|
معجزة اللاشعور
حين أبدأ بعلاج مريض جديد، كثيرًا ما أرسم دائرة كبيرة؛ أفتح في محيطها كوَّة صغيرة، مخاطبًا المريض وأنا أشير إلى داخل الكوَّة: "هذا يمثِّل شعورك، وباقي الدائرة بأسره – 95% أو أكثر – يمثِّل اللاشعور؛ فإذا خصصتَ من الوقت والجهد ما يكفي لتفهم نفسك، سيفضي بك الأمر لأن تكتشف أن ذلك الجزء الفسيح من دماغك، الذي لا تعلم عنه الآن سوى مقدار يسير، يحوي في طياته ثروة تفوق الخيال!". إن إحدى الطرق التي يمكن لنا من خلالها أن نعلم بوجود تلك الحالة الرائعة – الفسيحة والخبيئة معًا – في طيات لاشعورنا، هي سبر غور أحلامنا. أتى أحدهم، وهو ذو شهرة، لزيارتي شاكيًا من اكتئاب عانى منه لسنوات عدة؛ لم يكن الرجل ليجد متعة في عمله مع جهله لتفسير لذلك. ورغم أن أبويه كانا فقيرين نسبيًا، بيد أن عددًا من أسلاف أبيه كانوا قد عاشوا حياة شهرة وثراء، ولم يعلق مريضي أهمية تذكر على الحقيقة الأخيرة. ثمة عوامل عديدة كانت قد سببت الاكتئاب للرجل، وقد استغرقتني – وإياه – شهور عديدة لننتبه معًا إلى دور بيئته المحيطة كعامل مهم منها. وهكذا، في الجلسة التالية للتي طرحنا خلالها للمرة الأولى دور البيئة المذكور، روى الرجل حلمًا رآه في الليلة السابقة؛ فيما يلي مقطع منه: "كنا في منزل مليء بقطع الأثاث الثقيلة الضخمة والمتناثرة هنا وهناك، وكنت أصغر سنًا بكثير مما أنا عليه الآن، وقد طلب مني أبي أن أبحر – عبر خليج صغير – للوصول إلى قارب كان قد تركه هو، لسبب ما، على جزيرة تقع بعد الخليج. كنت توَّاقًا للقيام بتلك الرحلة، وسألته كيف يمكن أن أعثر على القارب، فأخذني إلى حيث كانت توجد قطعة أثاث ضخمة: صندوق خشبي عملاق يبلغ طوله اثني عشر قدمًا على الأقل ويمتد ارتفاعًا ليصل إلى سقف الغرفة محتويًا عشرين، أو ربما ثلاثين، درجًا هائل الحجم؛ وأخبرني أنه يمكنني العثور على القارب إذا أمعنتُ النظر على طول حافة الصندوق!". بادئ ذي بدء لم يكن للحلم معنى واضحًا، ولذلك طلبت منه – كما عادتي – أن يربط الصندوق الكبير ذا الأدراج بشيء ما، وأجابني على الفور: "لسبب ما، ربما لأن الصندوق بدا ضخما للغاية وثقيلاً، نعم... إنه يجعلني أفكر بتابوت". "وماذا عن الأدراج؟" سألته. وفجأة ابتسم قائلاً: "ربما لأنني أرغب في قتل جميع أسلافي!"، وأضاف: "إن ذلك يجعلني أفكر بقبر عائلي... مدفن جماعي يتسع كل درج من أدراجه لجثة". وعندها تبدى للحلم معنى ذا مغزى بالنسبة لي: لقد زُوِّد الرجل – مرارًا وطيلة فترة شبابه – بروايات عن أسلافه الناجحين وكان يحاول السير على طريقهم لبلوغ المجد؛ بيد أنه – وعلى الدوام – كان يشعر بذلك كقوة تجثم على صدره ويتمنى، سيكولوجيًا، أن يقتل جميع أجداده ليتحرر من ذلك الضغط!. في مقدور أي شخص ذي خبرة في تفسير الأحلام أن يميز الحلم السابق كحلم متكرر ونموذجي، وأود هنا أن أركز على أهميته في إحدى جوانب "نموذجيته": فالرجل شرع في العمل على حل مشكلته، وسرعان ما أنتج لاشعوره "دراما" تشرح سبب تلك المشكلة؛ سببًا لم يكن يعيه فيما سبق؛ وقد فعل لاشعوره ذلك عبر رموز تضاهي في براعتها ما قد يستخدمه أشد الأعمال المسرحية براعة وإتقانًا. كان من الصعب، آنذاك، تصوُّر أن أية تجربة تحدث في تلك المرحلة، كانت ستمنحني ومريضي تحليلاً أشد بلاغة من ذلك الحلم بعينه؛ و بدا جليًا أن لاشعوره أراد أن يقدم له – ولعملنا معًا – المساعدة، وقد فعل ذلك ببراعة تامة. والحال أن ما يجعل المحللين النفسيين يستفيدون مرارًا من تفسير الأحلام هو كونها تشكِّل دائمًا عاملاً مساعدًا وعونًا كبيرًا لهم. وعليَّ أن أقر هنا أن ثمة أحلامًا تضللني دلالاتها كليَّة، مما يدفع بي لأن أتمنى – بفظاظة – على اللاشعور أن يخاطبنا بلغة أبسط وأوضح!. وعلى أية حال، ففي الحالات التي ننجح خلالها في "الترجمة" تبدو الرسالة وكأنها قد صُمِّمت خصيصًا كي تعزز نمونا الروحي. ومن خلال تجربتي أدركتُ أن الأحلام، التي نتمكن من تفسيرها، تزودنا دائمًا بمعلومات مفيدة. يمكن لتلك المساعدة أن تأتينا بأشكال متنوعة: كتحذيرات من مآزق شخصية، أو كمرشد إلى حلول لمشاكل عجزنا عن حلها سابقًا، أو كدليل يشير بقوة الى خطأنا – بينما نظن أننا على صواب –، أو كتشجيع يزيد من ثقتنا بأننا مصيبون حين نشك في ارتكابنا لخطأ ما، أو كمصدر لمعلومات هامة عن أنفسنا كنا نفتقدها في السابق، أو كدليل يجد لنا الدرب حين نشعر أننا تائهون، أو كمرشد نحتاجه إلى الوجهة الصحيحة عندما نتخبط أو نضل الطريق. إن للاشعورنا القدرة على التواصل معنا خلال اليقظة بنفس الكفاءة والأناقة التي يفعل بها ذلك ونحن نغط في النوم، رغم أن ذلك يتم على نحو مختلف قليلاً؛ وهذا ما ندعوه "الأفكار التافهة" أو حتى "شذرات الأفكار". إننا، في معظم الحالات، وكما يحدث مع الأحلام، لا نعير تلك الأفكار "عديمة الجدوى" أي اهتمام، بل ننحيها جانبًا كما لو كانت غير ذات معنى، ولهذا السبب بالذات يعلَّم المرضى والمعالَجون النفسيون مرارًا أن يفصحوا عما يرد الى أذهانهم مهما بدا سخيفًا أو غير ذي دلالة في البدء. كلما قال المريض: "إنها فكرة سخيفة، لكنها تعاود الإلحاح على ذهني، وهي ليست ذات معنى، لكنك طلبت مني أن أخبرك بتلك الأشياء"، علمتُ حينها أننا قد أصبنا الهدف وأن المريض قد تلقى، للتوِّ، رسالة هامة للغاية من اللاشعور، رسالة ستلقي ضوءًا ساطعًا على حالته. وبينما تزودنا تلك الأفكار التافهة عادة بنظرة متبصرة حيال أنفسنا، فلربما تمنحنا أيضا آراء مثيرة عن الآخرين أو عن العالم الخارجي. واسمحوا لي هنا، كمثال على "فكرة تافهة" تأتي كرسالة من اللاشعور وتنتمي إلى الزمرة السابقة، أن أصف تجربة شخصية مررتُ بها مع إحدى مريضاتي: كانت المرأة الشابة تعاني منذ مراهقتها المبكرة من الدوار، شعور بأنها على وشك الوقوع أرضًا في أية لحظة، مما لم يجد له الأطباء سببًا فيزيولوجيًا. وبسبب ذلك الشعور بالدوار، كانت الفتاة تسير بأرجل مستقيمة، مفتوحة الزوايا وكأنها تتهادى كالأطفال. كانت ذكية وجذابة على نحو ملفت، ولم أكن أمتلك أدنى فكرة، بادئ ذي بدء، عما يمكن له أن يكون سببًا لدوارها، خصوصًا أن سنوات عدة من العلاج النفسي فشلت في شفائها. وللسبب الأخير أتت كي تطلب مني المساعدة. في منتصف جلستنا الثالثة، وبينما كانت تتمدد بارتياح متحدثة عن مواضيع شتى، اندفعت فجأة الى ساحة شعوري كلمة واحدة: "بينوكيو". ولأنني كنت أحاول التركيز على ما تقوله المريضة فقد دفعت جانبًا بالكلمة إلى خارج شعوري. وخلال دقيقة، رغمًا عني، عادت الكلمة مجددًا إلى ذهني على نحو مرئي تقريبًا، كما لو أن أحدًا يقوم بتهجئتها أمام عيني: "ب ي ن و ك ي و". أغمضتُ عينيَّ، منزعجًا هذه المرة، وعدت إلى التركيز مجددًا على ما تقوله مريضتي. بيد أن الكلمة، كما لو كانت تمتلك إرادة مستقلة ذاتية، عادت إلى ساحة وعيي في غضون دقيقة أخرى وكأنها تطالبني بالانتباه لها. "انتظر لحظة" قلت لنفسي أخيرًا. "إذا كانت الكلمة تواقة إلى البقاء في ساحة شعوري إلى تلك الدرجة فمن الأفضل أن أمنحها شيئًا من الاهتمام، أنا أعلم أن هذه الأشياء ربما تكون هامة وينبغي أن أصغي إلى لاشعوري حين يحاول إخباري بأمر ما". وهكذا فعلت. "بينوكيو! اللعنة. ما الذي يمكن لكلمة كهذه أن تعنيه هنا؟ إنكم لا تفترضون وجود علاقة بين الكلمة ومريضتي الشابة، هل لكم أن تفعلوا؟ إنكم لا تفترضون أنها هي بينوكيو، هل هي كذلك؟ ولكن انتظروا لحظة! إنها جميلة ولطيفة كدمية صغيرة، وهي ترتدي الأحمر والأبيض والأزرق، وفي كل مرة تأتي فيها لزيارتي كانت ترتدي الألوان الثلاثة السابقة، وهي تمشي بطريقة مضحكة كجندي خشبي ثمل يترنح. نعم، لقد وجدتها! إنها دمية. يا إلهي، إنها بينوكيو! إنها لعبة خشبية!". وفي الحال انكشف لي جوهر مريضتي: لم تكن الفتاة الشابة شخصًا حقيقيًا، بل كانت دمية خشبية صغيرة تحاول أن تتصرف بحيوية لكنها خائفة من السقوط في أية لحظة والتحول إلى كومة من العصي والخيوط. ثم انكشفت الحقائق المؤيدة بسرعة واحدة تلو الأخرى: أم شديدة التسلط تتحكم بالخيوط، وتفخر لكونها ربَّت ابنتها "بين ليلة وضحاها" على التزيُّن وارتداء الملابس. إرادة مكرسة تمامًا لإرضاء توقعات الآخرين المتعلقة بالمظهر الخارجي: أن تكون نظيفة، مرتبة، وأنيقة، وتتكلم الكلام اللائق وما يلزم. مهووسة بإرضاء من هم حولها وتلبية كل ما يطلب منها. ضياع كلي للحافز الذاتي وللقدرة على اتخاذ قرارات مستقلة. لقد قدَّمتْ النظرة المتبصرة، القيمة للغاية، نفسها لي وولجت ساحة شعوري كدخيل غير مرحب به، فأنا لم أقم بدعوتها، وبدا وجودها غريبًا وغير ذي علاقة بما كنت أقوم به من عمل: كعبث لا حاجة إليه. في البداية قاومتُها، محاولاً لمرات عدة أن أطردها من الباب الذي دخلتْ من خلاله. إن تلك الخاصية، التي تبدو غريبة وغير مرغوب فيها، هي صفة مميزة للمادة اللاشعورية وطريقة ولوجها إلى عقلنا الواعي. ويعود ميل فرويد وتلامذته الأوائل إلى اعتبار اللاشعور مخزنًا للبدائية والغرائزية والنزعات الشريرة – جزئيًا – إلى تلك الخاصية بالذات وما يرافقها من مقاومة عقلنا الواعي وتصديه لها. يبدو الأمر، إذن، كما لو أن فرويد وأتباعه قد افترضوا، اعتمادًا على حقيقة رفض العقل الواعي لها، أن تلك المادة اللاشعورية "سيئة". وعبر السياق ذاته، جنحوا إلى افتراض أن المرض العقلي يقيم بشكل ما في اللاشعور "كشيطان" في مجاهل لاوعينا الخفية. وعلى عاتق يونغ وقعت مسؤولية الشروع في تصحيح تلك الرؤيا، وقد فعل ذلك بوسائل عديدة، منها صياغته لعبارة "حكمة اللاشعور". إن تجربتي الشخصية قد أكدتْ آراء يونغ فيما يتعلق بهذه المسألة، حيث انتهى بي الأمر إلى استنتاج أن المرض العقلي ليس من نتاج اللاشعور، بل هو ظاهرة شعورية أو نتيجة اضطراب في العلاقة بين الشعور واللاشعور. لنلق نظرة على مسألة الكبت بهذه المناسبة: لقد اكتشف فرويد لدى العديد من مرضاه رغبات جنسية ومشاعر عدائية لم يكونوا واعين لها، وكانت تلك، بوضوح، علة مرضهم العقلي؛ وبسبب وجودها في اللاشعور برز مفهوم مفاده أن اللاشعور هو "سبب" المرض العقلي. ولكن، لمَ استقرت تلك الرغبات والمشاعر في اللاشعور منذ البداية؟ ولماذا تمَّ كبتها؟ الجواب هو أن العقل الواعي لم يكن يريدها، وفي ذلك الرفض، ذلك الإنكار، تكمن المشكلة!. ليست المشكلة إذن في امتلاك الموجود الإنساني لمشاعر جنسية وبدائية كتلك، بل في أن لديه عقلاً واعيًا غير مستعد، غالبًا، لمواجهتها ولتحمُّل الألم الناجم عن تلك المواجهة، ولهذا فهو غالبًا ما يكنسها ويدفعها إلى "ما تحت السجادة". ثمة طريقة ثالثة يتبعها اللاشعور لمخاطبتنا – إذا أردنا أن نصغي، ونحن غالبًا لا نفعل – هي عبْر سلوكنا اليومي، وأنا أشير هنا إلى زلات اللسان و"الأخطاء" الأخرى في السلوك أو "الزلات الفرويدية" التي فسَّرها فرويد كظواهر لاشعورية في كتابه الأمراض النفسية في حياتنا اليومية. إن استخدام فرويد لعبارة "الأمراض النفسية" كوصف لتلك الظواهر، يشير مجددًا إلى نظرته السلبية إزاء اللاشعور؛ فقد اعتبر أن للاشعور دورًا حاقدًا أو أنه – على الأقل – يتصرف كشيطان مضلِّل يحاول الإيقاع بنا بدلاً من النظر إليه كملاك يعمل جاهدًا كي يجعلنا أكثر صدقًا مع أنفسنا. حين يزلُّ لسان المريض خلال العلاج النفسي، يكون حدث كهذا، على الدوام، مساعدًا على العلاج أو حتى شافيًا، وخلال تلك الأوقات يحاول الشعور مقاومة العلاج لإفشاله عبر إخفائه حقيقتنا الذاتية عن المعالج وعن أنفسنا!. إن اللاشعور هو، في واقع الحال، حليف المعالج الذي يناضل من أجل الصدق والانفتاح والواقعية، ومن أجل أن "يسمي الأشياء بمسمياتها". اسمحوا لي أن أضرب بعض الأمثلة: بدأتْ إحدى مريضاتي – وهي امرأة متطيِّرة، عاجزة تمامًا عن الإقرار بغضبها، وغير قادرة بالتالي على التعبير عنه بحرية – بالوصول متأخرة لدقائق عدة عن جلسات العلاج. اقترحتُ عليها أن السبب يمكن أن يكون شعورها بضرب من الاستياء أو الرفض إزائي أو إزاء العلاج أو كليهما معًا، وهنا أنكرت بشدة ذلك الاحتمال شارحةً أن تأخرها يعود لأسباب عرضية من الحياة اليومية، ومؤكدة تقديرها العميق لشخصي وحماسها لعملنا معًا. في المساء الذي تلا تلك الجلسة دفعتْ مريضتي فواتيرها الشهرية متضمنة فاتورتي، وأتاني الايصال بالمبلغ غير موقع باسمها. في الجلسة التالية أعلمتها بذلك، مقترحًا مرة أخرى أنها لم توقع الايصال لأنها قد تكون غاضبة، أو غير راضية على الأقل، عن العلاج. فأجابت: "لكن هذا سخيف! أنا لم أنس مرة في حياتي توقيع شيك، أنت تعلم مدى حرصي وحذري فيما يتعلق بتلك الأمور، من المستحيل ألا أكون قد وقَّعتُ الشيك". أريتها الشيك غير الموقع. وهنا، ورغم أنها كانت دائمًا تضبط نفسها بشدة فيما سبق من جلسات العلاج، أجهشت فجأة بالبكاء هذه المرة: "ما الذي يحدث لي؟ إنني أتمزق كما لو أنني شخصان". وهكذا، فخلال نوبة ألمها، ومع تأكيدي لها بأنها تشبه المنزل المقسَّم الذي تصارع حجراته بعضها البعض، بدأتْ مريضتي للمرة الأولى تقبل باحتمال أنَّ جزء منها – على الأقل – يخفي شعورًا ما بالغضب؛ وهكذا تم إنجاز الخطوة الأولى من العلاج. ثمة مريض آخر كان يعتقد أنه من غير المعقول أن يشعر بالغضب – كيف هي الحال إذًا مع التعبير عنه – إزاء أيٍّ من أفراد أسرته. ولأن أخته كانت تزوره مرارًا خلال تلك الفترة فقد أخبرني عنها، واصفًا إياها بـ"الشخص الرائع المبهج"، ومضى خلال الجلسة يروي لي عن حفلة عشاء صغيرة كان يقيمها في ليلة سابقة وقد دعا إليها زوجًا من جيرانه و"بالطبع، أخت زوجتي"؛ وهنا أشرتُ لكونه كان قد وصف أخت زوجته قبل قليل بأخته، فقال بمرح: "أفترض الآن أنك تعتبرها واحدة من زلات فرويد"، وأجبتُ بالإيجاب: "ما يحاول لاشعورك إخبارك به هو أنك لا تريد لأختك أن تكون كذلك، بل تعتبرها بمرتبة أخت زوجتك فحسب، وهذا يعني في الحقيقة أنك تكره تصرفاتها!". "أنا لا أكره تصرفاتها" أجاب الرجل "لكنها لا تتوقف عن الكلام، وأعلم أنها ستستحوذ على مجمل حديثنا هذه الليلة. نعم، ربما، أظن أنني أرتبك إزاءها في بعض الأوقات". ثمة بداية صغيرة، إذًا، كان قد تم إنجازها ثانية هنا. ليس ضروريًا أن تعبِّر زلات اللسان دائمًا عن كره أو عن مشاعر "سلبية ومرفوضة"، بل هي تفصح عن جميع المشاعر التي تم إنكارها، سلبية كانت أم ايجابية؛ إنها تقول الحقيقة، أي حقيقة الأشياء، بدلاً من الطريقة التي نحب أن نفكر من خلالها بتلك الأشياء. ربما كانت أكثر زلات اللسان التي مررتُ بها خلال تجربتي تأثيرًا وبلاغة هي تلك التي صدرت عن امرأة شابة عند زيارتها الأولى لي: كنت أعلم أن والديها شخصان بليدان،غير ودييَن، كانا قد ربياها بكثير من الاحتشام مع غياب التعاطف والأصالة والعناية الصادقة. كانت قد قدَّمت نفسها إليَّ كامرأة واثقة، ناضجة، متحررة ومستقلة؛ وبررت قدومها إلى العلاج شارحة: "أشعر ببعض الحيرة مؤخرًا، وبفائض من الوقت، وأظن أن قليلاً من التحليل النفسي ربما يساهم في تطوري الفكري!". خلال تساؤلي عن سبب ارتباكها آنذاك علمتُ أنها كانت قد تركت الجامعة للتوِّ لأنها حامل في شهرها الخامس ولم تكن راغبة في الزواج. كانت تفكر أنها ربما تضع طفلها في عناية مربية بعد ولادته ثم تسافر إلى أوروبا لتكمل تعليمها. وسألتها إن كانت قد أعلمت والد الطفل، الذي لم تكن قد رأته منذ أربعة أشهر، بحملها. "نعم" أجابت. "تركتُ له ملاحظة صغيرة أعلمته فيها أن علاقتنا قد أنتجت طفلاً". بينما قصدتْ إخباري بأن طفلاً كان نتاج علاقتها، كانت المرأة الشابة قد أخبرتني هنا أنها، تحت قناع المرأة الكاملة، تخفي فتاة صغيرة جائعة، محرومة من الرعاية والاهتمام، وقد سمحت لنفسها بالحمل في محاولة يائسة منها للتمتع بحنان الأمومة، وذلك بأن تصبح هي ذاتها أمًا. لم أقم بمواجهتها بزلة لسانها تلك لأنها لم تكن مستعدة مطلقًا لتقبل حاجتها إلى الاعتماد على الآخرين وإلى الشعور بالأمان تجاه حيازتها مشاعر كتلك؛ بيد أن الزلة كانت مفيدة لها على أية حال، لأنها ساعدتني على إدراك أن الشخص الذي يجلس قبالتي لم يكن سوى طفل صغير مذعور يحتاج إلى الحماية واللطف وأبسط أشكال الرعاية، الفيزيائية ربما، التي انتظرها طويلاً. إن المرضى الثلاثة السابقين، عبر زلات لسانهم، لم يحاولوا الاختباء مني بقدر ما حاولوا الاختباء من أنفسهم؛ فالمريضة الأولى كانت تعتقد أنه ليس ثمة أثر للاستياء أو الرفض في خافيتها، أما المريض الثاني فقد كان مقتنعًا تمامًا أنه لا يحمل أي حقد أو عداء لأحد من أفراد أسرته، ولم تكن المريضة الثالثة تنظر إلى نفسها سوى كواحدة من أهم نساء العالم!. من خلال عوامل معقدة، كثيرًا ما ينحو بنا شعورنا مبتعدًا عن حقيقة أنفسنا لهذه الدرجة أو تلك، فغالبًا ما نعتقد أننا أكثر أو أقل جدارة مما نحن عليه، لكن اللاشعور يعلم تمامًا تلك الحقيقة. إن عملنا الدؤوب والمستمر لتقريب صورتنا عن أنفسنا وجعلها مطابقة للواقع يشكل جانبًا أساسيًا وهامًا من عملية نمونا الروحي، وحين يتحقق جزء كبير من تلك المهمة – الدائمة طيلة حياتنا – بسرعة نسبية عبر العلاج النفسي، يشعر الفرد عادة وكأنه "ولد من جديد" أو "أنا الآن لست الشخص الذي كنته فيما سبق" أو يعبر بفرح حقيقي عن تلك التغيرات الدرامية في وعيه: "إنني الآن شخص جديد ومختلف تمامًا". إن شخصًا كهذا لن يجد صعوبة في فهم كلمات الأغنية الشهيرة: "فيما مضى كنت تائهًا ووجدتُ نفسي الآن... كنتُ كفيفًا واليوم أرى النور". إذا عرَّفنا أنفسنا بإدراكنا لذاتنا أو بوعينا الذاتي عمومًا، فعلينا القول، فيما يخص اللاشعور، إن ثمة جزءًا في داخلنا هو أكثر حكمة منا، وقد تحدثنا فيما سبق عن "حكمة اللاشعور" تلك عبر مصطلح معرفة الذات والإلهام الذاتي. عبر مثال مريضتي التي كشف لاشعوري لي أنها "بينوكيو"، حاولتُ توضيح كون لاشعورنا أكثر حكمة منا فيما يتعلق بالآخرين كما بنا؛ وخلاصة القول هي أن لاشعورنا أكثر حكمة منا فيما يتعلق بكل شيء!. بعد وصولي، وزوجتي، مساء إلى سنغافورة في رحلة للمرة الأولى، تركنا الفندق لنمضي في نزهة، وهكذا وصلنا إلى مساحة كبيرة ميَّزنا في نهايتها، بعد بناءين أو ثلاثة، ظلاً لمبنى ضخم يلوح في الظلام. "ماذا يمكن أن يكون هذا البناء؟" تساءلتْ زوجتي، وأجبتها حالاً دونما تردد: "إنه نادي سنغافورة للكروكيت". انسابت العبارة السابقة من فمي بتلقائية تامة. وندمتُ على ما قلته على الفور تقريبًا، فلم أكن أمتلك أساسًا منطقيًا له في الواقع: لم أزُرْ سنغافورة في السابق، ولم أكن قد رأيت ناديًا للكروكيت في حياتي (في وضح النهار، فكيف لي في الظلام)!. لدهشتي البالغة، حين وصلنا إلى جوار المبنى كان بمقدورنا أن نقرأ على مدخله عبارة "نادي سنغافورة للكروكيت". كيف تسنى لي أن أعلم ما لم أكن أعلمه؟ بين التفسيرات الممكنة لذلك هناك نظرية يونغ عن "اللاشعور الجمعي"، التي نرث – حسبها – حكمة وخبرة أسلافنا دونما الحاجة إلى اختبارها شخصيًا. وبينما يبدو هذا النوع من المعرفة غريبًا وبعيدًا عن المنطق العلمي، فنحن، بما يكفي من الغموض، نميزه يوميًا في حياتنا. لنأخذ كلمة "يميز" ذاتها كمثال: حين نصادف فكرة أو نظرية تروقنا أثناء قراءتنا كتابًا فهي "تقرع جرسًا" يجعلنا "نميز" صحتها، رغم أننا ربما لا نكون قد فكرنا جديًا بتلك الفكرة أو النظرية سابقًا البتة. إن كلمة "نميز" (في الأصل الإنكليزي recognize = re-know) تعني أننا "نعرف من جديد" الفكرة وكأننا قد عرفناها مرة في السابق ونسيناها، والآن نستعيد معرفتها كصديق قديم. ويبدو الأمر كما لو أن جميع المعارف والحكم كانت مختزنة في دماغنا أساسًا، وحين "نتعلم شيئًا جديدًا" فنحن في الواقع نكتشف أمرًا كان موجودًا داخلنا طيلة الوقت. على النحو ذاته ينعكس المفهوم السابق في كلمة "تعليم" (education في الأصل الانكليزي) التي اشتُقت من الأصل اللاتيني educare الذي يترجم حرفيًا "يستخلص من" أو "يوجه الطاقة في الاتجاه الصحيح". لهذا، حين "نعلِّم أشخاصًا" – إذا أردنا أن نستخدم المصطلح السابق بجدية – نحن لا نضيف أفكارًا جديدة إلى أدمغتهم، بل "نستخرج" من داخلهم ما كان موجودًا في السابق: أي أننا نقوده من اللاشعور نحو العقل الواعي، فقد كان أولئك الأشخاص يمتلكون الأفكار دومًا ومنذ البداية. ولكن، ما هو مصدره؟ ما مصدر هذا الجزء الأكثر حكمة منا؟ إننا لا نعلم. تقترح نظرية يونغ عن اللاشعور الجمعي أن حكمتنا موروثة، وتقترح التجارب العلمية التي أجريت أخيرًا على المادة الوراثية فيما يتعلق بظاهرة الذاكرة أنه يمكن بالفعل وراثة المعرفة، التي تختزن في الخلايا الدماغية على شكل شيفرة حمض نووي. يسمح لنا مفهوم التخزين الكيميائي للمعلومات بالشروع في فهم إمكانية اختزان المعلومات المتوافرة للدماغ البشري في بضعة بوصات مكعبة من المادة الدماغية؛ وحتى هذا النموذج الشديد الرقي والتعقيد، الذي يسمح باختزان المعرفة، الموروثة كما المختبرة شخصيًا، في مساحة صغيرة للغاية، يترك أشد الأسئلة إرباكًا للفكر البشري دونما إجابات. حين نتأمل في تقنية بناء وتنظيم نموذج كالسابق، يتركنا تأملنا في رهبة تامة إزاء ظاهرة الدماغ البشري. إن التأمل في مسائل كالسابقة بالكاد يختلف نوعيًا عن التأمل في نماذج للتحكم بالكون كامتلاك الله لجيوش وفرق من الملائكة تساعده في إدارة الكون. إن الفكر، الذي من المفترض أحيانًا أنه لا يؤمن بوجود معجزات كالسابقة، هو في حد ذاته معجزة. ترجمة: سامر زكريا *** *** ***
|
|
|