|
نادوني بأسمائي الحقيقية٭
في العام 1976، كتبتُ قصيدة تحدثت فيها عن فتاة في الثانية عشر من عمرها – وهي واحدة من أناس القوارب الذين كانوا يعبرون خليج السيام. فتاة اغتصبها قرصان، فألقت بنفسها في البحر – (كما تحدثت) عن القرصان الذي وُلِد في قرية نائية محاذية للساحل في تايلاند، وعنِّي. وأنا لم أكن في الواقع على متن المركب – إنما كنتُ على بعد آلاف الأميال – لكن لأنّي كنتُ في حال انتباه، كنتُ على علم بما كان يجري في الخليج. غضبتُ حين تلقيت نبأ موتها، لكنني تعلَّمتُ بعد التأملِ لعدة ساعات أنه لا يمكنني اتخاذ موقفٍ ضد القرصان. تصوَّرتُ لو أنني كنت وُلِدتُ في قريته، ونشأتُ في الظروف عينها، فسأكون مثله تمامًا. إن اتخاذ موقف إلى جانب أحد الأطراف سهل للغاية. لذلك، وبدافع من معاناتي، كتبتُ هذه القصيدة، وعنونتها من فضلكم، نادوني بأسمائي الحقيقية. لأنكم عندما تدعوني بأي منها، فإنه يتوجب عليَّ أن أجيبكم بـ "نعم".
لا تقل أني سأغادرُ غدًا...
أنظر بعمق: أنا أصِلُ في كل ثانيةٍ
للقد وصلت لتوي، لكي أضحك ولكي أبكي،
أنا ذبابة نوَّار تتناسخ
أنا الضفدع الذي يسبح بسعادة
أنا طفل من أوغندا، جلد وعظام،
أنا الفتاة ذات الإثني عشر ربيعًا،
أنا عضو في المكتب السياسي،
فرحي كالربيع، دافئًا إلى حدِّ
من فضلكم، نادوني بأسمائي الحقيقية،
من فضلكم، نادوني بأسمائي الحقيقية، نحن نظنُّ أننا بحاجة إلى عدو. والحكومات تعمل جاهدةً كي تجعلنا خائفين ومُبغضِين، لكي نحتشد خلفها. فإن لم يكن لديك عدوًا حقيقيًا، فستخترع الحكومات لنا عدوًا لكي تعبئنا. لقد ذهبتُ مؤخرًا إلى روسيا مع بعض الأصدقاء الأمريكيين والأوروبيين، فوجدنا أن الشعب الروسي شعب رائع. ولسنوات كثيرة، كانت الحكومة الأمريكية تخبر شعبها أن روسيا هي "إمبراطورية الشر". ليس صحيحًا الاعتقاد أن الوضع العالمي رهن يدي الحكومة، وأنه إذا اتبع الرئيس سياسة صائبة، سيحلُّ السلام. ففي حياتنا اليومية الكثير مما يمكننا فعله حيال الوضع في العالم. إن كان بوسعنا تغيير حياتنا اليومية، فبوسعنا تغيير حكوماتنا وتغيير العالم. رؤساؤنا وحكوماتنا هم نحن. إنهم انعكاس لنمط حياتنا ولطريقتنا في التفكير. فالطريقة التي نمسك فيها كوب الشاي، ونلتقط فيها الصحيفة، وحتى تلك الطريقة التي نستخدم فيها ورق التواليت، يتوجب علينا القيام بها بسلام. حين كنت راهبًا مبتدئًا في دير بوذي، تعلَّمتُ أن أكون واعيًا لكل ما أفعله على مدار الساعة، ولأكثر من خمسين سنة كنتُ أمارس هذا. حين بدأتُ، كنت أعتقدُ أن هذا الضرب من الممارسة إنما هو للمبتدئين فقط، حيث يقوم المتقدِّمون بأمور أكثر أهمية، لكنني الآن على دراية بأن ممارسة الانتباه هي للجميع. التأمل هو أن نتبصَّر في طبيعتنا الخاصة وأن نصحو. إن لم نكن واعين لما يجري في داخلنا، كيف يمكننا التبصُّر في طبيعتنا والاستيقاظ؟ هل نحن يقظون حقًا عندما نشرب الشاي أو عندما نقرأ الصحيفة أو نستخدم التواليت؟ مجتمعنا يجعل من الصعب علينا أن نكون متيقظين. فهناك الكثير جدًا من الارباكات. إننا على علم بأن 40000 طفل في العالم الثالث يموتون من الجوع كل يوم، ومع ذلك نواصل تناسي ذلك. مجتمعنا هو الذي يجعلنا ننسى. ولهذا السبب نحن بحاجة إلى الممارسة لنتمكن من أن نكون منتبهين. أعرف عددًا من الأصدقاء الذين أحجموا عن تناول العشاء مرتين كل أسبوع لكي يتذكروا الوضع في العالم الثالث. ذات يوم، سألتُ شابًا فيتناميًا لاجئًا كان يأكل زُبْدية من الأرز إن كان الأطفال في بلده يأكلون أرزًا فاخرًا كهذا. فأجاب بالنفي، لأنه على معرفة بالوضع. لقد قاسى الجوع في فيتنام – كانت هناك أوقات يأكل فيها البطاطا المجففة فقط، في حين كان يتوق لزبدية من الأرز. وفي فرنسا، أكل الأرز لمدة سنة، وبدأ في النسيان. لكني حين سألته، تذكَّر. لم يكن بوسعي طرح السؤال نفسه على طفل فرنسي أو أمريكي، لأنهم لم يمروا بتجربة الجوع. من الصعب على الناس في الغرب فهم الوضع في العالم الثالث. بحيث يبدو أن ليس هناك ما يمكن عمله حيال الوضع هناك. أخبرت الفتى الفيتنامي أن الأرز الذي كان يأكله في فرنسا يأتي من تايلاند، ومعظم الأطفال التايلنديين لا يتناولون أرزًا فاخرًا كهذا، لأنه يُنحَّى جانبًا من أجل تصديره إلى اليابان والغرب لمبادلته بالعملة الأجنبية. في فيتنام، لدينا نوعٌ لذيذٌ من الموز يُدعى شووي جيا، لكن الأطفال واليافعين في فيتنام ليس لديهم الحق في أكل هذا النوع من الموز لأنه مخصَّص كله للتصدير. وفي المقابل، يحصل الفيتناميون على البنادق من أجل قتلنا وقتل أخوتنا. بعضنا يمارس هذا التمرين من الانتباه: نحن نرعى طفلاً من العالم الثالث ونحصل منه أو منها على الأخبار، ونبقى بالتالي على تماس مع الواقع في الخارج. إننا نحاول بطرق عديدة أن نكون يقظين، لكن مجتمعنا ما زال يبقينا في حال من النسيان. التأمل هو الذي يعيننا على التذكُّر. هناك طرق أخرى لإنعاش الوعي. لقد زارنا مرة فتى هولندي في الثالثة عشرة من عمره في مركز منتجعنا، وانضم إلينا في طعام غداء صامت. بالنسبة له كانت هذه هي المرة الأولى التي يأكل فيها بصمت، وكان مرتبكًا. فيما بعد، سألته إن كان قد أحسَّ بالانزعاج، فردَّ بالإيجاب. وأوضَّحت له أن سبب تناولنا الطعام بصمت هو أن نكون على تماس مع الطعام ومع وجود كل واحد منا على حدا. فإذا تكلمنا كثيرًا، لن نستطيع الاستمتاع بهذه الأمور. وسألته إن كان كان لديه متسع من الوقت، كي يُطفئ جهاز التلفزيون، ويستمتع أكثر بوجبة عشائه، فأجاب بنعم. وفي وقت لاحق من اليوم، دعوته للانضمام إلينا في وجبة صامتة أخرى، فاستمتع بها كثيرًا. المجتمع يمطرنا بوابل من الضوضاء والصخب ما جعلنا نفقد مذاق الصمت. ففي كل مرة يكون لدينا بضع دقائق، ندير جهاز التلفزيون أو نجري اتصالاً هاتفيًا. فنحن لا نعرف أن نكون أنفسنا ونحتاج دومًا لأن نصرف انتباهنا إلى شيء ما. ولذا، فإن الأمر الأول الذي نحتاجه هو العودة إلى أنفسنا وإعادة تنظيم حياتنا اليومية، وبذا لا نكون ضحايا للمجتمع والناس الآخرين فحسب. من أجل نشر ثقافة السلام، يمكننا استخدام كلمات أو التحدث مع حياتنا. إن لم نكن مسالمين، ولم نشعر بالراحة في داخلنا، فإننا لا نستطيع التعبير عن سلام حقيقي، ولا نستطيع أيضًا أن نُنشئ أطفالنا بصورة حسنة. فالاهتمام بشكل جيد بأطفالنا يعني الاهتمام بشكل جيد بأنفسنا، ويعني أن نكون واعين لوضعنا. اجلس، أرجوك، مع طفلك، وتأملا معًا أزهارًا صغيرة تنمو وسط الأعشاب. إن التنفس شهيقًا وزفيرًا، والابتسام معًا – هي ثقافة السلام الحقيقي. عندما نستطيع أن نتعلَّم احترام هذه الأمور البسيطة الجميلة، لن يتوجب علينا البحث عن أي شيء آخر. نستطيع أن نكون بسلام مع أنفسنا، ونستطيع أن نصنع سلامًا مع أصدقائنا، وحتى مع من يُسمون أعداءنا. ترجمة: غياث جازي *** *** *** ٭ الفصل العاشر من كتاب المحبة في العمل: كتابات حول التغيير الاجتماعي اللاعنفي، تايك نات هانه، ترجمة: غياث جازي، معابر للنشر، دمشق، 2008. |
|
|