|
البرنامج البنَّاء*
وهل هناك ما هو أكثر بهجة، بالنسبة لعقل غير فاسد، من مهمة إجراء تحسينات على وجه
الأرض، أكثر من كل المجد العقيم الذي يمكن اكتسابه عبر التدمير.
ذات يوم، من العام 1940، ألحَّ شاب هندي على غاندي بالسؤال: «ما الذي سيجعل، حقًا، البريطانيين يتركوننا وشأننا؟» فأجاب غاندي بتألق: «تقدم استثنائي في الغَزْل». أودُّ أن أتخيَّل ذلك الذي كان من أولئك الثوريين الذين لم يُصدِّقوا أنَّ غاندي كان جادًّا حقًا بشأن اللاعنف. كان يعتقد – ويأمل – أنَّ غاندي كان يبدِّد الوقت بانتظار اللحظة المناسبة لإطلاق ثورة حقيقية، لكن اللاعنف كان الثورة الحقيقية. وحقًا، يغرينا السؤال عن دواليب الغَزْل؟ أجل، دواليب الغزل وكل ما ساندها. ففي ذلك الوقت الذي كان فيه غاندي يصوغ هذه الإجابة، كانت له تقريبًا تجربة خمسين سنة خلف دولاب الغزل، ولم يعد مهتمًا بأن يبدو بارعًا. وبوسعنا الافتراض أنه قصد ما قاله فحسب؛ فلماذا كان لدولاب الغزل المتواضع مثل هذه القوة؟ للاعنف وجهان: وجه التعاون مع الخير ووجه اللاتعاون مع الشر. هذان الوجهان، أو لنُسمِّهما حدَّيْ سيف الساتياغراها، هما ما دعاه غاندي البرنامج البنَّاء، حيث تخلقُ الأشياء وتُجري إصلاحات في مجتمعك الخاص وعليه وهو ما أرغبُ في تسميته البرنامج المُعيق، حيث ترفض تحمُّل محاولات الآخرين لإضعافك أو استغلالك. عندما يكون عليك أن تقوم بما هو مسألة وقت إلى حدٍّ كبير، رغم أنَّ معظم الذين يفكِّرون بشأن اللاعنف هم مثل ذلك الشاب الذي ألحَّ على غاندي في العام 1940 – إنهم يفكرون بالجانب المُعيق فقط. ما من أحد أكثر سخرية من كينيث بولدينغ في ملاحظته بأنَّ اللاعنف كان جيدًا للهجوم وليس للدفاع، والتي، إذا وضعنا الدعابة جانبًا، تُثبت في النهاية أنها خاطئة، كما سنرى في الفصل الثامن. فهذا الانحياز، والذي يتشارك فيه لسوء الحظ النشطاءُ مع بعض الباحثين والمراقبين غير الإكليركيين على حدٍّ سواء، قام بدور كبير جدًا في إعاقة تطوير السلام واللاعنف. ومن سخرية القدر أنَّ الحافة البنَّاءة هي فعليًا أهم إلى حدٍّ بعيد من الحافة المقابلة – العائق الذي بدأنا بإدراكه نسبيًا. اجتمعتُ، ذات مرة، ببارون فرنسي وزوجته بينما كنت أعمل في موقع أثري في الجزيرة اليونانية ديلوس. وقد وجَّه السيد والسيدة إيفرار-غاربيه دعوة لزوجتي ولي إلى شقتهم في باريس لتناول العشاء، وطبعا قبلناها على الفور. كانت السيدة طباخة بارعة، وكانت المحادثة تجري بشكل رائع إلى أن أبدى صديقي البارون ملاحظة عَرَضية: «أوه، أنا أؤمن بالكامل بعدم المساواة بين الأعراق». شحب وجه زوجتي لأنها كانت تعرف أني قد أختلق شجارًا. وفي العادة كنتُ أفعل ذلك، لكن عدة أمور جعلتني أُحجِم هذه المرة. أولاً، لأن المحادثة كانت باللغة الفرنسية، وهذا ما أبطأ ردّي. ثم أني كنتُ في منزله، آكل من طبخ زوجته المُترَف. والأكثر أهمية، ربما، هو أني كان قد مضى علي، في ذلك الوقت، سنة أو نحو ذلك في حالة تأمل. فلم أتفوَّه بكلمة. مرَّت لحظات، وبعد أن تغير مجرى المحادثة، قال مُضيفي: «أنت تعرف أن لا أهميةَ لشيء في العالم سوى البِر [charité]». فقلت له بهدوء: «هل تعتقد أنَّ الأعراق تُوهَب القدرة على البِر بشكل غير متساوٍ؟» من المحتمل أني قمت بتخفيف العبء العنصري للعالم في ذلك المساء أكثر مما فعلته طوال سنين النشاط. ومع ذلك، لم أكن وهيهات أقل غضبًا – والمجهول أكثر بالنسبة لي هو أنَّ غضبي كان يبحث عن مخرج بنَّاء أكثر، جاعلاً إياي أكثر يقظة لما كان يقوله مضيفي بدلاً من أنْ أكون أقلَّ يقظة، بالرغم من أنني كبحت نفسي ليس بدافع القناعة، حقًا، بل ببساطة بسبب الظروف التي أُملِيَت علي. كانت هذه بالنسبة لي تجربة شخصية هامة في تحويل قوة تأثير الغضب، وما سيكون علي فهمه بعد سنوات كبرنامج بنَّاء. وكما سنرى، كانت بذرة البرنامج البنَّاء تُزرَع في البداية ذاتها لحياة غاندي العامة، بعد حوالي سنة على زوال صدمة بييترماريتزبيرغ، أو بالأحرى، خُفُوتها. ففي العشرينيات، بعد فترة وجيزة من عودته إلى الهند، نمت تلك البذرة في جدول يضم ثمانية عشر مشروعًا صُمِّم لإعادة بناء الهند من تحت إلى فوق. وكلما أصبحت الأمور أكثر إحكامًا وشمولاً انتقلت لكي تحتل مرحلة مركزية في تفكير غاندي. ففي العام 1940 كان لديه أمل رئيسي؛ فقد كان ملتزمًا بالكامل بالاعتقاد أنه في حين أنَّ للاعنف سلطة واسعة للاحتجاج والتعطيل، فإن سلطته الحقيقية هي الخلق وإعادة البناء. إذ لن تهزَّ الأرتال الاحتجاجية بناء مجتمع. هذا هو ما أراد لمتحدثه في العام 1940، ولنا جميعًا، أن نفهمه. واليوم، حيثما نبحث عن أمثلة ناجحة للتغير الاجتماعي تبدو لنا المجموعات، أو الأفراد، التي تتخذ خطوات إيجابية وملموسة، مثل مشاريع إعادة البناء التي ألقينا نظرة عليها في الفصل الأخير، هي التي تُحدِث الاختلاف الأكبر. وربما يكون الأمر بسيطًا بقدر بساطة برنامج صندوق الدفاع البيئي "المرفأ الآمن"، الذي يكافئ ملاك الأراضي الذين يوفرون الحماية للأنواع المعرَّضة للخطر بدلاً من معاقبتهم عندما لا يفعلون ذلك. وبإدخاله إلى ثلاث ولايات "عمل" بشكل جميل؛ فـ"المرفأ الآمن" في تكساس لوحده لديه أكثر من مليون هكتار تحت الحماية، تبعًا لموادهم البريدية في العام 1998. أو الصندوق التربوي لإنهاء عنف الأسلحة النارية الذي استهل مشروعًا دعاه "أيدٍ بدون أسلحة"، وكان غرضه أن يظهر للأطفال عالمًا من المرح والفرص خارج عالم الخوف والعنف. وقد ضربت هذه الرسالة الإيجابية على وترٍ مدوٍّ؛ فمن بوسطن إلى سان فرانسيسكو نظَّم مراهقو الأحياء عملية استرجاع أسلحة وأقاموا تماثيلَ من الأسلحة المُجمَّعة. إنَّ أحد أكثر البرامج البيئية نجاحًا عبر العالم هو برنامج الدكتور كارل هنريك روبيرت "الخطوة الطبيعية". والدكتور روبيرت دكتور في الطب من السويد أصبح مهتمًا بشدة بالتبخيس الذي يلحق بالبيئة، وبدأ باستقطاب آخرين إلى تلك الدائرة من الاهتمام. وكان يتميَّز، لحسن الحظ، بالجَلَد لمجاراة عاطفته. وما هو فريد بشأن برنامج "الخطوة الطبيعية" ليس إعداده العلمي ولا موثوقيته بمقدار ما هو مقاربته. إننا أولاً نثقِّف كبار رجال الأعمال والسياسيين والعلماء في شروط النظام الأربعة [أربعة أمور يجب ملاحظتها لكي تكون الأرض نظام إنعاش مستمر للحياة] ومن ثم نسألهم النصيحة. وبدلاً من أن نملي عليهم ما الذي يجب أن يفعلوه، نقول لهم: «كيف يمكن تطبيق هذا في عالمك؟» وهذا يُطلق شرارة إبداع ويُعزِّز الحماس في العملية بدلاً من آليات دفاع. أية خبيرة في حقل نشاطها... هي أكثر براعة منك أو مني. فإذا أعطيتها المبادئ العامة، ومن ثم سألتها النصيحة، فإنها ستجد الحلول الأكثر ذكاء من التي يمكن أن يجدها "السلام الأخضر" أو أنا أو أي شخص آخر. ونحن بحاجة مُلحَّة إلى الحلول العملية الخلاقة. في الأيام الأولى، وقبل أن يكون لـ"الخطوة الطبيعية" منظمات وطنية حول العالم، كاد روبيرت أن يذهب إلى الشركات وأن يطلب التحدث إلى مجالس إداراتها حول تضاؤل الموارد الذي يصطدمون به. وبشكل نموذجي، كانوا سيصرفونه قائلين له: «لا تتصل بنا، نحن سنتصل بك»، لكن في غضون أسبوع أو نحوه، كانوا يتصلون به. يكمن السرُّ في ذلك هو أنك إذا كنت تفترض أنَّ الناس عقلانيون، فسوف يفيد هذا في إيقاظ عقلانيتهم – إنه «يرغم العقل على أن يكون حرًا». وهذا يعمل أحيانًا حتى في حالات على مستوىً عالٍ من منحنى التصعيد، حين تبدو كثافة العواطف السلبية أنها قد خنقت العقل. وهو يعمل في المستويات الأدنى بشكل جميل. قبل عشرين سنة من رشِّ غاندي ذلك الماء البارد على سائله نافذ الصبر في العام 1940، عندما أطلق ساتياغراها شاملة ضد الحكم البريطاني في الهند، فعل ذلك مع وعد جريء بـ "حكم ذاتي Swaraj [حرية] خلال سنة واحدة". كانت جرأة لكنها لم تكن تهوُّرًا. لقد وعد بالحرية خلال سنة واحدة إن هو حصل على التعاون الكامل مع البرنامج البنَّاء والغزل. ولم يغيِّر شيء من رأيه بين عام 1921 وأوائل الأربعينيات. وإذا كان هناك من شيء، فهو أنه كان واثقًا أكثر من أي وقت مضى من أنَّ اللاعنف هو الطريق الوحيد للمضي فيه، وأنَّ المعنى الحقيقي للاعنف لم يكن في المواجهات الكبيرة المثيرة مثل غارة دهاراسانا (تلك "اللحظات اللاعنفية" المتألقة)، بل في الهمهمة البطيئة الثابتة لدولاب الغزل. ولكي نُقدِّر تمامًا كيف كان العمل البناء الأساسي بالنسبة لمفهوم غاندي للتغيير اللاعنفي، يمكن أن نعود إلى البداية ذاتها، إلى عام 1894، عندما اختتم مهنة المحاماة التي كان يمارسها من أجل تقديم المساعدة في جنوب أفريقيا، وليكون قادرًا على الالتفات إلى "الشرِّ" الذي كان يواجهه تقريبًا منذ اليوم الأول لوصوله في أيار عام 1893، وهو التفرقة العنصرية. وفي الحال، منذ البداية، تأكد أنه إلى جانب الكفاح المباشر ضد الحكومة «كان لا بدَّ أيضًا من الشروع في تحسين داخلي للقضية» وكان هذا إثباتًا مُبشِّرًا ومفهومًا للكلمات. وفي مجرى الزمن، يمكن "أيضًا" أن تصبح "في الدرجة الأولى"؛ فالتأكيد كان سينتقل بثبات إلى عمل بنَّاء تباشر به الجماعة ذاتها، سواء كانت الجاليةَ الهندية في جنوب أفريقيا أم الهنود المحرومين في بلدهم نفسه، بالرغم من أنَّ الدراما التي فتنت العالم ستكون دومًا الصدامات الصريحة مع القوة البريطانية. وهو عنى ذلك عندما قال إنَّ سياسته الحقيقية كانت العمل البنَّاء. والذي كان من البساطة بمكان إلى حدِّ أنَّ أحدًا لم يتوصل إليه. من الطبيعي أنَّ الفاعل اللاعنفي سيكون عصبي المزاج إلى حدٍّ ما بشأن إلقاء لوم أي خطأ على الآخرين على وجه الحصر. فعندما تكون الطرف الأضعف، ومُستغَلاً في الواقع، فمن الهام جدًا أن تتذكر أنك، أيضًا، لا بدَّ أن يكون لديك بعض الضعف الذي أدخلك في الوضع. لا ضعف، ولا استغلال. رغم أنه لم تكن لدى غاندي أية أوهام بخصوص عدم رحمة الأوروبيين وانحيازهم، فقد كان يُطلع زملاءه الهنود – في الحكم الذاتي الهندي، وهي إحدى أكثر الكُراسات اتقادًا مما كتبه على الإطلاق – أنَّ الهند لم تُغلَب بحدِّ السيف ولا يمكن أن تُحكَم بحدِّ السيف: نحن أحضرنا الإنكليز، ونحن نبقيهم... إنَّ تبنِّينا لحضارتهم يجعل وجودهم في الهند محتملاً إلى حد كبير. ومهما يكون شعورنا بصدد الإنصاف أو "المبادئ الأخلاقية" للتأكيد على تصحيح ضعفنا، فإنها طريقة فعالة لمقاومة الاستغلال. وقد توصَّل غاندي إلى الشعور بأنها كانت الطريقة الأفضل. ومثل معظم الحركات الشعبية نشأت ساتياغراها كردِّ فعل على إساءة الدخلاء. وذلك ما كان رد فعل غاندي الأول كما هو حال أي أحد آخر. لكن حيث أنَّ معظم الحركات تظلُّ مركِّزة على "ليتركونا وشأننا"، شعر غاندي غريزيًا أنَّ هذا كان نصف القصة فقط، وربما نصف الظل فقط. فالنظرة الفعالة حقًا كانت "لننهض بأنفسنا". وأمران اثنان يعطيان لهذه النظرة قوة، كما رأينا: الانتقال من "هم" إلى "نحن" (فكر كم نحن أكثر انفتاحًا بكثير منهم، رغم كل شيء) والانتقال الموازي من نمط عملية مُعوِّق إلى نمط بناء. وأمور أخرى مساوية، ذلك أنَّ البناء أفضل بكثير من الهدم؛ فلا شيء أكثر صدقًا إطلاقًا مما هو في عالم اللاعنف. من البرنامج البنَّاء إلى برنامج البِناء كيف بوسعنا تطبيق هذه البصيرة اليوم؟ يعمل الكثير من الناس، هنا وهناك، في أقسام من هذا المشروع الواسع: إعادة بناء الأحياء، انتشال الشباب من براثن العصابات، العمل ضد الفساد، القيام بإجراءات بيئية، الكفاح من أجل حقوق الأقليات ومن أجل المشاركة الديمقراطية. وما هو مفقود، كما يبدو لي، هو أنَّ كل هذا لم يتماسك حتى الآن لكي يُظهر صورة كبيرة. فذات يوم، سأل أحد طلابي باحثة سلام مشهورة كانت قد ألقت كلمة جميلة: «كناشط، أجد أنَّ من المحبِط أننا نحاول إيقاف حرب هنا، وإيقاف إبادة جماعية هناك، وإيقاف سباق التسلح في كل مكان، وفي اللحظة التي نحول فيها دون أمر من هذه الأمور، تبرز ثلاثة أخرى. فالذي لا نوقفه هو ما يسبب كل هذا. وأتساءلُ إن كان لديك فهم عملي سليم لذلك». لم يكن لديها هذا الفهم لكني أعتقد أننا بدأنا بامتلاك هذا الفهم. فما يسبب "كل هذه الأمور" هو العنف، والترياق هو اللاعنف، والبرنامج البنَّاء سيكون النوع الأكثر فاعلية للاعنف بين أشكال الكفاح الدنيوية، ويُمهِّد السبيل لها، مثل حركة الحقوق المدنية. ويبدو لي أنَّ من الضروري حدوث أمرين اثنين ليسا تمامًا في الموضع الصحيح؛ فنحن نحتاج إلى التمسُّك بإحكام وبشكل حقيقي بمبدأ اللاعنف الذي سيمنحنا فهمًا مفصليًا لكيفية تطبيقه (لا تفاهات، كما كان غاندي سيقول)، ونحتاج إلى مخطط عام – صورة متماسكة إلى حد ما، لكنها شاملة – مما سيساعدنا على الشعور بأننا نعمل معًا حتى لو لم نكن نعمل على المشروع نفسه. ليس مناسبة تجريبية هنا أو مجموعة خاصة بالسجناء هناك، وليس نشاط لحقوق الإنسان هنا أو حملة لمكافحة الفساد هناك، بل حركة لاعنفية متطورة ومُوجَّهة كليًا. ويعرض لنا تصميم البرنامج البناء الهندي نموذجًا. فلم يكن لدى البرنامج تصميم عام بالغ البساطة يمكن تخيُّله كصورة أحادية دائمة التكرار؛ فالبرنامج البناء كان "نظامًا شمسيًا"، كما كان يقول غاندي غالبًا، ودولاب الغزل كان "الشمس". ونظرًا إلى أنَّ غاندي كان يمتلك فرصة، لم تتوافر لكينغ، لتطوير أفكاره إلى حدٍّ هائل، فلدينا الفرصة لكي نرى فيها إصلاحًا للعمل إلى ذلك الحد، ولكي نرى، على سبيل المثال، العلاقة الممتعة بين دولاب الغزل، وهو المشروع الرائد، وحملة الخلاص من السيطرة البريطانية على النسيج المُورَّد إلى الهند التي كانت تتفاخر فيما مضى بحِرَفها النسيجية عن طريق الصناعة المنزلية، وبين البرنامج البناء كليًا. كانت المنفعة الكبرى من هذا الترتيب هي تماسكه المتناسق، وإن بدا البرنامج الواسع النطاق بأكمله مُحيِّرًا، فبوسعك فهمه في دولاب الغزل – على سبيل المثال، هو يقول "تقدم استثنائي في الغَزْل" وستفهم أنه يرمز إلى الأمر برمته. ليس الأمر قَبْضة من الملح هنا ومقاطعة محل للمشروبات الكحولية هناك؛ بل هي دعوة إلى الحقيقة هي التي تمثِّلها تلك النشاطات والنشاطات الأخرى. عيد التجلي في أحمد آباد في الطيف الواسع والشامل لتلك المشاريع الثمانية عشر، كان charkha (باللغة الهندية "الدولاب"، واختصارًا حملة الغزل المنزلية) الشمس التي تدور البقية حولها. وعلى المرء أن يتذكر أنَّ الهند، منذ الأزمنة القديمة، كانت "حضارة أدغال"، ولم تكن ثقافتها واقعة في المدن الكبرى مثل تاكشيشيلا وباتاليبوترا وكاشي (بيناريس الحديثة)، بل في القرى، مئات الألوف من القرى، التي يعيش الناس فيها قريبًا من الطبيعة. وكانت البصمة الاقتصادية لهذه القرى هي الاكتفاء الذاتي؛ فقد كانت معظم الصناعات القروية تُنجز من قبل العائلات التي تنظَّمت منذ قرون في نظام طوائف متواكلة تبادليًا. ومن بين الكثير من مثل هذه الصناعات، كان الغزَّالون والحائكون جزءًا من اقتصاد القرية الذي كان يصل إلى أبعد بكثير من قراهم؛ فالقماش الهندي كان فخر آسيا. ومن الواضح أن غياب التنظيم المركزي لا يعني غياب شتى أشكال التنظيم، مهما اعتقد الحكام الأوروبيون لاحقًا. فقد كانت الصناعة المنزلية محور – شبكة من محاور كثيرة – التجارة النشطة في كافة أنحاء شبه القارة وما وراءها. وسوية مع هذا الاكتفاء الذاتي الاقتصادي انساق النظام الثقافي بأسره: المؤسسات الدينية، التعليم، ومعظم آليات الحكم والقانون والنظام التي كانت تعتمد على القرى وحولها وفي أيدي الناس الذين كانوا يعرفون بعضهم البعض. وبالتالي، في مسار القرن التاسع عشر، بدأت المعامل الصناعية المدينية تنتزع لنفسها الكثير من خيوط هذا الاقتصاد. وفي وقت قصير جدًا (إذا أخذت هذا من منظور هندي)، خلقت المدن الصناعية، مثل أحمد آباد، ومعها الاحتكار البريطاني لصناعة النسيج، بطالة لملايين القرويين المنتجين، دافعة إياهم إلى هوامش النظام الاجتماعي. (كان مظهرًا هائلاً آخرَ للتعسُّف هو أنَّ تجار النسيج هؤلاء كانوا مسلمين). وفي العام 1928، زار غاندي تلك المعامل في أحمد آباد، عاصمة مسقط رأسه ولاية غوجارات، واكتسب تجربة قد تُغري بتسميتها رؤيا. فبينما كان واقفًا على أرضية المعمل، ناظرًا إلى الآلة المقعقعة، بكى. فنحن حيثما تلفَّتنا نرى آلات – صاخبة ومزعجة، ربما، لكنها مجرد آلات – أما هو فقد "رأى" العنف البنيوي والجشع الذي أحلَّ هذه الآلات هناك؛ فساكن المدينة يستغل القروي البسيط، والشركة اللاشخصية تستبدل بما كانت شبكة واسعة من العلاقات الوثيقة، وجنون الربح الطاغي بكرامة العمل. وهناك أساطير ذات علاقة تقول إنَّ البوذا العطوف وتابعيه كانوا يحدقون في مشهد جميل على نحو خاص، وبينما كانوا يُكبِرون الجبال المكسوة بالثلج والنهر الصافي، رأى البوذا نهرًا من الأحزان – الدموع المتدفقة من معاناة الإنسانية – وجبالاً ليست مكسوة بالثلوج بل بعظام الراحلين. وكان جواب البوذا هو توجيه حركة دولاب القانون؛ وكان على غاندي أن يدير دولاب غزل الحرية: الحرية من الجشع والتمركز والعنف البنيوي. لقد بيَّن دولاب الغزل لنا أنَّ بوسعنا العودة إلى نوع من الحياة التي عاشتها الإنسانية من قبل، وتغلَّب عليها جنون الآلة. وليس المضمون قماشًا فحسب، بل إيديولوجيا – ليس مختلفًا كثيرًا عما كانت الهند قد عرفته قبل قرون – "سيعيش" فيها الغني على نحو اختياري ببساطة، ولذا قد يعيش الآخرون ببساطة، وسيكون النظام الاجتماعي-الاقتصادي أحد مقاييس الإنسانية. ومجددًا، إنَّ حقيقة أنَّ النظام لم يكن مركزيًا لم تعنِ أنَّ مكوناته كانت منعزلة. فكما في الماضي، كان الغزَّال في قريته على ارتباط مع المزارعين الذين كانوا يزوِّدونه بالقطن، ومع الذين يصنعونه، والذين يبيعونه، وأخيرًا مع الذين يلبسون الخادي khadi (لباس قطني منزلي الصنع). ولدرجة أكبر من الانتفاضة، كان دولاب الغزل يعيد بناء البنية التحتية لهند حرة بطريقة حياتها الخاصة القابلة للاستمرار. ومن العشرينيات فصاعدًا، حثَّ غاندي كل شخص، الغني والفقير، لقضاء ساعة يوميًا يغزل، إن لم يكن تمشيط النسيج أو حياكته أو، بطريقة أخرى، صنع القماش من القطن الهندي المحلي، موضِّحًا بلا كلل أنَّ النقطة الأساسية كانت صنع قماش لأولئك الذين بالكاد يستطيعون تحمُّل نفقات تغطية أجسادهم العارية، ولإعادة العمل ذي المغزى إلى ملايين كانوا قد أضحوا عاطلين عن العمل بسبب نظام الاستغلال عديم الرحمة وغير الملحوظ، وعبر القيام بذلك، لوضع حدٍّ لذلك النظام. وكان الكثير من الهنود، وخصوصًا سكان المدن المغربيين (من الغرب) لا يحبون لبس الخادي khadi أو الخضار khaddar. فهو خشن يَحكُّ الجلد، وبالتأكيد ليس زيًا متطورًا. كان هذا النوع من المناقشة يؤذي غاندي في الصميم. يجب أن نكون جاهزين لكي نرضى بمثل هذا القماش بما أنَّ الهند يمكنها إنتاجه، تمامًا كما نحن راضون بالأطفال الذين يمنحنا إياهم الله، ونشكره عليهم. فأنا لم أعرف أمًا ألقت بطفلها الرضيع بعيدًا بالرغم من أنه قد يبدو قبيحًا في نظر الغرباء... فالخضار khaddar هو الحقيقة الملموسة والمركزية للسواديشي Swadeshi. والسواديشي Swadeshi، تُعرَّف بإيجاز بأنها العالمية معكوسة. إنه يعني الاعتماد الذاتي والعمل المحلي، ينمو خارجيًا من ذلك الموقع للقوة إلى اعتماد متبادل وشأن عالمي. وSwadeshi المُشخَّص هو نسيج من غزل البيت، كما قال غاندي. كان الخضار khaddar مدخل كل واحد في نظام Swadeshi. قالت إحدى حفيدات غاندي مؤخرًا: الغذاء واللباس والمأوى هي من الضروريات الأساسية للحياة المتمدِّنة. فمعظمنا، في وقت ما من حيواتنا، لفَّ chapati (خبز هندي مُسطَّح). وبصورة مشابهة، لابد لكلِّ هندي في وقت ما من حياته أن يتلمس ويتحسَّس الخضار khaddar، فذلك هو بران praan أو الروح في كل منا. فنحن نحتاج إلى القماش بجانب الغذاء. ففي الاقتصاد الغاندوي، هناك فرق نوعي بين الحاجات الأساسية من غذاء ولباس وملجأ وبين أي شيء أقل ضرورة. فلكل واحد الحق بتلك الحاجات الأساسية الثلاث. فإذا لم تتوفر – لكل واحد – فسوف يخفق المجتمع. والآن لنتذكر حملة غاندي الأخرى العظيمة حقًا. إنها بشأن الملح – ومرة ثانية، الشأن الأساسي بشكل جازم في بلد استوائي مثل الهند. فبهاتين الحملتين: العرض "المعوِّق" لاستعادة الملح من أيدي الحكومة، والمشروع البنَّاء لصنع قماش على مستوى القرية، أراد غاندي استعادة اثنين من أكثر عناصر الحياة أساسيةً – عناصر مُعزِّزة لأي اقتصاد، المأكل والملبس. وهذا ما يجعل قول نهرو الشهير، إنَّ الخادي khadi كان "الزي المميز لحريتنا"، تقريبًا أقلَّ مما تقتضيه الحقيقة؛ ففي القتال من أجل الملح والقماش، كانت الهند تقاتل من أجل السيطرة على ضرورات الحياة ذاتها. إذًا، لا شيء يمكن أن يكون حقيقيًا بقدر دولاب غزل. طبعًا – بالتفكير بالقضايا الحقيقية مقابل القضايا الرمزية التي عالجناها في الفصل الرابع – الدولاب هو أيضًا رمز. ففي الهند، كما في أي مكان آخر، الدولاب رمز قديم لتقدم العالم، "دولاب الوجود، ودولاب الحياة والموت (samsara)"؛ أو كما في البوذية، "دولاب القانون". لكن ما الذي أعاد هذا الرمز القديم إلى الحياة السياسية؟ ليس شعارًا تلصقه على ظهر عربتك التي يجرها ثور، يقول: "أنت تتبع غزَّالاً". لقد كان الوضع أنَّ الناس يغزلون قطنًا حقيقيًا تمامًا من أجل أناس يحتاجونه حقًا. فمن تلك الحقيقة الملموسة جاءت الكثير من المكاسب الأخرى: دخلٌ للعاطلين عن العمل والجائعين على الغالب؛ مئات من الشبكات المحلية تحضر المواد الخام للغزَّالين وتأخذ منتجاتهم إلى السوق؛ تدبير وإصلاح تجهيزات رأس المال للمغازل والدواليب وأقواس تمشيط القطن؛ أخلاقيات البساطة؛ إحساس عميق بالتضامن مع الفقراء؛ وأخيرًا وليس آخرًا، الحرية السياسية التي أبطلت تأثير القبضة البريطانية بشكل لاعنفي. فصورة دولاب غزل في لوحة إعلانات أو على علم الأمة (حيث يستقر اليوم) يمكن ألا يكون قد عمل أي من هذه الأشياء. بالإضافة إلى هذه المؤهلات الرئيسية الثلاثة من أجل المنزلة "الشمسية" لـ charkha، أعني أنه كان ملموسًا (كما أشار غاندي)، وبنَّاءً وغير مجابِه، بوسعنا أن نرى ببساطة بعضًا من منافعه الأخرى: 1. بوسع أيِّ شخص العمل عليه. فالعمل معًا يخلق إحساسًا بالمصير والوحدة المشتركة، كما لا يمكن لشيء آخر أن يفعل تقريبًا. فعلى نحو كامن، كان كل شخص متحدًا بـ khadi لأنَّ كل شخص يمكنه الغزل؛ رجلاً كان أم امرأةً أم طفلاً، غنيًا أم فقيرًا، فلا أحد كان من التواضع أو الضعف أو التباهي أو القوة لكي يعجز عن وضع يده على هذا الدولاب. ففي الأيام العظيمة لدولاب الغزل، حتى شخصيات هامة من النوَّاب كانت تعود إلى البيت وتغزل مدة نصف ساعة في اليوم – في الحقيقة، خصوصًا الشخصيات الهامة. لكن khadi لم يكن شيئًا تغزله فحسب؛ بل كان شيئًا تلبسه، وهذا ما صاغ نوعًا آخر من التضامن، نظرًا لأنَّ الأغنياء يمكن أن يلبسوا مثل الفقراء تمامًا – لباسًا بسيطًا ووقورًا، منسوجًا في البيت. فبتقلُّدهم معتقداتهم على أجسادهم، اكتشف الكثير من الهنود الأثرياء على نحو مباشر أنَّ الأخوَّة أكثر إرضاءً من المنزلة الاجتماعية. 2. بوسعك العمل عليه كل يوم. وليس لزامًا عليك أن تنتظر الوقت أو الطقس أو الظروف الملائمة، أو أن تعتمد على إقبال كبير في مناسبة خاصة؛ فالإيقاع القديم لدولاب الغزل كان مرتبطًا فقط بإيقاع النهار والليل نفسه. ولا بدَّ أنَّ هذا قد ذكَّر وكان يرمز إلى المتطوعين الذين كانوا يعملون عليه لفترات طويلة – "المثابرة المستمرة" التي تُحدِث اختلافًا في اللاعنف، أو أي شيء نافع تقريبًا. ومن المثير للاهتمام في هذا السياق أنَّ غاندي ادعى حتى أنَّ عملية الغزل اليومية كانت نوعًا من الانضباط الروحي، لأنه ليس هناك من اعتقادات هندية بأن النتائج الروحية تحدث على نحو غير منتظم. وبوسعك أن تدرك هذه النتائج بالتطبيق الثابت لفترة طويلة فحسب. 3. كل دولاب غزل charkha كان في البدء عملية. إذا احتجت للملابس، تصنعها. وهذا هو جوهر البرنامج البناء. فالحقيقة تأخذ مركز الصدارة، ومن ثم تتالى الأحداث. ولكونه سابقًا للعملي فإنه يعطي المرء منفعة استراتيجية عظيمة، مثل أيِّ مفهوم عام. لكنه يتضمن أيضًا المبدأ الأعمق للساتياغراها: فالحقيقة ليست انعكاسًا لشيء آخر أو لغيابه؛ إنما هي واقع. 4. أخيرًا – بالعودة إلى سؤال المتطوع نافذ الصبر لغاندي في العام 1940 – كان الغزل، على نحو غير قابل للشك، فعل حقيقة واجه كذب الاستعمار على المستوى الأعمق، ولذا شكَّل المقاومة الأكثر فاعلية. فالنظام الاستعماري بكامله مستند إلى أكذوبة، "أكذوبة" التبعية التي تحاول أن تجعل مجموعة من البشر تعتقد أنَّ عليها استجداء خبزها من الآخرين. وهذه ليست الطريقة التي جهَّز بها الله كوكب الأرض، لكن باطنية الاستعلاء ترغمها، حتى بالنسبة لأولئك المبتلين بها. وقد وصلت الهند إلى تصديق الرسالة الضمنية القائلة: «أنت معتمدة علينا. أنت بحاجة إلينا لإعطائك الملح والقماش (ولا حاجة لذكر إقامة العدل والدفاع عنك ضد الغرباء وحفظ النظام)». هذا ما دعاه غاندي الارتباط "الأثيم" واللاطبيعي بين المُستغِل والمُستغَل، وردًّا على ذلك همهم هو دولاب الغزل: «شكرًا لكم، بوسعنا إكساء وإطعام أنفسنا، كما فعلنا لخمسة آلاف سنة قبل مجيئكم». وفي الحقيقة يقول الدولاب، إذا ما أصغينا بانتباه، لا أحد يحتاج إلى السلع المُصنَّعة من عند آخر لكي يبقى على قيد الحياة؛ ففي الحقيقة، يحتاج الناس إلى القليل جدًا من البضائع المصنَّعة في المصنع عمومًا. هل هذا ثوري بما فيه الكفاية؟ في عالم البهتان، تكون الحقيقة مُجابِهة أصلاً. البرنامج البناء حقًا في مثل هذا العالم هو مثل سمكة تسبح ضد التيار – ستضرب العوائق بقوة، حتى دون أن تَجدَّ في البحث عنها. وقد بدأ الراجا Raj، كشركة تجارية، ينتهي عندما قرر شركاؤها غير الراغبين في أن يسايروا هذا النوع من "التجارة". وربما يكون البريطانيون قد تعلموا في المدارس وأسهبوا في خطاباتهم في البرلمان حول "الراية" و"القدر" و"عبء الرجل الأبيض"، لكن حالما أصبح الراجا عديم الجدوى فقد سيطرته، خصوصًا منذ أن عرض غاندي المقاومة ثنائية الجانب التي عرَّفها توينبي جيدًا: لقد جعل من المستحيل بالنسبة لنا الاستمرار في حكم الهند، لكنه في نفس الوقت جعل من الممكن بالنسبة لنا التنازل دون ضغينة ودون عار. ولذا بدا أن دولاب الغزل لوحده غير مُجابِه. امرأة في كوخها، طفل على الشرفة، وأحيانًا كل القرية تتجمع في لحظة بهيجة في الميدان (المرج)، وصوت دولاب الغزل charkhas يهمهم في الهواء – جلسوا ببطء، يقوضون بثبات كل نظام الراجا الاقتصادي، والحكومة بالكاد تعرف بما يحدث، أو كيف توقف ذلك. فالبرنامج البنَّاء يثير مجابهة ببساطة لما هو كائن – أو بالأحرى، لبقية العالم. وفي الوقت نفسه، كان هناك بُعد لاتعاوني لدولاب الغزل charkha أكمل العملية البناءة للغزل – فمن يتمسَّك بالحقيقة لا يتمسك أبدًا بنمط واحد من العملية فحسب – فالهنود لابسو الخادي khadi أحرقوا بناطيلهم البريطانية بالقدر نفسه من الحيوية التي أداروا فيها الدولاب لحياكة بناطيلهم الخاصة (وربما أكثر). وكانت مقاطعة القماش الأجنبي ناجحة إلى حدِّ أنَّ ثلاثة ملايين تقريبًا من معامل لانكشاير وجدت نفسها متوقفة عن العمل، وفي وقت كساد عالمي، عندما كانت التوجهات الاقتصادية قد أصبحت مهترئة. وقام غاندي، الذي كان في إنكلترا للمشاركة في مؤتمر الطاولة المستديرة، برحلة خاصة إلى الشمال لتوضيح حركته مباشرة للعمال في لانكشاير في 22 أيلول عام 1931، والتي أصبحت إحدى النقاط البارزة لتاريخ اللاعنف. ولم يتلفظ غاندي بالكلمات تصنُّعًا في حديثه مع العمال: أنا متألم بسبب البطالة هنا، لكن لا توجد مجاعة أو نصف مجاعة هنا. أما في الهند، فلدينا كلا الشكلين؛ فإذا ذهبتم إلى القرى ستجدون... جثثًا حية. لا تفكروا بالازدهار فوق قبور الملايين من فقراء الهند... وليكن في ذهنكم أن لا أمل في إنعاش تجارة لانكشاير القديمة – ذلك أن دولاب الغزل charkha كان يقدم ما هو فائض عن الحاجة – ولا تعزوا بؤسكم للهند بل فكروا بالقوى العالمية التي تعمل بقوة ضدكم. كانت معجزة أخرى لساتياغراها؛ فقد كتب أحدهم: هل لي أن أقول أو أحتاج للقول إنني كعامل في مصانع القطن في لانكشاير، والذي كان يعاني إلى حدٍّ ما خلال مهمة قادة المؤتمر الهندي، مُعجب أشدَّ الإعجاب بالسيد غاندي، ويشاركني الكثير جدًا من زملائي العمال هذا الإعجاب؟. وقال آخر، بعد عبارات غاندي الصارمة: «نحن نفهم بعضنا بعضًا الآن». فمن خلال قوة الروح بوسعنا فصل الخصوم عن جداول أعمالهم بينما نعيد توحيدهم مع أنفسنا. وحدة القلب: تنوُّع بدون انقسام كان البرنامج البنَّاء جدول أعمال شامل للمشاريع التي جرى فعليًا التعامل معها في كل مظهر من مظاهر حالة البلاد المُصابة؛ فكلُّ شيء مُصمَّم من أجل شفاء "التكسُّر" في المجتمع الهندي. ووفقًا لذلك، كان البند الرئيسي الأول في البرنامج هو الوحدة المشتركة. وكانت إزالة حالة النبذ هي البند الثاني، أو بكلمة أخرى، إعادة الانسجام بين المسلمين والهندوس، والتخلص من الغطرسة الطائفية ضمن الجماعة الهندوسية. وليس أقل من ستة بنود أخرى هدفت إلى «إعادة اللحمة بين المجموعات المتنوعة في المجتمع» التي تمَّ تهمشيها إما بسبب التقاليد الهندية نفسها أو بسبب التأثير المُخرِّب للحكم الأجنبي. وبشكل واضح، كان البرنامج البنَّاء ككلٍّ مُصمَّمًا لبناء مجتمع مُحب؛ فوحدة القلب تكمن وراء كل مشاريعه. لنتوقف للحظة عند هذه العبارة البسيطة على نحو مُضلِّل. فـ"وحدة القلب" تعني أنني أريدك أن تكون سعيدًا، على الرغم من تبايناتنا. وفي الحقيقة، أن تشعر بوحدة القلب مع الآخرين هو أن تستمتع بالتباينات؛ فكم سيكون العالم مُسطَّحًا ومُضجرًا بدونها. ويمكن لتلك التباينات أن تكون حتى، على سبيل المثال، تباينات في الثروة. والتفاوت في الثروة سمة فاحشة جدًا للاقتصاد العالمي؛ فالرجال الأربعة الأغنى في العالم يملكون ثروة أكبر من حوالي ثلث الدول الأقل تطورًا في العالم. ماذا بوسع المرء أن يُسمي هذا إن لم يكن "الفحش"؟ والآن، في ظل غياب مفهوم وحدة القلب، يكون الحل الوحيد الذي يوحي بنفسه هو انتزاع الثروة من بين أيدي الأغنياء بأيٍّ من الوسائل وتوزيعها إلى أن يكون لدى كل شخص المقدار نفسه منها تقريبًا. لا يميل الأغنياء إلى الإعجاب بهذا الحل، وتكون النتيجة عنفًا مريرًا وغيرَ متكافئ. فضمن وحدة القلب تكون النظرة مختلفة جدًا. فأنت لا تحسد الأغنياء على سعادتهم النسبية (كما شرح غاندي لعمال لانكشاير)، بل تسعى إلى تنبيههم إلى ضحالة الثروة المادية وأسى انتزاعها من الآخرين الذين هم بحاجة إليها. لذا عليك تغيير عقول الأغنياء، وهذا طبعًا، ليس بتلك السهولة لكنه أسهل فعليًا من حرمانهم من أموالهم. فأولاً، بوسعك إظهار قلة اهتمامك بالثروة المادية الفائضة، حتى ولو كانت لديك حرية الوصول إلى بعض منها؛ فهذا فعال. وفي ثقافة ليست مادية بإفراط (والتي لا نملكها في الوقت الحاضر باعتراف الجميع)، سوف يكون فعالاً حتى بوضوح. لذا، ليس من الضروري أن نجعل من العالم كله حقلَ نشاط اقتصادي منبسط. فكل ما علينا فعله هو الحصول لأفقر الناس على ما يكفيهم لكي يعتاشوا عليه ويكونوا قادرين على النمو والتعبير عن أنفسهم ككائنات البشرية. ويجب ألا نتوقف إلى أن نكون قد أنجزنا ذلك. لكن يمكن أن يكون لدينا أغنياء وفقراء ما دام لدى الفقراء ما يكفي لكي يعتاشوا عليه، بما في ذلك الاحترام. فليس من الضروري أن يكون الجميع على المستوى الاقتصادي نفسه، بل فقط على المستوى الإنساني نفسه. في غياب وحدة القلب، كما رأينا، تصبح اللصاقات – توتسي، شيتنيك، إرهابي، وما إلى هنالك – تدميرية على نحو مضاعف. إنها تنتهك الوحدة عن طريق خلق حالة استقطاب، نحن مقابل هم؛ وتنتهك التنوع بحَجب مجمل إنسانية الإنسان والاختلافات البشرية تحت تصنيف واحد. فالمنزلة الروحية لوحدة القلب هي منزلة لا غنى عنها وقاعدة أكيدة للمجتمع المُحب. مشاريع أخرى في البرنامج البناء تتوجَّه إلى الصحة وإساءة استعمال مواد الإدمان (الكحوليات في الغالب) والفاقة والتدهور الثقافي (من خلال "تعليم جديد"). ومأخوذة معًا – ومقصود أخذها معًا – كان عليها أن تجعل الهند قابلة للحياة والنمو، وكل المجتمع يعانق تنوُّعها. أمر واحد واضح: إذا كنا بصدد الاستفادة من غاندي فعلينا أن نأخذه ككل، وليس فقط محاولة محاكاة اللحظات الأيقونية للدراما الرفيعة التي ميَّزت سيرته. فثقته بالنسبة للمستقبل تكمن على الأغلب في العمل البناء الثابت – ثابتًا وليس عَرَضيًا، وعملاً وليس احتجاجًا، ونهوضًا ذاتيًا وليس عرقلةً للآخرين، وعمليًا ملموسًا وليس رمزيًا. ولم يكن لأحد أن يقاتل بتصميم أكبر متى كان ذلك مطلوبًا؛ كما أنه لا أحد كان مستعدًا للعودة إلى العمل البنَّاء في اللحظة التي لم يكن مستعدًا لها. وفي حين أنَّ بوسعنا استعمال النموذج العام للبرنامج البنَّاء، نحتاج بالطبع إلى تكييف البرنامج الفردي لكي يلائم شروطنا. نحن ليس لدينا سبعمئة ألف قرية، رغم أن الضواحي تكاد تعادلها. ولدينا موارد مادية أكثر مما كان لدى الهند تحت الاحتلال، ما يعني أن الـ khadi بذاته لن يكون قابلاً للتطبيق بشكل مباشر. وليس لدينا زعيم فرد يوازي قامة غاندي وسنعارض "السلطات الديكتاتورية" التي منحته إياها بسرور الجماهير الهندية. لكن الأمر الرائع فيما يتعلق بالبرنامج البنَّاء، الأمر الذي لا يزال من الممكن استعماله، كان رؤيته وشموليته: الطريقة التي توجَّه فيها إلى كل مشكلة بطاقة ملهِمة وحيدة. وبوسعنا امتلاك الطاقة، والنموذج التنظيمي. فالطاقة هي اللاعنف؛ والنموذج هو نطاق واسع من البرامج مع مشروع "شمسي" يجعلها تتماسك كلها مع بعضها البعض، برنامج يمكن لأيٍّ كان المشاركة فيه ويعطي رؤية مشتركة للآخرين. وأعتقد أنه ربما بات واضحًا الآن كيف يجب أن يكون ذلك المشروع في اعتقادي. تغيير جوهري ربما تكون الولايات المتحدة هي الأسوأ، لكنها بعيدة عن أن تكون المثال الوحيد عما فعلته الثقافة الحديثة. ففكرة الديمقراطية اختفت عالميًا بسبب النزعة المادية والانفصالية – لدى مختلف الثقافات. والسؤال: "من سيفوز؟" واحد فقط إذا نحن اعتبرنا الآخرين مختلفين عنا جذريًا. وتعزيز هذه النظرة العالمية كان التأثير الأكثر ضررًا لوسائل الإعلام التجارية في كل مكان تواجدت فيه. وبمعنى من المعاني، "لقد استُعمِرنا" من قبل أناس ليست لديهم اهتماماتنا في العمق أكثر – لا بل أقل إلى حد كبير – مما يهتم موظفو الراجا برفاهية الهند. فأسيادنا الاستعماريون لم يأتوا من بلد آخر؛ إنهم يتنقلون بيننا ولهم لون بشرتنا نفسه، ويتكلمون اللغة ذاتها التي نتكلمها (مع أنهم يفسدونها تدريجيًا)؛ ورغم ذلك يُضحُّون بنا بصورة منظَّمة، "الجمهور المشاهِد"، بترهيبنا بما يُسمى الأعداء، جاعلين منا نشتري أشياء لا نريدها، ويقنعوننا بالركض وراء السعادة حيث لا يمكن لها أن توجَد، بينما يحجبون الوحدة والغاية التي يمكن أن تجلب لنا السعادة الحقيقية. وعلى خلاف مضطهدي الهند الاستعماريين، الذين قدِموا من حضارة أخرى، ويتكلمون لغة غريبة، ويلتمسون تأييد دين مُحدَث (والذي بالكاد يتبعونه بأنفسهم)، يسير "مضطهِدونا" في الشوارع معنا، ويتبعون بالضبط الدين نفسه الذي يتبعه معظمنا – إنها النزعة المادية. وقد غيَّر التلفزيون التجاري كثيرًا عقول الشباب الذين يصرُّ معلموهم بجهد، وما زالوا يحاولون، على نقل أي شيء لهم لا يتبع المثال المادي التنافسي. وكما صِغتُ ذلك في الفصل الأخير، يُمارس الإعلام الجماهيري التعليم دون رخصة: لقد حان وقت التمرد. إنه ليس الإعلان فحسب الذي استعمر فضاءنا السياسي والثقافي. فملايين الناس شاهدوا المناظرة التلفزيونية بين كلينتون وبوش في التاسع عشر من تشرين الأول العام 1992، وكنتُ أنا نفسي من بينهم. وعندما انتهت المناظرة، تقدَّم مسؤول الشبكة وقال: "سنعلن لكم نتائج هذه المناظرة خلال دقيقة فقط". الـ"نتائج"؟ كان يعني، طبعًا، من الذي "فاز". وأنا واثق من أن هذا مرَّ دون أن يلاحظه معظم المشاهدين، لكن بالنسبة لي، ونظرًا لأنني لا أشاهد عمليًا التلفزيون التجاري، كانت صدمة تمامًا. فقد كنت أعتقد أن الغاية من النقاش العام هي مساعدتنا على تشكيل آرائنا الخاصة، وليس أن يتم إخبارنا من قبل "سلطة" اعتباطية ما شاهدناه فحسب. وكنت أعتقد أن النقاش السياسي يعرض على الملأ قضايا، وليس لتصنيف "الفائزين". وقد أشار كثير من المعلِّقين قبلي إلى أنَّ أجهزة الإعلام، والتلفزيون على وجه الخصوص، غيرت السياسة كما كنا نعرفها، غيرتها، جزئيًا على الأقل، من كونها عملية صنع قرار إلى مباراة شعبية – إلى معركة. لقد انحطوا بالديمقراطية إلى صراع على سلطة، والذي هو رأس الجسر الذي أسَّسته النزعة المادية والتنافسية اللتين نقلتا هذا إلى فضائنا السياسي. إنه أمر مثير للسخرية، لكنه حقيقي. فبعد خوض الكثير من الحروب للدفاع عن طريقتنا في الحياة ضد المعتدين الأجانب تخلينا عن أكثر أشكال حريتنا ذات المغزى – حرية التفكير – دون كفاح. ولن نستعيد هذه الحرية بالتأكيد دون كفاح؛ لكن يجب أن يختلف منهج هذا الكفاح وأسلوبه بالمثل من القوى التي أوقعتنا في هذه الفوضى. يجب أن نضع في مركز هذا الكفاح تمامًا مشروعًا أساسيًا يبدأ بخيار شخصي لتحطيم سيطرة الإعلام الجماهيري على قيمنا وثقافتنا. وأينما وُجِدت صرخة غاندي الحاشدة "قاطعوا القماش الأجنبي" أقترحُ "قاطعوا الأفكار الأجنبية"، وحيثما وضع دولاب الغزل في الحركة أقول إنَّ علينا أن نُدوِّر بسرعة القرص المُدرَّج لأجهزة الإعلام الجماهيري – إلى "التعطيل". إذ إنَّ أفكار العداوة والانتقام والتنافس والمادية والطمع يمكن أن تُدعى بحق "أجنبية" بالنسبة إلى طبيعتنا الجوهرية – هكذا أعتقد يقينيًا، أنا على الأقل. وبهذا المعنى، اعتاد صديقي الراحل ويليس هرمان على استخدام مصطلح القيم الزائفة من أجل جني المال و"السَبَق" على حساب إقامة علاقات عميقة؛ وعلى حساب عائلة نابضة بالحياة والنشاط. وما سبق هي أهداف تفقد الأهمية بالنسبة لأولئك الذين تذوقوا طعم الخدمة والرحمة والمجتمع المُحب. إنَّ هذا العالم المليء بالاضطراب والظلمة، والذي كرَّسنا إبداعنا لخلقه، هو ليس التعبير الجوهري عن طبيعتنا. وعلى الرغم من أن نَسَبهم التطوري الطويل وجشعهم ورغبتهم وتعصُّبهم وغضبهم أجنبي بالنسبة لنا بالمعنى الحقيقي تمامًا فإنَّ هذه الأمور تعيقنا عن إدراك تطلعاتنا الأعمق. لا يُولد الأطفال معاقين على سبيل المثال؛ فـ"عليهم أن يُعلَّموا بعناية"، كما تقول أغنية قديمة، ويمكنهم أن يكونوا بسهولة غير مُعلَّمين على نحو جيد. وبوسعنا أن نتكيَّف إلى درجة أن الأمر يصبح طبيعة ثانية لكي نرد بعدائية على نظام لون البشرة المختلف أو اللكنة المختلفة أو الاعتقاد المختلف؛ لكنه لا يصبح أبدًا طبيعتنا الأولى. يرد في فاتحة النص الأساسي للبوذية، دهامابادا، بترجمة إيكناث إيسوورن: «كل الذي نكونه هو نتيجة لما كنا اعتقدناه» فكل مَن يؤثِّر على أفكارنا يؤثر على قدرنا. هل المُعلِنون والسياسيون متساوون في تلك المسؤولية؟ بلوغ الحقيقي إنّ إصلاح "فضائنا الثقافي" وجعله حرًا من التعصب والانقسام والطمع يمكن أن يكون، وربما يجب أن يكون، نشاطًا يوميًا، لكلِّ شخص – مثل دولاب الغزل charkha بالضبط. فالوقت نفسه الذي نتجنب فيه مشاهدة التلفزيون أو حضور فيلم دموي يمكن أن يكون ممنوحًا إلى بدائل بناءة. ومثل دولاب الغزل، أيضًا، هناك مظاهر بناءة لمقاطعة التلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى: كتابة رسائل، نشر المعرفة، وربما تنظيم مقاطعة إعلامية في مدارس أطفالنا، أو في مؤسسة دينية، أو بين أصدقائنا فحسب. ومع أن ذلك يبدأ بخيار شخصي، فإنه يمكن أن يعطي نهوضًا لشبكة، حملة-حركة. إنَّ ساتياغراها هي على الدوام شكل من أشكال التعليم. وكلما كان بوسعنا أكثر كسب الناس إلى بؤرة ما تكون عليه القضية حقًا أمكننا حلها عاجلاً وبصورة أقل إيلامًا. فالشبكات – ولنفكر بالتلفزيون مرة أخرى – منشغلة بالتصنيف؛ وليس لها ارتباط إيديولوجي بالسوقية والعنف في حدِّ ذاته. وعلاوة على ذلك، إنَّ رسالة واحدة توضح بشكل مؤدب «لقد توقفت عن مشاهدة برنامجكم بسبب عنفه المجاني»، مع "نسخة منها" إلى المُعلِنين الذين يرعون ذلك البرنامج، تُحدِث فرقًا. والأكثر يُحدِث تأثيرًا أكبر. فحركة مستندة إلى الحقيقة قد لا تروَّج بالسرعة التي تروج بها بعض الحركات، لكنها لا تغيب بالسهولة نفسها أيضًا. والحقيقة أنَّ مقاطعة التلفزيون ومعظم وسائل الإعلام الأخرى هي أقل إلهامًا من مشروع بناء: ماذا يبني؟ أو، ما الذي نفعله بواسطة هذا النوع من المقاطعة؟ فعليًا، القليل جدًا. فالعائلات التي أحجمت عن مشاهدة التلفزيون بدأت بإعادة اكتشاف بعضها البعض؛ ومرارًا وتكرارًا وجدت أن التفاعل مع شخص ما أكثر إرضاء بكثير، حتى لو كان شخصًا لديك مشكلة معه، من التحديق في صور شخص ما ليس موجودًا هناك. كتب الضابط براولي، وهو من شرطة نيويورك أطفأ التلفزيون لمدة أسبوعين كجزء من تجربة: «يقضي الأطفال وقتًا أطول بكثير وهم يعملون أشياء مبدعة». يمكنني البدء برؤية أين أمضى الأطفال وقتًا أكثر في عمل أشياء ستكون على قدر من الأهمية بالنسبة إليهم في أعمالهم المدرسية في المستقبل... فللمرة الأولى منذ أن كنت في المدرسة، لحقتُ بالكامل بكل قراءة مقرراتي... وبدأنا في زيارة عائلات مختلفة، وقمنا بالاتصال بها خلال أشهر الشتاء. وبدا الأطفال في أغلب الأحيان أكثر ميلاً للمشاجرة فيما بينهم... وفي الوقت نفسه أصبح الأطفال أقرب إلينا بينما كنا نشاركهم في عمل الأشياء سوية. وكتب أحد المشاركين في تجربة مدرسية في دِنفر: «أشعر أنَّ العائلة تعمل بانسجام أكثر نتيجة رفض التلفزيون». فمشاهدة التلفزيون يمكن أن تكون تجربة عزلة – والتي يمكن القول عنها تجربة ما قبل عنيفة، حتى قبل أن نبلغ المحتوى المُفزِع. وبالمقابل، حينما وإلى المدى الذي امتنع فيه الناس أو العائلات أو الأصدقاء عن مشاهدة التلفزيون، وجدوا أنَّ العلاقات تعود لكي تحتل مكانها بحيوية، سواء كان ذلك عن طريق اللعب مع الأطفال أم التحدث عن قرارات العائلة أم مجرد التحدث. فخمس دقائق من المحادثة المعمَّقة هي أكثر إنجازًا من خمس ساعات من الاستغراق البديل في صور حياة شخص آخر. وأبدى الناس، والعائلات كذلك، شعورًا من الارتياح، ومن الاكتشاف؛ شعورًا بأنهم كانوا أفضل حالاً وأكثر "وظيفيةً" عندما أقصوا أجهزة التلفزيون. لقد تلقوا مساندة علمية. ففي دراسة ممتعة لعالم الاجتماع الإسرائيلي أوري برنفينبرينر، جاء أن الأطفال الذين شبوا في التطورات السكنية الجديدة لما بعد الحرب في ألمانيا الغربية، حيث كانوا يُمنَحون مساحات واسعة للعب فيها، تبيَّن، للغرابة، أنهم قاموا بأعمال أقل جودة تنمويًا من نظرائهم الأطفال في أكثر الأحياء الضيقة في المدن الألمانية الأقدم. ويستنتج الباحثون أنَّ السبب بدقة هو أنَّ المكان كان يتيح للأطفال الهرب من بعضهم حينما لا يستطيعون التقدُّم، بدلاً من أن يحلوا صعوباتهم ويصبحوا أكثر حميمية، كما اكتشف الضابط براولي. إننا نحتاج إلى فضاء إنساني من أجل النمو، وليس إلى فضاء فيزيائي. يعاني المدرِّس في هذا العصر من الصدمات، ومعظمها بسبب ظهور جيل لا يشبُّ على التلفزيون فحسب، بل لأن الآباء كذلك شبوا على التلفزيون. ونسمع عمومًا أنَّ طلاب السنة الأولى لا يعرفون أيَّ شيء (يعني، أي شيء عن القيمة الثقافية الدائمة) وأنَّ مدى انتباههم قصير جدًا بصورة فظيعة (ولذا لا يمكنهم تعلُّم أي شيء عن القيمة الثقافية الدائمة)؛ لكن هناك تغيُّر مأساوي آخر. أتذكر المرة الأولى التي كنت أُحاضر فيها فنهض زميل من الصف الثاني وخرج. وما زال هذا الخروج الفظ يتواصل – وكذلك شعوري بالصدمة. إنَّ طلابي لا يفتقرون إلى الاحترام لي أو الاهتمام بما أقوله. وقد استغرق الأمر مني فترة لإدراك كنه المشكلة: إنهم لا يدركون تمامًا أنني كائن حقيقي. يخرجون لتناول وجبة سريعة بينما يكون التلفزيون مشغَّلاً، ولا يكونون واعين كليًا أنهم في تلك اللحظة يستمعون إلى شخص حي حقيقي. لنتذكر ملاحظتي في الفصل الرابع، وهي أنه عندما يستعمل الجيش ألعاب الفيديو لتدريب جنوده على المعركة، يدربهم بالدرجة الأولى ليس على إطلاق النار مباشرة، بل على إطلاق النار بلا ندم، وعلى قمع وعيهم بأن ما يطلقون النار عليه هو كائن حي. ومن الصحيح أيضًا أنَّ أولئك الذين يقومون بأعمال القتل، في مجتمعنا وشوارعنا ومواقع أعمالنا ومنازلنا، يشهدون غالبًا أنهم لم ينظروا إلى ضحاياهم بوصفهم كائنات بشرية حقيقية، بل مثل دُمىً متحركة أو صور – أناس "افتراضيين"، مجرَّد أهداف. فقط عندما تغلبت الممرضة بلاك على العنف، برؤيتها الشخص القابع خلف القاتل المُنتظَر، عكست تلك العملية التي تُبقي أولئك الذين سيقتِلون أو سيؤذون ضمن رؤية الشخص بتلك اللصاقة، أو شيء ما حتى أكثر تجريدًا للإنسانية؛ فسوزان أثكينز من طائفة مانسون قالت إن «ضحاياها لم يبدوا حتى مثل الناس... وأنا لم أفكر ذهنيًا بشارون تيت بكونها أي شيء سوى أنها عارضة أزياء» لا، لست خائفًا شخصيًا من حدوث عنف في قاعة دروسي؛ لكني خائف جدًا من أنَّ هذه الثقافة الواسعة الانتشار قد زرعت، عبر جعلنا تدريجيًا أقلَّ حقيقيةً بالنسبة لبعضنا البعض، بذور العنف في الطلاب قبل أن يصلوا إلى هناك. الدليل الموجود في نهاية هذا الكتاب سوف يقترح طرقًا بوسعنا إعادة ربطها بحيوية أكبر مع بعضها البعض، لكنها تعتمد على رفضنا بأن نكون جمهورًا لبرمجة سيئة. تلك هي مساهمتنا الشخصية الجوهرية لتشكيل ثقافة أكثر صحية وأقل "سُمية"، ذات صورة إنسانية أسمى وقيم أفضل. إذا كان على شخص ما أن يسألني: «ما الذي حقًا سيجعل العنف ينصرف عنا»، فسوف أُجيب دون تردد: «تقدُّم استثنائي في الثقافة». المجتمع المُحب كان البرنامج البنَّاء، كما يدلُّ اسمه، بنَّاءً بدلاً من أن يكون معوِّقًا. لقد نشدت المشاريع المركزية العودة إلى الحياكة في المجتمع المقموع اقتصاديًا، المُهمَّش أو المنبوذ، باستعمال مفهوم بسيط لكنه فعَّال لوحدة القلب التي أفصحت عن كل البرنامج البناء، كما أفصح هو – أو كان من المفترض أنه أفصح – عن الساتياغراها. وتمنح الطاقة الشافية الناس سُموًا ذاتيًا، وفي النهاية يعمل بعض من سحرها حتى بين الحكام والمحكومين. وبالنسبة لنا، أيضًا، سيمنحنا تماسك مثل هذا النموذج من "النظام الشمسي" طريقة لاتباع عواطفنا الفردية (الكفاح من أجل حقوق متساوية للجميع، والحديث جهرًا دونما وجل ضدَّ التعصب، وتنظيف البيئة، وتعلُّم ما يخص المسؤوليات المدنية) دون الشعور بأننا نقوم بذلك في حالة من العزلة؛ فالطاقة الشافية للاعنف سوف توحِّدنا. يُقال إنَّ التلفزيون شكل من أشكال "الاتصال"، لكن الاتصال هو بطريقة واحدة إلى حدٍّ ما. وفي الحقيقة، لا تُقدِّم لنا مشاهدة التلفزيون شيئًا، كما نعلم، سوى العزلة. فكلٌّ منا في شرنقته التقنية، يتحدَّث إلى ما هو ليس حقيقيًا. وهو بالشكل والمضمون، على الأقل كما نستخدمه اليوم، تقنية العزلة ذاتها. ومع أنَّ الحقيقة هي أنَّ الكثير جدًا من الناس يشاهدون "الأخبار" نفسها، وفي الوقت نفسه، فإنَّ له تأثيرًا عازلاً، نظرًا لأنه مثال جيد ليس على الوحدة بل على التماثل – وهي مفارقة سنمرُّ عليها ثانية في الفصل التاسع. فالقوة الدافعة لبرنامجنا البناء، كما هو سلفه العظيم، يجب أن تتغلب على تلك العزلة، بالعودة عنها من غير انقطاع. في العام 1936، قام وفد من الأمريكيين من أصل أفريقي برئاسة الدكتور هاوارد ثورمان بزيارة حج إلى غاندي في الهند. وبوسعنا أن نتصور الإحساس بالأمل الذي راود أفراد الوفد الذي تبع اللقاء مع الزعيم الهندي العظيم. وضَعْ نصب عينيك أنَّ مارتن لوثر كينغ الابن كان له من العمر سبع سنوات في موطنه أتلانتا أثناء هذه المحادثة. وبعد سنوات عديدة، وبوصفه طالبًا في كلية مورهاوس، سيجلس مُصغيًا بانتباه إلى الدكتور ثورمان وهو يتحدث على نحو مدهش عن أهمية غاندي. السيد ثورمان: نريدك أن تجيء إلى أمريكا... نحتاجك بشدة. غاندي: كم أتمنى لو أستطيع، ولكن لن يكون لدي ما أقدِّمه لكم ما لم أكن قد قدَّمت دليلاً عيانيًا هنا على كل ما أقول. يجب أن أقوم بالرسالة بصورة جيدة هنا قبل أن أحملها لكم. وكان غادي قد أتقن منذ زمن طويل درس السواديشي swadeshi، مبدأ الإرشاد البارز في كلٍّ من نمطَي اللاعنف، البنَّاء والمعوِّق. فهو يُصرِّح على أنه عن طريق العمل في مجال تأثيرك تخلق رجع صدى في دوائر واسعة، لكن أن تفرط في توسيع نفسك، أن تحاول أن تفعل كل شيء على عجلة، فإنك تخسر القوة هنا وهناك. وفي هذا السياق يضيف غاندي ملاحظة نبوئية: «حسنًا... ربما من خلال الزنوج تُنقَل رسالة اللاعنف الصافي إلى العالم.» وبعد حوالي عشرين سنة أبت روزا باركس التخلي عن مقعدها لرجل أبيض في حافلة في مونتغومري، مُستهِّلة بذلك سلسلة من الأحداث التي خرقت شرعية التمييز العنصري المؤسساتية في الولايات المتحدة. ونحن نعلم الآن، والشكر بشكل رئيسي لسودارشان كابور، أنَّ "الدليل العياني" على تخلص الهند من أغلالها الاستعمارية من خلال اللاعنف وصل إلى الولايات المتحدة مُجسَّدًا بعدد كبير نسبيًا من ساتياغراهيين من لحم ودم جاءوا إلى الجنوب لتقديم المشورة ودعم حركة الخمسينيات والستينيات. ونعلم أيضًا، بالنسبة لكلا البلدين، أنَّ الحركة التي جمعت حولها هؤلاء القادة العظماء هي عمل غير مُنجَز؛ فنحن نعلِّمها في المدارس لكننا لا نطبقها على حياتنا. فحتى الآن، ما زلنا فعليًا نخسر، ولا نكسب. لماذا؟ لأن مارتن لوثر كينغ خلع الشرعية عن التمييز العنصري لكنه لم يخلع الشرعية عن العنف. لقد أراد أن يفعل ذلك لكن الفرصة لم تسنح له؛ فقبل أن يتمكن من المضي أبعد من ذلك قتله شخص ما أو عدة أشخاص. وبقي العنف في لحمة وسداة الثقافة الأمريكية، ترافقه طاقة الكراهية التي يحملها. والتمييز العنصري، وهو شكل من أشكال الكراهية والعنف، عازم على العودة. فلا يمكنك توقع ألا يتسرب البخار من خلال الشقوق الأكثر ملائمة في المرجل: عليك أن تسدَّ كل الشقوق بإحكام، أو أن تجعلها أقل، وتخفِّض الحرارة. ما فعلته عائلة ويسِر ليس من المحتمل – على الأقل لا يبدو محتملاً الآن مباشرة – إعادة إلهاب حركة الحقوق المدنية، وما كان مارتن لوثر كينغ سيرغب في أن نفعل ذلك بالضرورة. وأنا على يقين أنه كان سيريد منا مواصلة تراثه في شكل عمل بناء. وفي الحقيقة، كانت تلك هي الوجهة التي يتخذها هو نفسه قبل أن يقضي عليه ردُّ الفعل. ولم يكن هذا سيبدأ، بالضرورة، كحركة عظيمة. فدعني أشاركك إحدى القصص الإخبارية الأكثر إثارة للعام 1992، وهي قصة التغيُّر الشافي للتنين الهائل في حركة كو كلوكس كلان، لاري تراب، عن طريق زوجين يهوديين، مايكل وجولي ويسر. مايكل هو قائد جوقة الترتيل في معبد الشارع الجنوبي في مدينة لينكولن، نبراسكا، ومؤيد بارز للقضايا الديمقراطية. وفي العام 1992، بدأ هو وزوجته بتلقي سلسلة من المكالمات الهاتفية التهديدية ورسائل الكراهية. وحذرته الشرطة من أنَّ عضوًا بارزًا في منظمة كوكلوكس كلان المحلية، وهو لاري تراب، كان وراء معظم تلك المكالمات، ورغم أنهم وضعوا هاتف تراب تحت المراقبة إلا أنهم لم يستطيعوا أن يثبوا تمامًا أنه هو الذي كان يضايقهم. ولذا لم يكن ويسر قادرًا على فعل الكثير لحماية نفسه بالطرق المعتادة. وذات يوم، كان تراب يصرخ عليه في الهاتف فقرر ويسر، بتأييد من زوجته، أنه لا بدَّ من أن يجد حلاً لهذا الأمر بنفسه. ويتذكر ويسر: "كنت هادئًا ومطمئن البال تمامًا؛ فقد علمت بأنه كان يمر بأوقات عصيبة [كان تراب يتنقل على كرسي متحرك] فعرضت عليه القيام بجولة في مخزن البقالة... فأصبح هادئًا تمامًا، وانطفأ كل الغضب في صوته، وقال: "لدي من يعتني بي، لكن أشكرك على الدعوة"". وعلى أية حال، كان لدى عائلة ويسر في تفكيرها أكثر بكثير من مجرد وضع حدٍّ للمضايقة. كانوا يريدون، إن أمكن، تحرير هذا الرجل من الكراهية التي كان يعاني منها، وهو الذي (وقد اكتشفوا فيما بعد) كان مُعاقًا مدى الحياة نتيجة للضرب الذي تلقاه من مجموعة من السود. فاستلموا زمام المبادرة، ووجهوا الدعوة له. وبعد فترة قصيرة، ذهبوا إلى شقته في زيارة ودية، حاملين معهم طعام العشاء الذي كانوا قد أعدوه. وعندما فتح تراب الباب لاستقبالهم، سحب من أصابعه خاتمين وناولهما لضيفيه اللذين كانا لا يزالان مترددين قليلاً؛ وكانا من خواتم النازية. كان يعلن، رمزيًا وفعليًا، تبرُّؤَه من منظمة كلان إلى الأبد. كان لاري تراب، باعترافه هو، أحد العنصريين البيض الأشد تعصبًا في البلاد، رجلاً "أراد إشادة ولاية نبراسكا على شاكلة حالة الكراهية السائدة في كارولينا الشمالية وفلوريدا". وربما لهذا السبب بالذات كان تغيره كليًا، مقارنة مع بعض العنصريين الآخرين من حاملي البطاقات الذين كانوا قد أخذوا استراحة. وقد قال تراب عن شركائه السابقين في المنظمة: «إني أشجب كل ما يُمثِّلونه، لكن ليس الناس الذين في المنظمة هم من أكرههم... لو كان عليَّ القول لقلت إنني أكره كل رجال كلان لأنهم رجال كلان... ولكنت مازلت عنصريًا» (التأكيد من عندي). يُظهر هذا فهمًا رفيعَ الثقافة للاعنف المنجي الحقيقي – لوحدة القلب. وسوف أُسلِّم بأن هذه القصة تأخذنا إلى جوهر المجتمع المُحب. فعمل عائلة ويسر الناجح على نحو مبدع هو نموذج لكيفية تطبيق الشجاعة والرحمة على لعنة التمييز العنصري. وفي الوقت نفسه، ليس بوسعك عزل التمييز العنصري بالانتظار إلى أن يبدأ كاره مستعد روحيًا بالبحث عن مخرج يوفِّره زوجان شجاعان وواعيان لقضية اللاعنف مثل عائلة ويسر. فنحن بحاجة إلى برامج، إن كان هناك ما يكفي منها، تجعل العلاجات الطارئة، مثل علاج عائلة ويسر، غير ضرورية. وهذا يعني أننا نتحدث عن الشباب وعن التعليم. إلياس جبور عربي إسرائيلي، ومسيحي. وقد عاش في إسرائيل طوال حياته ولم يرَ حتى الآن فعل عملية السلام. وذات يوم من العام 1987، قرر التوقف عن انتظار السلام الآتي من صنَّاع السياسة، وبدأ بالتساؤل عما يمكن أن يقوم به بنفسه. كان مخططه بسيطًا: تحويل بيته إلى "واحة سلام" (مثل المدرسة المشهورة بذلك الاسم: واحة السلام Neve Shalom). كان الأطفال يقضون أيامهم «في بيئة نابضة بالحياة والحيوية ودافئة وراعية، حيث لا تخطر ببالهم معاملة بعضهم بشكل مختلف على أساس العرق أو الدين» إلى حين دخولهم المدارس العامة، فيعودون منعزلين مرة أخرى. إنَّ أولئك الذين كان لهم امتياز العمل مع الشباب توصَّلوا إلى رؤية كم هو سهل أحيانًا سلخ الردود المشروطة للإجحاف. ففي لوس أنجلس، عندما جُمِع أعضاء من حليقي الرؤوس الرايخ الرابع مع مجموعة من السود واليهود من أعمارهم نفسها، ومرة أخرى توصَّلوا بسرعة إلى قبول أصدقائهم الجدد، مُخلِّفين "الرايخ" و"حليقي الرؤوس" سقط متاع. عاد جان أوبيرغ، رئيس فريق تخفيف الصراع في المؤسسة السويدية العابرة للقوميات من أجل السلام والبحث المستقبلي، من المهمة الثلاثين للمؤسسة إلى يوغسلافيا السابقة، حيث أجرى سلسلة من "الحلقات الدراسية للمصالحة" في شرق سلوفينيا مع 120 كرواتيًا وصربيًا من طلاب الجمنازيوم من فوكوفار وأوسيجيك وفينكوفيسي. وقد كانت المرة الأولى بالنسبة لمعظم هؤلاء الطلاب التي يلتقون فيها "الجانب الآخر"، رغم أن الكثيرين منهم كانوا يعيشون في المدينة نفسها. وقد استُخدِمت تقنيات مختلفة مثل ألعاب رياضية وأدوار مسرحية ومجموعات نقاش وأعمال فكرية مبدعة. وتوصَّل الطلاب إلى معرفة بعضهم البعض، فتبادلوا وجهات النظر وغنوا الأغاني معًا وأصبحوا أصدقاء. كما بكوا على ما قاسوه من أذى وألم خلال الحرب، لكنهم كانوا حذرين لئلاّ يتفوَّهوا بعبارة مثل "أنتم فعلتم هذا بنا"، بل للتنفيس عن أحزانهم فحسب. كما سمحوا لأنفسهم بإبداع أفكار ورؤى ساحرة حول السلام في كرواتيا وشرق سلوفينيا وفوكوفار. وهنا تكون الذروة: لقد وجد أوبيرغ أنَّ الأمر استغرق من الكرواتيين والصرب أقل من ساعة لكي يكتشفوا أنَّ لديهم الكثير من المشتركات، على النقيض مما أخبرتهم به حكوماتهم ووسائل إعلامهم، وفي أغلب الأحيان آباؤهم في ما مضى. أقل من ساعة. كم من الناس، أو المجموعات، مستعدون لمنح تلك الساعة لشباب العالم، للئم الجراح التي تسببها الحروب والحروب المستدامة؟ ليس هناك الكثير حتى الآن، لكن بينما تَنِي حركتهم، من المفيد معرفة كم هو جيد أنهم يعملون، وكيف يبنون عليه. عيد ظهور القهوة: نحو نموذج ديناميكي حراري للمجتمع أحيانًا، يمكن للسؤال عن تجديد الثقافة أن يكون مفهومًا بشكل أفضل بالمقارنة مع نموذج مألوف، وهو القانون الثاني للديناميكا الحرارية. وينصُّ هذا القانون على أنَّ النظام الفيزيائي يذهب تلقائيًا إلى حالة من الإنتروبيا Entropy الأعلى بمرور الزمن، بمعنى أنه يبحث عن نوع من التوازن حيث كل الأشياء مختلطة بشكل متماثل. ومرتبته، أو من وجهة نظر أخرى "معلوماتـ"ـه، تتناقص، في النهاية إلى الصفر. فالأشياء تُجرَّد من رتبتها، و"الأنظمة المنعزلة تتحرك تلقائيًا نحو إنتروبيا قصوى". والمثال الأكثر إثارة هو المتعضي الحي الذي يتفسّخ على نحو لا يمكن تجنبه، ودونما استثناء، إلى حالة الموت. والكون ذاته يقترب في نهاية المطاف، وهي فكرة، من حالة "الموت الحراري" ليصبح خليطًا كونيًا غير متمايز من الطاقة-الكتلة. وأي نظام أصغر، مهما يكن (ومعظمها كذلك!)، يمكن أن يقلب ذلك الانجراف الإنتروبي عن طريق استقبال الطاقة من الخارج نفسه. وأحد الأمثلة الهامة هو كوكبنا. إن حالة كوكب الأرض المشعة بالشمس الأكثر حرارة توفر بيئة يمكن فيها لخلايا النباتات والحيوانات أن تبني نظامها، وهذا يعني تخفيض الإنتروبيا الخاصة بها على حساب بيئتها. تلك هي الكيفية التي نبقى فيها أحياء، رغم أنه «ليس هناك دليل يشير إلى أية قدرة من جانب المادة الحية على الجري بطريق معاكس لمبدأ تزايد (عام) للفوضى، كما صِيغ في القانون الثاني للديناميكا الحرارية». والمجتمعات البيولوجية ليست متباينة؛ فيمكن للتوالد الداخلي أن يسبب فقدانًا خطيرًا للتنوع، مما يعني فقدان المرونة والحيوية ما لم تأتِ معلومات وراثية جديدة إلى علم الجينات من مصدر آخر. لنتخيل الآن مجتمعًا كـ "صندوق أسود"، أو نظامًا منعزلاً. ففي مثل هذا النظام المغلق، سواء كان أنبوب اختبار أم مجرة، تكفُّ الطاقة عن العمل حتماً في سياق الزمن؛ فالفوضى تزداد و"المعلومات" ذات المغزى تُفقَد بثبات. وبصورة مشابهة، ألا تفقد الثقافات حيويتها بمرور الزمن، وتتلطخ بؤرتها، وتبدأ أولوياتها بالانجراف بينما الناس يفقدون إحساسهم بما مُفترَض بهم أن يعملوه في الحياة؟ وإحدى الإشارات الواضحة لهذه الحيوية الهابطة – إشارة نحن متآلفون معها – هي أنَّ صنَّاع القرار يستمرون في اللحاق بحلول غير عملية لمشكلات مستمرة بالتزايد. هل الانعزال يُشكَّل بتآكل أمننا؟ فلنضع المزيد من الناس في السجون. هل هناك دولة مارقة في النظام العالمي؟ فلنضربها بالمزيد من العقوبات، وإن لم تعد إلى الصراط، فبالمزيد من القنابل. فالعنف، على مستوى واحد كما رأينا من قبل، هو افتقار جدِّي إلى الخيال. إنَّ إحدى أكثر عمليات صنع القرار درسًا في التاريخ الحكومي الحديث هي التي أشارت إلى أنَّ عددًا من الزعماء الأمريكيين، وخصوصًا الرئيس جونسون، واصلوا تضليل أنفسهم بأنهم على وشك "كسب" الحرب في فييتنام. وقد ابتكر علماء النفس مفهومًا جديدًا وهو "صناعة قرار الأزمة"، لتوضيح هذا التشنُّج في الخيال (ناهيكم عن العاطفة). وإحدى الطرق كانت صارمة بقدر ما هي بسيطة؛ فقد أحاط الرئيس جونسون نفسه بزمرة صغيرة من الرجال، صندوق أسود ضمن صندوق أسود، والذين سينبذون بازدراء أي شيء ما عدا عقلية "المزيد من الحرب". وأي شخص عرض فكرة أخرى كان يُبعد خارجًا؛ ولذا كنا جميعًا محكومين بالبقاء في وجهة السير - إلى أن غرقنا. إنه تطرف لكن وزارة حرب الرئيس جونسون، التي كانت أيضًا عَرضًا لطريقتنا في التفكير حول العنف، هي عمومًا ضيقة الأفق ومُحبَطة ذاتيًا بصورة جدية. ونحن بحاجة إلى أفكار جديدة وطاقة منعشة لكسر الحلقة المغلقة للنقاش المحيط بالعنف، كما تحتاج الكائنات الحية على الأرض للطاقة من أماكن بعيدة عن كوكبنا، من الشمس، لتنظيم أنفسنا بيولوجيًا والتغلب على الإنتروبيا. فالثقافة السائدة "تتقهقر" نحو موت ديناميكي حراري بسبب الحاجة إلى طاقة جديدة يمكنها أن تُنشِّط نماذج جديدة للنظام، مما يساعدنا على الرد على الأزمات التي تواجهنا. واللاعنف هو ذلك النوع الجديد من الطاقة. إنه ليس جديدًا تمامًا، بالطبع، أكثر مما هو نور الشمس جديد، لكننا أدرنا ظهورنا لهذا البعد من الحياة إلى حد أننا نجد أنفسنا نحاول، على نحو منافٍ للعقل، حلَّ مشكلة عنيفة بعد مشكلة عنيفة كما لو أن ذلك المصدر، تلك الطاقة، لم يُوجَد من قبل. وقد كانت إحدى الطرق للنظر إلى البرنامج البنَّاء (وغاندي بالتأكيد رآها بهذه الطريقة) هي محاولة إدخال طاقة اللاعنف إلى النظام الاجتماعي على مستوى عالٍ. فمن خلال البرنامج البناء، على سبيل المثال، أحدث غاندي ومريده المُقرَّب فينوبا بهافا مؤسسات متنوعة – مستشفيات، مدارس، معاهد ريفية، مراكز غزل – ليست أقل من مئة واثنتي عشرة، ما زالت تعمل بقوة في الهند اليوم. فالقوة الأصيلة للاعنف مؤثرة جدًا، كما يوحي كل بناء المؤسسة هذا، ولذا قد نفكر بالبرنامج البناء، مثل حزام فان ألين، يرشح بالقوة الهائلة للاعنف ويخفِّض "فولطيته" إلى مقادير وأطوال موجات قابلة للاستعمال، وبالتالي يمكنه ولوج المجتمع بأقل ما يمكن من العراقيل وبأكثر ما يمكن من الجُهد المنظَّم، وهي الطريقة التي امتصَّ بها الإله العظيم شيفا القوة الهائلة للغانغيين في رأسه المقدس، وبالتالي أمكنه قياسها بدافع جلب الحياة والصفاء إلى سهل الغانغ. وعلى أية حال، حيث يتشظى تناظرنا الديناميكي الحراري يكون في حالنا "الخارج" عن نظامنا الاجتماعي هو حقًا "الداخل". فاللاعنف هو أولاً، وقبل كل شيء، نوع من الطاقة التي تكمن في الكائن الحي. ولسنا بحاجة إلى أناس مختلفين بالقوة، بقدر ما نحتاج إلى نوع مختلف من القوة في الناس. فبعض الحملات الرئيسية لحركة الحقوق المدنية – حافلة مونتغومري وغرينسبورو وكارولينا الشمالية واعتصام طاولة الغداء تحضر في الذهن – لم تُطلَق شرارتها من قبل مارتن لوثر كينغ أو بايارد روستين أو من قبل "غرباء" قدِموا من الشمال، بل على التوالي من قبل خيَّاطة سوداء اسمها روزا باركس، ومن قبل أربعة طلاب كليات محليين، اقتنعوا بالقيام بأعمال "مُعرقِلة" ستُتوَّج في النهاية بمستوى نظام اجتماعي أعلى. إننا نميل إلى معرفة أكثر حول معرفة الكيفية التي يجتاز فيها الزعماء التغيرات الداخلية العميقة، والتي تتيح لهم بلوغ شجاعة وإيمان جديدين، ببساطة بسبب انكشافهم العام. فنحن نعرف أنَّ مارتن لوثر كينغ، على سبيل المثال، لم يكن في بادئ الأمر مستعدًا لمستوى الكراهية الذي ارتفع مثل بحر هائج مما كان يهدد بخطف حياته، وفي النهاية خطف هذه الحياة. لقد مرَّ بأزمة عميقة، "بييترماريتزبيرغ"ـه إن شئت، وهذا ما كسره تقريبًا. وكانت الذروة يوم الجمعة 27 كانون الثاني من العام 1955، اليوم التالي لتجربته الأولى في السجن، عندما هزَّت ثقته سلسلة من المكالمات الهاتفية الفاحشة والمليئة بالكراهية. ففي منتصف تلك الليلة، وبعد مكالمة بذيئة وتحمل تهديدات على نحو خاص، لم يعد قادرًا على العودة للنوم؛ لقد تعاظم قلقه: ووصلتُ إلى الحدِّ الذي لم يعد فيه بإمكاني التحمُّل أطول من ذلك. كنت ضعيفًا. وقال لي شيءٌ ما، لا تستطيع دعوة بابا الآن، فهو في أتلانتا على بعد مئة وخمسة وسبعين ميلاً، ولا تستطيع حتى دعوة ماما الآن. عليك أن تدعو ذلك الشيء الذي اعتاد بابا أن يخبرك عنه، تلك القوة التي يمكن أن تُحدِث مخرجًا حيث لا مخرج [...] وانحنيت على ذلك الكوب من القهوة. لن أنساه أبدًا. وبدا لي في تلك اللحظة أنَّ بوسعي سماع صوت داخلي يقول لي: "مارتن لوثر، أصمد من أجل الحق. أصمد من أجل العدالة. أصمد من أجل الحقيقة. وانظر، سأكون معك، حتى نهاية العالم". ومهما نعتقد أن هذا الصوت كان، وكيفما نوضحه، فقد كان له تأثير مباشر في رفع كينغ إلى مستوى أعلى في الأداء: «في الحال تقريبًا، بدأت مخاوفي بالتبدد، واختفت شكوكي». وبعد ثلاثة أيام كان قادرًا بهدوء على تقبل خبر تفجير منزله وبداخله زوجته وأطفاله: «لقد منحتني تجربتي الدينية قبل بضعة أيام القوة لمواجهة الأمر». وفي الحقيقة، تكررت هذه التجربة معه طوال شهور وسنين الكفاح. لقد كانت قوته المستديمة. لا نستطيع أن نجد مثالاً أفضل عن ما كنتُ أدعوه طاقة مختلفة تدخل في "النظام"، في حالة المجتمع الأمريكي هذه وكل تأثيراتها، من خلال التجربة العميقة لفرد. ويجب ألا نتفاجأ من أنَّ كينغ كان يُعنى أكثر بكثير بالعمل البنَّاء عندما اختطفه الموت. ومع ذلك، ما الذي يعنيه هذا بالنسبة لنا نحن الباقين؟ فهذه التجارب النادرة حدثت لأناس – لزعيم نادر في ظل أزمة، ولمجموعة راكعة على رصيف في بيرمنغهام، ولأمة أنهضها غاندي، لكن لا يمكننا أن نتّكل عليها. لا نستطيع أن نخطِّط لها؛ لكن ربما نستطيع أن نؤسسها. وهذا يعني أننا قد نستطيع أن نقوم بتغييرات بنيوية وثقافية (وحتى مؤسساتية) سوف تشجِّع مثل هذه التجارب وتجعل استخدام تأثيرها أطول مدة. وهناك، على الأقل، دليل مباشر على أن هذا محتمل. فطبقًا لنظرية أنثروبولوجية عن العنف، للمجموعات الإنسانية نوع من غريزة الرُعاع تعزَّزت طوال مسيرة التطور، وقد لُوحِظت بوضوح تام، على سبيل المثال، بين القرود[1]. وبسبب هذه الغريزة (أو مهما كان الاسم الذي ينبغي أن نستخدمه لمثل هذا السلوك ما قبل العقلاني)، يمكن أن تسبب بعض أنواع التوترات ضمن مجتمع في أن يمارس عنفه على ضحايا مُتيسرة قد لا يكون لهم إلا القليل من العلاقة بالمشكلة الأصلية. ومثل هذه الاستجابة نُقِشت، إذا جاز التعبير، في المدونة الثقافية للكثير من المجتمعات، مُعبِّرة عن نفسها في مؤسسات مختلفة توافق مصطلح إلقاء المسؤولية على الآخرين scapegoating. وكانت المحرقة مثالاً هائلاً على هذا – لاحظ أن كلمة Holocaust بحد ذاتها مُشتقَّة من سياق التضحية الشعائرية، التي كانت شكلاً رئيسيًا للتضحية بالآخر في الثقافات البائدة. ودون الغوص أعمق في هذه النظرية الآسرة، التي توضح أتمَّ التوضيح كيف يصبح الحافز العنيف مؤسسة عنيفة، يمكننا استخدامها بالطريقة التي استخدمنا بها مظاهر أخرى للعنف في هذا الكتاب – يمكننا إيقافها على رأسها. فإذا كان يمكن للطاقة التدميرية أن تُشفَّر وتُؤسَّس، فمن المؤكد أنها يمكن كذلك أن تكون طاقة مبدعة. وهذا ما كان يُفتَرض أن تفعله مُعتزَلات غاندي: تعتبر المعتزلات أنَّ المجتمع يمكن أن يُشاد على أسس أهيمسا - كما يوضح – وأنه يجري التجارب مع هذه النهاية بتمحيص. هذا ما كان في ذهني حين أشرتُ إلى كيفية استجابة جوان بلاك، عندما وُوجِهت بأحد الأفراد المشوَّشين في غرفة الطوارئ، بسلوك يحذو حذو نموذج وضع خطوطه الخطباء القدماء لذلك النوع، تقريبًا، من الاستجابة العاطفي. وعلى ما يبدو أنَّ القدماء، بوتيرة حياتهم البطيئة نسبيًا ومؤسساتهم المستقرة، لاحظوا كيف أنَّ بعض الأفراد الأذكياء قد أدخلوا السكينة في نفس شخص كان في حالة هياج خطِر، أو البهجة في قلب شخص غائص في الكآبة، وكتبوا حرفيًا مخطوطة لمن يحتاج فعل هذا. ذلك ما عاش من أجله غاندي وكينغ وآخرون، ولذا ليس مهمًا كم كان عليهم أن يعانوا لإظهار قوة اللاعنف، فبوسعنا إحراز تقدم، وفهم ما كان يتضمنه ذلك، وتعلُّم كيفية جعله يعمل على نحو أكثر انتظامًا، وفي النهاية جعله ليس استثناءً شاذاً بل الطريقة لحل النزاعات وعيش الحياة. وبهذا المعنى تعمل الثقافة، كالعلم، عن طريق السرنديبية، مُلاحِظة بعناية أمثلة المعيشة الناجحة ووضعها قيد التداول، وبهذا لن نكون مضطرين إلى تحمُّل الفشل. ولهذا السبب أنعمنا النظر في المناقشات السابقة، في قلب الجريمة والتمييز العنصري، لرؤية كيف يمكن للاعنف أن يرسل شعاعًا من الضوء حتى في تلك المناطق المظلمة. وفي الحال، سنقوم بالأمر نفسه فيما يتعلق بالحرب. فقد رأينا للتو لحظات إشراق عظيمة تحدث في حالات طوارئ مباغتة، في ذُرى النشاطات، وعلى نحو أكثر أهمية في اللحظات المحدَّدة لأفراد معينين. وعرفنا للتو بأننا إذا لم نرغب في الاستمرار بالترنُّح من حالة طارئة إلى حالة طارئة تالية، علينا أن ندع أنفسنا نهبط إلى أسفل سلسلة السببية، من تدخلات مدهشة متأخرة، مثل تدخل عائلة ويسر، إلى تدخلات أبكر وأقل رعبًا، مثل مدرسة واحة السلام أو نسختها الخاصة التي قام بها إلياس كابور، أو المشاريع الكثيرة لحركة "البحث عن أرضية مشتركة" Search for Common Ground. والأمر الوحيد المطلوب لمثل هذه اللحظات ومثل هذه المشاريع لكي تزدهر هو دعم ثقافي، ويحتل إصلاح وسائل الإعلام مركز الصدارة مثلما تدور حول الشمس المشاريع الشافية الأخرى لبرنامجنا البناء. إنَّ التدخل المبكر، وعلى الخصوص التدخل الأبكر في مؤسسة الثقافة ذاتها، هو ما يجعل البرامج البناءة في المتناول. وكما ذكرتُ، لو عاش كينغ لانتقل أيضًا من المسيرات الاحتجاجية والاعتصامات نحو " التعاون مع الخير" حيث أنه اجتاز الخطوة الأولى الضرورية وهي "اللاتعاون مع الشر". لقد كانت الغريزة في ذلك الحين هناك، حتى في الحملة الأولى التي كان مخططًا لها لدمج شركة حافلات مونتغمري في السياق العام، بل «لتحقيق العدالة من أجل أنفسنا بالإضافة إلى تحقيقها من أجل البيض» لقد انتقل قوسه من اندماج الحافلات إلى ضمان حقوق التصويت إلى خلق فرص اقتصادية؛ فكيف نكمل الدائرة؟ لقد شدَّدت على طريقتين، الأولى عن طريق تعهُّدنا الشخصي الخاص، ومن ثم عن طريق التغيير المؤسساتي، بدءًا بتلك المؤسسات التي تشكِّل قيمنا الأساسية. لماذا لا يعلموننا في المدرسة مطلقًا أنَّ للكائن البشري حاجة فطرية للتكامل مع الآخرين ومع الحياة بأسرها، "بقدر موقعه أو موقعها"؟ لماذا لا يعلموننا أبدًا أن ليس بوسع أحد العيش على نحو كامل دون أن يدرك أنَّ لحياته، أو حياتها، غرضًا أهم؟ هل علينا إدارة ظهورنا لحاجاتنا الأعمق ببساطة لأن المُعلنين ليست لديهم طريقة لاستثمارها؟ يمكن اعتبار اللحظة اللاعنفية نوعًا من عيد التجلي، انفجارًا مفاجئًا لطاقة جديدة وغير متوقَّعة. وسواء كان فردًا انحنى على كوب قهوة منتصف الليل أم حشدًا ارتقى فجأة إلى نمط أعلى من النشاط، يمكن أسر هذه الطاقة وتطويرها. ويمكن لها، كإصلاح أو مقاومة، أن ترتقي بوعي الكثير، وأن تجعل الاتجاه السائد يختمر لكي يتحول إلى منفعة عظيمة لنا جميعًا. في هذين الفصلين الأخيرين استكشفنا كيف يمكن أن يُطبَّق اللاعنف على نحو منتظم بالنسبة لمشكلتين ضخمتين، الجريمة والتمييز العنصري. وكان موضوعنا المجتمع المُحب؛ وكان نمطنا المفضَّل للعمل هو العمل البنَّاء، وهكذا سيبقيان طالما نحن ننتقل من مكان إلى آخر لكي نُحكِم الإمساك بـ"سوط الحرب". ترجمة: غياث جازي *** *** *** * الفصل السادس من كتاب: البحث عن مستقبل لاعنفي، مايكل ناغلر، ترجمة غياث جازي، معابر للنشر، دمشق، 2009. [1] أول ظهور لنظرية كبش الفداء و"محاكاة العنف" كان بالفرنسية عام 1972، ثم كانت ترجمتها من قبل باتريك غريغوري نقلاً عن كتاب رونيه جيرار العنف والمقدس (Violence and the Sacred, Baltimore and London: Johns Hopkins University )، راجع أيضًا لجيرار (Job, the Victim of His People, London, Athlone Press, 1987 ). هذا وينصح جدًا قراءة كتاب جيار الأخير كمقدمة سهلة للنقاط الرئيسة المتعلقة بنظرية جيرار الهامة.
|
|
|