الصفحة السابقة             الصفحة التالية

غاندي المتمرد 7: ضيف الحكومة

 

جان-ماري مولِّر

 

لكنْ لن يكونَ لدى غاندي الوقتُ حتى لكي يوصلَ هذه الرسالةَ إلى نائب الملك[1]. وفي ليلة الرابع إلى فجر الخامس من أيار/مايو 1930، جاء ما يقاربُ الثلاثين شرطيًا هنديًا مسلَّحين بإمرة ضابطَين اثنين وموظَّفٍ إنكليزي ليعتقلوه في قرية كارادي [كَرَدي] Karadi على بعد بضعة كيلومترات شمال دَنْدي Dandi. كانت الساعةُ تُقارِبُ الواحدةَ صباحًا وكان غاندي نائمًا. فأيقظَه الموظَّفُ وأعطاه ليقرأَ مُذكَّرةَ الإحضار التي بموجبِها تلَقَّى أمرَ القبض عليه. هذه المذكَّرة وقَّعها حاكمُ مومباي، السير فريديريك سايكلز Sir Frederick Sycles وقد حُرِّرَت على هذا النحو:

إنَّ الحكومة، إذْ تنظر بقلق إلى نشاطات موهانداس كارامشاند غاندي، تأمر بأنْ يوضعَ هذا الأخيرُ في حالة اعتقال طبقًا للنظام رقم 35 لعام 1827 ويبقى معتقَلاً بحسب ما تشاء الحكومة، وبأنْ يُنقَلَ مباشرةً إلى سجن ييراﭭـدا Yeravda المركزي[2].

وبعد أنْ أخذ غاندي وقتًا لكي يتوضَّأَ ويصلِّيَ، اقتيدَ بشاحنة كانت تنتظره. ومن ثم أخذوه إلى القطار، حيث خُصِّصَت عربةٌ خاصة له ولحراسته من عناصر الشرطة في القطار السريع أحمد أباد – بومباي. وأنزلوه في محطة بوريـﭭـلي Borivli التي تبعد حوالي عشرين كيلومترًا عن بومباي، ومن هنا أخذَتْه سيارةٌ إلى سجن ييراﭭـدا Yeravda. وهكذا بقيَ غاندي معتقَلاً شهورًا طويلةً دون أنْ يحاكَمَ أبدًا.

بتاريخ 5 أيار/مايو، نشرَت حكومةُ بومباي بيانًا صحفيًا تُقدِّم فيه أسبابَ اعتقال غاندي:

إنَّ حملة العصيان المدني التي كان السيد غاندي المحرِّضَ عليها ورئيسَها قد أدَّت إلى اضطرابات خطيرة في جميع بقاع الهند.

فعلى الرغم من أنَّ هذه الحركةَ تميل من حيث المبدأ إلى اكتساب صفة لاعنفية، فإنَّ الحقيقة هي أنها أدَّت إلى أعمال عنف تتكرَّر أكثرَ فأكثر. ومن البديهي أنَّ السيد غاندي لم يعدْ قادرًا على السيطرة عليها.

فمنذ أنْ تركَ السيد غاندي أشرمَه في أحمد أباد، تبَـنَّت حكومةُ بومباي سياسةً تتَّسم بأكبر قدر من الاعتدال. فقد آثرَت أنْ تُخاطِرَ بأنْ تُتَّـهَمَ بالضعف مع القناعة الراسخة بأنَّ مهاجمة القوانين المفروضة على المِلْح، فيما لو استُبعِدَ العنفُ من الطرق المستخدمةِ للقيام بهذه المهاجمة، كان من المفروض منها أنْ تنتهيَ بعدَ وقت قليل إلى خاتمة سِلْمية. وقد أظهرَت الأحداثُ أنَّ قوانين الطبيعة لا ترحم وأنَّ تاريخَ حركة اللاتعاون الأخيرة كان سيتكرَّر بمَواكبِها من النار والدم فيما لو أُتيحَ لحملة السيد غاندي أنْ تتواصلَ بدون عائق.

في هذه الظروف، توصَّلَت حكومةُ بومباي، بالاتِّفاق التام مع حكومة الهند، إلى نتيجة مفادها أنه لم يعدْ من الممكن تركُ السيد غاندي يتحرَّك بحرية من دون أنْ يَنتُجَ عن ذلك مخاطرُ عظيمةٌ على الهدوء في الهند. فتقرَّرَ أنْ يكون مِن الأنسبِ، بالقياس إلى هذه الظروف، اللجوءُ إلى المادة 25 من القانون الصادر عام 1827 وتوقيفُه ضمن المدة التي ترتئيها الحكومةُ. وستُـتَّـخَذُ جميعُ الإجراءات للسهر على صحته وراحته خلال اعتقاله.

تُعَـلِّقُ مادلين سلاد Madeleine Slade، في مجلة الهند الفَـتيَّة Young India، على اعتقال غاندي بهذه الكلمات:

يمكنهم القبضُ على جسمه الضعيفِ وزجُّه في السجن. يمكن للجدران الثخينة لزنزانته أنْ تكتمَ صوتَه النقيَّ. لكنْ لا يمكن خنقُ روحه العظيمة. فتألُّـقُه سيتخطَّى الحواجزَ الماديةَ. وكلَّما عملوا على سحقِه تألَّقَ تألُّـقًا شديدًا، مضيئًا الهندَ بل العالَمَ أجمع[3].

ولم يتردَّدْ أحدُ الصحفيين من المطبوعة الهندية مودرن ريـﭭـيو Modern Review في أنْ يُجريَ مقارنةً بين اعتقال غاندي واعتقال يسوع. فيستشهد أولاً بإنجيل القدِّيس متَّى (الإصحاح 21، الآية 46) الذي يشير إلى أنَّ رؤساءُ الكهنة والفرِّيسيين أرادوا أنْ يُمسِكوا يسوع بعد أنْ سمعوا أقوالَه الهدَّامة، ولكنهم "خافوا من الجموع، لأنه كان عندَهم مثلَ نبي". فأشار عندئذٍ إلى أنَّ الأمر كذلك على الأرجح بالنسبة للسلطات البريطانية التي تدخَّلَت ليلاً بإرسال قاضٍ مع ضابطَين اثنينِ مسلَّحَينِ بمسدَّس وثلاثين شرطيًا مسلَّحِينَ ببنادقَ لإلقاء القبض على من كان ينادي باللاعنف. فاستشهد عندئذٍ بكلمات يسوع للذين جاؤوا يُمسِكونه: "كأنه على لصٍّ خرجْتم بسيوفٍ وعِصِيٍّ لتأخذوني؟ كلَّ يومٍ كنتُ أجلسُ معكم أُعَـلِّـمُ في الهيكل ولم تُمسِكوني" (متَّى، الإصحاح 26، الآية 55). عندئذٍ تخيَّـلَ الصحفيُّ أنَّ غاندي لربما تمكَّنَ من القول: "كأنه على سارق خرجتم بمسدَّسات وبنادقَ لتأخذوني؟ كتبْتُ إلى نائب الملك كلامًا اعتبرْتموه أراجيفَ [ملاقيح الفِتَن، جمْع إرجاف، ما يوقع الاضطرابَ ولا يصحُّ عندهم]، كلَّ يومٍ كنتُ أقول الأقوالَ نفسَها في القُرى وأُصَـنِّـع المِلْحَ ولم تُمسِكوني[4]".

حلَّلَت صحيفةُ لاكروا La Croix، في عددها الصادر بتاريخ السادس من أيار/مايو 1930، الموقفَ الذي سبَّـبه اعتقالُ غاندي على هذا النحو:

ما كان يتمناه غاندي منذ بداية حملته في العصيان المدني تحقَّقَ أخيرًا: اعتُـقِلَ المهاتما هذا الصباحَ في جلالبور. (...)

عندئذٍ بدأ القمعُ وكان شديدًا بقدر ما كان لا مفرَّ منه وذلك بالاتفاق بين حكومة الهند وحكومة لندن.

لا بدَّ بالتأكيد مِن توقُّعِ أنْ يسبِّبَ اعتقالُ غاندي ردودَ أفعال عنيفة من مناصري المهاتما وأنْ يزعزعَ أيضًا طمأنينةَ اللامبالين والتحَـفُّـظَ المشوبَ بالحذر للانتهازيين الذين يعيشون من سيطرة الإنكليز أو يرغبون في مداراتها.

ولكنْ مهما حصلَ فلا شيءَ بحسب ما نظنُّ يمكنه أنْ يُغيِّرَ من الحقائق التي على الهندوس أنْ يواجهوها.

وهي أنهم متفرِّقون وأنَّ الإنكليز أقوياءُ بفُرقة الهندوس.

وهي أنَّ مجمل السكان، ما عدا بعضَِ الأقاليمِ، لا يكترثون بالتطلُّعات القومية وينسجمون بسهولة مع نظام يؤَمِّن لهم استقلالاً وكرامةً أكبر. وأنَّ هذا النظام يريد جزءٌ من السكان المحافظةَ عليه، لأنهم يستمدُّون منه حمايةً وضمانًا لامتيازاتهم. أخيرًا فإنَّ الوجود الإنكليزي في الهند هو الحماية الوحيدة لهذا الشعب الهائل الذي سيكون فريسةً لاضطرابات وفوضى يسودها عنف لا حدَّ له فيما لو تخلَّى عنه "سيِّدُه" الأوروبي. (...)

وعليه، يمكن أنْ نعتبرَ أيضًا أنَّ بريطانيا العظمى ستقضي على أية ثورة عامة كما فعلَت في ظروف مشابهة، لأنَّ اللورد إيروين لم يقرِّر بالتأكيد أنْ يُفجِّرَ الموقفَ دون أنْ يكون قد اتَّخذَ الإجراءات الوقائية المناسبة لأي موقف يمكن في الحالة المعاكسة أنْ يُنذرَ بالخطر، في الأقاليم الحدودية الغربية على الأقل.

لقد اضْطَـرَّ اعتقالُ غاندي جريدةَ الأومانيتيه L'Humanité إلى تمرين إنشائي صعب. فواصلَت الصحيفةُ الشيوعيةُ تنديدَها بعمل العصيان المدني الذي شرعَ به غاندي مؤكِّدةً أن هذا العمل يخدم مصالحَ البرجوازية دون قصد، مضطرَّةً إلى الاعتراف بأن هذا العمل نفسَه يشدُّ أزرَ الحركة الثورية. جاء في مقال طويل نُشِرَ في الصفحة الأولى بتاريخ 6 أيار/مايو 1930:

يستحقُّ اعتقالُ غاندي اهتمامًا خاصًا لأنه مؤشر على الانطلاقة الرائعة للحركة الثورية لجماهير الهند وفي الوقت نفسه مؤشر على التخوُّف الذي يسود في لندن. (...) فلا البرجوازيةُ ولا حمْـلةُ المِلْحِ والمقاطعةِ التي قام بها غاندي استطاعتا أنْ توقفَ الانطلاقةَ الثوريةَ، بل على العكس جدَّدتا قوَّتَها: فكثُرَت أعمالُ التمرُّد وتدفَّقَت مظاهراتٌ هائلةٌ في شوارع المدينة الرئيسية وارتفعَت الحواجزُ ورفضَ الفلاَّحون دفعَ الضرائب، بينما شلَّت إضراباتٌ كبيرةٌ السككَ الحديديةَ وزادت المؤامراتُ من الروح القتالية للطبقة العاملة. (...) نقول، نحن، إنَّ الثورة لا بدَّ أنْ تَغلِبَ في الهند. ستَغلِبُ بالكفاح العنيف والثوري للعمال والفلاحين ضد الإمبريالية وبالعزيمة نفسها التي لا تـلين ضد الخونة البرجوازيين والبرجوازيين الصغار من أمثال غاندي.

كتبَتْ جريدةُ جنيـﭪ Journal de Genève في افتتاحيَّتِها للعدد الصادر بتاريخ 10 أيار/مايو 1930 ما يلي:

كان غاندي يريد أنْ يُعتقَـلَ؛ وقد قال ذلك منذ اليوم الأول لمسيرته إلى البحر. غاندي ليس رجُـلَ عملٍ. ينبغي عليه، كمعارض للعنف، أنْ يخشى من التجاوزات العنيفة لمُناصريه والملازمة للثورة. إذا كان يقودهم فإنه يتحمل مسؤوليةَ ذلك. وإذا كان في السجن فإن هذه التجاوزاتِ نفسَها التي تُعزى إلى غيابه لا بد لها أنْ تساهمَ في مَجْدِه.

لكلِّ امرئ مهنتُه. ومهنةُ غاندي ليست أنْ يكون قائدًا لزمرة تقوم بالمسير. إنَّ مهنتَه هي أنْ يكون رمزًا ورايةً وبكلمة مختصرة شهيدًا. فهو يعرِف شعبَه. ويَـعْـلَم أنَّ التصوُّفَ وحدَه يمكن أنْ يحرِّكَ هذا الشعبَ. لهذا التصوف لا بدَّ من وجود بطل – بطلٍ يتألَّم وينذرون أنفسَهم له. ذلك ما أراد غاندي أنْ يَـكُـوْنَه. فللآخرين العمل والمعركة والمَجْد ومقامات الشرف. وله التألُّـم والتأمُّـل وهالة المَجْد.

هذا الهدفُ قد بلغَه غاندي. فها هو وراء قضبان السجن. لقد كسبَ الجولةَ الأولى. ولأنَّ اللورد إيروين كان يعرِف المعنى والمغزى الذي يمكن أنْ يحملُه اعتقالُ المهاتما، "الروح العظيمة"، فقد تردَّدَ وقدَّرَ الإيجابياتِ والسلبيات. (...)

يَـعْـلَم اللورد إيروين يقينًا أنَّ الدكتاتورية تهوُّر وأن اعتقال غاندي خطأ. فكلما احتُـفِظَ به لفترة أطول، أصبحَ قائدًا للأمة. وسيأتي يومٌ لا بدَّ فيه من إطلاق سراحه، وسيُفَـسَّر إطلاقُ سراحه هذا كمؤشر ضعف. وأسوأ ما يحصل هو أنْ يموتَ هذا الرجل النحيل في السجن.

تسعى سياسةُ اللورد إيروين إلى تعاون بين الهند وبريطانيا العظمى. تسعى إلى تسهيل التقدُّم السِّـلْمي للهند نحو نظام الدومنيون dominion. واعتقالُ غاندي يَـحُـوْلُ دون ذلك. إن ذلك خطأ، والجميع يفهمون ذلك. إلاَّ أنَّ ذلك خطأ لم يكنْ في مقدور الإنكليز ألاَّ يرتكبوه. وهنا يكمن القضاء والقدَر.

في الحقيقة، من غير المناسب بالتأكيد الكلامُ عن "قضاء وقدَر" لتفسير الورطة التي يقع فيها اللورد إيروين. فمنذ بداية مسيرة المِلْح، وقعَ نائبُ الملك في الفخ وإنَّ ذكاء غاندي الاستراتيجي هو الذي دفعَ نائبَ الملك إلى ارتكاب الخطأ الذي سيرتدُّ عليه.

بتاريخ 22 أيار/مايو، كتبَ رومان رولاَّن Romain Rolland في جريدته: "يبدو غاندي السجين كمَلِك على عرشه[5]." ثم كتبَ بتاريخ 3 حزيران/يونيو مقالاً بعنوان "الهند ستَغلِب" نُشِرَ في مجلة موند Monde:

أتَـلَـقَّى العديدَ من الرسائل من أوروبا تسعى إلى إثارة حركة احتجاج ضد سَجن غاندي. (...) لكنَّ الاحتجاجَ على اعتقال غاندي لا جدوى منه. ربما يكون حتى مخالفًا لمقاصد غاندي. فغاندي لم يفكر أبدًا عندما شنَّ هذه الحركةَ القويةَ أنْ يخرجَ منها هو وذووه سالمين. فقد مشى عن سابق إصرار وتصميم لملاقاة السجن والموت. (...) نشهد هنا تطورًا محتومًا لفعل تراجيدي actus tragicus توقَّعه غاندي وأراده ونظَّمَه. نصرُ الهند قريب. يمكن للإمبراطورية البريطانية أنْ تستخدمَ الأسلحةَ التي تريدها: فأيامها معدودة. علينا ألاَّ نُخدَعَ بعرض قوَّتِها وعنترياتها! لقد أصبحَت حيوانًا مطارَدًا يدافع عن حياته. لقد بُنِيَت الإمبراطوريةُ البريطانيةُ على ركام من المظالم الوحشية، على الاستغلال المميت لملايين البشر؛ وقد استعاد هؤلاء الملايينُ وعيَهم بقوَّتهم. وليس عليهم إلاَّ أنْ يهزُّوا أكتافَهم. فالإمبراطوريةُ البريطانية تهتزُّ أركانُها أصلاً. وسوف نراها تسقط[6].

هل تأخَّرَت الحكومةُ البريطانيةُ كثيرًا في الرد تاركةً بذلك لغاندي الوقتَ اللازمَ له لتنظيم حركة المقاومة؟ يمكن اعتقاد ذلك وهذا هو التحليل الذي قامت به صحيفةُ الإلُّوستراسيون L'Illustration في عددها المؤرَّخ في 7 حزيران/يونيو 1930:

هناك صعوبة أكبر في ترجمة الاضطراب الوطني في الصحافة منذ إعادة إقامة رقابة صارمة. كذلك أصبحَ اعتقالُ القادة السياسيين الأساسيين يزعج أكثر فأكثر اللقاءاتِ التي ينظمها حزبُ المؤتمر الهندي. بالمقابل، تتَّسع رقعةُ حملة العصيان المدني. وربما أخطأَت إنكلترا عندما استخفَّت في البداية بمبادرة غاندي. فالتمرد الرمزي على ضريبة المِلْح والذي قام به بعضُ المناصرين المتعصبين لم يَـبْـدُ لها خطيراً جداً. وعندما عزمَت على اعتقال المهاتما كان الأوانُ قد فات: فقد زادَ الزخَمُ وكبُرَ جيشُ المتطوعين بآلاف المنضمِّين إليه.

إنَّ اعتقال غاندي، والذي كان هدفُه المعلَن ضرْبَ حركة المقاومة لم يؤدِّ في الحقيقة إلاَّ لتعزيزها. كذلك، عندما تأزَّمَ الموقفُ، ازدادت في الواقع مخاطرُ العنف التي كانت حكومةُ الهند تدَّعي أنها تفادتْها. عند إعلان اعتقال غاندي، "هبَّت الهندُ هبَّـةَ رجل واحد[7]". وفي كل مكان، قرَّرَت اللجانُ المحلِّيةُ التابعةُ لحزب المؤتمر أنه يجب أنْ يكونَ يومُ السادس من أيار/مايو "يومَ حِداد". فحصلَت مظاهراتٌ في معظم مدن الهند، ونُظِّمَـت إضراباتٌ في المؤسسات وأُغلِقَت جميعُ المَـتاجر تقريبًا. واستنفرَت قواتُ الشرطة في كل مكان ضمن حتميةِ مواجَهةٍ. ولم يُبالِ المتظاهرون مرارًا بتعليمات اللاعنف التي أعطاها غاندي وحزبُ المؤتمر ولم يتردَّدوا في اللجوء بأنفسهم إلى العنف ضد قوات حفظ النظام. وبتاريخ 6 أيار/مايو، في دلهي، أطلقَت الشرطةُ النارَ على الجموعِ التي رفضَت التفرُّقَ. فجُرِحَ عدةُ متظاهرين. ومات اثنان منهم متأثِّـرَينِ بجراحهما. وبتاريخ 7 أيار/مايو، في كالكوتا، حاولَت الجموعُ تحريرَ متطوِّعَينِ اثنَينِ معتقَـلَينِ في أحد مراكز الشرطة. وخلال المواجهات التي عقِبَت ذلك، سقطَ عدةُ جرحى من الطرفين. وفي اليوم نفسه، في تشيتاغونغ Chittagong، فتحَت الشرطةُ النارَ على المتظاهرين فأرْدَتْ أربعةً منهم قتلى. وبتاريخ 8 أيار/مايو، في جلالبور، اندلعَت فتنةٌ خطيرة. فأُحرِقَت ودُمِّرَت ستةُ مراكزَ للشرطة وكذلك المحكمةُ ومتاجرُ مشروبات روحية. وكانت الحصيلةُ خمسةً وعشرين قتيلاً ومئةَ جريح. وبتاريخ 10 أيار/مايو، في مدينة تشولاﭙـور Cholapur، اندلعَت مواجهاتٌ عنيفةٌ بين جموع المتظاهرين وبين الجيش الذي لم يتردَّد في فتح النار. فألقى المتمرِّدون الحجارةَ على رجال الشرطة وأحرقوا مراكزَ الشرطة. فسقطَ قتلى وعدةُ جرحى من الطرفين. وأُعلِنَ القانونُ العرفي في جميع أنحاء المنطقة. فحكمَ مجلسٌ حربيٌّ على رئيس اللجنة المحلِّية لحزب المؤتمر بعقوبة السجن المشدَّد لمدة سبع سنوات. وحُـكِـمَ على رئيس المجلس البلدي في تشولاﭙـور Cholapur بعقوبة السجن لمدة خمسة شهور لِعدمِ إطاعتِه الأمرَ المعطى له بإنزال عَلَم حزب المؤتمر المرفوع على قمة المنزل البلدي.

ونزولاً عند رغبة غاندي، عباس تيابجي Abbas Tyabji هو الذي يَـخْـلفه في قيادة حركة العصيان المدني. وفي صباح الثاني عشر من أيار/مايو، اعتُـقِلَ في الوقت نفسه الذي اعتُقِلَ فيه ثلاثةٌ وخمسون متطوِّعًا، عندما كانوا يغادرون قريةَ كارادي Karadi، بحضور جموع غفيرة، للشروع بمسيرة ضد مخزون المِلْح في داراسانا Dharasana. وفي اليوم نفسه، حضروا أمام محكمة جلالبور. وفي اليوم التالي، حُكِم على عباس تيابجي بالسجن لمدة ستة أشهر، بينما حُكِم على رفاقه بالسجن ثلاثة أشهر.

بتاريخ 13 أيار/مايو، نقلَت جريدةُ جنيـﭪ Journal de Genève الحدثَ التالي:

تم اللجوءُ في سِمْلا Simla إلى اعتقال خمسةَ عشر متطوِّعًا في العصيان كانوا يحرِّضون السكانَ على الذهاب إلى تجمُّـع لا بد أنهم يُصَنِّعون فيه المِلْحَ. وعندما رفضَ أنْ يتفرَّقَ جزءٌ من الجموع الذين كانوا قد تجَمَّعوا لسماع هؤلاء المتطوعين، أجبرَتْهم السلطاتُ على مغادرة مكان التجمُّع من خلال تشغيل مضخَّات حريق.

إنَّ الشاعرة ساروجيني نايدو Sarajini Naidu هي التي خلفَتْ عباس تيابجي في قيادة المقاومة. هذه الشاعرةُ التي تُدعى "عندليبَ الهند" ملتزمةٌ منذ سنوات طويلة إلى جانب غاندي في النشاطات السياسية لحزب المؤتمر الذي انتُخِبَت رئيسةً له في عام 1926. وبتاريخ 13 أيار/مايو، قرَّرَت اللجنةُ التنفيذية لحزب المؤتمر تعزيزَ حركةِ العصيان المدني بإعطاء أهمية أكبر لرفض دفعِ الضريبة العقارية ودفعِ أجرة الأراضي.

وبتاريخ 15 أيار/مايو 1930، نشرَت جريدةُ جنيـﭪ رسالةً لأحد أعضاء المجلس التشريعي في الهند يشير فيها، على الرغم من أنه ليس عضوًا في حزب المؤتمر، إلى "التأثير المتزايد لغاندي" ويَعتبِر أنَّ الذين في بريطانيا لا يرون ضرورةَ حمْـل حركة العصيان المدني على محمل الجد يرتكبون خطأً جسيمًا:

إنَّ الذين يعيشون في الهند ويعرِفون تأثيرَ م. [موهانداس] غاندي لم يشُـكُّوا أبدًا في أن دعوته ستلقى آذانًا صاغيةً؛ لكننا فوجئنا بقوة الرد الذي أثاره وبمداه. فالدعمُ الذي يلقاه واسعٌ كسِعة الأمَّة. فقد تجمَّعَت حول لوائه الأوساطُ المثـقَّفةُ والجماهيرُ الأمِّـيَّةُ بالسرعة نفسها. (...)

يكاد يستحيل على امرئٍ لا يعيش في الهند أنْ يتصوَّرَ التغييرَ الذي حصلَ خلال هذه السنوات العشر. فالذين لا يشاركون غاندي في آرائه أقلُّ عددًا بكثير وأضعفُ بكثير مما كانوا عليه في الماضي. أمَّـا الجماهيرُ فكانت مع غاندي بدون أية إمكانية للشك. وفي كثير من الأماكن، قدَّمَ القرويون طوابيرَ من المتطوعين لكسر قانون المِلْح وانتُهِكَ القانونُ على رؤوس الأشهاد، ليس فقط في المدن، بل في الريف أيضًا.

هناك عاملٌ آخر ذو أهميةٍ عظيمةٍ ينبغي حِفْظُه، ألا وهو أنَّ النساء قد شاركْنَ مشاركةً فعَّالةً في الاضطراب السياسي في جميع الأقاليم وأنَّ الأغلبية الساحقة منهنَّ كنَّ في صف غاندي.

وبتاريخ 15 أيار/مايو، قادت ساروجيني نايدو مسيرةً جديدةً إلى مخزون المِلْح في داراسانا Dharasana، لكنها اصطدمَت بالشرطة قبل بلوغ وجهتها. فنقلَت جريدةُ جنيـﭪ، في عددها الصادر بتاريخ 17 أيار/مايو، الحدثَ كما يلي:

عندما شرعَت السيدةُ نايدو وطابورُها المؤلفُ من 230 متطوِّعًا بالمسير صباح يوم الخميس من أونتادي Untadi من أجل قيامهم بمهاجمة مخزون المِلْح في داراسانا، ضربَت الشرطةُ حولهم نطاقًا ومنعَتْهم من مواصلة طريقهم.

فرفضَت السيدةُ نايدو في ذلك الحين أنْ تعودَ أدراجَها وأمرَت متطوِّعيها أنْ يقعدوا على الطريق. فبقيَ المتطوعون عندئذٍ بلا طعام ولا شراب طوال النهار. ومنعَت الشرطةُ النساءَ اللواتي كنَّ يجلبْنَ الماءَ من كسر النطاق. هكذا كان الموقف.

وبما أنَّ الشرطة لم تدَعْ أحدًا يعودُ إلى المجموعة إذا ما خرجَ منها فإنَّ المتطوِّعين قد رفضوا الخروجَ وأمضَوا وقتَهم في تجاذُب أطراف الحديث وفي الغزْل. وتجَمَّعَ حشدٌ من الناس يتأمَّلون المشهدَ.

وأصدرَ نائبُ الملك أوامرَ جديدةً لمحاولة مواجهة حركة العصيان المدني. فأعلنَ أنه "عندما يكونُ الهدفُ المعلَن لأية حركة لاعنفية جعْـلَ حكم البلاد مستحيلاً فإنَّ على الحكومة أنْ تواجهَها أو تتخلَّى عن الحكم[8]." وهكذا يسنُّ القوانينَ ضدَّ تنظيمِ جماعاتِ مراقَبةِ المقاطعةِ وضدَّ رفضِ دفعِ الضرائب وضدَّ الدعوات إلى عدم الولاء والموجَّهةِ إلى الموظَّفين. إلاَّ أنَّ حزب المؤتمر يعطي في كل مرة تعليماتٍ بالقيام تمامًا بما يمنع الأمرُ من القيام به فلا تزداد حركةُ العصيان المدني عندئذٍ إلاَّ اتِّساعًا. يروي نِهْرو أنَّ "نائب الملك قد سهَّلَ علينا المهمةَ في هذه النقطة من خلال إصدار أوامرَ تمنعنا من القيام بهذا الشكل من النشاط أو ذاك. وكلَّما كانت الأوامرُ لا تكفي للسيطرة على الوضع أُصدِرَتْ أوامرُ جديدة. كانت تلك حلقةً مفرَغة[9]."

إلاَّ أنَّ اللورد إيروين لم يقنطْ من إعادة إرساء شروط حوار يُتِيحُ عقدَ مؤتمر للطاولة المستديرة. فأعلنَ بتاريخ 12 أيار/مايو قائلاً: "لا حكومتي ولا حكومة جلالته تصدُّها هذه الأحداثُ المأساوية عن عزمها الثابت على البقاء مُخْلصةً لسياستها التي كان لي شرفُ إعلانها في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي[10]." وبعد أن اطَّلعَ غاندي على هذا الإعلان، كتبَ بتاريخ 18 أيار/مايو رسالةً جديدة إلى نائب الملك ليُطلِعَه على ردِّه. وبدون أنْ يبالغَ في المداراة، أراد أنْ يُـفهِمَ مُحاوِرَه أنَّ الفوضى في الهند سببُها المظالمُ التي يرتكبها البريطانيون وليس المقاومة التي يقوم بها الهنودُ لهذه المظالم. ضِمْنَ هذه الظروفِ، ينبغي أنْ يُفهَم العصيانُ من خلال علاقته مع العدالة لا من خلال علاقته مع الفوضى:

يبدو أنكم تجهلون مجرَّد فكرة أنَّ العصيان يتغيَّر كليًا عندما يلجأ إليه الشعبُ على نطاق واسع. (...)

إذا لم أكنْ مخطئاً فسترون أنَّ روح الشعب عصِيَّـةٌ على القمع مهما كان شديدًا. فلن تُرغِموا طويلاً ملايينَ الأشخاص على العيش في الاستسلام[11].

في يوم الأحد بتاريخ 18 أيار/مايو 1930، حاولَ 470 متطوِّعًا الذهابَ لاحتلال مخزون المِلْح في وادالا [ﭭـادالا] Wadala، في ضواحي بومباي، ولكنْ ما لبثَتْ قواتُ حفظ النظام أنْ حاصرَتْهم. روت جريدةُ جنيـﭪ في عددها المؤرَّخ في 20 أيار/مايو أنَّ

الشرطة طوَّقَت رتلاً من المتطوعين الذين كانوا يمشون إلى مخزون وادالا. فاعتقلَتهم عند الفجر وتوجَّهَت بهم في عربات للمساجين إلى معسكر اعتقال في وارلِن Warlin، في وادي بومباي. وقد حضر عددٌ من الفضوليين هذه العمليةَ، بينما كان المتطوِّعون يهتفون لغاندي. ونجحَ حوالي مئة متطوِّع، بعد أنْ نجَوا من طوق الشرطة، في الوصول إلى وادالا حيث اختلسوا وهم ضمن مجموعات معزولة قليلاً من المِلْح، غير أنَّ الشرطة اعتقلَتْهم أولاً بأول.

بعد ثلاثة أيام، نُظِّمَت غارةٌ أخرى على المخزون نفسه. فتدخَّـلَت الشرطةُ تدخُّـلاً عنيفًا. وجُرِحَ عددٌ من المتظاهرين واعتُقِلَ 250 منهم. وبتاريخ 25 أيار/مايو، قام 100 متطوِّع يرافقهم عدةُ آلاف من المتظاهرين بغارة جديدة. وهذه المرةَ، لم تتردَّدِ الشرطةُ في فتح النار. وبتاريخ 27 أيار/مايو، نشرَت جريدةُ لوسوار مراسلةً من لندن مؤرَّخةً في اليوم السابق بعنوان: "الشرطة المحلية ترفض التدخُّـلََ":

البارحةَ، حصلَت غارةٌ جديدةٌ ضخمةٌ على مَـلاَّحات الحكومة الهندية، وهذه المرة في وادالا، على بعد ثمانية كيلومترات عن بومباي. (...)

ربما كان هناك 115 اعتقالاً و72 جريحًا، من بينهم تسعة رقباء من الشرطة البريطانية وثلاث موظَّفين من مصلحة الضرائب على المِلْح. أمامَ مثلِ هذه الحشود، كانت عناصر الشرطة الأوروبيين قد وصلَت إلى عجز شبه تام.

وبحسب ما أورد السيد جورج سلوكومب George Slocombe، المراسل الخاص لجريدة الديلي هيرالد Daily Herald، كان الجانبُ الأكثر قلقًا في هذه المظاهرة هو موقف عناصر الشرطة المحليين الذين كانوا يرفضون التدخُّـلَ وكانوا يقعدون على الأرض يقومون بدَور المتفرِّجين، بينما كان رقباؤهم الأوروبيون يقومون بكل الشغل الشاق.

في الأول من حزيران/يونيو، شاركَ حوالي 15000 متطوِّع في عمل جماهيري جديد ضد مخزون وادالا. ونجحَ المتظاهرون في كسر تطويقات الشرطة وفي الاستيلاء على كميات كبيرة من المِلْح الذي حملوه ملءَ الأكياس. كانت قوَّاتُ حفظ النظام عاجزةً عن السيطرة على الوضع وهجمَت الشرطةُ الغاضبةُ على الحشود تنهالُ على المتظاهرين ضربًا على رؤوسهم بالعِصِيّ.

وفي تاريخ 20 أيار/مايو، أعلن غاندي لجورج سلوكومب الذي تمَكَّنَ من المجيء لمقابلته في سجنه:

سنواصل النضالَ حتى نحصلَ على مطالبنا، وسنقدِّم حياتَنا إذا لزمَ الأمرُ من أجل قضية حرية الهند. سنملأ جميعَ سجون الهند بالمقاومين المدنيين وبالذين يعصون القوانينَ الخاصة بالمِلْح، وسنجعل بمعارضتنا أيةَ إدارة للبلاد مستحيلةً[12].

وبعد عدة أيام، يأتي أحد مراسلي صحيفة الأوبسيرﭭـر Observer الإنكليزية ليؤيِّدَ أقوالَ غاندي منتقدًا

شِبْـهَ استسلامِ الحكومة بعد مضيِّ أربعة أشهر على إعلان حزب مؤتمر لاهور الانفصالَ وعلى إقراره لحركة العصيان المدني. (...) وأشار إلى أنَّ البلاغاتِ الرسميةَ أعلنَت مرارًا نهايةَ حملةَ المِلْح؛ غير أنه بينما كانت الاعتقالات فرديةً منذ شهر لا بد أنْ تنفَّـذَ اليومَ بصورة جماعية وبالمئات. فتمتلئ سجونُ رئاسة بومباي وتُستنزَف شرطةُ المحافَظة إلى أقصى طاقة تحَمُّـلِها. وتتكاثر حركاتُ الحشودِ الجماهيريةُ فتصبح عصيةً على الرقابة[13].

وحصلَت غارةٌ جديدة على داراسانا Dharasana بتاريخ 21 أيار/مايو قام بها حوالي 2000 متطوِّع بقيادة ساروجيني نايدو Sarajini Naidu ومانيلال غاندي Manilal Gandhi (أحد أبناء المهاتما). وعندما وصلوا إلى مشارف المخزون واجهوا عناصرَ شرطةٍ سدَّت عليهم الطريقَ. وأُمِروا بالتفرُّق وبمغادرة المكان. وعندما رفضوا الطاعةَ، انهالت عليهم الشرطةُ ضربًا بالعِصيِّ بمزيد من الوحشية. فسقطَ قتيلانِ وأكثرُ من 300 جريح. فقام الصحفي الإنكليزي ويب ميلَّر Webb Miller الذي حضر َالمشهدَ بإعداد تقرير عن ذلك مؤثِّرٍ بصورة خاصة:

اصطفَّ رجالُ غاندي في صمت تامٍّ وتوقَّفوا على بعد مئة ياردة من السياج. واختيرَ رتلٌ من الرجال وانفصلوا عن الحشود واجتازوا الحفرةَ واقتربوا من سياج الأسلاك الشائكة. فجأةً قام قرابةُ العشرين ونيِّف من رجال الشرطة المحليين بعدما تلَقَّوا أمرًا بذلك بالهجوم على السائرين وانهالوا عليهم ضربًا على الرؤوس بعِصِيِّ اللَّثي lathis الملبَّسة بالفولاذ. ولم يبقَ أحدٌ من المتظاهرين إلاَّ رفعَ ذراعَه لاتِّقاء الضربات. وسقطوا كالأوتاد. فكنتُ أسمعُ من المكان الذي أقف فيه الضربةَ المثيرةَ للاشمئزاز للهراوات على الجماجم العارية. وكانت حشود المشاة المنتظرين تئن وتلهث: كانت كلُّ ضربة عذابًا لهم. وكان الذين أُوسِعوا ضربًا يسقطون في وضعيات غريبة فاقدين الوعيَ أو يتلَوَّونَ تحت تأثير ألم رؤوسهم المهشَّمة أو أكتافهم المكسورة. وواصلَ الناجُون مسيرَهم بدون أن يفرِّقوا الصفوفَ وبصمت وعناد حتى سقطوا قتلى.

وعلى الرغم من أنَّ كل واحد منهم يعلم أنه بعد دقائقَ عديدةٍ سيوسَع ضربًا وربما سيموت، فإنني لم ألاحظْ أدنى علامة على التردُّد أو الخوف. كانوا يتقدَّمون بلا تذمُّر مرفوعي الرؤوس. (...) وهجمَت الشرطةُ بصورة منتظمة وآلية وقضت على الرتل الثاني. لم تكن تلك معركةً ولا اشتباكًا: واستمرَّ المتظاهرون بالمسير ببساطة حتى سقطوا[14].

وقد اكتفَت صحيفةُ الفيغارو Le Figaro في عددها الصادر بتاريخ 22 أيار/مايو 1930 بتقرير موجز عن الأحداث:

خلال غزو متطوِّعين هندوس لمخزون المِلْح في داراسانا Dharasana، هجمَت الشرطةُ. فجُرِح مئتا شخص، جراحُ بعضهم خطيرةٌ. واعتقلَت الشرطةُ قرابةَ مئة متطوِّع من بينهم ابنُ غاندي والسيدة نايدو التي كانت تقود حركةَ العصيان المدني.

بتاريخ 23 أيار/مايو، نُظِّمَت مظاهرةٌ في بومباي للاحتجاج على موقف الشرطة أثناء الغزوة على مخزون المِلْح في داراسانا. وعرضَت جريدةُ لوسوار هذا الحدثَ بهذه الكلمات في عددها المؤرَّخ في 25 أيار/مايو 1930:

في بومباي، أُجبِرَت الشرطةُ على الاستسلام أمام المقاومة السلبية لجيش هائل من المتظاهرين. وقد بدأ الأمرُ بموكب من التجار الهنود الذين كانوا يجوبون الطرقاتِ رافعين أعلامًا هنديةً وبيارقَ مزيَّنةً بشعارات قومية للاحتجاج على مناوشةِ مَلاَّحاتِ داراسانا والتي جُرِحَ خلالها عددٌ من متطوِّعي غاندي. وعندما اقترب المتظاهرون من حي الـﭙـور [البورت] le Port، وهو مركز الأعمال الأوروبي، وجدوا حاجزًا منيعًا مؤلَّفًا من 500 عنصر من الشرطة منعوهم من المرور. كانت الساعةُ آنذاك الثالثة بعد الظهر. وبعد محادثة قصيرة مع رئيس الشرطة أعطى قادةُ المظاهرة الحشودَ الذين يتبعونهم أمرًا بالقعود أرضًا وبعدم التحرك.

وتُرِكَ مكانٌ مفتوح بين طوق الشرطة وبين الحشود حيث لم يدَعِ القادةُ أحدًا يدخل إليه تجنُّبًا لأي احتمال نزاع.

وشاع خبرُ الحادثة في المدينة. فهرعَ متظاهرون آخرون من كل حدب وصوب وإذْ بعددهم يبلغ ربعَ مليون! فسُـدَّت جميعُ الطرق المجاورة بكتلة لا حِراكَ بها من الهندوس الذين جلسوا القُرْفُصاءَ على الأرض فتعطَّلَت حركةُ السير كلُّها. ودامَ هذا الموقفُ المليءُ بالمخاطر أربعَ ساعاتٍ تامَّاتٍ. أخيرًا وبعد أنْ أعيَـتْهم المقاومةُ أبلغَ كبيرُ مفوَّضي الشرطة قادةَ المظاهرة أنه بإمكانهم إعادة تنظيم موكبهم شريطةَ أنْ يعِدوا بالهدوء. هذا الاستسلامُ تلَـقَّـاه جمهورُ المتظاهرين بهتافات النصر! النصر! وأخذَ الموكبُ بالمسير من جديد.

بتاريخ 27 أيار/مايو، في أحمد أباد، فشِلَتْ مظاهرةٌ نظَّمها حزبُ المؤتمر وحاول عدةُ متظاهرين تجاوزوا تعليماتِ غاندي اللاعنفية أنْ يشتبكوا مع عناصر الشرطة. وبتاريخ 29 أيار/مايو، نقلَت جريدة جنيـﭪ هذه الحادثةَ الخطيرةَ على هذا النحو:

فرَّقَت الشرطةُ والجيشُ في حديقة أحمد أباد حشدًا كثيرًا يقوده متطوِّعون من حزب المؤتمر. وعندما بدا الموقفُ هادئًا انسحبَ الجنودُ، لكنَّ الرَّعاعَ، وقد تمَـلَّكَهم الغضبُ، عادوا وتجمَّعوا من جديد وهاجموا مركزَ الشرطة. فأطلقَت الشرطةُ 57 عيارٍ ناري. وكانت الحصيلةُ على الأرجح 4 قتلى و30 جريحًا. ومن المفروض أنْ يكون قد نُقِلَ إلى المستشفى 14 شرطيًا. وهناك عصاباتٌ مهدِّدة تجوبُ الشوارعَ. وقد تمَّ نشرُ حرس مسلَّح في مختلف الأحياء وأُعلِنَ حظرُ التجوُّل.

ونشرَت صحيفةُ الإلُّوستراسيون L'Illustration في عددها الصادر بتاريخ 31 أيار/مايو 1930 على صفحتين كاملتَين مقالاً مفيدًا جدًا بعنوان "الهند الإنكليزية مهدَّدة" وبتوقيع جورج ريمون Georges Rémond:

ألا تبدو الهندُ مهدَّدةً في الأغلى والأنفَس الذي كان يبدو أنها تمتلكه؟ هل ستفقد بلادَ الهند؟ (...)

يبلغ عدد هؤلاء الهنود بلا شك ثلاثمئة وأربعين مليون نسمة، لكنهم خائفون جدًا ولا يقْوَون على الوقوف ويرتجفون أمام جندي أوروبي. هذا العدد نفسه زيادة في الضعف. (...)

لكنَّ صوتًا يكبر ويردِّد باستمرار: «لا شكَّ بأنَّ لدَينا، كهندوس ومسلمين وأناس من مختلف الطبقات، فيما بيننا خلافاتِنا وأحقادَنا، لكننا نتَّفق تمامًا على نقطةٍ واحدة، وهذه النقطةُ هي طرد الإنكليز. (...) وسنتعوَّد، وقد تعوَّدْنا أصلاً على النظر إلى الجنود الإنكليز وجهًا لوجه. ثم إنَّ نبيَّنا غاندي يؤكد على أنَّ ذلك يمكن ويجب أنْ يتمَّ بدون عنف.

«لكننا لن نقْـبَـلَ شكلاً منقوصًا من الحرية، تحت أي اسم يُقدَّم لنا. ما نبتغيه هو الاستقلال التام، الجدير بهذه الأرض، الجدير بنا، الجدير بهذه البلاد التي شهدَت نموَّ أرفع الحضارات على أرضها وتفتُّـحَ فنون رائعة وعلَّمَت العالَمَ بعضًا من أنقى أفكارها.» (...)

سيخلق هذا ضجةً كبيرة! فماذا يكون موقف الإنكليز إزاء ذلك؟ (...) إلى أي حد سيخضعون وإلى أي حد سيعرفون كيف سيربحون؟ (...)

مِنْ شِبهِ المؤكَّدِ أنْ تحصلَ الهندُ على استقلالها. (...) ومهما حصل من أمرٍ فإنَّ الأجل على ما يبدو لا يمكن أن يكون طويلاً جدًا.

إنَّ شعوب الشرق مصمِّمة على أنْ تُجرِّبَ حظَّها في العيش بذاتها في دول متخلِّصة من الوصاية الأوروبية وتحكمها شعوبُها وحدَها.

فهل هي قادرة على ذلك؟

ينبغي الإجابة على هذا السؤال بالنفي: لا، بكل يقين. (...)

ينقصها جميعًا عمود فقري.

إذًا من شأن ذلك أنْ يعنيَ، فيما يخصُّ تلك البلاد، سنواتٍ طويلةً أو عشرات السنوات من الفوضى والثورات والحروب الأهلية. (...)

الإرث الذي سيتخلَّى عنه أحدها سيجمعه الآخرُ. وستستردُّ غريزةُ القيادة حقوقَها. كما سيقود الشعبُ الأعظمُ الأممَ الأدنى منه أو المتأخرةَ عن الرَّكْب إلى مصائرَ جديدةٍ.

لِمَ لا تكونُ، مرةً أخرى، بعد مراتٍ كثيرةٍ غيرِها، فرصةَ الأُمَّـة التي كان كليمونصو Clemenceau العجوز، في حركة سامية وفي اللحظة التي كان يُعتقَد فيها أنها ستندثر، يسمِّيها «وطن الرجال الخالد»: فرصة فرنسا!... (...)

نعم، لِمَ لا، مرةً أخرى، فرصة فرنسا؟

ألا يُـهَـيِّـئنا كلُّ شيء سلفًا لهذا الدَّور، إذا كنا قد قمنا به غالبًا في الماضي من أجل خدمة الحضارة؟

لا تستحقُّ تفكيراتٌ كهذه أيَّ تعليق بكل تأكيد...

وقد نُشِرَ الـ«تقريرُ المُجمَع عليه» للجنة سيمون في شهر حزيران/يونيو 1930. ونُشِرَ أولُ مجلَّد بتاريخ 10 حزيران/يونيو. تُقدِّمُ هذه الوثيقةُ المؤلَّفةُ من أربعمئة صفحة تقديمًا دقيقًا ومفصَّلاً ظروفَ الهند السياسيةَ والاقتصاديةَ والاجتماعيةَ والدينية. لقد كتبَت جريدةُ جنيڤ بتاريخ 12 حزيران/يونيو 1930 ما يلي:

يعطي هذا المجلَّدُ الأولُ انطباعًا واضحًا جدًا بأنَّ اللجنة تميلُ إلى أنْ تُثبِتَ أنَّ الهند ليست ناضجةً لتتساوى تساويًا كليًا مع الأوروبيين، ولا حتى لتحصلَ على نظام الدومنيون الذي تُطالِبُ به نخبتُها بإلحاح شديد. سيكون من شأن الهندوس أنفسهم أنْ يتعاونوا أكثرَ فأكثر تعاونًا وثيقًا وصادقًا مع الإنكليز وأن يجعلوا أنفسهم أهلاً للنظام الذي يرغبونه، بدلاً من الاكتفاء بعبارات عامة وجوفاء، إذا أرادوا أنْ يستعجلوا تحقيقَ أحلامهم.

ولا يُقدِّم المجلَّدُ الثاني المنشورُ بتاريخ 24 حزيران/يونيو في الحقيقة أيَّ أفق من شأنه أنْ يلبِّيَ تطلُّعات الهنود. فقد كتبَت مجلَّةُ العالَـمَينِ La Revue des deux mondes عن تقرير سيمون ما يلي: "ما من مؤلَّف خالدٍ أبدًا بهذا الانتشار وبتلك القيمة الموضوعية كُرِّسَ للعبقرية الاستعمارية للأمة البريطانية." لكنَّ هذه الوثيقة بالتحديد وحتى في لحظة نشرها "تعود إلى أزمنة لم يعدْ لها سوى صفة تاريخية[15]." فمنذ أنْ غادرَت اللجنةُ الهندَ في نيسان/أبريل 1929، غيَّرَت "مسيرةُ المِلْح" وضعَ البلاد تغييرًا عميقًا مما تطَـلَّبَ إجراءاتٍ مغايرةً تمامًا للإجراءات المقترَحة في التقرير. وقد كان اللورد إيروين يعي ذلك تمامًا ولم يتوانَ في إيصاله إلى القادة في لندن.

مع ذلك، استمرَّ نائبُ الملك آنذاك في تطبيق سياسة قمعية بدَت عاجزةً عن إنهاء النزاع الذي يضعه في مواجهة مع حزب المؤتمر. وبتاريخ 30 حزيران/يونيو، أعلنَت الحكومةُ أن اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر هي جمعية غير شرعية وقامت باعتقال موليتال نِهْرو الذي يضطلع بمنصب الرئيس. وما لبثَت السجون أن امتلأت بقرابة 80000 متمرد. يشير لويس فيشر Louis Fischer في كتابه حياة المهاتما غاندي La vie du Mahatma Gandhi إلى أنه "من وجهة نظر سياسية، كان الوضع لا يطاق" بالنسبة للسلطات البريطانية. ويضيف بقوله: "كان غاندي وهو سجين أكثرَ إرباكًا منه عندما كان في المسيرة نحو الشاطئ أو عندما كان في أشرمه[16]." وأدرك نائبُ الملك أنَّ إقامةَ مؤتمرٍ هدفُه التفاوضُ حول دستور جديد للهند يمكنه وحدَه أنْ يضعَ حدًا لحركة المقاومة المدنية. وقد دافعَ عن هذا الرأي أمام السلطات في لندن بتاريخ 9 تموز/يوليو. ولمحاولة استئناف المبادرة، ارتأى اللورد إيروين أنَّ عليه أنْ يقوم ببادرة: فسمحَ لاثنين من القادة الهنود المعتدلين، وهما السِّير باهادور ساﭙرو Sir Bahadur Sapru والسيد جاياكار Mr. Jayakar، بمقابلة غاندي في السجن لكي يحصلا منه على موافقة بأنْ يقبل بهدنة بين حزب المؤتمر وبين الحكومة. وفي أثناء اللقاء الأول مع "الوسيطَينِ" والذي جرى بتاريخ 23 تموز/يوليو، أعلنَ غاندي موافقتَه على عقد مؤتمر بشرط أنْ يكون واضحًا تمامًا أنَّ الهدف ليس سوى مناقشة استقلال الهند.

وبتاريخ 27 تموز/يوليو، قام السِّير باهادور ساﭙرو ومستر جاياكار، بزيارة إلى سجن نيني Naini بهدف مقابلة موليتال وجواهَرلال نِهْرو اللَّذَينِ كانا معتقلينِ فيه. إلاَّ أنَّ قائدَيْ حزبِ المؤتمر رفضا اتِّخاذَ أدنى قرارٍ بدون التشاور مع غاندي وأعضاءِ اللجنة التنفيذية الآخرين. عندئذٍ سمحَ لهما نائبُ الملك بالالتحاق بغاندي في سجنه. ونُقِلَ قادةٌ آخرون لحزب المؤتمر، كانوا همْ أيضًا معتقلِينَ، إلى [سجن] ييراﭭـدا Yeravda. وجرَت المحادثاتُ مع السِّير ساﭙرو ومستر جاياكار من تاريخ 13 إلى 15 آب/أُغسطس 1930، ولكنها لم تؤَدِّ إلى أية نتيجة. فقد رأى قادةُ حزب المؤتمر أنهم لا يمتلكون أيَّ ضمان من الضمانات التي تبدو لهم ضروريةً من أجل إيقاف حركة المقاومة المدنية والمشاركةِ في أي مؤتمر. فكتبوا بتاريخ 15 آب/أغسطس رسالةً طويلةً إلى "الوسيطَينِ" أكَّدوا فيها ما يلي:

لقد توصَّلْنا إلى نتيجة مفادها أنَّ أوانَ الحصول على تسوية مشرِّفة لبلادنا لم يحِنْ بعدُ. (...) ولا حاجةَ إلى ذكْر أننا لا نشاطركم رأيَكم على الإطلاق ولا رأيَ نائب الملك الذي يقول بأنَّ العصيان المدني من شأنه أنْ يضرَّ ببلادنا وأنه في غير أوانه أو أنه مخالف للدستور. فتاريخُ إنكلترا زاخرٌ بالأمثلة على ثورات دامية طالما تغنَّى بها الإنكليزُ وعلَّمونا أنْ نحذوَ حذوَهم. ولذلك لا يليق بنائب الملك ولا بأي إنكليزي عاقل أنْ يَدِينَ ثورةً سِلْمية في نيَّتِها وستبقى كذلك إلى أبعد حد في تنفيذها؛ ولكننا لا نرغبُ في إشعال نزاع بشأن إدانة حملة العصيان المدني الحالية، سواء أكانت هذه الإدانةُ رسميةً أم لا. نرى أنَّ الاستجابةَ الرائعة التي أظهرَتْها الجماهيرُ الهنديةُ بشأن الحركة كافية لتبرير هذه الحركة. ومع ذلك، نضمُّ صوتَنا إلى صوتكم بكل سرور ونتمنَّى إيقافَ العصيان المدني أو تعليقَه ما أمكنَ إلى ذلك سبيلاً. فنحن ليست لدينا أدنى رغبةٍ في أنْ نُعَرِّضَ عبثًا الرجالَ والنساءَ وحتى الأطفالَ في بلادنا للسجن ولضربات الهراوات ولمعاملات أسوأ من ذلك أيضًا. ولذلك عليكم أنْ تُصَدِّقونا عندما نُؤكِّد لكم وعندما نُـؤكِّد من خلالكم لنائب الملك أننا لن نَـأْلُـوْ جَهداً من أجل استكشاف جميع الطرق لسلام مشرِّف، ولكننا نأذَنُ لأنفُسِنا في الاعتراف بأننا لمْ نَرَ حتى اللحظةِ الراهنةِ أيَّ طريق من هذه الطرق ينفتح في الأفق. ولمْ نلاحظْ لدى السلطات البريطانية أيَّ علامة تشير إلى الاقتناع بفكرة أنَّ رِجالَ الهند ونساءها هم الذين ينبغي عليهم أنْ يقرِّروا ما هو الأفضل للهند[17].

هذه المحادثاتُ التي نظَّمَها نائبُ الملك في سجن غاندي أثارت غضبَ وِنْستون تشرتشل Winston Churchill فقال ساخرًا: "لقد وضعَت حكومةُ الهند غاندي في السجن ثم جاءت تجلس خلفَ باب زنزانته طالبةً منه أنْ يساعدَها في التغلُّب على مصاعبها[18]." فتشرتشل عازمٌ، من جهته، على المحافظة على الهند تحت السيطرة البريطانية، فقد صرَّحَ قائلاً:

لا يمكننا تسليمُ الهند لحكم أقلية من المحامين والسياسيين والمتعصبين والتجار الجشعين. يجب علينا أنْ نُفهِمَهم بوضوح أننا نريد أنْ نبقى سادةَ الهند لزمن غير محدَّد لكنه على أية حال طويل جدًا، وأننا إذا رحَّبْنا بكل سرور بتعاون الخدم المخْلصين فليس علينا أنْ نُعرِّضَ سمعتَنا للاشرعية والخيانة[19].

كان ممنوعًا على غاندي طيلةَ فترة اعتقاله، إلاَّ بإذن خاص، أنْ يتدخَّلَ في الشؤون السياسية مباشرةً، وكان يريد التَّـقـيُّـدَ بهذا المنع. وهذا سيعطيه الفرصةَ للتفكير بأسس العمل اللاعنفي نفسها التي اقترحَ على الهنود أنْ يطبِّقوها.

كان أحدُ تلاميذه قد اقترحَ عليه أنْ يكتبَ رسالةً كلَّ أسبوع بحيثُ تُقرأُ، خلال الصلاة، على جميع أعضاء الأشرم. فلبَّى غاندي هذا الطلبَ بالقبول وكتبَ من سجنه في ييراﭭـدا Yeravda خمسَ عشرة رسالةً عالجَ فيها القواعدَ الأساسية للحياة الروحانية. وعلى الرغم من أنه لم يذكر فيها أيةَ إشارة واضحة، فقد تقيَّـدَ مباشرةً بالمنقول الروحي العظيم لـ يوغا-سوترا الـﭙـاتانجالي Yoga-Sutras de Patanjali. ففي الكتاب الثاني، ذُكِرَت "قواعدُ الحياة في العلاقة مع الآخرين[20]". وعددها خمس: أهيمسا ahimsa (اللاعنف أو احترام جميع الكائنات الحية) وساتيا satya (احترام الحقيقة) وأستييا asteya (رفض السرقة أو احترام الملكية) وبراهماشاريا brahmacharya (العفة) وأﭙـاريـﮔـراها aparigraha (رفض الممتلكات غير النافعة أو الفقر). ويكرِّس غاندي رسالةً لكل قاعدة من تلك القواعد الحياتية التي ذكرها ﭙـاتانجالي Patanjali موسعًا فكرَه ليشملَ مجالاتٍ أخرى ويترك لنا تعليقاتِه الخاصةَ.

تكاد عدةُ أحاديثَ قالها غاندي في "رسائله إلى الأشرم" أنْ تظهرَ بقوةٍ غريبةً نوعًا ما في نظر القارئ الغربي الذي لم يأْلفِ الروحانيةَ الشرقيةَ إلاَّ قليلاً. هذه الروحانيةُ تقوم في الواقع على ممارسة تنَـسُّـك غريب كلَّ الغرابة عن العقلية الغربية. إنَّ إحدى خصائص الروحانية الهندية هي تعليمُ أنَّ المعرفةَ الحقيقية لا يمكن أنْ يكتسبَها إلاَّ مَن نجحَ في السيطرة على حواسه وكبح رغباته والالتزام بالطريق الضيق لـ "الزُهْد". ضبطُ النفس هذا، والذي يمحو كلَّ لذة، ولكنه يُبعِد أيضًا كلَّ ألم، يتيح للإنسان أنْ ينتزعَ حرِّيتَه الحقيقية. مع ذلك لا بد من أنْ نشيرَ [هنا] إلى إلحاح غاندي، الذي لم يجدْ نفسَه في جميع التعاليم الروحية التي تأتينا من الشرق، على التأكيد على أنَّ غاية هذا التنسُّك ليست سوى خدمة الآخرين ولا يمكن أنْ يعنيَ إذًا عزْلَ الفرد في البحث وحيدًا عن كماله الخاص به. ففي نظر غاندي، لا تقتصر خدمةُ الآخرين على العلاقات الشخصية التي يمكن من خلالها ممارسة الإحسان، بل تمتدُّ إلى العلاقات السياسية حيث ينبغي ممارسة العدالة.

ويرى غاندي أنَّ الطريق الوحيد الذي من شأنه أنْ يتيحَ للإنسان البحثَ عن الحقيقة هو طريق اللاعنف (أهيمسا). فيكرِّس لهذا الموضوع رسالتَه الثانية إلى الأشرم بتاريخ 31 تموز/يوليو:

طريق الحقيقة ضيِّق بمقدار ما هو مستقيم. وكذلك يكون طريقُ اللاعنف. وكأنَّ الأمر يشبه المحافظة على التوازن على حد السيف. فالبهلوانُ يمكنه إذا ركَّزَ أنْ يمشيَ على حبل. إلاَّ أنَّ التركيز المطلوب للسير على طريق الحقيقة واللاعنف أكبر من ذلك بكثير. فأقلُّ سهْوٍ يوقعكَ أرضًا. ولا يمكننا أنْ نفهمَ الحقيقةَ واللاعنفَ إلاَّ ببذل جهد متواصل. (...)

يبدو أنه من المستحيل فهمُ الحقيقة فهمًا تامًا في هذا الجسد الفاني الذي أوصلَ رجلاً عجوزًا كان يبحث عن الحقيقة إلى تقدير أهمية اللاعنف. فالمسألة التي كان يواجهها هي التالية: "هل أتحَـمَّـل الذين يسبِّبون ليَ المصاعبَ أم هل أقضي عليهم؟" وفهمَ الرجلُ العجوزُ أنَّ من يستمرُّ في القضاء على الآخرين لا يتقدَّم، بل يبقى مكانه ببساطة، في حين أنَّ الذي يتحمَّل الذين يسبِّبون له المصاعبَ يمشي إلى الأمام، حتى أنه يجرُّ الآخرين معه أحيانًا. علَّمَه أولُ فعل تدميري أنَّ الحقيقةَ التي هي موضوع بحثه لم تكنْ خارجَ نفسِه، بل داخلها. وبالتالي كلما لجأ إلى العنف ابتعدَ عن الحقيقة. لأنه عندما يقاتل عدوًا وهميًا في الخارج فإنه يهمل العدوَّ الداخلي.

نعاقب السارقين لأننا نعتقد أنهم ينَغِّصون حياتَنا. فبإمكانهم أنْ يتركونا وشأننا؛ لكنهم يركِّزون اهتمامَهم فقط على ضحية أخرى. وهذه الضحيةُ الأخرى هي، بالمقابل، كائن إنساني أيضًا، أيْ نحنُ على شكل مختلف، وبذلك نجد أنفسَنا عالقين في حلقة مفرغة. فيستمر الشرُّ الذي يرتكبه السارقون بالاتِّساع، لأنهم يعتقدون أنَّ مهنتهم هي السرقة. في الختام، نكتشف أنَّ تحَمُّـلَ السارقين خيرٌ من معاقبتهم. حتى أنه ربما يعيدهم الغفرانُ إلى رشدهم. فعندما نتحمَّلُهم ندرك أنَّ السارقين ليسوا مختلفين عنا وأنهم إخوتُنا وأصدقاؤنا وأنَّ مِن الممكن عدمَ معاقبتِهم. إلاَّ أننا إذا كنا نستطيع أنْ نكون متسامحين مع السارقين فلا يمكننا أنْ نصبرَ على الشر الذي يفعلونه بنا. وربما لا يجعلنا ذلك الأمرُ إلاَّ جبناءَ. عندئذٍ سنكتشف واجبًا أكثر إلحاحًا. فبما أننا نَـعُـدُّ السارقين أقاربَ لنا فيجب أنْ نُفهِمَهم هذه القرابةَ. ولذلك علينا أنْ نجتهدَ في ابتكار طرائقَ وسبلٍ لكي نكسبَهم. ذلك هو طريق اللاعنف. قد يسبِّب ذلك آلامًا متواصلة وقد يُجبِرُنا على الصبر صبرًا لا حدود له. فإذا تحقَّقَ هذان الشرطان فلا بد في النهاية أنْ يرجعَ السارقُ عن طريق السوء وسنحصل على رؤية أوضح للحقيقة. وهكذا سنتعلَّم، خطوةً خطوة، على أنْ نقيمَ رباطَ صداقة مع العالَم أجمع؛ وسنفهم عظَمةَ اللهِ وعظَمةَ الحقيقة. وسيكبر السلام في روحنا على الرغم من الألم؛ وسنصبح أكثرَ شجاعة وأكثرَ إقدامًا؛ وسنفهم بوضوح أكبر ما هو الفرق بين ما هو خالد وبين ما هو غير خالد؛ وسنتعلَّم التمييزَ بين ما هو واجبنا وبين ما هو ليس واجبَنا. سيتلاشى تكبُّرُنا وسنصيرُ متواضعين. وسيقلُّ تعلُّـقُنا بالدنيا وسيتضاءل أيضًا الشرُّ الكامن فينا. (...)

إنَّ مبدأ اللاعنف يُفسِده كلُّ فكر سيء والعجلةُ التي لا مبرِّر لها والكذبُ والكراهيةُ وإرادة الأذى للآخر. (...)

مِن دُونِ اللاعنفِ، لا يمكن البحثُ عن الحقيقة وإيجادها. اللاعنف والحقيقة متشابكان تشابكًا وثيقًا يستحيل معه فك الواحد عن الآخر أو فصل أحدهما عن الآخر. فهُما وجهان لقطعة معدنية واحدة أو بالأحرى لقرص معدني صقيل لا يحمل أيةَ علامة. فمن يستطيع أنْ يميِّـزَ بين وجهه الأول ووجهه الآخر؟ مع ذلك فإنَّ اللاعنفَ هو الوسيلةُ وإنَّ الحقيقةَ هي الغاية. ينبغي دائمًا على الوسائل، حتى تكونَ وسائلَ، أنْ تكونَ في متناول أيدينا؛ ولذلك يكون اللاعنفُ واجبَنا الأسمى وتصبح الحقيقةُ هي الله في نظرنا. فإذا ركَّزْنا اهتمامَنا على اختيار الوسائل فسنكون على يقين من بلوغ الهدف عاجلاً أم آجلاً. عندما نصمِّم على فعل ذلك فسنكون قد كسبنا المعركةَ. ومهما اعترضَنا من مصاعبَ ومهما مُـنِـيْـنا بإخفاقات ظاهرة، علينا ألاَّ نفقدَ الثقةَ، بل علينا أنْ نردِّد على الدوام هذه المانترا [الذِّكْر]: «الحقيقة موجودة، لا وجودَ لغيرها. هي الله الواحد، ولمعرفتها لا طريقَ إلاَّ طريق واحد ولا وسيلةَ إلاَّ وسيلة واحدة، ألا وهي اللاعنف. ولن أتخلَّى عنه ما حييتُ. فليعطِني اللهُ الذي هو الحقيقةُ والذي باسمه قطعتُ على نفسي هذا العهدَ فليعطني القوةَ على الإخلاص لذلك[21]

بتاريخ 2 أيلول/سبتمبر 1930، كتبَ غاندي رسالةً إلى الأشرم تطرَّقَ فيها إلى "البسالة" التي وضعَها في قمة فضائل الإنسان القوي. فأنْ يكونَ المرءُ باسلاً، بحسب المعنى الاشتقاقي لهذه الكلمة (من اللاتينية: in وهي بادئة النفي وtrepidere بمعنى ارتعدَ)، يعني ألاَّ يرتعدَ أمام الخطر، أيْ ألاَّ يخافَ أو بتعبير أدق أنْ يتغلَّبَ على خوفه. والكلمة السنسكريتية التي تشير إلى البسالة هي أبهايا abhaya (المؤلفة من بادئة النفي a ومن الاسم بهايا bhaya بمعنى الخوف) التي تعني حرفيًا "بدون خوف". إنَّ رغبة العنف تنشأ في الإنسان عندما يخاف من الإنسان الآخر. فللتغلُّب على هذه الرغبة، ينبغي إذًا التغلُّب على ذلك الخوف. فعندما يسيطر الإنسانُ على خوفه يحصل على حرية اللاعنف.

كما يعرف كلُّ قارئ للـجيتا Gîta، البسالةُ هي رأسُ الفضائل الإلهية المذكورة في الفصل السادس عشر. (...) تستحقُّ البسالةُ بحقٍّ المرتبةَ الأولى التي تحتلُّها. لأنه لا غنى عنها لنمو الصفات الأخرى التي تصنع نبلَ الإنسان. فكيف يمكن بدون بسالةٍ البحثُ عن الحقيقة والتمسُّكُ بالمحبة؟ كما قال ﭙـريتام Pritam: «درب الله هو درب الشجاع لا درب الجبناء.» المقصود بالله هنا هو الحقيقة. والشجعانُ هم الذين يتسلَّحون بالبسالة لا بالسيف أو البندقية أو أي سلاح مشابه. إذْ إنَّ الذين يتملَّكُهم الخوفُ هم وحدَهم يتمسَّكون بمثل هذه الأسلحة.

تنطوي البسالةُ على التحرر من كل خوف، سواء كان الخوف من المرض أو من الجرح الجسدي أو من الموت أو من فقدان الملكية أو من فقدان أقرب الناس وأعزِّهم أو من فقدان السمعة أو من الإهانة التي يقوم بها الآخرون أو غير ذلك. (...)

البسالةُ الكاملة يكاد يستحيل تعليمُها. ولا يمكن أنْ يَبلُغَها إلاَّ مَن فهِمَ الحقيقة السامية، لأنها تنطوي على التحرر من كل وهم. يمكن دائمًا التقدم نحو هذا الهدف ببذل جهد فيه عزمٌ وثبات وبزرع الثقة بالنفس. وكما قلْتُ في البداية، يجب علينا أنْ نهزمَ كلَّ خوف من الشرور الخارجية. ولكنْ علينا دائمًا أنْ نخشى الأعداءَ الداخليين. من حقنا أنْ نخشى الشهوةَ الحيوانية والغضبَ وغيره. فالمخاوفُ من شر خارجي تتوقَّف من تلقاء ذاتها عندما ننتصر على هؤلاء الخونة في معسكرنا. فهذه المخاوفُ تَحيقُ بالجسد وكأنه مركزُها، وبالتالي ستختفي بمجرَّد أنْ نتوقَّفَ عن التعلُّق بالجسد. وبذلك نكتشف أنَّ كلَّ خوف من شر خارجي هو بناء لا أساس له تخلُقه رؤيتُنا الخاصةُ للأشياء. المبدأ [الأخلاقي] الأسمى هو «تمتَّعْ بأشياء هذه الأرض بالتخلِّي عنها». فالثروةُ والعائلة والجسد ستبقى كما هي؛ علينا فقط تغييرُ موقفنا منها. كلُّ ذلك لا يعود مُلْكُه لنا، بل يعود مُلْكُه لله. لا شيءَ أبدًا في هذه الدنيا يعود مُلْكُه لنا. فنحن أنفسُنا يَملكُنا اللهُ. فلِمَ نخافُ إذَنْ؟ لذلك تُطالبُنا الأوﭙـانيشادُ Upanishad بالتخلِّي عن التعلُّق بالأشياء عندما نتمتَّع بها. أيْ ينبغي علينا الاهتمامُ بها لا بصفتنا مالكين بل بصفتنا مؤتمَنين. فالذي وضعها في حوزتنا سيعطينا القوةَ والأسلحةَ اللازمةَ للدفاع عنها من جميع المغتصبِين. وهكذا، عندما نتوقَّف عن التصرُّف كأسياد ونضع أنفسَنا في صف الخادمين الأكثر وضاعةً من الغبار الذي تحت أقدامنا، فإنَّ جميع المخاوف ستتلاشى كالضباب؛ وسنبلغ السلامَ الفائق وسنرى وجهاً لوجه إلهَ الحقيقة[22].

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] ستُنشَر في مجلَّة الهند الفَتِـيَّـة بتاريخ 8 أيار/مايو 1930.

[2] المجلد 43، ص 399.

[3] ورَدَ في Gandhi, Résistance non-violente [غاندي، المقاومة اللاعنفية]، باريس، بوشيه-شاستيل Buchet-Chastel، 1986، ص 229.

[4] ذكَرَه نيراد ش. شودهوري Nirad C. Chaudhuri، Thy Hand, Great Anarch! India: 1921-1952 [يدكم، الفوضى الكبرى! الهند: 1921-1952]، لندن، تشاتو وويندوس Chatto & Windus، 1962، ص 279.

[5] Gandhi et Romain Rolland [غاندي ورومان رولاَّن]، مراسَلات، مقتطفات من اليوميات ونصوص مختلفة، سبقَ ذِكُرُه، ص 56.

[6] سبقَ ذِكُرُه، ص 56-57.

[7] ت.ج. تيندولكار T.G. Tendulkar، Mahatma… [المهاتما...سبق ذكره، المجلَّد 3، ص 39.

[8] ذكرَتْه سيمون ﭙـانتر-بريك، Simone Panter-Brick، Gandhi contre Machiavel [غاندي ضد ماكياﭭـيلِّي] سبقَ ذِكْرُه، ص 170.

[9] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجنيسبقَ ذِكْرُه، ص 195.

[10] المجلد 43، ص 410-411.

[11] المجلد 43، ص 411-412.

[12] المجلد 43، ص 416.

[13] ذكرَتْه صحيفةُ لوسوار Le Soir، بتاريخ 26 أيار/مايو 1930.

[14] ذكرَه لويس فيشر Louis Fischer، La vie du Mahatma Gandhi [حياة المهاتما غانديسبقَ ذِكْرُه، ص 252.

[15] جريدة جنيڤ، 13 حزيران/يونيو 1930.

[16] لويس فيشر Louis Fischer، La vie du Mahatma Gandhi [حياة المهاتما غانديسبقَ ذِكْرُه، ص 255.

[17] المجلد 44، ص 81-82.

[18] ذكرَه د. ج. تيندولكار D. G. Tendulkar، Mahatma, Life of Mohandas Karamchand Gandhi [المهاتما، حياة موهانداس كارامشاند غانديسبقَ ذِكْرُه، مجلد 3، ص 46.

[19] ذكره ب.ر. ناندا B.R. Nanda، Gandhi, [غاندي،سبقَ ذِكْرُه، ص 209.

[20] ﭙـاتانجالي Patanjali، يوغا-سوترا Yoga-Sutras، سبقَ ذِكْرُه، 2، 30، ص 96.

[21] المجلد 44، ص 57-59.

[22] المجلد 44، ص 114-115.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود