|
غاندي الإنسان 2: درب المحبة٭
لم يُنهِ غاندي عامه الأول في جنوب أفريقيا حين التمعت في ذهنه فكرة اتخاذ القرار. كان عمله لصالح دادا عبد الله يتطلب منه السفر متنقلاً في أنحاء ولاية ناتال الداخلية بواسطة القطار أو المركبات. كان المستوطنون الأوروبيون يسافرون على الدوام في عربات الدرجة الأولى، في حين يُفترَض بالهنود أن يسافروا في عربات الدرجة الثالثة. لكن دادا عبد الله كان قد حجز لغاندي مقعدًا في الدرجة الأولى في القطار. فاستقر غاندي في المقصورة متنعِّمًا بالراحة وحيدًا إلى حين الوصول إلى بلدة ماريتزبرغ Maritzburg الجبلية في المساء. ومن هناك استقلَّ أحد المسافرين القطار، وهو أوروبي، ودخل المقصورة التي فيها غاندي. ألقى مجرد نظرة على الرجل ذي البشرة الداكنة الجالس في المقصورة وغادرها. لكنه ما لبث أن عاد بصحبة موظفي القطار وقال أحدهم لغاندي بلهجة حادة: "عليك مغادرة هذا المكان. إذهب إلى عربة الدرجة الثالثة". اعترض غاندي قائلاً: "لكن لدي بطاقة مخصصة لهذه المقصورة". قال الموظف: "ذلك لا يهم. عليك المغادرة وإلا سأحضر رجال الشرطة لكي يلقوا بك خارجًا". رد غاندي برباطة جأش: "ربما تستطيع ذلك. لكن لدي كل الحق في البقاء هنا، وأرفض الخروج بمحض إرادتي". حضر رجال الشرطة وأخرجوا غاندي من القطار وتُرك ليمضي الليلة جالسًا في عتمة محطة القطار المُقفِرة في ماريتزبرغ. لم يسمح له الموظفون أخذ معطفه ولا أمتعته. كان البرد قارصًا. جلس هناك وحيدًا مرتعشًا، متميِّزًا غيظًا، جاهدًا في فهم كيف يجد أحد ما متعة أو رضا في تسبب المعاناة للآخرين. لم يكن ما تعرض له من إذلال وحَيْف شخصيًا هو ما أثار حنقه؛ بل هو المرض العضال المتمثِّل في همجية الإنسان ضد الإنسان، اضطهاد كل الأعراق بسبب الاختلاف في لون البشرة أو المعتقد. مع حلول الصباح، كان قد اتخذ قرارًا بأن العودة إلى الهند ستكون عملاً جبانًا. لذا، كان يتوجب عليه البقاء، فلا مجال للنكوص، ولابد من الإقدام على العمل. فالرجل الذي لم يكن قادرًا على التحدث في المحكمة بما يعزز من وضعه المهني سيجد في داخله ما يكفي من قدرات للحديث والكتابة والتنظيم بشكل فعال للتفريج عن المكروبين. بعد سنوات، عندما سئل عن الحدث الأكثر تأثيرًا في مسار حياته، روى غاندي قصة تلك الليلة في محطة ماريتزبرغ. لقد كان عليه أن يكابد الكثير من المحن، وأن يعاني من سوء المعاملة والإهانات والأذى الجسدي حتى، لكن في تلك الليلة الطويلة في جبال ناتال اتخذ قرارًا بعدم الخضوع للقوة وعدم استعمال القوة من أجل الانتصار في قضية مهما كانت. أعارضُ العنف لأن ما ينتج عنه، وإن بدا خيرًا، هو مجرد خير مؤقت؛ أما حصيلته فهي شر دائم. لا أؤمن بالضربات العنيفة السريعة المركَّزة من أجل تحقيق النجاح... فمهما كان مقدار تعاطفي مع الدوافع النبيلة وإكباري لها، أنا خصم لدود للأساليب العنفية حتى وإن خدمت أنبل القضايا... التجربة تزيدني قناعة بأن الخير الدائم لا يمكن أن يكون مطلقًا حصيلة ضلال أو عنف. ولم تمضِ سوى ثلاثة عشر سنة، وكان غاندي وقتئذ في السابعة والثلاثين من عمره، حتى أثمرت هذه القناعة العميقة إلهامًا للمقاومة اللاعنفية الجماهيرية. كان غاندي قد عاد للتو من أداء واجبه في الإسعاف خلال "تمرد" الزولو، وكان حديث العهد بالقرار الذي اتخذه بشأن تكريس نفسه كليًا لخدمة المجتمع. كانت الفرصة بانتظاره. لقد أدخلت حكومة البيض في ترانسفال تشريعًا جديدًا يحرم الهنود في جنوب أفريقيا من حقوق مدنية كانت محفوظة لهم بموجب القانون. وإذا تم تمرير "القانون الأسود" فذلك سيعني النهاية للمجتمعات المحلية الهندية في جنوب أفريقيا. وتجمع حشد هائل من الهنود في جوهانسبرغ بناء على اقتراح من غاندي لكي يتخذوا قرارًا بشأن وجهة المقاومة التي سيتبنونها. لم يكن غاندي قد هيأ في ذهنه أية خطة؛ كل ما يعرفه هو أن "الموت أفضل من الخضوع لمثل هذا القانون". لكن وسط ذلك الحشد الهائج الجاهز للقيام بأعمال عنف متطرفة، هبط الإلهام على غاندي ليعرض تحدٍ أعلى: رفض الانصياع لمثل هذا التشريع المهين، وتقبُّل العواقب دون مقابلة العنف بمثله لكن دون التنازل قيد أنملة عن مطلبهم في معاملة عادلة ومتساوية في ظل القانون. وهبَّ كل الرجال والنساء الحاضرين لتلبية التحدي، آخذين على أنفسهم عهدًا بالمقاومة اللاعنفية حتى الرمق الأخير. "وهكذا خُلق المكافئ الأخلاقي للحرب"، كما كتب غاندي ببهجة المنتصر. العصيان المدني حق متأصل للمواطن. فالمواطن لا يجرؤ على التخلي عن هذا الحق دون الانتقاص من كونه إنسانًا. العصيان المدني لا يستجرُّ خلفه الفوضى على الإطلاق؛ العصيانات الإجرامية هي التي يمكن أن تؤدي إليها. وكل دولة تسحق العصيانات الإجرامية بالقوة، إذ أنها ستنهار إن لم تقم بذلك. لكن قمع العصيان المدني هو محاولة لسجن الضمير. لكي يكون العصيان مدنيًا يجب أن يتَّسم بالإخلاص والاحترام والانضباط وعدم الاستفزاز، ويجب أن يُبنى على أساس مبدأ مُتفق عليه ومفهوم تمامًا، وألا يكون نزويًّا، أو ينطوي على كراهية أو سوء نية مبيَّتة. انتشرت الحركة بسرعة في أنحاء جنوب أفريقيا. فما اقترحه غاندي كان نهجًا جديدًا تمامًا للقتال. فبدلاً من إثارة سعير الكراهية بالكراهية، والعنف بالعنف، كان يؤمن بإمكانية دحر الاستغلال ببساطة عن طريق مقابلة الكراهية بالمحبة، والازدراء بالاحترام، مع رفض شديد وحازم للخضوع للظلم. كان أسلوبًا في المقاومة يقتضي غاية الشجاعة والالتزام، مما يجعل من كل نكسة مؤقتة حافزًا يشدُّ أكثر من عضد المقاومين. لقد حُكم على آلاف من الرجال والنساء والأطفال بالسجن نتيجة تحديهم العلني والمنضبط لحال الاستغلال في جنوب أفريقيا. كانت واحدة من أولى تفاعلات حملة غاندي لقاءه برئيس حكومة ترانسفال، الجنرال جان سمَتس Jan Smuts. في تلك الأثناء، كان غاندي قد طوَّر المبادئ الأساسية لأسلوبه الأخير، ومن السهل تخيُّله جالسًا قبالة المقاتل القدير في حرب البوير يُبلغه بهدوء: "جئت لكي أخبرك أنني سأقاتل ضد حكومتك". لابد أن سمَتس كان يعتقد أنه بصدد سماع أمور هامة، فيقول ضاحكًا: "أنت تقصد أنك جئت إلى هنا لكي تخبرني بذلك؟ هل هناك ما تود إضافته؟". يقول غاندي: "أجل. وأنا سأفوز". يُصاب سمَتس بالدهشة. ويقول أخيرًا: "حسنًا، وكيف لك أن تحقق ذلك؟". يبتسم غاندي: "بمساعدتك". بعد سنوات، اعترف سمَتس – وإن بدعابة – أن هذا هو بالضبط ما فعله غاندي. فبشجاعته وتصميمه ورفضه انتهاز فرص غير عادلة، وعلى الأخص طاقته اللامحدودة على "المثابرة" بلا خضوع أو مقابلة الأذى بمثله، استطاع غاندي أخيرًا أن يحظى باحترام الجنرال وصداقته، وتم إبطال القوانين المهينة بحق الهنود واحدًا إثر واحد. الحقيقة مُقيمة في كل قلب بشري، وعلى المرء البحث عنها هناك، والاسترشاد بها حالما يدركها. لكن لا أحد يمتلك الحق في إجبار الآخرين على العمل وفقًا لرؤيته الخاصة عن الحقيقة. ساتياغراها Satyagraha، المصطلح الذي أطلقه غاندي على هذا النهج الجديد للتغلب على الظلم، يعني "التمسُّك بالحقيقة" أو "قوة الروح" soul-force. حيث تعني ساتيا Satya "الحقيقة" باللغة السنسكريتية، وهي مشتقة من Sat، الذي يعني ببساطة "ذاك الموجود". والفكرة الكامنة وراء ساتيا هي أن الحقيقة تُوجد بمفردها؛ لأن الحقيقة ليست ما يَصحُّ فحسب في مكان ما وفي زمان ما أو تحت شروط معينة، بل هي ما لا يتغير مطلقًا. فالشرور والمظالم والكراهية، كما يؤكد غاندي، تُوجد فقط بقدر ما نقدم لها السند؛ فليس لها وجود خاص بها، وبدون تعاوننا، بقصد أو بلا قصد، لا يمكن لها أن تستمر. هذه هي التعاليم الروحية العظيمة المحرِّكة للاتعاون اللاعنفي. وطالما يتقبَّل شعب الاستغلال، فإن المستغِلين والمستغَلين كلاهما سوف يتناسجان في شبكة الظلم. لكن حالما يرفض المستغَلون هذه العلاقة، برفضهم التعاون مع المستغِلين، سيغدون أحرارًا في الحال. اختبر غاندي الساتياغراها في جنوب أفريقيا لمدة سبع سنوات مُظهِرًا أنها تفعل فعلها، حتى في أراضٍ أجنبية، ضد حكومة شديدة البأس وعدائية. وعاد إلى الهند محاربًا متمرِّسًا في المقاومة اللاعنفية، وهو على ثقة بأن بوسعه تحرير الهند من الهيمنة البريطانية بالوسائل السياسية، بدون حرب، وبدون عنف، إن رضي الهنود بزعامته والتزموا تمامًا بالمُحدِّدات اللاعنفية التي بسطها أمامهم. قال بتحدٍ: إختر غايتك، غَيْريًّا، بدون أي تفكير بالمتعة الشخصية أو المنفعة الخاصة، ومن ثم استخدم الوسائل الغَيْريَّة لبلوغ تلك الغاية. لا تلجأ إلى العنف وإن بدا لك للوهلة الأولى أنه يَعِد بالنجاح؛ فالعنف يناقض غايتك. استخدم سبل المحبة والاحترام حتى لو بدت النتائج بعيدة أو غير مؤكدة. ثم ألق بنفسك في الحملة، غير آبه بالثمن الباهظ الذي ستدفعه من أجل العمل على رفاهة الذين من حولك، وستزيدك كل نكسة وكل هزيمة ثراء نفسيًا أعمق فأعمق. لا يمكن للعنف مطلقًا أن يضع حدًا للعنف؛ فكل ما يمكن للعنف أن يفعله هو إثارة المزيد من العنف. لكن إذا اعتصمنا باللاعنف التام، ستكون حرية الهند مضمونة. قال المؤرخ ج. ب. كريبَلاني، الذي أصبح واحدًا من أقرب رفاق غاندي في العمل، إنه في المرة الأولى التي استمع فيها إلى غاندي متحدثًا بهذه الطريقة، نهض متجهًا نحوه وقال له بصراحة: سيد غاندي، قد تكون مُلمًّا تمامًا بالكتاب المقدس أو بْهَغَفاد غيتا، لكنك تجهل التاريخ تمامًا. لم تستطع أمة قط أن تحرر نفسها بدون عنف. ابتسم غاندي مُصحِّحًا له بلطف: أنت لا تعرف شيئًا عن التاريخ. أول ما عليك تعلُّمه حول التاريخ هو أنه إذا لم يكن قد حدث أمر ما في الماضي فذلك لا يعني أنه لا يمكن أن يحدث في المستقبل. في عصر المعجزات هذا، لا يستطيع أحد القول عن أمر ما أو فكرة إنهما عديما الجدوى أو بلا قيمة لمجرد أنهما جديدان. فالقول باستحالة أمر لأنه صعب لا ينسجم مع روح العصر. الأمور التي لا تطالها الأحلام تُرى يوميًا، والمستحيل يصبح ممكنًا على الدوام. ونُصاب بالدهشة باستمرار في هذه الأيام بسبب المكتشفات المذهلة في مجال العنف. لكنني أؤكد أن المكتشفات العصية على الأحلام وتبدو مستحيلة ستُنجَز في مجال اللاعنف. باتت ساتيا وأهِمسا، الحقيقة واللاعنف، شعارا غاندي الثابتان. كانا في تجربته "وجهين لعملة واحدة"، أسلوبين للنظر إلى الواقع التجريبي ذاته. كانت ساتيا تعني بالنسبة إليه الحقيقة الأعمق للوجود، حيث كل الحياة واحدة. وقد عرض بوذا الرحيم البرهان: عندما يكره شخص شخصًا آخر، يقع الكارِه مريضًا – جسديًا، عاطفيًا، روحيًا. وعندما يحب، هو الذي يغدو مُعافى. الكراهية تقتل؛ والمحبة تُشفي. ساتياغراها تعني "التمسُّك بهذه الحقيقة" في كل موقف، ولا يهم كم هي العاصفة عاتية. ولأن الساتياغراهي الحقيقي لا يبغي شيئًا لنفسه، فإنه لا يخشى الدخول في أي صراع من أجل الذين من حوله، دون عداوة، دون امتعاض، ودون أن يلجأ حتى إلى عبارات نابية. وحتى في مواجهة أكثر الاستفزازات تطرفًا، لا يسمح لنفسه أبدًا نسيان أنه هو والمعتدي عليه واحد. هذه هي أهِمسا، التي هي أكبر من مجرد غياب للعنف؛ إنها محبة مكثَّفة. لا تنطوي الكلمة السنسكريتية أهِمسا على دلالة سلبية أو خاملة كما هي في الترجمة الإنكليزية "اللاعنف" Nonviolence. فالمعنى الضمني لأهِمسا أنه عندما يهمد كل عنف في القلب البشري، فإن ما يتبقى هو المحبة. إنها لا تقتضي منا السعي لاكتسابها؛ فهي موجودة دومًا، ولا تحتاج سوى إلى الكشف عنها. إنها هي طبيعتنا الحقيقية، التي ليست مجرد أن نحبَّ شخصًا هنا وآخر هناك، بل أن نكون المحبة ذاتها. ساتياغراها هي المحبة في صيغة عملية. الساتياغراهي يودِّع الخوف، لذا لا يخشى الوثوق بخصمه. وحتى لو خادعه الخصم عشرين مرة، فإن الساتياغراهي على استعداد للوثوق فيه للمرة الحادية والعشرين، لأن الثقة بالطبيعة البشرية هي من صلب عقيدته. في الساتياغراها، ليس الاعتبار للعدد إطلاقًا، بل للكيفية دومًا، خصوصًا عندما تكون قوى العنف هي المسيطرة. ثم، ما يتم نسيانه على الغالب هو أن الساتياغراهي لا يبيِّت إطلاقًا نية لإحراج الآثم؛ فالمناشدة لا ترمي إلى إثارة الخوف لدى مرتكب الأذية مطلقًا، وإنما تتوجه، ويجب أن تتوجه، إلى قلبه دومًا. هدف الساتياغراهي هو هداية المعتدي، وليس إكراهه. وينبغي على الساتياغراهي تجنب التصنُّع في كل أعماله، والتصرف بتلقائية وبدافع من قناعة داخلية. الساتياغراها لطيفة، لا تجرح إطلاقًا. ويجب ألا تكون حصيلة غضب أو خبث. إنها لا تنطوي على اهتياج ولا نفاد صبر ولا صخب على الإطلاق. إنها النقيض المباشر للقسر. إنها البديل الناجز للعنف. أهِمسا هي الدهارما Dharma الخاصة بنا، القانون المركزي لكينونتنا، منقوشة في كل خلية من خلايانا. لقد اعتاد غاندي على القول إن "قانون الغاب" صحيح كل الصحة بالنسبة للحيوانات؛ فالعنف هو دهارماهم. أما بالنسبة للبشر، فلكي يكونوا عنيفين، يُفترض بهم أن يقلبوا مجرى التطور وُيوغلوا عكس طبيعتهم العميقة، والتي هي المحبة والتحمل والغفران. أضبط نفسي لكي أفقد القدرة على كراهية أي كائن على وجه البسيطة. وعبر مسار طويل من الانضباط الوَرِع كففت منذ أكثر من أربعين سنة عن كراهية أيًا كان. أعرف أن هذا يتطلَّب الكثير، ومع ذلك أنا أقوم به بكل تواضع. بيد أني أكره – وبوسعي ذلك – الشر حيثما وُجد. أكره نظام الحكم الذي أقامه البريطانيون في الهند. أكره الاستغلال عديم الرحمة للهند بقدر ما أكره من أعماق قلبي نظام النبذ الطبقي الشائن الذي يتحمل مسؤوليته الملايين من الهندوس. لكني لا أكره البريطانيين المستبدين كما أرفض أن أكره الهندوس المستبدين. وأنا أسعى إلى إصلاحهم بكل طرق المحبة المتاحة لي. وليس لدعوتي إلى اللاتعاون جذور في الكراهية، بل في المحبة. لقرون من الزمن، خضع ملايين من الناس في الهند لمعاملة وحشية وتمييز هائلين من قبل الطبقات العليا باسم النظام الطبقي. لكن غاندي، وقد تعلَّم من خبرته الشخصية الحقيقة العظيمة "كما تزرع تحصد"، أدرك الصلة الضمنية العميقة بين استغلال الهند لهذه الملايين من المُفقَرين واستغلال بريطانيا العظمى للشعب الهندي. فكان من أولى الخطوات التي أقدم عليها، لكي يعيد للهند احترامها الذاتي ووحدتها، هو البدء بتحرير هذه الطبقات الدنيا. فالاسم السابق لهؤلاء الناس – وهو اسم فظيع باللغة السنسكريتية – يعني "النجسون". كان الاسم بحد ذاته يُديم شعورهم بالدونية والعار. لكن غاندي بدأ في تغيير هذا الوضع على نحو مفاجئ من خلال منحهم لقبًا مختلفًا: هاريجان Harijans، أبناء الله. قاد غاندي الحملة من جنوب الهيمالايا إلى سيلان. كانت الرسالة واحدة في كل مكان: "كلنا واحد. عندما تُسبب معاناة للآخرين فإنك تجلب المعاناة لنفسك. وعندما تُضعف الآخرين فإنك تضعف نفسك، وتضعف الأمة بأسرها". وفي إحدى المناسبات سيجعل الهند كلها تشعر بالخجل برفضه دخول المعبد الكبير الذي ظلت أبوابه مغلقة لقرون في وجه المتعبِّدين الهندوس من الطبقات الدنيا. وسيقول للجموع التي احتشدت للاستماع إله: ما من إله هنا. لو كان الله هنا، لأُذن لجميع الناس بالدخول إليه. الله في قلب كل واحد منا. وبسبب المحبة التي يكنُّها الناس له، كانت مثل هذه الكلمات تتغلغل في أعماقهم. وبعد قرون من الإقصاء، بدأت المعابد والمنازل في كافة أنحاء الهند في فتح أبوابها للجميع. حيثما كان يحلُّ غاندي، كان يجمع أموالاً من أجل الهاريجان. لقد اعتادت النساء الهنديات من الطبقة الوسطى، لاسيما في القرى، على التزيُّن بكل ما يملكن من حليٍّ ذهبية. وكان هناك قول شائع بأن أفضل بنك للرجل هو عنق زوجته. لقد وجد غاندي في هذا السلوك نوعًا من التفاخر في حين كانت غالبية البلاد تقترب من حافة المجاعة، فكان ينتهز كل فرصة متاحة لدعوة هؤلاء النساء للتخلي عن قلاداتهن وأقراطهن وأساورهن وخلاخيلهن الذهبية وبيعها من أجل خدمة الهاريجان. ولم ينجُ حتى الأطفال من أمير المتسولين هذا. كان سحر غاندي لا يُقاوَم إلى حد أنه في كل محطة يتوقف فيها القطار الذي يقلُّه، مهما كان الوقت ليلاً أم نهارًا، كانت تتجمع حشود كبيرة من كل الأعمار بانتظاره لكي يدسُّوا أموالهم ومجوهراتهم في يديه الممدودتين. في تلك الأيام، كانت درجات القطار في الهند ثلاثة: مقصورات الدرجة الأولى وهي مخصصة فقط للنخبة البريطانية الحاكمة، والدرجة الثانية للطبقات العليا في المجتمع الهندي، أما الدرجة الثالثة – وهي عبارة عن مقاعد خشبية طويلة قذرة – فتُترك للغالبية العظمى من الهنود، وهم الفقراء. كان غاندي، الذي ربط مصيره بمصير الفقراء من خلال مشاركتهم أساليب عيشهم، يفضل دومًا السفر في الدرجة الثالثة خلال تلك الحملات. وعندما كان يُسأل عن السبب، كان يجيب مبتسمًا: "لأنه ليس هناك درجة رابعة". في إحدى المناسبات خلال تلك الحملات، حضر أحد المبشرين، وكان ميسور الحال على نحو واضح، إلى غاندي يطلب المشورة عن الطريقة التي يمكنه بها مساعدة الناس المنبوذين في القرى الهندية. كان جواب غاندي يُبطن تحديًا لأساس حياته بالذات: "علينا أن ننزل من عليائنا ونعيش معهم، ليس كدخلاء، بل كأناس منهم بكل السبل، وأن نشاطرهم أعباءهم وأحزانهم". هذا هو جوهر منهج غاندي. وفوق ذلك، كان يجعل من شخصه مثالاً عمليًا للتعلُّم. لقد التحق بالهاريجان وعاش معهم؛ ومن أجل تشجيعهم على تحسين صحتهم الشخصية والعامة، غدا خادمًا لهم. وبنى مئات من أتباعه بيوتًا للهاريجان في القرى الفقيرة في أنحاء الهند كافة؛ وكانوا يعيشون معهم هناك، يعلِّمونهم ويشجعونهم بأمثلتهم الشخصية على تحرير أنفسهم من العبودية والجهل والبؤس والخرافة والفاقة، الناجمة عن ثلاثمائة سنة من الاستغلال الأجنبي. وكتب غاندي، ذات مرة، إلى أحد هؤلاء المتطوعين، وكانت امرأة إنكليزية اسمها ماري بار، أنه إذا كان من الممكن التخفيف من معاناة الجموع الفقيرة في الهند بدون ترحيل الطود البريطاني عن التراب الهندي، فإنه لن يقاتل في سبيل استقلال الهند، بل سيبقى مخلصًا للإمبراطورية. لكن الفقراء هم من كانوا يعانون أكثر من الهيمنة البريطانية، ومن أجلهم اندفع للانخراط في الكفاح في سبيل حرية الهند. لرؤية روح الحقيقة الكونية وجهًا لوجه، يتوجب على المرء محبة الأضعف من الخليقة كما يحب نفسه. والإنسان الذي يتوق إلى ذلك لا يمكنه أن يقوى على البقاء بعيدًا عن أي مجال في الحياة. ولهذا السبب جذبني تكريس نفسي للحقيقة إلى المجال السياسي؛ وبوسعي القول دون أدنى تردد، وبكل تواضع أيضًا، إن أولئك الذين يقولون إن الدين لا يملك ما يفعله للسياسة لا يدركون ما يعنيه الدين. في المراحل المبكرة من كفاح الهند من أجل استقلالها، كان هناك الكثير من الأحداث القاسية التي لطخت صفحات التاريخ البريطاني. عندما عاد غاندي من جنوب أفريقيا، أثناء الحرب العالمية الأولى، كانت تلوح في الهند نُذر ثورة عنيفة تحت وطأة القمع المُتستِّر بذريعة الأحكام العرفية. وبدت الساتياغراها أخيرًا أنها العلاج الوحيد لوحشية سوء الحكم الاستعماري، وأخذت السجون تكتظ حين لبى آلاف من الرجال والنساء دعوة غاندي المتحدية إلى الكفِّ عن كل أشكال التعاون مع مؤسسات الحكومة البريطانية. كانت العقوبة سريعة، وشروط السجن قاسية. لكن الاعتقالات لم تثنِ الهنود عن التخلي عن وظائفهم الحكومية والتوقف عن دفع الضرائب وتعريض أنفسهم للسجن. ثم جاء دور غاندي أيضًا فاُعتقل بتهمة التحريض على التمرد والعصيان. وقد أتاحت له محاكمته – وهي المحاكمة الوحيدة التي وفرتها الحكومة له – منبرًا لعرض اتهام قاس ومفصَّل للاستغلال البريطاني، مما بدا أمام الناس في الهند وبقية بقاع العالم أنها لم تكن محاكمة لغاندي بل للاستعمار نفسه. ليست لدي الرغبة مطلقًا أن أكتم عن هذه المحكمة حقيقة أن الوعظ بالسخط تجاه نظام الحكومة القائم قد أصبح تقريبًا شغفًا لدي... قليل من قاطني المدن من يعرف كيف تعيش الجموع شبه المعدمة في الهند حياة هي أقرب إلى الموت. قليل منهم من يعرف أن رفاهيتهم البائسة هي حاصل للسمسرة التي ينالونها مقابل العمل الذي يؤدونه للمستغِل الأجنبي، وأن أرباحهم وسمسرتهم تُمتص من عرق ودماء الجماهير. قليل منهم من يدرك أن الحكومة القائمة بحكم القانون في الهند البريطانية هي من يدير استغلال الجماهير هذا. لا سفسطة ولا تلاعب بالأرقام ولا خداع في المظاهر يمكن أن يطمس الدليل على أن الهياكل العظمية في الكثير من القرى جليَّة للعيان. أعتقد أنني قدَّمت خدمة للهند وإنكلترا بتبيان أنه في نهج التعاون تتكشَّف الحالة اللاسويَّة التي يعيش فيها كلا الطرفين. وبرأيي، اللاتعاون مع الشر هو واجب بقدر ما هو التعاون مع الخير واجب. في الماضي، كان يُعبَّر عن اللاتعاون على نحو متعمد بأشكال عنيفة ضد فاعل الشر. لكنني أسعى إلى أن أبيِّن لأبناء جلدتي أن اللاتعاون العنفي لا يعمل سوى على تناسل الشر، وأنه طالما بإمكان الشر إطالة أمده بواسطة العنف فقط، فإن الكفَّ عن مساندة الشر يتطلب الامتناع عن استخدام العنف. ينطوي اللاعنف على خضوع طوعي للعقاب بسبب اللاتعاون مع الشر. وبناء عليه، أنا هنا لكي أعلن ترحيبي وخضوعي بصدر منشرح لأشد العقوبات التي يمكن أن تُنزل بي بسبب ما يعتبره القانون جريمة متعمدة، وما يبدو لي أنه أسمى واجب للمواطن. سيدي القاضي سادتي المستشارون، ليس أمامكم سوى سبيل وحيد من اثنين: إما أن تستقيلوا من مناصبكم وبذا تنأوا بأنفسكم عن الشر، إن كنتم تشعرون أن القانون الذي تصدرون الأحكام بموجبه هو شر، مما يعني في الواقع أنني بريء، أو تُنزلوا بي أقسى العقوبات إذا كنتم تعتقدون أن النظام والقانون اللذين تساعدانهما في الحكم هما لخير الشعب في هذا البلد، مما يترتب عليه أن نشاطاتي ضارة بالصالح العام. في سنوات اللاتعاون تلك، استطاع غاندي جذب بعض ممن أصبحوا أقرب أصدقائه والعاملين معه، رجالاً ونساء من خلفيات مختلفة تمامًا من شتى الجنسيات تشاركوا في تجربة مركزية واحدة؛ وكان كل منهم قد أتى إلى غاندي لكي يعاين ما يحصل على أرض الواقع فمكث هناك رغبة منه بالمشاركة في الخدمة العامة. كان مجرد اللقاء بغاندي يُعدُّ مجازفة في التحول إلى شخصية محوطة بالإعجاب، وكانت حيوات أعداد غفيرة من الرجال والنساء العاديين وحتى الأطفال تتحول بالكامل بتأثير هذا الرجل ضئيل البنية، الذي كان يطالب الجميع بالتحلِّي بأقصى درجات الإيثار والمحبة. ولم يكن حتى خصومه مستثنيين من ذلك. وكان يتم تحذير رجال الإدارة البريطانية المزمع إرسالهم إلى الهند لأداء ما يُفترض أنه واجبهم: "لا تقتربوا من غاندي؛ سيكسبكم إلى جانبه لا محالة". كان جواهرلال نهرو Jawaharlal Nehru واحدًا من الأوائل في الهند الذين لاقوا هذا القدر. كان والده، موتيلال نهرو Motilal Nehru، محاميًا يحظى بالنفوذ وينتسب إلى عائلة هندوسية على قدر كبير من الثراء والثقافة. وعندما عاد الشاب جواهرلال إلى الهند بعد إتمام دراسته الجامعية في كمبردج، حيث اعتاد على ممارسة لعبة البولو والتزلج على الثلج في جبال الإلب، كان غريبًا تمامًا عن أرضه وشعبه. ومع أن العادات البريطانية كانت هي السائدة في بيته، كان جواهرلال مستاء من الحكم البريطاني، فالتقى على الفور مع شباب "ثوريين" متحمسين كان يبدو لهم نهج اللاتعاون اللاعنفي سبيلاً في غاية البطء من أجل بلوغ الحرية. لكن غاندي جرَّده من كل حججه، إذ قال مخاطبًا أولئك الشباب: أنتم تتحدثون على الدوام عن الثورة. وها أنذا أخلق واحدة. ما هو الجوهر الثوري في العنف؟ إن كنتم حقًا تحبون شعبكم، أعينوني على التوضيح لهذا الشعب كيف يدير ظهره للعنف ويطرح الخوف جانبًا. لاقى هذا التحدي صدى في نفس نهرو. لم يكن يهم أنه وغاندي قطبين متنافرين في الكثير من مواقفهما ومعتقداتهما؛ لقد كان غاندي رجلاً من الصعب مقاومة سحره. وتخلى نهرو عن ملبسه الأنيق وعاداته المترفة وبدأ في إغداق ثروته وموهبته لصالح حركة غاندي من أجل الاستقلال. كان هذا أكثر مما يحتمله موتيلال نهرو. فقد عمل على تنشئة ابنه على مبدأ الافتداء بالمال، وبسبب حبه الشديد له، لابد أن حدثًا جللاً نزل به وهو يرى نبذًا من ابنه لكل ما تربَّى عليه. وأخيرًا ذهب لمواجهة غاندي شخصيًا، وناشده قائلاً: "لقد أخذت منا ابننا الوحيد. أعده لنا وسأضع ثروتي كلها تحت تصرف حملتك". كان غاندي يصغي إليه وهو يهز رأسه، ثم قال له بابتسامة عابثة: "ما أريده ليس ابنك فقط. أريدك أنت وزوجتك وفتياتك وبقية العائلة أيضًا". وبالفعل استطع كسبهم، واحدًا تلو الآخر، بدءًا من موتيلال نفسه. كان غاندي الخصم الأكثر إرباكًا لكل من واجههم. كانت كل حركة يأتي بها تلقائية، وكانت كل سنة تمر تجعله أكثر شبابًا وأعمق جذرية وأوسع خبرة. كان رجالات الإدارة البريطانية في حال من الحيرة والسخط تجاه هذا الرجل الضئيل البنية الذي كان ينسحب عندما يكونون على وشك الهجوم ويهاجم عندما يهمُّون بالتراجع، ويبدو على أنه الأقوى يومًا بعد يوم. لم يكن أحد يعرف ما هي خطوته التالية، إذ لم يكن محرضه على العمل حسابات تافهة لما تبدو أنها أغراض نفعية من الوجهة السياسية، بل حدس عميق كان يأتيه على الغالب في الربع ساعة الأخير فحسب. ما من دليل أكثر وضوحًا على هذا من ساتياغراها الملح في العام 1930 التي لفتت انتباه العالم إلى كفاح غاندي والهند عامة. حتى ذلك الوقت، ولمصلحة الحملة، كانت الهند تسعى إلى وضع سيادي فحسب ضمن الإمبراطورية البريطانية. لكن مرَّت عشر سنوات مريرة من القمع منذ أن بدأت حركة اللاتعاون، وبريطانيا العظمى لا تفعل شيئًا سوى تشديد قبضتها على الشعب الهندي. وفي الأول من كانون الثاني (يناير) عام 1930، وفي خطوة مفاجئة ومؤثرة، رفع حزب المؤتمر الهندي راية أمة جديدة ليقود كفاحًا من أجل استقلال تام. كان الجميع يترقَّب غاندي لفهم ما سيحدث لاحقًا. وقد بدا أن حملة ساتياغراها جديدة على وشك الانطلاق، لكن لم يكن لدى أحد، ولا غاندي نفسه، أدنى فكرة عمَّا ستكون عليه هذه الحملة أو متى ستنطلق. ومرَّت أسابيع كان خلالها يتصاعد التهديد بالعنف، لكن غاندي بقي ملتزمًا الصمت. كانت الحكومة تنتظر بقلق؛ تخشى اعتقال غاندي، لكنه تخشى أيضًا من إبقائه طليقًا. وأخيرًا، بعد أسابيع من التروِّي، أتى الجواب إلى غاندي في منام من مناماته؛ فكرة مدهشة في بساطتها. كانت الحكومة قد فرضت قانونًا يحرم الهنود من تحضير الملح الخاص بهم، لإجبارهم على الاعتماد على الاحتكار البريطاني المطلق لما هو ضرورة حياتية في بلد استوائي. كان القانون بالنسبة لغاندي مثالاً صارخًا على الاستغلال الاستعماري. فاقترح القيام بمسيرة مع 78 من أكثر مريدي الأشرم موثوقية إلى بلدة دَندي Danai الساحلية الصغيرة، التي تبعد قرابة 240 ميلاً، حيث يطرح البحر على رماله الملح مجانًا. وعندما أعطى غاندي الإشارة، كان الجميع في الهند على أهبة الاستعداد للتصرف وكأن قوانين الملح لم تكن إطلاقًا. مع حلول صباح اليوم المحدد للمسيرة، تجمع حشد هائل من البشر خارج أشرم غاندي لإلقاء نظرة قد تكون أخيرة على هذا الشخص الضئيل البنية الذي هو على وشك أن يقلب الهند رأسًا على عقب. كانت مسيرة ملحمية، أسرت انتباه متتبِّعي الأخبار في كل مكان في كل مرحلة من مراحلها. حينذاك، كان غاندي في الحادية والستين من عمره، لكنه لم يبدُ يومًا أفضل مظهرًا من ذاك اليوم. كان يمشي بخطوات رياضية، رشيقة وخفيفة، قاطعًا قرابة 12 ميلاً يوميًا. وكان يتوقف في كل قرية على الطريق لكي يعظ بإنجيل أهِمسا وواجب اللاتعاون اللاعنفي. وفي كل مكان حلَّ فيه، كان الناس يتوافدون بأعداد ضخمة للقائه، محتشدين على جوانب الطرق الواصلة بين البلدات، وقد فرشوا الأرض بالزهور. ولدى وصوله إلى دَندي، بعد 24 يومًا، كان جيشه اللاعنفي المؤلف من 78 شخصًا قد تضخم إلى عدة آلاف. أمضى غاندي ومريديه ليلة وصولهم بطولها يصلُّون استمدادًا للقوة من أجل مقاومة العنف الذي قد يتفشى بسهولة في صفوف مثل هذا الحشد الضخم. ومع بزوغ الفجر، اتجهوا بهدوء صوب البحر، وتوقف غاندي، الذي كانت آلاف الأعين تراقب كل إيماءة منه، والتقط قَبْضة ملح من على الرمال. كانت الاستجابة فورية؛ زحفت حشود هائلة، رجالاً ونساء وأطفالاً، على طول الساحل الهندي نحو البحر لجمع الملح في عصيان صريح للقوانين البريطانية. وأصبح ملح بلدهم المحظور عليهم قانونيًا يُباع علنًا بأسعار مخفضَّة لأهالي المدن الذين لم يتمكنوا من خرق القانون سوى بشراء هذا الملح. كانت البلاد بأسرها تعلم أنها قد تحررت من أغلالها، وعلى الرغم من وحشية انتقام رجال الشرطة، شاع جو من الابتهاج في كافة أنحاء البلاد. بعد أشهر، كان غاندي يتباحث مع اللورد إيروِن Lord Irwin في موعد تناول الشاي، فاستلَّ كيسًا ورقيًا صغيرًا من بين طيَّات ردائه، وأمام عيني نائب الملك الدهشتين، سكب بعضًا من محتواه في كوبه، وقال بعبث: "سأضع قليلاً من هذا الملح في كوبي لكي يذكِّرنا بحفلة شاي بوسطن الشهيرة". وكان اللورد إرويِن يتمتع بما يكفي من الكياسة لكي يشارك غاندي الضحك. انطلق العصيان المدني بشكل عفوي في كافة أرجاء البلاد لأسابيع بعد إشارة غاندي. اُعتقل الآلاف، وضُرب الآلاف أو قُتلوا بدون أدنى إشارة لمقابلة العنف بمثله. وعلى نحو غير قابل للتفسير، بقي غاندي طليقًا. كان الوحيد القادر على حفظ النظام في تلك الحركة الكاسحة التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها، والتي هزَّت شبه القارة الهندية من جبال الهيمالايا إلى البحر. في ليلة تلت حملة اعتقالات واسعة جديدة، تجمع حشد لإقامة صلاة المساء في معسكر عمل غاندي، وهو عبارة عن بضعة أكواخ صغيرة مكشوفة مُشادة من سعف النخل يقع في منتصف الطريق بين بلدة دندي وساحل البحر. في تلك الليلة كان حديث غاندي أكثر رصانة مما هو معتاد. وبعد الصلاة والإنشاد تُليت قائمة طويلة بأسماء المعتقلين بصوت عالٍ على ضوء شاحب منبعث من مصباح إعصاري (هُركين Hurricane). كان الحشد يتفرق في العادة بعد الصلاة، ويختلي غاندي ومعاونيه بأنفسهم بقية الليل. لكن قلَّة في ذلك المساء استطاعت النوم. لقد بدا اعتقال غاندي وشيكًا، وكان الجميع في حالة من الترقُّب والتخمين والقلق عليه. وصل رجال الشرطة في منتصف الليل، يرافقهم 30 رجلاً مزوَّدين بأسلحة نارية. كان من المستحيل عليهم تمييز غاندي في تلك العتمة أو تخمين أين يمكن أن يكون. وأخيرًا أشار أحدهم إلى صرَّة بيضاء صغيرة في أحد الأكواخ المفتوحة: "ذلك هو غانديجي". وسط كل تلك البلبلة، كان قائد الزلزال الوطني ينام ملء جفنيه كطفل صغير، واثقًا بيقين مطلق أن الرب يرعاه. أيقظه الضابط البريطاني مسلِّطًا ضوء مصباح يدوي على وجهه: "جئنا لاعتقال م. ك. غاندي". أجاب غادي بتهذيب: "أنا موهنداس كرمتشند غاندي. أنا تحت تصرفك". قال الضابط: "جهز أغراضك من فضلك، وسنمنحك الوقت الذي تحتاجه". قال غاندي مشيرًا إلى صرَّة صغيرة على الأرض: "أنا جاهز الآن، هذه هي كل ما أحتاجه". وتحت أنظار رجال الشرطة، بدأ في تنظيف أسنانه القليلة بطريقته المتمهلة المعتادة. ثم، بعد صلاة قصيرة، التفت إلى الضابط المسؤول وخطا برشاقة نحو السيارة التي تنتظر في الخارج، متحدثًا بجذل مع مرافقيه. كان يعرف أن غيبته ربما تطول سنوات، ومع ذلك لم يكن هناك أي أثر للخشية أو الامتعاض في سلوكه. كان رجال الشرطة متأثرين بالوقار المتواضع لهذا الرجل النحيل إلى حدٍ بدا لهم أنهم سجناءه وليسوا سجَّانيه. كان يبدو في أفضل أحواله في مثل تلك المواقف، وفي ذروة قوته وهو تحت الضغط. كان حرًا سواء في داخل السجن أو خارجه. في تلك الأثناء، كان أكثر من ستين ألف ساتياغراهي في السجون. كان غاندي مثالاً لهم جميعًا. وبالنسبة إليه، لم يكن السجن شدَّة وإنما إكليل غار، لأنه كان يعلم أن القدرة على المعاناة بشجاعة من أجل مثال أعلى هي القوة التي ستجعل من كل رجل وامرأة في الهند إنسانًا حرًا. كان يتقبَّل احتمال السجن بمثل هذا المرح والمزاج الطيب مما حدا بالناس في كافة أنحاء البلاد إلى الهزء من مخاوفهم الخاصة. وأصبحت السجون البريطانية مواقع لعمليات لمِّ شمل احتفالية حيث كان القادة السياسيون الهنود المعتقلون يجدون أنفسهم وسط عائلاتهم وأصدقائهم. وكان غاندي يرسل لهم برقيات تهنئة. وكان هو نفسه قد اُعتقل مرات عديدة إلى درجة بدا أنه دومًا إما في السجن، أو مُطلق السراح للتو، أو على وشك دخول السجن مرة أخرى. كان غاندي منفصلاً تمامًا عن محيطه المادي إلى حد أن الذهاب إلى السجن لم يكن يُوقع الفوضى في عمله على الإطلاق، وقد عقد بعضًا من أشدِّ الصفقات صعوبة من خلف أسوار السجن. كانت تلك الأسوار عادة هي أسوار سجن ييرافدا Yeravda، حيث أحس ذات مرة أنه بيته، عندما سأله مُحقِّق بريطاني عن عنوانه، فأجاب: "ييرافدا". عندما يقوم إنسان بما يقوم به بروح من التقوى، فكل مكان يذهب إليه يكون مقدسًا، وقد اعتاد غاندي على تدوين Yeravda Mandir على رسائله في السجن، والتي تعني "معبد ييرافدا". كان يستهل يومه قبل الفجر بالتأمل والصلاة، حيث كان يستمد منهما قوة للصمود أمام ما يترتب على مواقفه من ذيول. كان قادرًا على قراءة الكتاب المقدس والقرآن وبهَغَفاد غيتا، وإجراء مراسلاته الغزيرة المعتادة كل يوم. كان هناك مقدار وافر من العمل الجسدي المطلوب إنجازه، وعدد وافر من الأعداء المفترضين وينبغي كسبهم كأصدقاء. كان يُعنى بهم جميعًا، بل ويشرف على تمريضهم عندما يمرضون، وكل يوم يمضيه في السجن كان يضيف إليه بُعدًا من النمو الروحي وتحوُّلاً أكثر إلى النهج اللاعنفي والكفاح من أجل الاستقلال. ما من مدى زمني محدد للساتياغراهي، ولا حد لطاقته على تحمل المعاناة. ومن هنا، ليس هناك ما يُدعى هزيمة في الساتياغراها. مصدر البهجة يكمن في الكفاح، في المحاولة، في المعاناة الناجمة عن ذلك، وليس في الانتصار بحد ذاته. لقد تعلمت من خبرتي المريرة الدرس الأسمى الوحيد لكبح غضبي، وتحويله، تمامًا كتحويل الحرارة المحفوظة إلى طاقة. فغضبنا المنضبط يمكن تحويله إلى قوة قادرة على تحريك العالم. من شبه المستحيل إدراك مقدار ما قد أُطلق له العنان من كراهية وعنف في الكفاح من أجل الاستقلال السياسي. كانت الهند تغلي غضبًا جراء الاستغلال البريطاني، وقد أهدرت الكثير والكثير من مقاومتها في خطب الشجب والاستنكار والاتهام المشحونة بالكراهية والتحريض على الانتقام. لكن غاندي قبض على هذا الغضب ووضعه في سكة العمل تحت انضباط الساتياغراها الصارم، مُبيِّنًا بمثاله الشخصي كيف يمكن منازلة الحكومة البريطانية بكل الوسائل اللاعنفية المتاحة، وبمحبة واحترام تامّين للشعب البريطاني أيضًا. كان يعرف أن الكثير ممن جاهروا بالولاء له ليسوا مؤهلين لمثل هذا النهج اللاعنفي. لكن في كل مناسبة كان يتفجر فيها العنف من قبل أولئك الساعين إلى الحرية بالقوة، حتى لو بدا النجاح وشيكًا، كان غاندي يعلِّق غاندي هجومه. لم يكن ليقود حملة للساتياغراها إن عرف أن ثمة مقدار ضئيل من العنف سيُرتكب. تدريجيًا، ومع تزايد قمع الحكومة البريطانية للشعب الهندي، بدأ الشعب البريطاني يعي أن حرمان الهنود من حريتهم السياسية لا يسبب ضررًا للهند فحسب، وإنما لبريطانيا العظمى أيضًا. فالشباب المُدرَّبون جيدًا – جنودًا ورجال أعمال كان بمستطاعهم، في ظروف أخرى، إثبات أقصى درجات الشجاعة والتضحية بالذات – الذين كانت إنكلترا تقدمهم قربانًا لمطامحها الاستعمارية، كانوا يُستجَّرون إلى شبكة تلك المطامح في الهند وتتحجَّر قلوبهم تجاه أولئك الذين يحكمونهم، وفي الوقت ذاته كانت حكومة بريطانيا العظمى مجبرة على التضحية أكثر فأكثر بالقيم الإنسانية لحماية أرواح وثروات مثل هؤلاء الأشخاص. وبسبب قناعته أن الإنكليز هم أخوة وأخوات له بقدر ما هم الهنود، مهما كانت أشكال أعمالهم، كان بوسع غاندي الالتفات إلى المستغِلين مخاطبًا: "لن نرضخ لهذا الظلم... ليس لمجرد أنه يدمرنا، بل لأنه يدمركم أيضًا". وبالتدريج بدأ موظفون بريطانيون، ومن مناصب عليا حتى، بالاقتناع بهذه الرؤية، والتحق الكثير من المواطنين البريطانيين بغاندي للعمل معه في الكفاح من أجل هندٍ حرة، سياسيًا واقتصاديًا. باعتقادي.. بمقدار ما يحقق الإنسان من بعد روحي، العالم برمته يكسب، وبمقدار ما ينحدر روحيًا، ينحدر العالم إلى ذات المدى. حين أمدُّ يد العون لخصومي أكون، في الوقت ذاته، عونًا لنفسي ولرفاقي. كان غاندي في السجن عندما قرر البريطانيون الدعوة إلى انعقاد "مؤتمر طاولة مستديرة" للبتِّ في مصير الهند. كان "الممثلون" الهنود، الذين دعاهم موظفو التاج البريطاني إلى حضور المؤتمر، هم المهراجات (الأمراء) والسياسيين المدعومين من قبل الحكم البريطاني إلى حد كبير. وقد روى ستانلي جونز، المبشِّر الأمريكي وصديق غاندي، أن اللورد إروين، نائب الملك والحاكم العام في الهند، سأله إن كان ينبغي دعوة غاندي أيضًا إلى المؤتمر، فأجابه: "غاندي هو الهند؛ إن دعوته، فأنت تدعو الهند، وإن لم تفعل، لا يهم عندئذ من تدعو، فالهند برمتها ستكون غائبة". وهكذا قدَّم اللورد إروِين، بإحراج واضح، دعوة جلالة الملك لغاندي القابع في زنزانة في سجن جلالته، سجن ييرافدا. كان الوضع في لندن مختلفًا تمامًا عن أيام ما كان غاندي يدرس القانون. فهو يعود الآن بوصفه ضيفًا للتاج البريطاني، ممثلاً خُمس سكان العالم. لكنه عندما وصل إلى لندن، قلب كثيرًا من ترتيبات الأبهة المُعدَّة له لكي يتمكن من الإقامة في أحد أكثر القطاعات فقرًا في الهند، إيست إند East End. لقد أسر قلوب الناس هناك، وخصوصًا الأطفال. كان يمازحهم ويلعب معهم قليلاً كل يوم، مهما كان جدول أعماله مزدحمًا. وكانوا يركضون خلفه أثناء تنزُّهه في الصباحات الضبابية في أحياء لندن الفقيرة، محاولين مجاراة خطواته الواسعة وهم يصرخون بدعابة: "هيه، غاندي، أين بنطالك؟". خلال وجوده في إنكلترا، أصر غاندي على القيام بزيارة إلى لانكشاير، حيث توجد معظم معامل النسيج في بريطانيا. كان المطلوب من الهند، تحت الحكم الاستعماري، تصدير كل منتوجها من القطن بسعر بخس إلى إنكلترا، حيث يُصنَّع قماشًا في معامل لانكشاير ويُعاد بيعه للفقراء في الهند بأسعار تفوق سعر القطن المُصدَّر أضعافًا مضاعفة. وكان غاندي يحضُّ كل الهنود، أغنياء وفقراء على تعلُّم المهنة الموغلة في القدم، الغزل اليدوي، لكي يتمكن الناس في سبعمائة ألف قرية مُفقرة في الهند من استعادة عمالة وطنية واعتماد على النفس واحترام ذاتي. كما كان يطلب من كل الهنود ارتداء الخادي Khadi، القماش الأبيض الخشن المحلي الصنع، ومقاطعة القماش الأجنبي. وغدا الخادي رمزًا للاستقلال، والالتحام أيضًا بين الطبقات العليا والوسطى في المجتمع الهندي والغالبية الواسعة من الفقراء. حتى كبار الزعماء الهنود، مثل جواهرلال نهرو، كانوا يمضون قسطًا من وقتهم يوميًا في نسج الخادي، فما من مؤيد للاستقلال، غني أم فقير، كان يحلم بارتداء لباس آخر. وكان حماة الإمبراطورية، أمثال السير ونستون تشرشل Sir Winston Churchill، يستشيطون غضبًا وهم يرون غاندي ملتحفًا مئزره وشاله المصنوعين من الخادي حتى في مواعيد شرب الشاي في قصر بكنغهام، وساعة الجيب الفضية العتيقة تتدلى من سلسلة مربوطة بمعصمه. وذات مرة، سأله أحد المراسلين الصحفيين الإنكليز: "سيد غاندي، ألا تعتقد أنك كنت ترتدي القليل من اللباس مما لا يليق بالمناسبة؟". فأجابه غاندي: "لقد كان جلالته يرتدي ما يكفي لكلينا". وأخيرًا، اضطرت معامل النسيج في لانكشاير إلى الإعلان عن توقف مؤقت للعمل، وسُرِّح الآلاف من العمال البريطانيين من أعمالهم. وأصبحت لانكشاير تعجُّ بالأيدي العاملة العاطلة عن العمل الذين يغلون بالنقمة والسخط على غاندي مُحمِّلين إياه مسؤولية ما حدث لهم. بيد أن غاندي كان يعرف أن بمستطاع العمال الإنكليز والهنود تفهُّم بعضهم البعض إن أُتيحت لهم الفرصة لذلك. ورغم خشية الحكومة البريطانية على سلامته، ذهب إلى لانكشاير للدفاع عن قضية شعبه. تجمَّع حشد كبير من العمال للقائه، رجالاً ونساء، ممن كانوا يشعرون بأنهم خسروا أعمالهم بسبب هذا الرجل وحده. خاطبهم غاندي بهدوء: أصغوا إليَّ، من فضلكم، لبضع دقائق فقط. امنحوني فرصة لكي أعرض وجهة نظرنا، ومن ثم، إن شئتم، أحكموا علي وعلى شعبي. أنتم تقولون إن ثلاثة ملايين شخص عاطل عن العمل هنا منذ عدة أشهر. في بلدي، هناك ثلاثة آلاف مليون عاطل عن العمل لمدة ستة أشهر على الأقل سنويًا. وتقولون إنكم تمضون أيامًا لا تتناولون فيها سوى الخبز والزبدة كوجبات رئيسية. لكن أولئك الناس، في الهند، غالبًا ما يمضون أيامًا بطولها دون أن يجدوا ما يسدُّ رمقهم على الإطلاق. بهذه العبارات الصريحة المتَّسمة بالاحترام، لكن الحازمة تمامًا، حاز غاندي على إعجابهم، فهتفوا له في ختام حديثه؛ ذلك الرجل الذي كان سببًا في بطالتهم. إنها ]ساتياغراها[ قوة تعمل بصمت وببطء ظاهري. وفي الواقع، ما من قوة في العالم تضاهي صراحتها وسرعتها في العمل. اللاعنف والجبن لا يتماشيان. بوسعي تصوُّر شخص مدجَّج بالسلاح لكنه رعديد في داخله. حيازة السلاح تنمُّ عن قدر من الخوف، إن لم يكن الجبن. بيد أن اللاعنف الحقيقي أمر مُتعذَّر دون امتلاك جرأة غير زائفة. كان غاندي يؤكد دومًا على أنه من اليسير على الشخص القوي أن يصبح لاعنفيًا، وهو أمر يفوق طاقة الضعيف. فاللاعنف يعني القدرة على محبة الذين يكرهونك، والتحلِّي بالصبر وإبداء التفهُّم إزاء التناقضات المضطرمة. إنه المبدأ الأكثر صعوبة الذي يمكن للإنسان تعلُّمه في الحياة، ولهذا وَرَد في البهَغَفاد غيتا أن من يريد رؤية الشجاع عليه النظر إلى من يستطيع المغفرة. فإذا كنت تريد رؤية البطل، عليك النظر إلى من يستطيع مقابلة الكراهية بمحبة. ما من مكان تجلَّى فيه هذا التحول أكثر مما بدا في المقاطعة الحدودية الشمالية الغربية في الهند، بين الجبال الوعرة بالقرب من ممر خيبر Khyber Pass، حيث نشأ قائد عظيم اشتهر بلقب "غاندي الحدود" Frontier Gandhi. كان خان عبد الغفار خان Khan Abdul Ghaffar Khan ينتمي إلى مجتمع محلي يسوده قانون "العين بالعين والسن بالسن". كان قومه، الباتان Pathans (قبائل البشتون)، مقاتلين شديدي البأس يتَّقد التوق إلى الحرية بين جوانبهم. ورغم أن القوات البريطانية أفلحت في احتلال المقاطعة، بقي الكثير من الممرات الجبلية خارج سيطرتها. وعندما أراد غاندي الذهاب إلى تلك المقاطعة، خشيت الهند كلها على حياته. وحاول أصدقاؤه ثنيه عن عزمه: "إنهم أناس عنيفون. ما الفائدة من الذهاب إليهم؟ إنهم لا يعرفون سوى القتال". أجاب غاندي: "وأنا مقاتل أيضًا. أنا أريد أن أعلِّمهم كيف يقاتلون بدون عنف... بدون خوف". تجمع حشد من الباتان المتشكِّكين، والبنادق متدلية من أكتافهم، لرؤية ذاك الشخص الهزيل بمئزره منتصبًا أمامهم. سألهم بلطف: "هل أنتم خائفون؟ لماذا عليكم أن تحملوا هذه الأسلحة؟". كانوا يحدِّقون فيه مشدوهين. لم يكن أحد قد تجرأ قبلاً على مخاطبتهم بهذه الطريقة. وأضاف غاندي: "أنا لست خائفًا، ولهذا لست مسلحًا. هذا ما تعنيه أهِمسا". ألقى عبد الغفار خان سلاحه، وحذا الباتان حذو قائدهم، وهكذا أصبحوا من أبسل أتباع درب غاندي في المحبة. عقيدتي في اللاعنف هي قوة بالغة الفاعلية. لا مكان للجبن أو حتى الضعف. ثمة أمل للشخص العنفي في أن يكون لاعنفيًا يومًا ما، لكن لا أمل للجبان في ذلك. القوة لا تتأتَّى من الطاقة الجسدية، وإنما من إرادة لا تُقهر. سَمِّهِ ما شئت من الأسماء، ذاك الذي يهب أعظم العزاء وسط النيران الملتهبة هو الله. جاء في الكتاب المقدس: "المحبة الكاملة تنبذ الخوف". وأهِمسا محبة كاملة. إنها أبعد من أن تكون مجرد فكرة عاطفية؛ إنها تحدٍ مستمر ما استمرت الحياة، ومعركة لا نهاية لها في داخل المرء، حافلة بالعقبات الشائكة والمحن القاسية جعلت الذين خطوا في درب المحبة، من شتى التقاليد الدينية، يزعمون أنها أمضى من نصل الشفرة. وقد صاغ غاندي المسألة بوضوح: عندما يعنيك صالح شخص ما أكثر مما يعنيك صالحك، وعندما تعنيك حياته أكثر من حياتك، عندها فقط بوسعك القول أنك تحب. ماعدا ذلك هو مجرد علاقات عمل، عطاء مقابل أخذ. فاتساع هذه المحبة لتشمل حتى أولئك الذين يكرهونك، هو بلوغ إلى المدى الأقصى لأهِمسا. إنه يلامس حدود الوعي ذاته. كان غاندي رائدًا في عوالم الوعي الجديدة هذه. فكل ما كان يقوم به لم يكن سوى تجربة تهدف إلى توسيع قدرة الإنسان على المحبة، وكلما نمت قدرته على المحبة، اشتد تطلُّبه للمحبة أكثر فأكثر، وكأنما كان يختبر مدى ما بوسع الكائن البشري تحمُّله. لكن غاندي كان قد تعلم اكتشاف فرح عارم وسط هذه العواصف والمحن. ومرة تلو الأخرى، عندما كان العنف يضرب حوله ويبدو من العصيِّ مواجهته، كان يلقي بنفسه في غمار المعركة دون تفكير بعزاء أو سلامة شخصية، وفي كل مرة، في ربع الساعة الأخير، تفيض في داخله قوة عميقة تزوِّده بذخر جديد من الطاقة والمحبة. وفي سنواته الأخيرة كان مفعمًا بمحبة للإنسانية تشتعل في داخله ليل نهار مثل نار يصعب إخمادها. التحديات التي واجهها في ختام حياته كانت من بين أعظم المآسي التي شهدها التاريخ. فعشيَّة الاستقلال، كانت الحرب الأهلية بين الهندوس والمسلمين في طور المخاض. كل القوى الحكومية كانت عاجزة عن إيقاف المذابح التي كان يرتكبها الطرفان يوميًا تقريبًا. ولأن غاندي كان يعلِّم ويعيش التآخي بين الأديان كافة، كان مبغوضًا بشدة من قبل الهندوس والمسلمين على حد سواء. لقد لامس شلال الدم والتدمير أعماق كيانه. فرغم أنه كان في منتصف السبعينات من عمره، ذهب مباشرة إلى قلب العنف، وسار حافي القدمين عبر القرى النائية المنكوبة في ولاية بيهار Bihar ونوخالي Noakhali، فكان أشبه بقوة سلام مؤلفة من رجل واحد، معتمدًا حتى في طعامه على رحمة أعدائه. وأرسل بعضًا من أكثر أتباعه ثقة، ممن اُختبروا في حملات أخرى وتمكنوا من إثبات رسوخ في شجاعتهم ومحبتهم، إلى قرى أخرى لكي يحذوا حذوه. لم يكن لديهم أية تعليمات سوى أن يعيشوا الحقائق التي ذهبوا لكي يعلِّموها: المحبة والاحترام للناس كافة، والاعتماد الكامل على الذات والجسارة المطلقة لأهِمسا. من يرتعد أو يلوذ بالفرار حين يرى شخصين يتقاتلان هو ليس بالشخص اللاعنفي، بل جبانًا. فاللاعنفي هو من يضحي بحياته في سبيل منع مثل هذا القتال. القوة العددية لا تُبهج إلا الرعديد؛ باسل الروح يفخر بالقتال وحيدًا. كانت نذر الحرب الأهلية، بالنسبة لغاندي، محكًّا عسيرًا لأهِمسا، فتفجرت كل قواه لملاقاة هذا التحدي. كان يمشي ويعمل ويكتب ويتحدث ما بين 16 و20 ساعة يوميًا. وبعظمة مثاله الشخصي، كان حيثما حلَّ يزيل الحواجز التي نصبتها الأعراف الدينية والمعتقدات الخرافية وانعدام الثقة. وفي كل مجتمع محلي كانت تحدث بعض الخوارق الصغيرة: عائلات مسلمة تخاطر في توفير ملجأ له؛ مجرمون وقطاع طرق يأتون إليه ليسلموا أسلحتهم ويعيدوا ما كانوا قد سلبوه، أو ليقدموا إليه أموالاً لإغاثة المنكوبين. وفي إحدى القرى، كما يُروى، هجم متهوِّر طائفي معروف برداءة خلقه على غاندي، أمام أنظار الجمع المشدوه، وأطبق بيديه على عنق غاندي النحيل حتى كاد يزهق روحه. ونتيجة للشموخ الذي نمَّاه غاندي في داخله، لم تصدر عنه نأمة احتجاج، لم يُرصَد حتى بصيص عداوة في عينيه. استسلم غاندي بالكامل لفيض المحبة المتدفق في داخله، فانهار الرجل منتحبًا كطفل صغير عند قدميه. لقد بدا الأمر معجزة بالنسبة لمن كان يراقب المشهد. أما بالنسبة لغاندي، الذي كان قد اعتاد على "معجزات" المحبة، فلم يكن الأمر سوى إثبات للمرة المائة في حياته على عمق كلمات البوذا الرحيم: "لم تُلجَم الكراهية بالكراهية في أية مرة؛ المحبة هي من تلجم الكراهية. إنه ناموس راسخ". التقوى ليست مجرد تعبُّد شفوي، بل صراع مع الموت. السياسة قد تتغير، وهي تتغير بالفعل، أما اللاعنف فهو عقيدة غير قابلة للتغيير؛ إنه مسعى متواصل ضد العنف الهائج من حولنا. اللاعنف لدى الإنسان اللاعنفي ليس ميزة. فإن كان كذلك، يصبح من الصعب القول فيما إذا كان لاعنفًا حقًا. لكنه عندما يتصدى للعنف، يدرك المرء حينها الفارق بين الحالين. وهذا ما ليس بوسعنا إدراكه ما لم نكن يقظين ومحترسين ومجاهدين. هل امتلك لاعنف الشجعان في داخلي؟ موتي وحده سيبيِّن ذلك. فإن قُتلتُ وفارقت الحياة وأنا أنطق بالصلاة من أجل قاتلي، وذكر الله والوعي به حاضر في محراب قلبي، عندها فقط يمكن القول أنني كنت لاعنفيًا شجاعًا. الهدف لا يفارق نواظرنا. وكلما توغلنا صوبه أكثر، زاد إدراكنا لنواقصنا. والرضا يكمن في المسعى صوب الهدف، وليس في بلوغه. فالمسعى الكامل هو نصر كامل. ترجمة: غياث جازي *** *** *** ٭ فصل من كتاب غاندي الإنسان، إكناث إيسوران، ترجمة غياث جازي. قيد الطباعة حاليًا. |
|
|