|
غاندي الإنسان 3: الأم والطفل٭
انكبَّ ناشطون وباحثون كُثر على إجراء دراسات حول ما أسموه "سياسات غاندي" و"اقتصاديات غاندي"، بيد أن قلة منهم طرحت الأسئلة التي ينبغي أن تُسأل فعلاً. كيف أنجز غاندي ما أنجزه في حياته؟ مِمَّ استمد قوته؟ كيف أمكن لمثل هذا الرجل العادي الضئيل البنية، المحامي المحدود الكفاءة والمُفتقِد إلى الهدف، أن يحوِّل نفسه إلى شخص قادر على الوقوف منفردًا ومنازلة أعظم إمبراطورية عرفها العالم، وأن ينتصر بدون إطلاق رصاصة واحدة؟ ذات مرة، سأل أحد الصحفيين الأمريكيين غاندي، وكان متابعًا لحركته لسنوات عدة ومن أشد المعجبين به: "هل لك أن تخبرني عن سر حياتك في ثلاثة كلمات؟" "أجل"، أجاب غاندي بضحكة خافتة. إذ لم يكن من خصاله التهرب من تحدٍ: "تنسَّك واستمتع!". كان غاندي بذلك يقتبس من إيشا أوبَنيشاد Isha Upanishad، وهو من أقدم الكتب الهندوسية المقدسة. بالنسبة إليه، لم تكن بهَغَفاد غيتا بمجملها سوى تفسير لهذه الكلمات البسيطة الثلاثة التي تتضمن ذروة الحكمة الإنسانية. فهذه الكلمات الثلاثة تعني أننا، لكي نستمتع بالحياة، لا يمكن أن نكون متعلِّقين على نحو أناني بأي شيء: مالاً أم ملكية أم سلطة أم نفوذًا، ولا حتى عائلة أو أصدقاء. ففي اللحظة التي يهيمن علينا فيها التعلُّق الأناني، نغدو أسرى لما نتعلَّق فيه. ما أعنيه بالانفصال هو أنه لا ينبغي عليك القلق بشأن النتائج المرجوة من أعمالك، مادام دافعك نقيًا ووسائلك قويمة. وهو يعني، فعليًا، أن الأمور سوف تسير في مجراها الصحيح في نهاية المطاف إن اعتنيت بوسائلك وتركت الباقي لمشيئة الله. الانفصال، بلغة بهَغَفاد غيتا، هو "البراعة في الأداء". فالشخص الذي ينتابه القلق حيال نتائج عمله لا يبصر هدفه؛ إنه لا يرى سوى عقبات وعوائق منتصبة أمامه. فالشعور باختلال التوازن لصالح الصعوبات التي تعترض المرء يدفعه إلى الاستسلام أو اللجوء إلى العنف بدافع الإحباط واليأس. لكن الشخص المتحرر من النتائج والساعي فقط إلى عمل ما بوسعه دون تفكير بمنفعة أو سلطة أو جاه لا يضطرب أمام الصعوبات. فهو يرى طريقه بجلاء من خلال كل محاولة، لأن الهدف نصب عينيه دومًا. الانفصال ليس عدم اكتراث أو لامبالاة؛ إنه شرط لازم ومشاركة فاعلة. فعلى الغالب، ما نعتقد أنه الأفضل بالنسبة للآخرين هو شكل مموَّه لتعلُّقنا بآرائنا: نريد للآخرين أن يكونوا سعداء بالطريقة التي نعتقد أنهم يجب أن يكونوا سعداء فيها. فقط عندما لا نطلب شيئًا لأنفسنا، نكون قادرين على إدراك متطلبات الآخرين بوضوح وكشف سُبل تقديم المساعدة لهم. أثناء ممارسته لمهنته، لم يكن لدى غاندي من سبيل للوصول إلى الذخر الهائل من الإبداع الكامن في داخله. فقط عندما بدأ يعيش من أجل الآخرين، وجد نفسه طافحًا بقوة يتعذَّر الحدُّ من تحرُّرها. ومع أنه كان في السبعينات من عمره، كانت طاقته على العمل تفوق أضعافًا ما كانت عليه عندما كان في عشرينياته. وفي فترات الأزمات الحادة، التي كانت تتصاعد بتواتر أكبر بينما كان تكريسه يتعمق، كان يرتقي إلى مستويات أعظم من الطاقة والجَلَد. فخلال مؤتمر الطاولة المستديرة، لم يكن يأوي إلى فراشه قبل الساعة الحادية عشرة ليلاً ليعود إلى الاستيقاظ في الثانية صباحًا. وكان برنامجه هو ذاته أثناء رحلته إلى مناطق نواخالي وبيهار التي كانت تشهد اضطرابات عنيفة بين الهندوس والمسلمين، وكان قد بلغ السابعة والسبعين من عمره. لكن، ولأنه قد تعلَّم التخلِّي عن القلق في ما يخص النجاح والفشل، استطاع أن يولي كل اهتمامه لما بين يديه من عمل، دون شعور بعبء القلق أو الإعياء. سأله ذات مرة أحد الصحفيين الغربيين: "سيد غاندي، منذ خمسين سنة تقريبًا وأنت تعمل خمسة عشر ساعة على الأقل كل يوم، ألا تعتقد أنه قد آن الأوان لكي تأخذ إجازة؟" ردَّ غاندي: "لماذا؟ أنا دومًا في إجازة". إنها بهَغَفاد غيتا التي تعلِّم بوضوح ساطع فن العيش في الحرية هذا. وكان غاندي، أولاً وأخيرًا، إبنًا للغيتا. ما من دراسة عن أعماله في السياسة أو الاقتصاد أو المقاومة اللاعنفية استطاعت الكشف عن المصدر الحقيقي لقوته. بيد أن غاندي نفسه يخبرنا عن ذلك ببساطة الطفل العميقة: كانت الغيتا، وما زالت، أمًا بالنسبة لي منذ أن اطَّلعت عليها للمرة الأولى عام 1889. فأنا أبحث فيها عن إرشاد أمام كل معضلة تواجهني، ولابد أن يكون ما أطلبه متيسِّر دومًا في ثناياها. لكن عليك أن تقارب الأم غيتا بكل إجلال، إن أردت الاستفادة من عونها. فمن يريح رأسه في حضنها الواهب للسلام لن يقاسي مطلقًا من خيبة رجاء، وإنما سيكون في منتهى السعادة. هذه الأم الروحية تَهِب الناذر نفسه لها معرفة نضرة وأملاً متجددًا وقوة نقية في كل لحظة من لحظات حياته. ترجمة الغيتا إلى لغة أخرى أمر مختلف تمامًا عن ترجمتها إلى واقع يومي معاش. فالحالة الأولى هي مِران فكري على المستوى السطحي للشخصية، ولا يهم مدى المهارة أو الجودة البحثية المنطويتين فيها. أما الحالة الثانية فتبلغ أقصى أعماق الوعي، مؤدية إلى تحول تام للشخصية والسلوك. إذا كان بوسعنا فهم بهَغَفاد غيتا كدليل من أجل الحياة اليومية، نستطيع حينها فهم غاندي. لكن يستحيل إدراك الغيتا على هذا المنوال دون محاولة وضعها قيد الممارسة، كما فعل غاندي. الاكتفاء بمحبة أولئك الذين يحبوننا لا يستحق جدارة تسميته نهجًا لاعنفيًا. فأساس النهج اللاعنفي هو محبة من يكرهنا. أعرف أنه من الصعب اتباع قانون المحبة العظيم هذا، لكن أليس من الصعب التعامل مع جميع القضايا العظيمة والخيِّرة؟ محبة الكاره لنا هو أقصى صعوبة تواجهنا على الإطلاق. لكن، بنعمة الرب، حتى هذا الأمر البالغ الصعوبة يصبح من السهل إنجازه إن شئنا القيام بذلك. لست قادرًا على تلمُّس أي فارق بين العِظة على الجبل وبين بهَغَفاد غيتا. فما تصفه العظة بأسلوب تصويري، تختزله بهَغَفاد غيتا إلى صيغة علمية. قد لا تكون بهَغَفاد غيتا كتابًا علميًا بالمعنى المُسلَّم به للمصطلح، لكنها تحاول البرهنة على قانون المحبة – قانون الهجر كما يمكنني تسميته – بأسلوب علمي. جاء في الغيتا: "قم بعملك المخصّص لك وتخلَّ عن ثمرته. إعمل بلا تعلُّق بنتائج العمل، ولا تأسرك رغبة في مكافأة". هذا هو التعليم الجليُّ للغيتا. من يتخلى عن العمل يهوي؛ ولا يحلِّق عاليًا إلا من يتخلى عن مكاسب عمله. لكن الزهد في ثمار العمل لا يعني عدم الاكتراث بالنتيجة. ففيما يتعلق بأي عمل، لابد للمرء من أن يعرف النتيجة المرجوة والوسائل المتاحة والطاقة على الإنجاز. ومن يحقق هذه الجهوزية، ويعفُّ عن النتائج، وينهمك كليًا في تنفيذ وافٍ للمهمة الماثلة أمامه، هو من يُقال عنه إنه زاهد في ثمار عمله. المنذور للغيتا لا يعرف معنى للإحباط. إنه يقيم على الدوام في حالة من البهجة والسلام الخالدين، التي لا يصل إليها المتشكِّك أو المتفاخر بثقافته وسعة علمه، فهي مُدَّخرة فقط للمتواضع في روحه، لمن يبذل في تعبُّدها كامل الإيمان ووحدانية عقلية لا تنفصم. "وحدانية عقلية لا تنفصم" هو ما تعنيه الغيتا بالـيوغا. إنها النقيض التام للصراع المتواصل بين الفكر والمشاعر والعواطف والغرائز الذي هو الحال الاعتيادي لأذهاننا. اليوغا هي إعادة دمج كلي لكل هذه الشظايا على مستوى الشخصية بكاملها. إنها سيرورة التحول إلى كلٍّ. أثناء مؤتمر الطاولة المستديرة في لندن، كان غاندي يعايش قضية حرية الشعب الهندي في كل لحظة من لحظات يومه. كانت حياته اليومية مناشدة عفوية خلَّفت تأثيرًا مباشرًا على الشعب البريطاني لأن غاندي كان قد تماثل تمامًا مع رسالته. لم يكن مضطرًا إلى التخطيط للخطابات أو إخراج الأحداث مسرحيًا؛ كل ما كان يفعله هو تجسيد لما كان يؤمن به. في إحدى المرات أثناء ذلك المؤتمر، تحدث غاندي بطلاقة أمام مجلس العموم البريطاني لأكثر من ساعتين باسم الشعب الهندي. وبعد انتهائه، تحلَّق المراسلون الصحفيون حول سكرتير غاندي، مهاديف ديساي، متسائلين بدهشة: "كيف تواتيه القدرة على التحدث بطلاقة لفترة طويلة دون أي تحضير، ودون تلقين، ودون أوراق ملاحظات حتى؟". أجاب ديساي: "ما يفكر فيه غاندي، وما يشعر به، وما يقوله، وما يفعله هو الأمر ذاته. إنه لا يحتاج إلى أوراق ملاحظات". وأضاف مبتسمًا: "أنتم وأنا نفكر في شيء، ونشعر بشيء آخر، ونقول شيئًا ثالثًا، ونفعل شيئًا رابعًا، لذا نحتاج إلى أوراق ملاحظات ومصنفات لتعقُّب كل ذلك". الآن، في هذه اللحظة التي أكتب فيها، لا أفكر مطلقًا بما كنت قد قلته قبلاً. ليس هدفي أن أكون منسجمًا مع ما صرَّحت به سابقًا بشأن قضية ما، بل أن أكون متساوقًا مع الحقيقة كما تُقدِّم نفسها لي في لحظة ما. وكانت النتيجة أنني انتقلت صاعدًا من حقيقة إلى أخرى؛ لقد جنَّبت ذاكرتي توترًا غير لازم؛ والأكثر من ذلك، كلما كنت مجبرًا على مقارنة ما كتبته منذ خمسين سنة حتى مع آخر ما كتبت، كنت اكتشف عدم التضارب بين الحالتين. سيأتي زمن يصبح فيه الفرد لا يُقاوم وتصبح أفعاله كلية الشيوع في تأثيرها. سيحصل هذا عندما يختزل الفرد نفسه إلى عدم. قلَّة منا ترى الحياة على حقيقتها. فمعظمنا يرى الأمور من منظوره الخاص فحسب؛ ننظر إلى الآخرين من خلال ما نحب وما لا نحب، ومن خلال أحكامنا المسبقة وتحيُّزاتنا ورغباتنا ومصالحنا ومخاوفنا. هذه النظرة الجانحة إلى الفرز هي التي تُشظِّي الحياة بالنسبة لنا: شخص ضد شخص، مجتمع ضد مجتمع، أمة ضد أمة. لكي نرى الحياة كما هي، كلٌّ واحد غير منقسم، علينا التخلص من كل ارتباط بالمنفعة الشخصية أو السلطة أو الرغبة أو الجاه. بمعنى آخر، لا يجدي النظر إلى الحياة من خلال تشريطنا الفردي، إذ سنرى العالم ليس كما هو، بل كما تشترطه رغباتنا. طوال سنين عدة من مثل هذا التشريط، مع المحاولة مرارًا وتكرارًا إرضاء رغباتنا الشخصية، نكون قد وصلنا إلى الاعتقاد بأن هذه هي شخصيتنا. في الواقع، ليس هذا سوى قناع نسينا كيف ننزعه. تحت هذا القناع يكمن كل بهاء ذاتنا الحقيقية: البسالة التامة، المحبة اللامشروطة، والبهجة الدائمة. عندما نجح غاندي في نزع هذا القناع و"جعل نفسه عدمًا" عبر سنين من العيش من أجل الآخرين بدلاً من العيش من أجل نفسه، وجد أن ما قد استأصله من شخصيته لم يكن سوى انعزاله وأنانيته وخوفه، وما تبقى كان المحبة والجرأة اللتين كانتا مخفيتين هناك طوال الوقت. كتب أحد معلِّمي التأمل في الهند القديمة، ويدعى باتانجالي، أنه في حضور إنسان ماتت كل عداوة في داخله، لأنه لا يتحدى أحدًا، لا يمكن للآخرين أن يكونوا عدائيين. في حضور إنسان مات كل خوف في داخله، لأنه لا يهدد أحدًا، لا يمكن لأحد أن يخاف. إنه تعريف علمي دقيق للقوة المحرَّرة في أهِمسا الحقيقية. بالنسبة للشخص اللاعنفي، العالم بأجمعه عائلة واحدة. وبالتالي لن يخيف أحدًا ولن يخيفه الآخرون. ذات أمسية في أشرم سيفاغرام، تجمع مئات من الناس لأداء صلاة ليلية. كانت الشمس على وشك المغيب وهو الوقت الذي تبدأ الأفاعي بالخروج من جحورها بعد نهار هندي قائظ. في تلك الأمسية، شوهدت أفعى كوبرا تنسلُّ باتجاه الجمع. ومن المعروف أن عضة الكوبرا سريعة الفتك، وفي القرى الهندية التي تفتقر عادة إلى الإسعافات الطبية، تثير مثل هذه الأفاعي الرعب في قلوب الناس. ومع اقتراب الأفعى، بدأت تسري موجة من الهلع في صفوف الجمع، وكان هناك خطر من أن يؤدي التدافع بين الناس إلى مقتل البعض دعسًا تحت الأقدام إذا ما عمَّ الذعر ودبَّت الفوضى. لكن غاندي أشار للناس بالتزام الهدوء. كان غاندي جالسًا على المنصة. لم يكن يرتدي سوى دهوتي Dhoti (مئزر)، عاري الصدر والساقين والذراعين. وبينما كان الحشد يكتم أنفاسه ويراقب، شقت الأفعى طريقها مباشرة نحو غاندي وبدأت تزحف ببطء على فخذيه. مرت لحظة صمت طويلة لم يجرؤ خلالها أحد على الإتيان بحركة أو إصدار صوت. ولابد أن غاندي كان يردد ترتيلته: راما، راما، راما. ويبدو أن الكوبرا، في ذات الوقت، قد فقدت كل أثر للخوف، وأحست بطريقتها الخاصة أنها بحضور إنسان لن يسبب لها أي أذى على الإطلاق. وببط، زحفت بهدوء مبتعدة دون أن تؤذي أحدًا. لأبسط الأشياء مقدرة خاصة على الظهور لنا أحيانًا وكأنها الأصعب. وإذا كانت قلوبنا صافية، يجب ألا تعيقنا صعوبة. اللاعنف مسألة تتعلق بالقلب. إنه لا يصل إلينا عبر مأثرة فكرية. كل إنسان لديه إيمان بالله وإن لم يعرف. فكل إنسان لديه إيمان بنفسه وهذا ما يوصل إلى الدرجة القصوى: الإيمان بالله. لم تكن الجرأة خصيصة امتلكها غاندي منذ ولادته. حتى في المدرسة الثانوية، كانت فرائصه ترتعد أمام أطفال أضأل منه حجمًا. كانت لديه فقط قدرة نامية على التحمل ورغبة حارقة لأن يصبح قويًا. كانت خادمة العائلة، رامبها، هي أول من أسرع لمساعدته. كانت تطمئنه قائلة: "ما من خطأ في اعترافك بخوفك. لكن بدلاً من أن تلوذ هاربًا حينما تواجه تهديدًا، إثبت في مكانك وردِّد في ذهنك ترتيلة راما، راما مرارًا وتكررًا فبوسعها أن تحول خوفك إلى جرأة". ولأن غاندي كان يحب رامبها، فقد اتبع نصيحتها لفترة من الزمن، لكنه ما لبث أن نسيها. فبالنسبة لعقليته الشابة الناشئة في جو من التعليم الغربي، لابد أن يبدو تكرار ترتيلة فعلاً ميكانيكيًا وضربًا من الخرافة. لكن غاندي كان ذو تفكير علمي لا يجعله يؤمن أو لا يؤمن بشيء ما لفترة طويلة دون اختباره بنفسه. فالبذرة التي زرعتها رامبها عميقًا في وعيه استمرت طوال طفولته، وأخيرًا، عندما بدأت عواصف الصراع والكراهية العرقية تضرب حوله في جنوب أفريقيا، واتته الترتيلة مجددًا من أعماقه. وبالتدريج، كما أكدت نفسها في حياته، غدت الترتيلة سنده الأكبر ومصدر قوة لا يجانبه الصواب. تصبح الترتيلة قِوام حياة المرء، وهي تسعفه في كل محنة يُبتلى بها. كل تكرار... له معنى جديد، كل تكرار يقرِّبك أكثر فأكثر إلى الله. الترتيلة هي صيغة روحية اكتشف فيها الملتمسون من كافة النواميس الدينية إمكانية تحويل ما هو سلبي في الشخصية إلى ما هو إيجابي: الغضب إلى حنوٍّ، الضغينة إلى طيبة، الكراهية إلى محبة. فتسكين العقل يجعله يدمج تدريجيًا الأفكار المتفرقة والمتعارضة في مستوى من الوعي أكثر عمقًا. ترتيلة غاندي، راما، هي وصفة للابتهاج الدائم. لقد اعتاد غاندي على المشي عدة أميال في اليوم مرددًا الترتيلة في ذهنه إلى أن يبدأ إيقاعها وإيقاع خطواته بالانتظام مع إيقاع تنفسه، الذي هو على صلة وثيقة بإيقاع الذهن، كما بدأ العلماء يثبتون. وعندما كان الخوف أو الغضب يهددانه، كان الاعتصام بـ راما يستخدم قوة هاتين العاطفتين لتشغيل صيغة الابتهاج العميق هذه في ذهن غاندي. الإغفاء على إيقاع راما، راما كان يجعله ينام نومًا رغيدًا. وعلى مر السنين، وفيما كانت الترتيلة تخترق شكوكه ومخاوفه الأكثر عمقًا، أصبح مقيمًا في قلب البهجة. كانت عادة ذهنية لم يستطع اضطراب خارجي أن يخلخلها، أو يفنيها تهديد بالعنف. لابد أن رامبها أخذت غاندي، في صغره، مرات عدة لمشاهدة فيلة المعبد وهي تسير في المواكب المقدسة عبر شوارع سوق بوربندر الضيقة المتعرجة، شاقَّة طريقها بين صفوف أكشاك بيع الفواكه والخضروات. كانت هذه الفيلة، بعيني رامبها الورعتين، إيضاحًا نابضًا بالحياة لما يمكن أن تفعله ترتيلة راما. فبينما تسير الفيلة عبر الشوارع بين الدكاكين وخراطيمها تتلوى بهياج من جانب إلى آخر مثل الأفاعي، كانت تغرف من سلال جوز الهند والموز وترميها في أفواهها الكهفية. لا يمكن لتهديد أو وعيد أن يهدئها. لكن مدرب الفيلة الماهر، الذي يعرف فيله ويحبه جدًا، يمد له عصا خيزران فيلفُّ الفيل خرطومه حولها ويهدأ. ولا يعود هناك هياج أو اختلاس من السلال. ويمشي الفيل عبر الشوارع المزدحمة ورأسه شامخ، رافعًا عصا الخيزران أمامه باعتزاز، ولا يولي جوز الهند أو الموز أدنى اهتمام. قد تكون رامبها قالت لموهنداس الصغير: "عقلك يشبه كثيرًا خرطوم الفيل ذاك، ما أن يتشبث بالترتيلة حتى يتبدد كل هياج فيه". إنها الرسالة ذاتها التي توصلها بهَغَفاد غيتا: اجعل عقلك ثابتًا في كل ظرف – في النصر والهزيمة، في الإطراء والملامة، في المحبة والكراهية – ولن تستطيع قوة أن تزحزحك عن هدفك حيثما وليت وجهك. حينها، يمكنك أن تدَّعي أنك حر. الترتيلة تسكِّن العقل وتهيؤه للتأمل الذي هو مفتاح هذا التحول للشخصية والوعي. التأمل ليس طقسًا دينيًا؛ إنه انضباط دينامي بمعزل عن أي معتقد أو عقيدة، تُستحضَر فيه كامل قوى التركيز الفكري للمرء للدنو من مثاله ذي الأولوية وإقحامه في كل خلية من خلايا العقل، إلى أن يستنفذ تدريجيًا كل المُثل والأهداف الأصغر. ويدخل المرء، عبر عملية التدريب هذه، إلى أعمق مستويات الوعي التي تثور فيها عواصف الصراعات الراسخة ليل نهار بلا انقطاع. في هذه الأعماق المرعبة، كما قال غاندي، تتصارع المحبة مع الغضب والخوف، "وفي نهاية المطاف، تتغلب المحبة على كل المشاعر الأخرى". مبدأ التأمل هو أن تغدو ما تتأمل فيه. كان غاندي يتأمل "بوحدانية عقلية لا تنفصم" حول مثال بهَغَفاد غيتا: الإنسان الذي يتخلى عن كل مباهج الحياة من أجل محبة إسداء الخدمات للآخرين، ويعيش في حرية وابتهاج. الأبيات الشعرية الثمانية عشرة الأخيرة من الفصل الثاني في الغيتا تقدم بإيجاز كلِّي سرَّ فن العيش. لقد نُقشت تلك الأبيات على صفحة قلبي. إنها، بالنسبة لي، تتضمن كل المعرفة. الحقائق التي تعلمني إياها هي "حقائق أبدية". ثمة حجة فيها، إلا أنها تقدم معارف مُدرَكة. لقد قرأت في ما مضى العديد من الترجمات لتلك الأبيات والكثير من التعليقات عليها، وناقشت واحتكمت إلى اطمئنان قلبي، لكن الانطباع الذي خلَّفته في نفسي قراءتي الأولى لها لم يُمحَ قط. تلك الأبيات هي المفتاح لتأويل الغيتا. ينتهي الفصل الثاني من بهَغَفاد غيتا بوصفٍ للحالة الأسمى للوعي التي يمكن للكائن البشري بلوغها. إنها التعبير الأكثر غنى لمَثَل الغيتا. فعندما تقيم المحبة عميقًا في قلبك، كما كان يقول سري كريشنا لأرجونا، يتلاشى كل تعلُّق أناني، ويتلاشى معه كل إحباط، وكل اضطراب، وكل يأس. فيسأل أرجونا بحماس: كيف لي أن أميِّز مثل هذا الشخص عندما ألتقي به؟ ما هي سمات الإنسان الذي يعيش دومًا في الحكمة، رابط الجأش تمامًا؟ أخبرني، كيف يتحدث، وكيف يتصرف عندما يُحدق به خطر؟. يجيب كريشنا:
يعيش في قلب الحكمة ***
عندما تواصل التفكير في المواضيع الحسِّية، ***
لكن عندما تتنقل وسط عالم الحواس ***
العقل المشتت أبعد ما يكون عن الحكمة؛ ***
حر إلى الأبد توجز هذه الأبيات حياة غاندي. فطوال خمسين عامًا كان يتأمل حولها صباح مساء، ويكرس كامل جهده لترجمتها، بمعونة الترتيلة، في عمله اليومي. كانت هذه الأبيات المفتاح إلى تحوُّله الذاتي. ترجمة: غياث جازي *** *** *** ٭ فصل من كتاب غاندي الإنسان، إكناث إيسوران، ترجمة غياث جازي. قيد الطباعة حاليًا. |
|
|