|
اللاعنف والمقاومةNonviolence and resistance
لكنْ لن يكونَ لدى غاندي الوقتُ حتى لكي يوصلَ هذه الرسالةَ إلى نائب الملك. وفي ليلة الرابع إلى فجر الخامس من أيار/مايو 1930، جاء ما يقاربُ الثلاثين شرطيًا هنديًا مسلَّحين بإمرة ضابطَين اثنين وموظَّفٍ إنكليزي ليعتقلوه في قرية كارادي [كَرَدي] Karadi على بعد بضعة كيلومترات شمال دَنْدي Dandi. كانت الساعةُ تُقارِبُ الواحدةَ صباحًا وكان غاندي نائمًا. فأيقظَه الموظَّفُ وأعطاه ليقرأَ مُذكَّرةَ الإحضار التي بموجبِها تلَقَّى أمرَ القبض عليه. هذه المذكَّرة وقَّعها حاكمُ مومباي، السير فريديريك سايكلز Sir Frederick Sycles وقد حُرِّرَت على هذا النحو: إنَّ الحكومة، إذْ تنظر بقلق إلى نشاطات موهانداس كارامشاند غاندي، تأمر بأنْ يوضعَ هذا الأخيرُ في حالة اعتقال طبقًا للنظام رقم 35 لعام 1827 ويبقى معتقَلاً بحسب ما تشاء الحكومة، وبأنْ يُنقَلَ مباشرةً إلى سجن ييراﭭـدا Yeravda المركزي.
انكبَّ ناشطون وباحثون كُثر على إجراء دراسات حول ما أسموه "سياسات غاندي" و"اقتصاديات غاندي"، بيد أن قلة منهم طرحت الأسئلة التي ينبغي أن تُسأل فعلاً. كيف أنجز غاندي ما أنجزه في حياته؟ مِمَّ استمد قوته؟ كيف أمكن لمثل هذا الرجل العادي الضئيل البنية، المحامي المحدود الكفاءة والمُفتقِد إلى الهدف، أن يحوِّل نفسه إلى شخص قادر على الوقوف منفردًا ومنازلة أعظم إمبراطورية عرفها العالم، وأن ينتصر بدون إطلاق رصاصة واحدة؟ ذات مرة، سأل أحد الصحفيين الأمريكيين غاندي، وكان متابعًا لحركته لسنوات عدة ومن أشد المعجبين به: "هل لك أن تخبرني عن سر حياتك في ثلاثة كلمات؟" "أجل"، أجاب غاندي بضحكة خافتة. إذ لم يكن من خصاله التهرب من تحدٍ: "تنسَّك واستمتع!".
تجري في العالم المسيحي، في الوقت الراهن، حربان. صحيح أنَّ إحداهما قد انتهت، وأنَّ الأخرى لمَّا تنتهِ بعد، لكنهما اندلعتا في الوقت نفسه، وكان التضادُّ بينهما مذهلاً. إحداهما، التي انتهت الآن، كانت حربًا قديمةً ومتغطرسةً وغبيةً وعنيفةً وغير عصريةً ومتخلِّفةً ووثنية. إنها الحرب الإسبانية-الأمريكية التي، عبر قتل البشر وحسب، حلَّت مسألة: من سيحكم الآخرين، وكيف؟ أما الحرب الأخرى، التي مازالت مستمرة، والتي لن تنتهي إلا بانتهاء كل الحروب، فهي حرب حديثة، متفانية، قائمة فقط على المحبة والوعي، حربٌ مقدَّسة. إنها حربٌ على الحروب، أعلنها منذ زمنٍ بعيد (كما قال فيكتور هوغو في أحد المؤتمرات) القسم التقدمي الأفضل للعالم المسيحي ضد القسم الآخر، العنيف والمتوحش، لهذا العالم نفسه، والتي يخوضها بقوة ونجاح استثنائيين، في الآونة الأخيرة، ثلَّة من المسيحيين الدوخوبوريين القوقاز ضدَّ الحكومة الروسية الطاغية.
في العام 1976، كتبتُ قصيدة تحدثت فيها عن فتاة في الثانية عشر من عمرها – وهي واحدة من أناس القوارب الذين كانوا يعبرون خليج السيام. فتاة اغتصبها قرصان، فألقت بنفسها في البحر – (كما تحدثت) عن القرصان الذي وُلِد في قرية نائية محاذية للساحل في تايلاند، وعنِّي. وأنا لم أكن في الواقع على متن المركب – إنما كنتُ على بعد آلاف الأميال – لكن لأنّي كنتُ في حال انتباه، كنتُ على علم بما كان يجري في الخليج.
دخل الجيش الحر مدينة داريا بشكل علني وبزخم قوي في كانون الثاني 2012. ويُظهر فيديو نُشر على موقع youtube في 21 من الشهر المذكور، بعنوان (الجيش الحر يسيطر على داريا) أو (الجيش الحر في مدينة داريا لحماية المواطنين)، رتلاً من السيارات المدنية الصغيرة – بعضها من سيارات الأجرة المميزة بلونها الأصفر – يجوب شوارع داريا ليلاً، بسرعة كبيرة، وبداخل السيارات مقاتلون يرددون: الله أكبر، ويلوحون بالأسلحة الفردية وأعلام الثورة من شبابيك السيارات. كانت شوارع المدينة فارغة تمامًا من المارة، مما يشير إلى ساعة متأخرة من الليل، حيث اختار المقاتلون دخول البلدة الغافية. والمشهد بحركته وملامحه الاستعراضية ودلالاته العميقة، يحيل إلى هوة كبيرة تفصل بين فضاء المدينة: ناسها وتاريخها وحراكها السلمي المدني المتميز، وبين هذا الحدث الذي سيقلب أوضاع المدينة رأسًا على عقب.
لم يُنهِ غاندي عامه الأول في جنوب أفريقيا حين التمعت في ذهنه فكرة اتخاذ القرار. كان عمله لصالح دادا عبد الله يتطلب منه السفر متنقلاً في أنحاء ولاية ناتال الداخلية بواسطة القطار أو المركبات. كان المستوطنون الأوروبيون يسافرون على الدوام في عربات الدرجة الأولى، في حين يُفترَض بالهنود أن يسافروا في عربات الدرجة الثالثة. لكن دادا عبد الله كان قد حجز لغاندي مقعدًا في الدرجة الأولى في القطار. فاستقر غاندي في المقصورة متنعِّمًا بالراحة وحيدًا إلى حين الوصول إلى بلدة ماريتزبرغ Maritzburg الجبلية في المساء. ومن هناك استقلَّ أحد المسافرين القطار، وهو أوروبي، ودخل المقصورة التي فيها غاندي. ألقى مجرد نظرة على الرجل ذي البشرة الداكنة الجالس في المقصورة وغادرها. لكنه ما لبث أن عاد بصحبة موظفي القطار وقال أحدهم لغاندي بلهجة حادة: "عليك مغادرة هذا المكان. إذهب إلى عربة الدرجة الثالثة".
هذا المقال جزء من حوار تقوده "منظمة الحقِّ باللاعنف" في منتديات عالمية مختلفة، آخرها في بيروت الخميس 17/7/2012، وأرى لا بدَّ من إهدائه إلى روح غسان تويني الذي درس رسالة كانط عن السلام الدائم في جامعة هارفرد عندما كان طالبًا فيها قبل نصف قرن ونيِّف، وأغناها بملاحظات مكتوبة تُنشر قريبًا. سوريا على بال الجميع، والعنف في سوريا في المقدِّمة، ما يجعل كل حديث عن الثورة واللاعنف كأنَّه ضربٌ من الهذيان.
|
|
|