|
علم نفس الأعماق
إن البوح بـ "التصوير الهوامي" للطفل المضروب هو أمر شائع لدى الأشخاص الذين يطلبون المعالجة بالتحليل النفسي من أجل مرض هستيري أو عصاب وسواسي، وأغلب الظن أن هذا "التصور" يظهر أكثر ما يظهر عند أشخاص آخرين لا يجبرهم مرض ظاهر على اتخاذ قرار المعالجة النفسية. وترتبط بهذا "الهوام" مشاعر اللذة التي حفزت إعادة إفرازه مرات عديدة، وجعلته يتكرر إلى لحظة المعالجة، ويحدث في ذروة الوضع المتصور "إشباع استمنائي" (استمناء على صعيد الأعضاء التناسلية) إذ يحوز في البداية رضى وموافقة الشخص لكنه يتخذ فيما بعد طابعًا قهريًا. يتردد الشخص في البوح بهذا "الهوام"، وتكون ذكرى ظهوره الأول غير واضحة، كما أن المقاومة الداخلية له تقف في وجه معالجته، إذا قد تتحرك مشاعر الخزي والذنب في هذه الحالة بقوة أكبر من تلك الاعترافات المماثلة التي تتناول الذكريات الأولى عن الحياة الجنسية.
حين أبدأ بعلاج مريض جديد، كثيرًا ما أرسم دائرة كبيرة؛ أفتح في محيطها كوَّة صغيرة، مخاطبًا المريض وأنا أشير إلى داخل الكوَّة: "هذا يمثِّل شعورك، وباقي الدائرة بأسره – 95% أو أكثر – يمثِّل اللاشعور؛ فإذا خصصتَ من الوقت والجهد ما يكفي لتفهم نفسك، سيفضي بك الأمر لأن تكتشف أن ذلك الجزء الفسيح من دماغك، الذي لا تعلم عنه الآن سوى مقدار يسير، يحوي في طياته ثروة تفوق الخيال!". إن إحدى الطرق التي يمكن لنا من خلالها أن نعلم بوجود تلك الحالة الرائعة – الفسيحة والخبيئة معًا – في طيات لاشعورنا، هي سبر غور أحلامنا. أتى أحدهم، وهو ذو شهرة، لزيارتي شاكيًا من اكتئاب عانى منه لسنوات عدة؛ لم يكن الرجل ليجد متعة في عمله مع جهله لتفسير لذلك. ورغم أن أبويه كانا فقيرين نسبيًا، بيد أن عددًا من أسلاف أبيه كانوا قد عاشوا حياة شهرة وثراء، ولم يعلق مريضي أهمية تذكر على الحقيقة الأخيرة.
علاج رايشي 1940 – 1945 تأسس علم الطاقة الحيوية من خلال عمل فيلهلم رايش. وهذا الأخير كان أستاذي منذ سنة 1940 حتى سنة 1952، ومحلِّلي النفسي منذ عام 1942 حتى عام 1945. تعرَّفتُ عليه سنة 1940 في المدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي New School for Social Research في نيويورك حيث كان يعطي دورةً حول تحليل الطبع. أثار فضولي الوصف الفهرسي لهذه الدورة، ذلك أنه كان يشير إلى المطابقة الوظيفية لطبع شخص مع وضعيته الجسمانية أو درعه العضلي. يشير هذا الدرع العضلي إلى المستوى العام للتوترات العضلية المزمنة في الجسم. إنه معرَّفٌ على هذا النحو لأنه يفيد في حماية الفرد من التجارب الانفعالية المؤلمة والمهدِّدَة. إنه مثل ترسٍ يحمي الفرد من الدوافع الخطيرة الناجمة عن شخصيته نفسها، مثلما هو الأمر لحمايته من بطش الآخرين. كنت قد أتيت لأطوِّر دراسةً حول العلاقة عقل–جسد، وذلك خلال بضعة أعوام سبقَت لقائي مع رايش. وُلِدَ هذا الاهتمام من خلال تجربتي الشخصية مع نشاطات جسمانية كالرياضة والجمباز. وخلال أعوام الثلاثينيات كنتُ قد تسلَّمتُ إدارة الرياضة في عدة مخيَّمَات صيفية. واكتشفتُ أن برنامجًا منتظمًا من النشاطات الجسمانية لم يحسِّن من صحتي فحسب، بل كان له نتائج إيجابية في حالتي العقلية. وخلال مدة دراساتي تفحَّصت أفكار إيميل جاك دالكروز Emile Jacques-Dalcroz والمسماة بـالرقص الإيقاعي Euritmia ومفهوم إدموند جاكوبسون Edmund Jacobson للاسترخاء التدريجي واليوغا. أكَّدَت دراسات كهذه انطباعي القوي أن الفرد بوسعه التأثير على مواقفه العقلية من خلال عمله على الجسد، لكن، اقتراحاتهما لم ترضِني بشكلٍ كامل.
أكرر لكم أننا لا نحاول إقناعكم بأي شيء، يجب أن يكون هذا واضحًا، فنحن لا نحاول إقناعكم بقبول وجهة نظر معينة، ولا نحاول التأثير عليكم، كما لا نحاول الدعاية لأي شيء. نحن لا نتحدث عن شخصيات، كما لا نتساءل عمن هو المصيب ومن هو المخطئ، بل نحاول معًا فهم ورؤية ماهية العالم وماهية أنفسنا، ماذا فعلنا بالعالم وماذا فعلنا بأنفسنا. سنحاول معًا فهم داخل الإنسان وخارجه. التحرر شرطُ الرؤية الواضحة الوحيد. حيث من الواضح أنه إذا ما تعلق المرء بتجربة معينة وأحكام وآراء مسبقة معينة فإنه لن يكون قادرًا على التفكير بصفاء. تدفعنا الأزمة العالمية الماثلة أمام أعيننا وتحثنا على التفكير معًا لنجد حلولاً لمشاكلنا الراهنة، ليس تبعًا لشخص معين، لفيلسوف أو لمعلم (غورو). نحن نحاول هنا أن نرى معًا، لأنه من الهام أن نتذكر دومًا أن المتحدث إليكم إنما يشير إلى شيء نختبره معًا، فهو ليس منحازًا إلى طرف معين، بل نحن نتعاون في محاولة للفهم، في رحلة تجمعنا، ولهذا فنحن نعمل مع بعضنا.
العنف ظاهرة ملازمة للحياة الإنسانية، ولها تاريخ كما للإنسان تاريخ. تظهر للعنف في السلوك الإنساني أشكال متعددة ومتنوعة يصعب إرجاعها من أجل فهمها إلى عامل واحد، وذلك بالنظر إلى اختلاف مكوناتها وشروط حدوثها، وتنوع الآثار الناجمة عنها من مستوى إلى آخر. لذلك ننطلق في دراسة العنف من فرضية عامة مضمونها أن أشكاله المتنوعة في مظاهرها ومستوياتها غير قابلة للفهم جميعها بالطريقة نفسها أو بإرجاعها إلى العوامل نفسها. نرى، من جهة أخرى، أن الاستناد إلى العلوم الإنسانية المختلفة من شأنه أن يساعد في فهم الظاهرة بإلقاء كل واحد من تلك العلوم الضوء على جانب من جوانبها، وذلك بإبراز أثر بعض مكوناتها في حدوثها وتنوعها وعواقبها.
|
|
|