلْمي للنزاع الذي يواجههم مع البيض. عندئذٍ أراد أنْ يبتكرَ كلمةً جديدة ليسمِّيَ بها كفاحَه. وفي نهاية المطاف، أخذَ بالمصطلح السنسكريتي ساتياغراها Satyagraha: وأوضحَ أنَّ ساتيا Satya (الحقيقة) تنطوي على الحب وأغراها [أﭽراها] agraha (الثبات) تفيد كمرادف للقوة. فبدأتُ إذًا أدعو الحركةَ الهنديةَ باسم "ساتياغراها". وكنتُ أعني بذلك القوةَ التي تُوْلَدُ من الحقيقة ومن الحب. ومنذ ذلك الحين هجَرْنا هجرانًا كاملاً استعمالَ تعبير "المقاومة السلبية[22]. وهكذا، خلافًا لما يقال في بعض الأحيان، لم ينحتْ كلمةَ ساتياغراها ليضعها في مكان مصطلح أهيمسا، بل ليضعَها في مكان تعبير "المقاومة السلبية". وهكذا يشير غاندي أيضًا إلى معنى مصطلح ساتياغراها بقوله: معناه الاشتقاقي هو الالتزام بالحقيقة، ومن هنا تأتي قوة الحقيقة. دعَوْتُه أيضًا قوةَ الحب أو قوةَ النفس. عند تطبيق الساتياغراها اكتشفْتُ منذ المراحل الأولى أن البحث عن الحقيقة لا يقبل بإنزال العنف بالخصم، بل بوجوب فصلِه عن خطأه بالصبر والرحمة. لأنَّ ما يبدو حقيقةً لأحدهم قد يبدو خطأ للآخر. والصبر يعني قبولَ المرء المعاناةَ بنفسه. وبالتالي يرمي المذْهبُ إلى الدفاع عن الحقيقة ليس بإلحاق المعاناة بالخصم، بل بقبول المرء أنْ يعانيَ بنفسه. لكن الكفاح من أجل الشعب، على الصعيد السياسي، يقوم بصورة رئيسية على معارضة الخطأ الذي يظهر في القوانين الجائرة. عندما تخفق في جعل المُشرِّع يعترف بخطأه عن طريق العرائض [المطالب] وطرق مشابهة فإن الوسيلة الوحيدة المتبقية أمامك إذا لم تُرِدِ الاستسلامَ للخطأ تقوم على إرغامه على الاستسلام لك بالقوة الجسدية أو على المعاناة بنفسك مسببًا العقوبةَ المنصوص عليها مقابل خرق القانون. ولذلك تبدو الساتياغراها للرأي العام مقابِلةً للعصيان المدني أو للمقاومة المدنية. وكلاهما مدني بمعنى أنه ليس جنائيًا[23]. فيما بعد، استعملَ غاندي في أغلب الأحيان كلمةَ أهيمسا للتعبير عن قناعته بأنَّ العنفَ يتعارض تعارضًا جذريًا مع النداء الإنساني الداخلي للإنسان وبأنَّ على هذا الإنسان إذًا أنْ يتبنَّى موقفًا آخر ويفكر في طريقة أخرى للكفاح. للأسف، مازال تعبير "المقاومة السلبية" هو المستعمَل غالبًا في الغرب للدلالة على المقاومة اللاعنفية. غير أن هذا المفهوم يشتمل على تناقض جوهري يجعل استعمالَه غير مناسب. فالمقاومة، في الواقع، لا يمكنها أن تكون سلبية: تتميَّز السلبيةُ تحديدًا بأنها لا تُبدي أيةَ مقاوَمة لأيٍّ كان. يحمل تعبيرُ "المقاومة السلبية" طابعَ الإيديولوجيا السائدة التي تقول بأنه لا يمكن أنْ يكون العمل إلاَّ عنيفًا؛ عندئذٍ لا يمكن أنْ يُعبِّرَ رفضُ العنف إلاَّ عن السلبية. وهكذا يصبح اللاعنفُ في الغالب بدون أي اعتبار بحُجَّةِ أنه لا يمكنه إلاَّ أنْ يفيد الطغاةَ بدون أنْ يقصدَ وذلك من خلال نزع سلاح المضطَهدين والحكم عليهم بإيقاف العمل. العنف قبل كل شيء هو عنفُ مواقف الظلم التي تُغَرِّب البشرَ وتشوِّههم. فاللاعنفُ إذًا هو قبل كل شيء كفاح ضد الظلم. إلاَّ أنَّ غاندي، على الرغم من تأكيده على ضرورة محاربة النظام الذي يُنتِج الظلمَ ويرسِّخه، يريد احترامَ شخص المسؤولين عن هذا الظلم لأنهم هم الآخرون ضحاياه. كتبَ غاندي: الإنسانُ وأفعالُه شيئان متمايزان. [...] اللاعنف هو أساس البحث عن الحقيقة. ولا يمرُّ يومٌ إلاَّ وأُدرِكُ فيه في الواقع أن هذا البحث يكون سُدىً إذا لم يستندْ إلى اللاعنف. إنَّ مواجهةَ نظامٍ ما ومهاجمتَه أمرٌ حسَن؛ لكنَّ مواجهة فاعله ومهاجمتَه يساوي مواجهةَ المرء نفسَه وتحوُّلَه إلى مهاجم نفسِه[24]. لا بد لنا من الاعتراف بأن إيديولوجيا العنف الضروري والشرعي والمحترَم التي تسيطر على مجتمعاتنا مازالت تترك مجالاً قليلاً جدًا للتفكير باللاعنف. فمادام العنفُ يَظهَر على أنه فضيلة الرجل القوي الذي يمتلك شجاعةَ ركوب أعظم المخاطر من أجل مكافحة الظلم والدفاع عن الحرية فإن اللاعنف سيُعَدُّ ضعفَ الرجل الجبان الرعديد الذي يستسلم ليرزحَ تحت نير الطغاة والذي يتواطأ سلفًا مع المعتدين. إلاَّ أنَّ ما أظهره غاندي بالتحديد، وذلك ليس بالقول فقط وإنما بالعمل أيضًا، هو أنه إذا كان العنف أفضل من الجبن فإن اللاعنف موقف أكثر شجاعةً من العنف. فيؤكد في عام 1920: أعتقد حقًا بأنه عندما لا يكون هناك من خيارٍ إلاَّ بين الجبن وبين العنف فإنني أنصح بالعنف. [...] ولذلك أوصي الذين يؤمنون بالعنف أنْ يتعلموا استخدامَ السلاح. ودِدْتُ لو أنَّ الهند تلجأ إلى السلاح دفاعًا عن شرفها بدلاً من أنْ نراها بدافع الجبن تصبح أو تظلُّ الشاهدَ العاجزَ على خِزْيها وذُلِّها. لكنني أعتقد بأنَّ اللاعنف أرقى بكثير جدًا من العنف وبأنَّ العفو أكثر إنسانيةً من العقاب. [...] فاللاعنفُ هو قانون الجنس البشري مثلما أن العنف هو قانون البهيمة. فالعقل نائم عند البهيمة فهي لا تعرف قانونًا آخرَ غيرَ القوةِ البدنية. كرامةُ الإنسان تستوجب منه الخضوعَ لقانون أسمى، لقوة العقل[25]. وهكذا يرى غاندي بأن اللاعنف ليس فقط وليس بالأساس منهاجَ عمل، إنه موقف، أيْ إنه بصورة أساسية نظرةٌ، نظرةُ عطفٍ وطيبةٍ إلى الإنسان الآخر. اللاعنف في نظر غاندي مبدأ: إذْ يؤكد قائلاً: "أؤمن بمبدأ اللاعنف" ("I believe in the principle of non-violence"[26]). فيراه المبدأَ نفسَه للبحث عن الحقيقة، وبالتالي فهو بهذا المعنى المبدأُ نفسُه للفلسفة: يؤكد صراحةً أنه الطريق الوحيد الذي يقود الإنسانَ نحو الحقيقة. كتبَ أنَّ: اللاعنف والحقيقة متشابكان تشابكًا وثيقًا يستحيل معه فك الواحد عن الآخر أو فصل أحدهما عن الآخر. فهُما وجهان لقطعة معدنية واحدة أو بالأحرى لقرص معدني صقيل لا يحمل أيةَ علامة. فمن يستطيع أنْ يميِّزَ بين وجهه الأول ووجهه الآخر[27]؟ يتطلَّب البحثُ عن الحقيقة على طريق اللاعنف تطبيقَ وسائلَ عملٍ تنسجم مع الغاية المنشودة. لقد أجابَ غاندي أحدَ مُحاوريه الذي أكَّد على أنَّ جميعَ الوسائل صالحةٌ، بما فيها العنف، للوصول إلى غاية عادلة، فأكد غاندي قائلاً: إنكَ لترتكبُ خطًا جسيمًا باعتقادكَ بأنْ لا علاقةَ بين الوسائل والغاية. [...] فتفكيركَ هذا كتفكيرِ امرئٍ يصرُّ على القول بأننا نستطيع الحصولَ على وردة إذا زرعنا عشبًا ضارًا. [...] فالوسائلُ يمكن مقارنتُها بالحبة والغايةُ يمكن مقارنتُها بالشجرة؛ والعلاقةُ غيرُ الملموسة الموجودةُ بين الوسائل والغاية هي العلاقة نفسُها الموجودة بين الحبة والشجرة[28]. اشتُهِر غاندي بأنه رجل متديِّن. فمن الصحيح أنه كان يتكلم غالبًا جدًا عن الله وأنه هو نفسه أعطى غالبًا التعبيرَ عن قناعته بشأن اللاعنف مدلولاً دينيًا. مع ذلك فإن غاندي لم يكن رجلاً "متديِّنًا" بالمعنى التقليدي للكلمة، بمعنى أنه لم تكن له من علاقة شخصية مع إله شخصي وأنه لم يُرِد الامتثالَ لأي وحي خارجي. فهو يرى بأن "الله ليس شخصًا"[29]. لذلك فإن الله الذي يُجِلُّه غاندي لا اسم له ولا وجه: يعترف بالقول: "لم أرَ اللهَ، ولم أعرفْه. [...] ولا أمتلك أيةَ كلمة لوصف إيماني بالله"[30]. في المحصلِّة، اللهُ في نظر غاندي هو الحقيقة المطبوعة في سريرة الكائن الإنساني. ولذلك توصَّلَ إلى إبدال التأكيد الديني: "اللهُ هو الحقيقة" بالعبارة التالية: "الحقيقةُ هي الله"[31]. هناك أكثر من فَرْق بسيط بين الخطوات التي تتضمَّنُها هاتان الصياغتان. فالذي يعتقد بأنَّ "الله هو الحقيقة" يرى بأنه يكفيه أنْ يؤمنَ بكلام الله الموحى في الدِّين – إيْ في دِينهِ هو – لكي يمتلكَ الحقيقةَ. فيقتنع عندئذٍ بسهولةٍ بأنَّ من يرفض الإيمانَ بهذا الوحي يكون على ضلالة. ولكي يدافعَ عن الحقيقة ويحاربَ الضلالَ يأخذ على نفسِه واجبَ مهاجمة الهرطقات [البِدَع]، وليس هذا فحسبُ، بل يوجب على نفسِه شنَّ الحرب على الهراطقة. الخطر إذًا جسيم في أنْ تصبحَ عبارةُ "الله هو الحقيقة" تأكيدًا شموليًا [توتاليتاريًا] يؤدي إلى الحرب المقدَّسة [الجهاد]. يُلفِتُ غاندي النظرَ إلى أن "ملايين البشر في الواقع استحوَذَ عليهم اسمُ الله فارتكبوا وهم يتضرَّعون إليه فظاعاتٍ تَدِقُّ عن الوصف"[32]. الاعتقاد بأنَّ "الحقيقة هي الله" ينطوي على خُطْوَةٍ فكرية وروحية أخرى مختلفة. لأنَّ الحقيقةَ، عندئذٍ، لا تُعَرِّفُ بنفسها للإنسان من خلال وحي خارجي، بل من خلال فريضة داخلية تُعَبِّر عن نفسها من خلال "الصوت الخافت الهادئ" لضميره، أيْ من خلال عقله. وبذلك يؤكد غاندي تفوُّقَ العقل على الدين ويريد أنْ ينظرَ بنفسه في صحة النصوص المقدَّسة وفقًا لمتطلبات العقل. ولذلك فإنَّ غاندي "لديه قناعة راسخة بأنه لا دِينَ إلاَّ الحقيقة"[33]. لقد بقيَتْ حياةُ غاندي وفكرُه لا يُلْقَى لهما بالٌ على نطاق واسع لدى الأوروبيين وخاصةً الفرنسيين منهم. وقد امتدَّ عمَلُ غاندي على مدى أربع وخمسين سنةً – أولاً في جنوب أفريقيا من عام 1894 إلى عام 1914، ثم في الهند حتى رحيله في عام 1948. ولذلك لم تتمكَّنْ سِيَرُ حياتِه [ترجماته] من عرضٍ دقيق وصارم لجميع أقواله وأفعاله وحركاته. كتاباتُ غاندي وأقوالُه لا تُحصَى، لكنها ما تزال في سياقها [ظرفها]. ولفهمها فهمًا صحيحًا يجب إعادة وضعها في السياق المحدَّد الذي تكلَّمَ فيه غاندي. وإذا اكتفينا بالنصوص المنشورة بالفرنسية فإنها لم تكن في الغالب إلاَّ "شذراتٍ مختارةً" لا تتيح الحصولَ سوى على رؤية جزئية لفكره وعمله. وقد جُمِعَتْ أقوالُه وكتاباتُه – سواء المقالات أو الخطابات أو الرسائل أو المقابلات – ونُشِرَتْ بالإنكليزية في تسعين مجلَّدًا يضم كلُّ مجلَّد أربعمئة وثمانين صفحة وسطيًا: The Collected works of Mahatma Ghandi [الأعمال الكاملة للمهاتما غاندي]. تشكِّل هذه النصوصُ مادةً أوليةً ذات غنى مدهش، لكنْ يجب الاعترافُ بأنه من الصعب الاستفادة منها. وفي الواقع، لم يُستفَدْ منها إلاَّ نادرًا. وإذا استطعنا العثورَ على بعض الإشارات المرجعية إلى غاندي في الأعمال الفلسفية المعاصرة فإنه من الملفت للانتباه أن غاندي لم يكن مرجعًا للفلاسفة المعاصرين. فقد أُهمِلَ عمومًا؛ بل أكثر من ذلك، لقد عُتِّمَ عليه. من جهة أخرى، فقد جعلوا أحيانًا من الملحمة البطولية الغاندية أسطورةً: قدَّموا لنا عندئذٍ المشهدَ الريفيَّ الغزليَّ لمواجهةٍ سِلْمية يواجه فيه هنودٌ لاعنفيون رجالاً بريطانيين رفيعي التهذيب [جنتلمان]، مما يوهم بأن غاندي كان سيجترح معجزةَ تحريرٍ وطني بدون إراقة دماء. إن تاريخ الأحداث التي جرت في الهند في الفترة من 6 نيسان/أبريل 1919 – يوم إطلاق غاندي لحملته في المقاومة المدنية – وحتى تاريخ 15 آب 1947 – يوم استقلال الهند – يُظهِر لنا أن أعمال عنف عديدة ارتُكِبَتْ من جهة كل طرف من الطرفين المتواجهَين. فمن جهة، لم يتردد البريطانيون للدفاع عن إمبراطوريتهم من اللجوء عندما يرون ذلك ضروريًا إلى أسوأ أساليب القمع بحق الهنود. ومن جهة أخرى، يجب ألاَّ نخطئَ في الأمر: نضالُ الشعب الهندي ضد المحتل والذي قاده غاندي لا يقدِّم لنا، كما أراد البعضُ أن يزعموا، النموذجَ الكاملَ لاستراتيجية العمل اللاعنفي. فقد استشاط الهنودُ غضبًا عدةَ مرات وأطلقوا العِنانَ لرغبتهم في العنف ضد المحتل ضاربين عُرْضَ الحائط بتعاليم اللاعنف التي أعلنها غاندي. لم نكن نطمح عند كتابة هذا الكتاب إلى تقديم دراسة معمقة عن فكر غاندي[34]، ولا إلى تقديم مجمل عمله؛ أردنا فقط أنْ نرسمَ صورةً لغاندي تتيح لنا الولوجَ إلى معرفةِ وفهمِ شخصيته وفكره وعمله. ولأجل ذلك اخترنا تركيزَ دراستنا على "مسيرة المِلْح" التي جرَت في الفترة من 12 آذار/مارس ولغاية 6 نيسان/أبريل 1930 والتي تشكِّل بالتأكيد الحدثَ الأهمَّ في الملحمة الغاندية. هذه المسيرة افتتحَت حملةَ عصيان مدني كان هدفُها المعلَنُ ليس أقلَّ من الحصول على استقلال الهند بالكامل. وهذه الحملة امتدَّت أربعَ سنوات ابتداءً من 6 نيسان/أبريل 1930 بالضبط، اليوم الذي خرقَ فيه غاندي عن عمدٍ القانونَ البريطاني من خلال التقاط قليل من المِلْح الذي خلَّفَتْه الأمواجُ على شاطئ البحر، وحتى تاريخ 7 نيسان/أبريل 1934، اليوم الذي أَعلَنَ فيه قراره بإنهاء العصيان المدني. تتضمَّنُ هذه السنواتُ الأربعُ ثلاثَ مراحلَ متمايزةٍ تمامًا. تمتد المرحلةُ الأولى من 6 نيسان/أبريل 1930 إلى 4 آذار/مارس 1931، اليوم الذي وقَّع فيه غاندي ونائب ملك الهند معاهدةَ سلام لتعليق حركة العصيان المدني. والثانية هي وقت "الهدنة" التي زار خلالها غاندي لندنَ للمشاركة في مؤتمر الطاولة [المائدة] المستديرة الذي كان عليه أنْ يبتَّ في الدستور المستقبلي للهند. وتمتد من تاريخ 4 آذار/مارس 1931 حتى 3 كانون الثاني/يناير 1932، اليوم الذي قرر فيه غاندي استئنافَ حركة العصيان المدني بعد أن تأكد من رفض السلطات البريطانية قبولَ حوار بَنَّاء معه. وتمتد المرحلةُ الثالثة إذًا من 3 كانون الثاني/يناير 1932 إلى 7 نيسان/أبريل 1934. ومن أجل فهم مدى أهمية هذه الأحداث، ينبغي وضعُها في الإطار التاريخي الإجمالي لنضال الهنود من أجل الاستقلال. ولذلك سنَعرِض باختصارٍ المراحلَ التي مرَّت قبل المرحلة التي آثرْنا دراستَها وبعدها. على طول هذه "المسيرة الطويلة"، سنعمل جاهدين على تقَـفِّي [خُطى] غاندي "خطوةً بخطوة" إلى حد ما، من خلال مشاهدته وهو يعمل والإنصاتِ إليه وهو يتكلم عن مواضيعَ شتَّى. وبدا لنا من الضروري أنْ نفسحَ له المجالَ للكلام مطوَّلاً بغيةَ إتاحة الفرصة للقارئ ليتعرَّفَ على جميع جوانب شخصيته. وهذا سيتيح لنا رسمَ صورة أولية عن غاندي تتطابق مع حقيقة شخصيته أفضلَ مطابقة وتعطي كلَّ قارئ إمكانيةَ ملاءمة نظرته شيئًا فشيئًا مع هذه الحقيقة. فيجوز له عندئذٍ تشكيلَ حكمه الخاص. لم تكن فرضيتُنا في العمل هي أنَّ غاندي كان مُحِقَّـًا دائمًا في جميع الظروف. وعندما نستشهد بقول له فهذا لا يعني أننا نوافق بالضرورة على ما يقول. لا شك في أننا لن نتوانى عن تقديم انتقاداتنا إذا اقتضى الأمر ذلك، لكننا في الغالب لن نثقلَ النصَّ بتعليق شخصي. وفي أغلب الأحيان، سنأخذ وقتًا لنروحَ نقرأُ ما كتبَتْه الصحفُ الفرنسيةُ عن غاندي على مر هذه السنوات الأربع. كانت "الاضطرابات في الهند" تحتل في الواقع مكانًا مهمًا نسبيًا في صحافة العصر وكانت تعليقات الصحفيين ترسم صورةً متناقضة جدًا لقائد التمرُّد الهندي، ولكنها مفيدة جدًا علميًا. في الحقيقة غاندي شخصية معقَّدة. فقد كان جواهَرلال نِهْرو Jawaharlal Nehru يؤكد: "كان تناقضًا [ظاهريًا] غيرَ عادي ذلك الرجل"[35]. كان غاندي رجلاً يدرك بالحدس وكان فكره، تبعًا للحدث دائمًا، يُظهِر غالبًا مفارَقاتٍ تصدم تفكيراتِنا الديكارتيةَ [المنطقية] ويمكن أنْ تضعنا في حيرة من أمرنا. وهكذا حصلَ له أنْ تنقَّلَ بين مثالية أخلاقية غامضة إلى حد ما وبين واقعية سياسية صارمة جدًا. فلا يمكننا إذًا تجميد فكره في "غاندية" ما. لفهم هذا "التناقض" فهمًا أفضل، سنستعين غالبًا بشهادة نهرو. فذلك الرجل كان أحدَ أقرب الأصحاب لغاندي، لكنه في الوقت نفسه لم يكن واحدًا من تلاميذه التابعين inconditionnels. فبالإضافة إلى أنه لم يكن للرَّجُـلَين الطينةُ [الجِبِلَّةُ] نفسُها، كان يحصل لهم غالبًا ألاَّ يكون لهما التحليلُ نفسُه للأحداث. فضلاً عن أنَّ نهرو لم يكنْ يتردَّد، عندما يرى ضرورةً لذلك، في تأكيد خلافاتِه مع من كان يسمِّيه الهنودُ مهاتما (الـ"الروح العظيمة" la "grande âme")، لكنه لم يكن يستطيع أنْ يمنعَ نفسَه من الشعور تجاهه بأشد إعجاب وبأكثر مودة. في الواقع، كان هذا الرجل المتناقض [ظاهريًا] يستهويه فيؤكد لنا أن شخصه كان جذابًا أكثر من شخصيته: كان يمتلك ابتسامةً عذبة وضحكةً مُعْدية؛ كان يُشِعُّ مرحًا. كان في داخله شيء طفولي ممتلئ سحرًا. عندما كان يدخل غرفةً كانت نسمة هواء عليل تلطِّف الجوَّ[36]. هذا هو الإنسان الذي يودُّ هذا الكتابُ اكتشافَه. ترجمة: محمد علي عبد الجليل *** *** *** * يصدر قريبًا عن دار معابر للنشر، دمشق. [1] ﭙول دي بروي، جاينيو الهند، باريس، أوبييه، 1990، ص 55. [2] المرجع السابق، ص 28. [3] غاندي، The Collected works of Mahatma Ghandi [الأعمال الكاملة للمهاتما غاندي]، أحمد آباد Ahmedabad، قسم المنشورات، وزارة الإعلام والإذاعة، حكومة الهند، 1965، المجلَّد رقم 15، ص 399. من الآن فصاعدًا عندما نرجع إلى الأعمال الكاملة – The Collected works لغاندي سنشير مباشرةً إلى رقم المجلَّد. [4] Paroles du Boudha [أقوال البوذا]، نصوص ترجمَها عن الصينية جان إيراكل Jean Éracle، باريس، لوسوي Le Seuil، 1991، سلسلة "ﭙوان ساجيس" ”Points Sagesse”، ص 69. [5] المرجع السابق، ص 159. [6] ﭙـاتانجالي، يوغا-سوترا، ترجمها عن السنسكريتية فرانسواز مازيه Françoise Mazet، باريس، ألبان ميشيل، 1991، 2، 30. [7] المرجع السابق، 2، 31. [8] المرجع السابق، 2، 34. [9] المرجع السابق، 2، 35. [10] ذَكَرَه س. أ. باري S.A. Bari، Gandhi’s Doctrine of Civil Resistance [مذهب غاندي في المقاومة المدنية]، نيودلهي، Kalamkar Prakashan Pvt. Limited، 1971، ص 8. [11] الإنجيل بحسب متَّى، 19، 16 وما يليها. [12] تُعَبِّر الكلمتان، كلمةُ mal-veillance (من اللاتينية male volens، سيء النية) وكلمة bien-veillance (من اللاتينية bene volens، حَسَن النية)، بحسب معناهما الاشتقاقي، عن فكرتَي "إرادة الشر" و"إرادة الخير". يستعمل غاندي الكلمتين الإنكليزيتين: ill-will [سوء النية] وgood-will [حُـسْـن النية]. [13] غاندي، Young India [شباب الهند]، 1919-1922، مادراس Madras، الناشر س. غانيسان S. Ganesan Publisher، 1924، ص 286. [14] المجلَّد 18، ص 265. [15] غاندي، All Men are brothers [جميع البشر إخْوة]، أحمد آباد Ahmedabad، دار ناﭭـاجيـﭭـان Navajivan للنشر، 1960، ص 119. [16] غاندي، Autobiographie ou mes expériences de vérité [السيرة الذاتية أو خبراتي في الحقيقة]، باريس، مطابع فرنسا الجامعية، 1964، ترجمة جورج بيلمون Georges Belmont، الصفحتان 444 و445. [17] ذكرَه د. ج. تيندولكار D. G. Tendulkar، Mahatma: Life of Mohandas Karamchand Gandhi [المهاتما: حياة موهانداس كارامشاند غاندي]، مجلَّد 6، نيودلهي، قسم المنشورات، وزارة الإعلام والإذاعة، حكومة الهند، 1969، ص 41. [18] غاندي، M.K. Gandhi à l'œuvre [م. ك. غاندي في العمل]، باريس، منشورات ريدر Rieder، 1934، ص 172. [19] المرجع نفسه، ص 169. [20] المرجع نفسه، ص 171. [21] غاندي، Satyagraha, Non-Violent Resistance [ساتياغراها، المقاوَمة اللاعنفية]، أحمد آباد Ahmedabad، دار ناﭭـاجيـﭭـان Navajivan للنشر، 1951، ص 3. [22] M.K. Gandhi à l'œuvre [م. ك. غاندي في العمل]، سبق ذِكْرُه، ص 170. [23] Satyagraha [الساتياغراها]، سبق ذِكْرُه، ص 6 و7. [24] غاندي، Autobiographie ou mes expériences de vérité [السيرة الذاتية]، سبقَ ذِكْرُه، ص 348. [25] المجلد 18، ص 123 و133. [26] المجلد 18، ص 265. [27] المجلد 44، ص 59. [28] غاندي، Hind Swaraj or Indian Home Rule، أحمد آباد Ahmedabad، دار ناﭭـاجيـﭭـان Navajivan للنشر، 1938، ص 71. [29] All Men are brothers [جميع البشر إخْوة]، سبق ذكره، ص 76. [30] Tous les hommes sont frères [جميع البشر إخْوة]، باريس، غاليمار Gallimard، سلسلة "إيديه" "Idées" [أفكار]، 1969، ص 109 و110. [31] المجلد 44، ص 40. [32] Lettres à l'ashram [رسائل إلى الأشرم]، باريس، ألبان ميشيل، 1960، ص 103. [33] Tous les hommes sont frères [جميع البشر إخْوة]، سبق ذكره، ص 134. [34] قدَّمْـنا دراسةً عن فكر غاندي في [كتاب] Le Principe de non-violence. Parcours philosophique [مبدأ اللاعنف. وجهة نظر فلسفية]، ديكليه دو برُوَّير Desclée de Brouwer، 1995، الفصلان 13 و14. [35] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، باريس، دونويل Denoël، 1952، ص 364. [36] المرجع السابق.
|
|
|