|
من اختطف الانتفاضة الأهلية؟
ظن الناس في حزيران 1967 أن الاحتلال سيستمر أيامًا أو شهورًا. وعلَّقوا الآمال على الأمم المتحدة ومبعوثيها وقراراتها، منذ المبعوث الأممي (غونار يارنغ). ووضعت نتائج حرب اكتوبر 1973 حدًا لآمالهم بأن تقوم الجيوش العربية بتحريرهم. أما غزو إسرائيل للبنان وحصارها لبيروت في صيف 1982، وما نجم عن ذلك من إخراج منظمة التحرير الفلسطينية وقواتها من لبنان، فقد وضع حدًا للآمال التي علَّقها الناس على الكفاح المسلح لوضع حدٍّ للاحتلال. وكانت الانتفاضة الأهلية اللاعنفية التي انطلقت في 9-12-1987 تعبيرًا عن إدراك الناس بأن حريتهم من الاحتلال لن تتحقق بالجيوش العربية، ولا بالكفاح المسلح؛ وأن عليهم مسؤولية المبادرة إلى مقاومة تضع حدًا للاحتلال الذي كان في حينه قد بدأ عامه الحادي والعشرين. وأدرك الناس أيضًا أن القوة المطلوبة لتحقيق حريتهم غير موجودة في الخارج، وإنما كامنة في داخل كل واحد فيهم. لذا ما عليهم إلا وضع حد للإنتظار والرهان على مشاريع ومؤتمرات ومبادرات كثيرة جدًا فشلت كلها في إنهاء الإحتلال، أو حتى في تقليصه. فأدرك الناس أيضًا أن قوتهم ذاتية وليست في يد أية جهة كانت، وأن وضعهم حدًا للإذعان يشكِّل بداية لابد منها في طريق الحرية، وأن قوة كل مواطن تتضاعف بالوحدة والجهد الجماعي. وهذه كلها تشكل إرهاصات ومقدمات المقاومة الأهلية اللاعنفية التي هي من الناس وبالناس وللناس. وأطلق الناس بكل أطيافهم وشرائحهم وفئاتهم العمرية انتفاضتهم، بقرار منهم، مما أحدث صدمة وارتباكًا للاحتلال، وذهولاً لدى كثير من الدوائر السياسية، وغير السياسية، وإعجابًا واحترامًا وتضامنًا من مئات ملايين البشر في قارات العالم الخمس. وسلطت الأضواء على تصميم شعبنا لانتزاع حريته والعيش بكرامة وعدل وسلام على أرض الوطن. وأصبحت الانتفاضة وفعالياتها ويومياتها الحدث الأبرز في الصفحات الأولى للجرائد، والموضوع الرئيسي على أغلفة المجلات، ومحور نشرات الإذاعات والفضائيات. وجاء في كتاب انتفاضة للمؤلفين الإسرائيليين زئيف شيف واهود يعاري، منشورات دار شوكن، القدس وتل أبيب: لقد فقدت إسرائيل طمأنينتها، كما فقد المجتمع الإسرائيلي الكثير من ثقته بالنفس بالرغم من القدرة العسكرية التي تثير الإعجاب للدولة التي يعيش فيها. وتبين على حين غرة للكثير من الإسرائيلين أن آلاف الدبابات والطائرات لاتكفي. وما لم تفلح الجيوش العربية أن تفعله إبان الحروب من خلال طائراتها وصواريخها فعله الفلسطينيون سكان المناطق. وحول إسقاط الانتفاضة القناع عن وجه الاحتلال الإسرائيلي وفضحه أمام العالم، بما في ذلك الأصدقاء التقليديين لإسرائيل الذين يدعمونها سياسيًا وماليًا، قال المؤلفان في الكتاب نفسه: وبلغت إسرائيل ردود فعل ساخطة من كل صوب وحدب، وكانت أشد وأقوى من ردود الفعل على استخدام النار الحية أو قتل متظاهرين، وأشد من نسف البيوت أو إبعاد زعماء الانتفاضة. وكان من الصعب على ديوان رئيس الدولة مثلاً الثبات أمام وابل الرسائل التي وصلت إليه بهذا الشأن. فقد انتقد الكثير من رجال الفكر اليهود والحاخامين ورؤساء الطوائف اليهودية والمنظمات، المعروفة بتأييدها لإسرائيل عشرات السنوات، بكل ما اوتوا من قوة استخدام القوة أكثر مما ينبغي ضد مدنييبن. وجاء في بيان للاتحادات النقابية الكبرى في الولايات المتحدة "إن هذه سياسة لا تغتفر بالرغم من الحالات الصعبة التي تمر بها إسرائيل". ماذا دهاكم أنتم في إسرائيل؟هذا هو السؤال الذي تكرر. وعن التأثيرات العميقة للانتفاضة على المجتمع الإسرائيلي التي وصلت الجيش، قال المؤلفان: قد مزقت النقاشات والجدل السياسي الجيش من الداخل فزادت ظواهر رفض الخدمة وكتابة العرائض والشكاوى في الصحف. لماذا كانت بداية الانتفاضة تبعث على الثقة والأمل وتبشر بثمار طيبة جدًا؟ ما هي العوامل التي دفعت بالانتفاضة إلى مسارات أخرى مضادة لطبيعتها وهدفها؟ ماهي العوامل التي استبدلت الطبيعة الأهلية اللاعنفية للانتفاضة بالعسكرة والعمل السري؟ أذكر من هذه العوامل، على سبيل المثال لا الحصر: 1. الاحتلال بطبيعته العنصرية التوسعية ردَّ على الاحتجاجات بالذخيرة الحية حتى قتل في بعض الحالات عشرات المواطنين في يوم واحد. وبهذا فإن عنف الاحتلال ودمويته استدرجتنا إلى ساحته التي يحقق فيها تفوقًا حاسمًا ومضمونًا، وهي ساحة العنف والقدرة على القتل والتخريب والتدمير، وهذا أُظهر الصراع وكأنه بين طرفين متقاتلين، وليس صراع الاحتلال العسكري مع ضحاياه من المدنين العزل. وبهذا فإن الاحتلال دفعنا إلى مقاومته في نقطة ضعفنا لمواجهة نقطة قوته، وذلك بدلاً من استراتيجية الانتفاضة الأهلية اللاعنفية التي قاومت الاحتلال بنقطة قوتنا مقابل نقطة ضعفه. 2. حرص حركة حماس على العمل منفردة وخارج القيادة الوطنية الموحدة، مما فرض وجود قيادتين للانتفاضة، وتم تكريس ذلك بأيام (الإضراب الشامل) خاصة بالقيادة الموحدة، وأيام أخرى خاصة بحماس. وبهذا الانقسام المبكر فإن أداءنا في العام 1987 كان أسوأ مما كان عليه قبل 50 عامًا في الإضراب الكبير الذي جرى في العام 1936. حيث بادر الناس في حينه إلى تشكيل (اللجان القومية) في كل المدن، ومن جميع الأحزاب، بما في ذلك الحزبين الكبيرين المتنافسين، وهما الحزب العربي (المجلسيون)، وحزب الدفاع (المعارضون). وقد تشكلت (اللجنة العربية العليا) التي قادت الإضراب من جميع الأحزاب، إلى أن انسحب حزب الدفاع من اللجنة العربية العليا في العام 1937. وما جلبه انسحاب حزب الدفاع من صراع واغتيالات واقتتال، مما أحبط المقاومة وفجرها من الداخل وأفشل الثورة التي قدَّم شعبنا خلالها مئات الشهداء والمعتقلين والمبعدين، وكذلك المنازل والأحياء التي نسفها الإنكليز، وغير ذلك من الضحايا والتضحيات. يفرض المنطق والمصلحة أن تتحد جهودنا في المقاومة، مع حق كل حزب بالإبقاء على برامجه وتشكيلاته. 3. ركض المنظمات الفلسطينية، على تنوعها، وراء الانتفاضة ليس لغرض دراستها ولا للتعلم منها وإنما كي تركبها وتستخدمها، مما فرض تغييرًا في طبيعتها لتصبح مشروعًا خاصًا لكل منها، وساحة للتنافس فيما بينها. وبهذا أفقدت المنظمات الانتفاضة الأهلية طبيعتها وآلياتها، فلم تعد مشروعًا تحرريًا لكل أطياف الشعب وقواه الحية. وبذلك فإن المنظمات أضاعت فرصة تاريخية لخلاص الشعب وتحرير الوطن، مما أدى إلى عسكرة الانتفاضة وانحراف مسارها، فقد غدت حملاً ثقيلاً على ظهور المواطنين بما أفرزته من فوضى وانفلات وجمع خاوات وإتاوات، وابتزاز المواطنين، والاعتداء عليهم في الشوارع وفي بيوتهم، بل في المدارس والمستشفيات والمحاكم النظامية والشرعية. 4. عدم وضوح طبيعة المقاومة اللاعنفية وأسسها وآلياتها وشروط نجاحها لدى قيادات ونشطاء الانتفاضة، مما أدى إلى الخلط بين آليات المقاومة الأهلية اللاعنفية من جهة، وآليات المقاومة المسلحة من جهة أخرى، وبالتالي فإن الغلبة والكلمة الحاسمة كانت للعنف. وهذا ما أكده الدكتور جان ماري مولِّر المفكر والمناضل الكوكبي اللاعنفي أستاذ الفلسفة في جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي (أونور) في لبنان، وذلك في كتابه قاموس اللاعنف[1]: إن الخيار اللاعنفي هو اختيار استراتيجي يفرض أن تكون جميع الأعمال المنفذة لاعنفية. فلاستراتيجية العمل اللاعنفي فعاليتها الخاصة، وكل عمل عنيف يعطلها لا محالة، ويحكم عليها في المآل بالفشل. فعندما يتعايش العنف واللاعنف في مكان صراع واحد، فإن العنف هو الذي يفرض منطقه. إن كفاحًا يتضمن 90% من الأعمال اللاعنفية و10% من الأعمال العنفية ليس كفاحًا لاعنفيًا فيه 10% من الأعمال العنفية، بل صراع عنفي فيه 90% من الأعمال اللاعنفية. فإذا قام 300 شخص باعتصام قعودًا أمام انتشار للشرطة، ملتزمين موقفًا لاعنفيًا تمامًا، حسب ثلاثة أفراد أن يرموا عناصر الشرطة بالحجارة حتى يصنف العمل برمته في خانة العنف، إذ إن الصورة التي ستفتتح نشرة الأخبار المتلفزة وتحتل صفحة الجرائد الأولى لن تكون المظاهرة اللاعنفية، بل صورة رماة الحجارة على الأرجح. 5. رغم اتفاق فصائل منظمة التحرير الفلسطينية على تشكيل القيادة الوطنية الموحدة، إلا أن الأداء الفعلي في الميدان لم يكن موحدًا، وبخاصة في بعض التجمعات السكنية. وزاد الوضع تفاقمًا بتشكيل حركة فتح عددًا من المجموعات، وبخاصة بعد اغتيال الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) في 16-4-1988، مما أدى إلى حالة من الصراع والصدام بين بعض هذه المجموعات، الأمر الذي فرض أجواء سلبية على الميدان الذي بدأ بالتفسخ. ومما دفع الاوضاع نحو الأسوأ ممارسة كثير من المجموعات للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بدرجات متفاوتة من مكان إلى آخر، وذلك تحت شعار "نعم لسلطة الشعب لا لسلطة الاحتلال". فاشتعلت خلافات بين مجموعات متنوعة كل منها حاول فرض ما يريد. وبهذا نكون قد انحرفنا عن فضيلة المنافسة في المقاومة إلى رذيلة الصراع على النفوذ. 6. الاندفاع نحو العمل السري وحمل السلاح على حساب العمل الأهلي العلني، وبذلك انحرفت الانتفاضة عن مسارها التشاركي الجماعي إلى مسار النشاط السري النخبوي الذي ألقى، بالتدريج، أعباء الانتفاضة على كاهل مئات من الشباب، فيما فرض دور المتفرج على قطاعات عريضة من المواطنين الذين كان لهم دور جدي في الشهور الأولى للانتفاضة. 7. حرص الاحتلال على إفشال الانتفاضة التي فرضت عليه المجابهة في ميدان غير الميدان الذي اعتاد حسم الصراع طيلة عقود لمصلحته خلال ساعات أو أيام. وأطلق آلة القمع والتنكيل، وحملات اعتقالات متتالية طالت الصف الأول والثاني والثالث، مما فتح الطريق أمام جيل من الشباب في مقتبل العمر، أقل خبرة، ويستهويه حمل السلاح واستخدامه – في بعض الحالات – لأغراض الألعاب النارية. ووجد كثير من هؤلاء الشباب أنفسهم مطلوبين للاحتلال، مما فرض عليهم حالة من التوتر والقلق ليلاً ونهارًا، لأن الاحتلال أسس مجموعات متخصصة بقتل من أسماهم المطلوبين. خاض شعبنا الانتفاضة بصورة عفوية، وحقق إنجازات عظيمة جديدة جديرة بالثقة والاعتزاز، إنجازات فتحت أمام شعبنا فرصة للتحرر الكلي من الاحتلال. اللاعنف جهد عميق يحتاج إلى وضوح رؤية وإلى تدريب متواصل، فحتى يخوض البشر حربًا فإنهم يحتاجون إلى تدريب على القتل، ومن باب أولى فإن اللاعنف الذي يحتاج إلى تعزيز الوعي، وإلى تدريب متواصل، وذلك لأن صناعة الحياة تحتاج إلى وعي ومعلومات وتدريبات مستمرة. صناعة القتل تقتضي قولبة عدد من الشباب تحت دعاوى دينية ووطنية أو غيرها، أما صناعة الحياة الحرة الآمنة الكريمة فإنها تحتاج إلى شعب بكل أطيافه وفئاته العمرية، وإلى أن يتدرب الجميع تدريبًا عميقًا ومتواصلاً، لأن الظالمين العنصريين لا يتراجعون عن ظلمهم بالاستعطاف، وإنما بالقوة والضغط المتواصلين. لقد اختطفت العسكرة الانتفاضة الأهلية مما أدى إلى إدخالنا في مراحل قاسية أصبحنا معها أبعد ما نكون عن حقيقة الحرية وجوهر الاستقلال. ولأن الاحتلال لا حدود لأطماعه، ولا كابح لإجراءاته التوسعية اليومية على حساب وجودنا وحقوقنا، ولأننا لو أعلنا استسلامنا غير المشروط للاحتلال، فإنه لن يقبل بهذا الاستسلام، لأن غايته تحقيق قاعدته الذهبية: "أرض أكثر وعرب أقل"، فإن دفاعنا عن وجودنا قد أصبح من المسؤوليات التي لا مناص منها، ومن المجابهة المفروضة علينا. إن عسكرة الانتفاضة الأهلية لم تحبط وتقطع الطريق أمام شعبنا للتحرر والخلاص فحسب، وإنما ألحقت الأذى العميق بالتربية والتعليم وسلوك الشباب والأطفال، والاقتصاد الوطني، وبيئة الاستثمار، وضاعفت معدلات البطالة، ووسعت دائرة الفقر، وأضعفت سيادة القانون وهمشت القضاء. مما دفع بالشباب والمتعلمين للهروب من الوطن في هجرة دائمة أو مؤقتة، وهجرة المواطنين وخاصة الشباب منهم تعانق مخططات الاحتلال وتخدمها. ألم يأن لنا الخروج من المفاوضات التي يستخدمها الاحتلال للتغطية على أطماعه وإجراءاته العنصرية التي تستهدف وجودنا جميعًا بعيدًا عن الدعاية القبلية والفهم السطحي للصراع ؟ ألم يأن لنا إدراك حقيقة أن المقاومة الأهلية اللاعنفية هي التي توحد ولا تفرق، وهي التي تعيد الاعتبار إلى المواطنين كشركاء في المقاومة، وأن العنف هو ما يتمناه ويشتهيه الاحتلال لأنه بمثابة الرافعة لإخراجه من مأزقه المتمثل في بقاء وصمود الناس في وطنهم رغم كل القهر والحصار والتنكيل. *** *** *** [1] قاموس اللاعنف، تعريف اللاعنف، جان-ماري مولر، ترجمة محمد عبد الجليل، مراجعة ديمتري أڤييرينوس، معابر/الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية.
|
|
|