الصفحة التالية

من رايش إلى علم الطاقة الحيوية

 

ألكسندر لووِن

 

علاج رايشي 1940 – 1945

تأسس علم الطاقة الحيوية من خلال عمل فيلهلم رايش. وهذا الأخير كان أستاذي منذ سنة 1940 حتى سنة 1952، ومحلِّلي النفسي منذ عام 1942 حتى عام 1945. تعرَّفتُ عليه سنة 1940 في المدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي New School for Social Research في نيويورك حيث كان يعطي دورةً حول تحليل الطبع. أثار فضولي الوصف الفهرسي لهذه الدورة، ذلك أنه كان يشير إلى المطابقة الوظيفية لطبع شخص مع وضعيته الجسمانية أو درعه العضلي. يشير هذا الدرع العضلي إلى المستوى العام للتوترات العضلية المزمنة في الجسم. إنه معرَّفٌ على هذا النحو لأنه يفيد في حماية الفرد من التجارب الانفعالية المؤلمة والمهدِّدَة. إنه مثل ترسٍ يحمي الفرد من الدوافع الخطيرة الناجمة عن شخصيته نفسها، مثلما هو الأمر لحمايته من بطش الآخرين.

كنت قد أتيت لأطوِّر دراسةً حول العلاقة عقل–جسد، وذلك خلال بضعة أعوام سبقَت لقائي مع رايش. وُلِدَ هذا الاهتمام من خلال تجربتي الشخصية مع نشاطات جسمانية كالرياضة والجمباز. وخلال أعوام الثلاثينيات كنتُ قد تسلَّمتُ إدارة الرياضة في عدة مخيَّمَات صيفية. واكتشفتُ أن برنامجًا منتظمًا من النشاطات الجسمانية لم يحسِّن من صحتي فحسب، بل كان له نتائج إيجابية في حالتي العقلية. وخلال مدة دراساتي تفحَّصت أفكار إيميل جاك دالكروز Emile Jacques-Dalcroz والمسماة بـالرقص الإيقاعي Euritmia ومفهوم إدموند جاكوبسون Edmund Jacobson للاسترخاء التدريجي واليوغا. أكَّدَت دراسات كهذه انطباعي القوي أن الفرد بوسعه التأثير على مواقفه العقلية من خلال عمله على الجسد، لكن، اقتراحاتهما لم ترضِني بشكلٍ كامل.

اتجَهَ رايش على الفور في درسِه الأول مباشرةً نحوَ أفكاري. فقد استهلَّ الدورة بنقاش حول مشكلة الهستيريا. بيَّنَ رايش أن التحليل النفسي كان قادرًا على توضيح العامل التدريجي في تناذر (مجموعة أعراض متزامنة) التحويل الهستيري. أثبتَ رايش أن هذا العامِل يأتي بكونه صدمةً جنسيةً عاناها الفرد في طفوليتِه الأولى، وقد تم نسيان هذه الصدمة وكبتها على نحوٍ كامل في الأعوام اللاحِقَة. فالكبت والتحويل اللاحِق للأفكار والمشاعِر المكبوتة في تناذر (مجموعة الأعراض المتزامنة) التحويل الهستيري هما السبب في تكوين العامِل الديناميكي للمرض. فرغم أن أفكار الكبت والتحويل كانت في ذلك الوقت عبارة عن عقائد راسخة من خلال نظرية التحليل النفسي، فإن السياق الذي كانت الفكرة فيه مُحَوَّلَة إلى عَرَضٍ جسماني لم يكن بالأمر المفهوم جيدًا. وما كان ينقص نظرية التحليل النفسي، وفقًا لرايش، هو فهم العامِل الزمني. تساءل رايش: "لماذا تطوَّرَ العرَض في مرحلةٍ معينة ليس قبلها ولا بعدها؟"، وللإجابة على هذا السؤال من الضرورة بمكان معرفة ما حصل في حياة المريض خلال منتصف هذا الوقت، وكيف كان يتعامل مع أحاسيسِه الجنسية خلال هذه المرحلة؟ كان رايش يعتقد بأن قمع الصدمة الأصلية يُبقَى عليه من خلال إلغاء الشعور بالأحاسيس الجنسية. ويكوِّن هذا الإلغاء الاستعدادَ المسبق للعَرَض الهستيري، محوَّلاً فيما بعد إلى شيء ملموس من خلال حادث جنسي لاحِق. وبالنسبة إلى رايش فإن إلغاء الأحاسيس الجنسية بالإضافة إلى موقف السمات الخاصة بالطبع المرافقة له كانت تكوِّن العصاب الحقيقي، والعَرَض في حدِّ ذاته لم يكن أكثر من خبرةٍ ملحوظة. وإن أخْذ سلوك وموقف المريض بعين الاعتبار، وعلى نحوٍ أكثر دقةً، إزاء جنسانيته، قد أدخل عاملاً "اقتصاديًا" في مشكلة العصاب. واصطلاح "اقتصادي" يشير إلى القوى التي تُعِدُّ الفرد مسبقًا لتطوير عوارض عصابية.

تأثَّرتُ كثيرًا لحدَّة ذهن رايش. وكنت قد قرأت بضعةَ كُتُبٍ لفرويد، وتآلفتُ بشكل عام مع فكر التحليل النفسي، لكنني لا أتذكر أنني قرأتُ أيَّ نقاش يتطرَّق لهذا الموضوع. وشعرتُ بأن رايش يُدخِلُني في منحى جديد للتفكير بالمشاكل الإنسانية، الأمر الذي افتتنني في الحال. وأصبح المعنى الكلي لهذا الاكتشاف الجديد واضحًا لديَّ فقط بشكلٍ تدريجي، وذلك بقدر ما كان رايش يطوِّر أفكاره أثناء الدورة التعليمية. وأدركتُ أن العامل الاقتصادي هو المفتاح الهام لإدراك الشخصية، ذلك أن له علاقة بكيفية تعامل الفرد مع طاقته الجنسية وطاقته ككل. كم يملك شخص من الطاقة، وأي جزء منها مستغل في النشاط الجنسي؟ اقتصاد الطاقة أو اقتصاد الفرد الجنسي هو ما يصرِّح بخصوص التوازن المحافَظ عليه بين الحمولة وتفريغ الطاقة، أو بين الإثارة الجنسية وتحريرها المتعاقب. فقط عندما يُشَوَّش هذا الاقتصاد أو التوازن يتطوَّر عَرَض التحويل الهستيري. والدرع العضلي أو التوترات العضلية المزمنة تفيد في الإبقاء على الاقتصاد في توازن، محتفظةً بالطاقة التي لا يمكن تفريغها.

ازداد اهتمامي برايش بقدر ما كان يوضِّح أفكاره وملاحظاته. ولم يكن الاختلاف بين الاقتصاد الجنسي السوي والاقتصاد العصابي متصلاً بمسألة التوازن. عند هذه النقطة كان رايش يستعمل الاقتصاد الجنسي أكثر من اقتصاد الطاقة. ومع ذلك، ففي عقليته، كانت هذه المصطلحات مترادِفَة. إذ إن فردًا عصابيًا يُبْقِي توازنًا باحتفاظه بطاقته في توترات عضلية بحدِّهِ من إثارتِه الجنسية. لا يملكُ الفرد السوي حدودًا، ولا تبقى طاقته محجوزة في الدرع العضلي. وفي النتيجة، فإن طاقتَه كلَّها جاهزةٌ للسرور الجنسي أي لأي نوعٍ من التعبير الخلاَّق. ويعمل اقتصاده الطاقي على أرفع مستوى. في حين أن مستوى منخفضًا من اقتصاد الطاقة هو صفة مميزة عامة لمعظم الأشخاص، وهو المسؤول عن الميل إلى الاكتئاب، الأمر الذي أصبح عاملاً وبائيًا في ثقافتنا.

وعلى الرغم من أن رايش قدَّمَ أفكارَه بطريقةٍ واضِحَة ومنطقية، فقد بقيتُ على قدرٍ ما مرتابًا أثناء النصف الأول لدورته التعليمية. وهذا الموقف الممكن تمييزه هو نموذجي لشخصيتي. أعتقِد أنه يتوجَّب عليَّ أن أقرَّ بريبتي على أنها قدرتي على تخيلي للأشياء بنفسي. تركَّزَت ريبتي بخصوص رايش في منحِه ظاهريًا قيمةً مفرِطَة لدور الجنس في المشاكل الانفعالية. ففكرتُ بأن الجنس ليس هو مفتاح المشكلة. إذاك، وبدون توقُّع زالَت هذه الريبة على نحوٍ مفاجئ. وخلال مدة المحاضرات شعرتُ بنفسي مقتنعًا بشكلٍ كامِل بصلاحية موقف رايش.

أما سبب هذا التغير فقد صار واضحًا بالنسبة لي بعد حوالي السنتين، وذلك حينما سنحت لي الفرصة للقيام بعلاج قصير الأمد مع رايش. وما حصل هو أنني لم أكن قد انتهيت من قراءة إحدى الكتب المتعلقة برايش في مراجع دورته، وهو كتاب لفرويد عنوانه ثلاثة مباحث في نظرية الجنس. كنت قد وصلت إلى النصف الثاني من المبحث المُعَنْوَن بـ"الجنسانية الطفلية"، عندما توقفتُ عن قراءته. توصَّلتُ إذاك إلى نتيجة بأن هذا المبحث قد لامس قلقي اللاواعي إزاء جنسانيتي الطفلية ذاتها، وبما أنني لم أكن مهيأً لمواجهة قلقٍ كهذا، فإنني لم أستطع الاستمرار على إبقاء ريبتي بخصوص أهمية الجنسانية.

انتهَت دورة رايش حول تحليل الطبع في كانون الثاني سنة 1941. وفي المرحلة التي توسَّطَت نهاية الدورة وبداية علاجي الشخصي، أبقيتُ على اتصالي معه. وشاركتُ في بضعة لقاءات كانت تحصل في بيته في غابة هيلز Forest Hills، حيث كنا نناقش الملابسات الاجتماعية لمفاهيمه الجنسانية–الاقتصادية، وطوَّرنا مشروعًا لاستعمال مفاهيم كهذه في برنامج للصحة العقلية الجماعية. كان رايش رائدًا في هذا المجال في أوروبا. (هذا الجانب من عمله واتصالي معه سوف يُستكشَف على نحوٍ أكثر كثافة في كتاب سوف أعده عن رايش).

بدأت علاجي الشخصي مع رايش في ربيع سنة 1942. وكنتُ خلال العام الماضي متردِّدًا مواظِبًا على مختبَر رايش، الذي أظهر بعضًا من الأعمال التي كان يطوِّرها كالمستحضَرات الحيوية والأنسجة السرطانية. إذاك، وذات يوم، قال لي: "لووِن، إذا كنتَ مهتمًا بهذا العمل، توجد طريقة واحدة للدخول إليه، ألا وهو العلاج". فاجأني هذا التصريح لأنني لم أكن أنتظِر ذلك. وقلتُ له: "أنا مهتم لكنني أريد أن أصبِحَ مشهورًا". أخذَ رايش استدراكي هذا على محمَلٍ من الجدٍّ، فأجابني: "سوف أجعلُكَ مشهورًا". وكان تصريح رايش في كل هذه السنين أشبه بنبوءة. كان تصريحه الدافع الذي كنت في حاجةٍ إليه لكي أتغلَّبَ على مقاومتي وأشرع في العمَل الذي سوف أكرِّس له حياتي كلها.

كانت جلستي الأولى للعلاج تجربةً لن أنساها ما حييت. كنتُ توصَّلتُ إلى افتراضٍ ساذج في أنه لم يكن ثمة خطأ معي. وأن الأمر سوف يتعيَّن عليه أن يكون تحليلاً تثقيفيًا. استلقيتُ على السرير، مرتديًا سروالَ السباحة. لم يستعمِل رايش مقعدًا، ذلك أنه كان علاجًا موجَّهًا إلى الجسم. وكان عليَّ أن أطويَ ركبتيَّ وأسترخيَ وأتنفَّس بفمٍ مفتوحٍ، والفكُّ مسترخٍ. تبعتُ إرشاداتٍ كهذه، وانتظرتُ لأرى ما كان يحدث. بعد قليلٍ من الوقت، قال رايش: "لووِن، أنت لا تتنفَّس". أجبت: "بالطبع إنني أتنفَّس، وإلا لأصبحتُ ميتًا". إذاك أجابني: "صدرُكَ لا يتحرَّك. إلمسْ صدري". فوضعتُ يدي فوق صدره وأحسستُ أنه كان يعلو ويهبط مع كل تنفس. وبالتأكيد، فأنا لم أكن أتنفَّس على النحو نفسه.

استلقيتُ من جديد، وعدتُ إلى التنفُّس، وفي هذه المرة حرِصتُ على ملء صدري مع الشهيق وعلى إفراغه مع الزفير. لم يحدث شيء. واستمر تنفسي سهلاً وقويًا. بعد بضعة لحظات، قال رايش: "لووِن، إرمِ برأسِك إلى الخلف، وافتح عينيك جيدًا". نفَّذت ما طُلِبَ مني و... انفجرَت صرخةٌ من حنجرتي.

كان يومًا جميلاً في بداية الربيع، وفُتِحَت نوافذُ الغرفة باتجاه الشارِع. ولتجنُّب أيِّ إحراج مع الجيران، طلب مني الدكتور رايش أن أرفعَ رأسي، وأوقفَ الصراخ. عدتُ للتنفُّس بعمق. قد يبدو غريبًا، لكن الصراخ لم يزعجني. فأنا لم أتَّصِل به انفعاليًا. ولم أشعر بالخوف. وبعد أن تنفَّستُ ما يكفي لبعضٍ من الوقت، طلبَ مني الدكتور رايش أن أُعيدَ طريقةَ العمل: رمي الرأس إلى الخلف، وفتح العينين جيدًا. ومرةً أخرى جاءني الصراخ. أتردَّد في القول إنني صرختُ، ذلك أنه لم يبدُ لي أنني قمتُ به، وإنما ببساطة فقد حصل لي. ومجددًا لم أكن أشعر باتصالي مع الصوت. فتركتُ الجلسة مع انطباع أنني لم أكن جيدًا جدًا على نحوِ ما تصوَّرتُ. كانت توجد "أشياءٌ" (صور، وانفعالات) في شخصيتي لم تكن واعية بالنسبة لي، وإذاك فهمتُ أنه كان لابد لها أن تأتي إلى السطح.

في هذا الوقت كان رايش يدعو علاجه بالعلاج العصبي النباتي الـ"فيجيتوتِرابي" Vegetotherapy لسِمَات الطبع التحليلية. كان تحليل الطبع مساهمة رايش الكبرى بالنسبة إلى نظرية التحليل النفسي، وعلى هذا الأساس كان سببًا لتقديره كثيرًا من قِبَل المحلِّلين النفسانيين. يشير العلاج العصبي النباتي الـ"فيجيتوتِرابي" Vegetotherapy إلى تحريك المشاعر والأحاسيس من خلال التنفس وتقنيات جسمانية أخرى تنشِّط المراكز العصبية النباتية[1] (العقد العصبية للجهاز العصبي المستقل) وتحرر طاقات "خاملة".

مثَّلَ العلاج العصبي النباتي الـ"فيجيتوتِرابي" Vegetotherapy قطيعةً جذرية مع التحليل الشفهي البحت، تاركًا العمل يأخذ وجهةَ المواجهَة المباشرة مع الجسم. جرَت لأول مرة منذ تسعة أعوام، أثناء جلسة تحليلية وصفَها رايش على النحو التالي:

"في كوبنهاغن، سنة 1933، عالجتُ شخصًا كان يواجه مقاومةً خاصةً لكشف تخيُّلاتِه المثلية المنفعِلَة. وهذه المقاومة كانت تظهر في أقصى حدٍّ في توتُّر الرقبة (رقبة صلبة). وبعد هجمة طاقية ضد مقاومته، استسلم أخيرًا، ولكن على نحوٍ مُقلقٍ جدًا. إذ تغير لون وجهِه بسرعة من الأبيض إلى الأصفر أو إلى الأزرَق، وكان جلدُه مبقعًا بعدة ألوان، وكانت لديه آلام قوية في الرقبة وفي العظم القذالي (بمؤخر الرأس)، وكان لديه إسهال. أحسَّ بنفسه منحطَّ القوى، وكان يبدو كما لو أنه فَقَدَ التوازن".

كانت "الهجمة الطاقية" شفويةً فقط، لكنها ذهبَت مباشرةً إلى موقف "الرقبة الصلبة" للمريض. وظهرَت المشاعر جسمانيًا بعد أن تخلى المريض عن موقف الدفاع النفسي. عند هذه النقطة، وصل رايش إلى نتيجةٍ مفادها أن "الطاقة من الممكن احتواؤها من خلال توترات عضلية مزمنة". واعتبارًا من هنا أخذ رايش يدرس مواقف جسم مرضاه. وهكذا لاحَظَ أنه "لا يوجد فردٌ عصابي لا يُظْهِرْ توترًا بطنيًا"، كما لاحظَ ميلاً عامًا عند جميع مرضاه إلى حبس التنفُّس ومنع انتشارِه، وفقًا لمراقبة مشاعرهم وأحاسيسهم. استنتجَ أن عامِلَ حبس التنفس كان يفيد في إنقاص طاقة الكائن الحي بتقليل نشاطاته الاستقلابية، الأمر الذي كان يُقَلِّل من نشوء القلق.

إذاك، كانت أول خطوة في طريقة العمل العلاجية بالنسبة إلى رايش، وهي الوصول بالمريض على أن يتنفس بسهولة أكبر وأكثر عمقًا. أما الخطوة الثانية فقد اقتصَرَت على تحريك أي تعبير انفعالي أكثر وضوحًا على الوجه أو في سلوك المريض. وفي حالتي، كان الخوف هو التعبير الأقوى. وبوسعنا أن نرى كم كانت لطريقة العمل هذه من أثرٍ مُقتَدِرٍ عليّ.

تبِعَت الجلسات التي تعاقبَت بعد هذه المستوى العام نفسه. كنتُ أستلقي وأتنفَّس بأكبر حريةٍ ممكنةٍ، محاولاً السماح بزفير عميق. قيلَ لي أن استسلِمَ إلى جسدي، وألا أسيطِرَ على ظهور أي تعبيرٍ أو دافعٍ. حدَثَت سلسلة من الأشياء وضَعَتني تدريجيًا على اتصال مع ذكريات وتجارب قديمة. في البداية، سبَّبَ التنفس الأكثر عمقًا والذي لم أكن معتادًا عليه أحاسيسًا قوية بالتنميل في يدي، تحوَّلَت في مناسبتين إلى تقلصٍ لرِسْغَيْ قدمي، يصحبُه تشنُّجٌ قوي في اليدين. اختفت ردَّة الفعل هذه على قدر ما اعتاد جسمي على زيادة الطاقة المسبَّبَة من خلال التنفس العميق. وُجِدَ رجفان خفيف في شفتي وساقي عندما حركتُ بخفَّة ركبتيَّ معًا أو على نحوٍ منفرد، وعند اتباعي لدافع مطمطة فمي.

توالَت عدةُ دَفَقَاتٍ انفعالية وذكريات متصِلَة بها. وذات مرة، كنتُ مستلقيًا أتنفَّسُ فبدأ جسمي يتأرجح على نحوٍ غير طوعي. وازدادَ التأرجح حتى قررتُ الجلوس. إذاك، وبدون أن آخذ بالحسبان، نهضتُ من السرير، ونظرتُ نحوه، وبدأتُ ألكمُه بكِلْتَيْ قبضتيَّ. وظهر في ذلك وجه والدي كما لو أنه مطبوع على الشرشف، وفهمتُ فجأةً أنني كنت أضرب والدي بسبب ضربٍ مبرِّحٍ تعرَّضتُ له من قِبَلِه حين كنتُ ولدًا صغيرًا. بعد بضعة سنين سألته عن هذا الحادث، فقال لي إن ذلك كان الضرب الشديد الوحيد الذي قام به تجاهي في حياتي كلها، وشرح لي أنني كنت قد وصلتُ متأخرًا جدًا إلى البيت، وأن والدتي كانت قلقةً وعصبيةً جدًا. فأشبعَني ضربًا لكي لا أكرِّرَ ذلك مرةً ثانية. والجزء المهم في هذه الخبرة هو كالصراخ، طبيعته تلقائية وغير طوعية على نحوٍ كامل. فأُجبِرتُ على ضرب السرير كما كان الصراخ، ليس بدافع أي فكرٍ واعٍ، وإنما بسبب قوةٍ داخلية حدثَت وسيطرَت عليَّ فجأة.

في مناسبةٍ أخرى، بينما كنتُ مستلقيًا وأنا أتنفَّس بدأتُ أشعرُ بانتصاب، وتولَّدَ لدي دافع لكي ألامِس قضيبي لكنني كبحتُه. ههنا تذكرتُ مشهدًا هامًا في طفوليتي. رأيتُني كولدٍ له من العمر خمس سنوات أمشي في الشقة حيث كنتُ أقطن، وتبوَّلتُ على الأرض. لم يكن والداي في المنزل. وكنتُ أدرك أنني فعلتُ ذلك لكي أنتقم من أبي الذي كان قد أنَّبَني في اليوم السابق لأنني كنت أمسك بقضيبي.

دامَ علاجي ما يقارب التسعة أشهر حتى اكتشفتُ السبب الذي كان وراء صراخي في الجلسة الأولى. ومنذ ذلك اليوم لم أعُدْ أصرخ بعد. ومع مرور الوقت، تولَّدَ لدي انطباع واضح بأنه كانت توجد صورة أخشى التمعُّنَ فيها. شعرتُ وأنا أتأمل السقف في وضعيتي المستلقية بأن الصورة سوف تظهر لي ذات يوم. وهذا ما حصل، فقد كانت أمي وهي تنظر إليَّ من أعلى إلى أسفل مع تعبير عن غضبٍ شديد يلوح في عينيها. أدركتُ للحال أن هذا كان هو الوجه الذي لطالما قد روَّعَني. عايشتُ هذه الخبرة كما لو كانت تحصل لي في الحاضر. كنتُ طفلاً بعمر التسعة أشهر تقريبًا، مستلقيًا في السرير إلى الجانب الخارجي من المنزل. وكنتُ أبكي بصوتٍ عالٍ جدًا، أريد والدتي. وكما يبدو أنها كانت مشغولة في المنزل، لكن بكائي اللجوج قد أغضبَها فأتَت إلى الخارج غاضبةً مني...

وأنا مستلقٍ هناك في سرير رايش بعمر يناهز الثالثة والثلاثين عامًا، نظرتُ إلى صورة والدتي، واستخدمتُ كلماتٍ لم يكن بمقدوري معرفتها حين كنت طفلاً، وقلتُ: "لماذا أنتِ غاضبة مني إلى هذا الحد؟ فأنا أبكي لأنني أريدكِ فقط".

في تلك المرحلة كان رايش يستعمل تقنية أخرى لإكمال العلاج. ففي بداية الجلسات كان يطلب من مرضاه أن يقولوا له كل الأفكار السلبية التي تدور في خلدهم نحوه، وكذلك الأمر الإيجابي أيضًا، لكنه لم يكن يؤمن بالتحويل الإيجابي قبل أن يتم التعبير عن السلبي. وجدتُ أن هذه المهمة صعبة إلى أقصى حد. وبما أنني كنتُ قد التزمتُ مع رايش ومع العلاج، فقد قمتُ بطرد كل الأفكار السلبية من عقلي. وكنتُ أظن أنه لم يكن ثمة شيء أشكو منه. أما رايش فقد كان كريمًا جدًا معي، وبالتالي، لم يكن لدي شكوك إزاء إخلاصه ونزاهته وصحة أفكاره. وكنت قد صمَّمتُ على العمل بشكل مميز على إنجاح هذا العلاج. ولكن عندما شعرتُ بأن العلاج موشكٌ على الفشل قررت آنئذ الانفتاح على رايش.

عندما رأيت وجه أمي بعد تجربة الخوف، مرَّت شهورٌ طويلة لم أحرز فيها أيَّ تقدُّم. في ذلك الوقت كنت ألتقي رايش ثلاث مرات في الأسبوع، لكنني كنتُ مجمَّدًا وذلك لأنني لم أكن أتوصل لأن أقول له كيف كنتُ أشعر تجاهه. كنتُ أريد أن يبدي لي اهتمامًا أبويًا، فلا يكون معالجًا فقط، ولكن لإدراكي أن هذا لم يكن متطلَّبًا معقولاً فأنا لم أستطع التعبير عنه. وكفاحي الداخلي مع المشكلة لم يأخذني إلى أي مكان. وبدا رايش أنه يجهل صراعي. فعلتُ ما بوسعي لأجعلَ من تنفُّسي ببساطة أكثر عمقًا وامتلاءً لكن محاولتي لم تجدِ فتيلاً.

كنتُ قد أمضيتُ في العلاج عامًا عندما تطور هذا المأزق. ولاح لي أنه سوف يمتد على نحوٍ لا ينتهي، فطلبَ مني رايش أن أنسحِبَ. "لووِن أنت عاجزٌ أن تهِبَ نفسك لمشاعرِك، لماذا لا تنسحِب؟" كانت كلماته أشبه بالحكم عليَّ بالموت، فالانسحاب يعني بالنسبة لي فشلَ كل أحلامي. تركتُ نفسي أتهاوى وبكيتُ بعمق. كانت المرة الأولى التي أخذتُ أشهقُ بكاءً منذ أن كنتُ طفلاً. لم أستطع بعد ذلك إخفاء مشاعري، وصرَّحتُ له عما كنتُ أريد منه، فأصغى إليَّ ببساطة.

لا أدري إذا كان رايش قد نوى إنهاء العلاج أو أن اقتراحه بإنهاء العلاج كان مجرَّد خدعة لكي يكسِر مقاومتي، فتجلى لديَّ انطباع قوي بأنه كان يتكلَّم بجدية. على أية حال، فقد أعطى فعله هذا النتيجة المرجوة. وبدأتُ التقدُّمَ في العلاج مرةً أخرى.

إن هدف العلاج بالنسبة إلى رايش هو تطوير قدرة المريض على الاستسلام كليًا إلى الحركات العفوية وغير الطوعية للجسد، والتي تشكِّل جزءًا من السياق التنفسي، الذي أدى بالنتيجة إلى استسلام لتنفُّس أكثرَ امتلاءً وعمقًا على قدر الإمكان. وإذا ما تمَّ ذلك، فبوسع الأمواج التنفُّسية أن تولِّد تموُّجًا للجسد يدعوه رايش بـانعكاس هزَّة الجماع orgasme.

خلال مدة العمل التحليلي السابق كان رايش قد وَصَلَ إلى نتيجة مفادها أن الصحة الانفعالية متصلَة بالقدرة على الاستسلام بشكل كامِل للفعل الجنسي أو ما أسماه بالقدرة على هزَّة الجماع. اكتشَفَ رايش بأنه لا يوجد فردٌ عصابي يملك قدرةً كهذه. فالعصاب لا يجمِّد هذا الاستسلام فحسب، بل يحبس الطاقة في توترات عضلية مزمنة، متجنِّبًا أن تكون هذه الطاقة مهيأة للتفريغ الجنسي. اكتشف رايش أيضًا بأنَّ المرضى الذين تمكَّنوا من الحصول على إشباعٍ ممتلئ بهزَّة الجماع في الفعل الجنسي، قد حرَّروا أنفسَهم من أيِّ التزام أو موقفٍ عصابي، محافِظين على أنفسِهم أحرارًا من العصاب بشكل دائم. فهزَّة الجماع الكاملة وفقًا لرايش تُفرِّغ كل فائض من طاقة الكائن الحي غير محتفظة بالتالي على أية طاقة بوسعِها أن تدعم أو تحافظ على العَرَض أو السلوك العصابي.

من الأهمية بمكان أن نفهم بأن رايش كان يعرِّف هزَّة الجماع على أنها مختلفَة عن القذف أو الذروة. فهي تمثِّل بالنسبة له ردَّةَ فعل غير طوعية للجسد ككل، تظهر ردة الفعل هذه في حركات إيقاعية واختلاجية. ونموذج الحركة نفسه يمكن له أن يحصل أيضًا عندما يكون التنفُّس حرًّا بشكلٍ كامل، والمرء مستسلِمٌ لجسدِه. وفي هذه الحال لا توجد ذروة أو تفريغ للإثارة الجنسية دون أن يكون هناك تراكم لهذا النوع من الإثارة. وما يحدث هو أن الحوض يتحرَّك بعفوية إلى الأمام مع كل زفير، وإلى الوراء مع كل شهيق. هذه الحركات تنجم بسبب الموجة التنفُّسية وفقًا لدورانها نحو الأعلى ونحو الأسفل، متحركة من خلال الشهيق والزفير. في الوقت نفسه يقوم الرأس بحركات مشابهة للحوض مع الاختلاف بأن الرأس يتحرك نحو الخلف في فترة الزفير، وإلى الأمام في فترة الشهيق. وبشكلٍ نظري، فإن على المريض أن يتمتع بجسم حرٍّ بما فيه الكفاية ليتمكن من الحصول على مثل هذا النوع من الانعكاس خلال جلسة العلاج، وبالتالي سيكون قادرًا على التعبير عن هزَّة جماع كلِّية في الفعل الجنسي. ومريض كهذا يجب اعتباره انفعاليًا سويًا.

بالنسبة لكثيرين ممن قرأوا "وظيفة هزَّة الجماع[2]" لرايش، من الممكن لهذه الأفكار أن تبدو ثمرة تخيُّلاتٍ وهمية لعقل مهووس بالجنس تم التعبير عنها لأول مرة، وبما أنَّ رايش كان أستاذًا جليلاً في التحليل النفسي، وصاحب صياغة الفكرة والتقنية التحليلية للطبع، فقد تم النظر إليها على أنها واحدةٌ من أعظَمِ الإسهامات للنظرية التحليلية. وبالمناسبة، فإنها لم تكن مقبولة بعد لدى معظَم المحللين النفسيين، وحتى اليوم فهي نكِرَة أو مجهولة بالنسبة لمعظم الذين يبحثون في مضمار الجنس. ومع ذلك فإن أفكار رايش تحمل معها واقعيّةً مقنِعَة لا سيما حين تم اختبارها من خلال الجسم نفسه – كما حَصَلَ معي – وقد تبلوَرَ هذا الاقتناع من خلال تجارب شخصية قام بها الكثيرون من الأطباء النفسيين الذين عملوا مع رايش، وصاروا من أتباعه المتحمسين له ولو لقليل من الوقت.

بعد حَدَثِ انفجار بكائي، وإظهار مشاعري لرايش، صار تنفُّسي أكثر سهولة وحرية، كما صارت استجابتي الجنسية أكثر عمقًا وامتلاءً. وجَرَت عدةُ تغيُّراتٍ في حياتي. فقد تزوجتُ من المرأة التي كنتُ مغرَمًا بها. وكان التزام الزواج خطوةً كبيرةً بالنسبة لي. وعدا عن ذلك، كنتُ أحضِّر نفسي بشكلٍ فعَّال لكي أصبِحَ معالجًا رايشيًا. شاركتُ خلال ذلك العام بحَلَقَة دراسية سريرية حول تحليل الطبع يديرها الدكتور ثيودور ب. وولف Dr. Theodore P. Wolfe الذي كان الصديق الأكثر قربًا من رايش في الولايات المتحدة، وقام بترجمة منشورات رايش إلى اللغة الإنكليزية. وبإكمالي مؤخرًا دراساتي الطبية المسبقة، سعيتُ للمرة الثانية إلى الالتحاق بإحدى كليات الطب. وكان علاجي يتقدَّم بشكل مطرِد وبتؤدة. وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك أيُّ تدفّق درامي للمشاعر أو للذكريات في الجلسات، فقد شعرتُ أنني أصِلُ إلى اقتراب أكبر من الاستسلام لمشاعري الجنسية. وشعرت أيضًا أني أكثر قربًا من رايش.

أخذ رايش في ذلك العام إجازة صيف طويلة. وانتهَت مرحلةُ الدروس في حزيران، وعاودناها في أيلول. وعندما وَصَلَ العِلاج السنوي إلى النهاية، اقترحَ رايش إيقاف العلاج لمدة عام. إلا أنني لم أكن قد أنهيتُ العلاج بعد. فانعكاس هزَّة الجماع لم يكن قد تطوَّر بالشكل الثابت، على الرغم من شعوري بأنني كنتُ قريبًا جدًا من ذلك. وكنتُ أحثُّ نفسي بقسوة، وكان هذا بالضبط العائق في بلوغي غايتي. بدَت فكرة اتخاذ إجازات جيدة، وقبلتُ اقتراح رايش. كما وُجدت أيضًا أسبابٌ شخصية بالنسبة إلى قراري. وبعدم قدرتي على التسجيل في مدرسة للطب على ذلك المستوى، قمتُ بدورةٍ في علم التشريح الإنساني سنة 1944 في جامعة نيويورك New York University.

عاودتُ علاجي مع رايش سنة 1945 في جلسات أسبوعية. وتوصَّلتُ خلال وقتٍ قصير إلى تطوير انعكاس هزَّة الجماع بشكل ثابت. ووُجِدَت عدة أسباب للحصول على هذا التقدم. فقد توفَّرَت لدي الفرصة خلال العام الذي انصرَمَ دون قيامي بالعلاج، لأنحِّيَ جانبًا الجهد الذي كنتُ أقوم به لإرضاء رايش وللحصول على صحة جنسية. كما توفَّرَت لي الظروف لإكمال ومحاكاة عملي السابق الذي قمتُ به سويةً مع رايش. اعتنيتُ في تلك المرحلة أيضًا بمريضي الأول كمعالجٍ رايشي، الأمر الذي شجَّعني بشكلٍ كبير. شعرتُ أني على سجيتي، وكان لدي الوعي في شعوري كفايةً بالأمان فيما يتعلَّق بحياتي. إن استسلامي لجسدي الذي كان يعني أيضًا استسلامي إلى رايش، قد صار مهمة سهلة. وصار واضحًا بالنسبة لكلينا نحن الاثنين في غضون أشهرٍ قليلة أن علاجي كان ناجحًا جدًا وفقًا لمعايير رايش. وبالرغم من ذلك، لم يفُتني بعد سنوات، أنَّ هناك الكثير من مشاكل شخصيتي الرئيسية بقِيَت عالِقَة دون حل. فالخوف من أن أطلب ما كنت أريد، ولو أنه خوف لا أساس له من الصحة، لم تكن قد تمت مناقشته بشكل كامل. خوفي من الفشل وحاجتي إلى التفوق في كل شيء، لم يكن قد تم تجاوزهما، كذلك عدم قدرتي على البكاء ما لم اتكئ على الحائط، لم يكن قد جرى سبرها، ولكن قد تم حل هذه المشاكل بعد سنوات كثيرة من خلال علم الطاقة الحيوية.

لا أقصُد القول بهذا أن العلاج مع رايش لم يكن له أية نتيجة. فإذا لم يحل هذا العِلاج كل مشاكلي، فعلى الأقل جعَلَني واعيًا لوجودها، إلا أن الأهم في ذلك كله هو واقع فتحي لطريق تحقيق الذات قد ساعدني على التقدم باتجاه أهدافي. وهكذا تعمَّقتُ وكثَّفتُ التزامي مع الجسد، الذي يُعتبَر قاعدة الشخصية، عدا عن إتاحتي لتطابق إيجابي مع جنسانيتي، الأمر الذي انكشف باعتباره حجر الزاوية في حياتي.

عملي كمعالِج رايشي، 1945 – 1953

اعتنيتُ بأول مريض لي في عام 1945، رغم أنني لم أكن قد تخرجت بعد من مدرسة الطب. وشجَّعَني رايش على طريقة العمل هذه التي تشكل قاعدةً في تكويني التربوي، وفي تدريبي معه، وما يتضمَّنه أيضًا علاجي الشخصي معه، بما في ذلك مشاركتي الدائمة في حَلَقَاتِ الدراسات السريرية حول العلاج العصبي النباتي "الفيجيتوتيرابي" vegetothérapie لسمات الطبع التحليلية، تحت إدارة الدكتور ثيودور وولف Dr.Theodore Wolfe، وفي حَلَقَات دراسة موجَّهَة من قِبَل رايش نفسه في منزله حيث كنا نناقش القواعد النظرية لمقترحاته، مشدِّدين على الأفكار البيولوجية والطاقية التي تفسِّر عمله على الجسد.

كان الاهتمام بالعلاج الرايشي ينمو على نحوٍ مطَّردٍ بقدر ما كان يزداد عدد الأشخاص الذين تعرَّفوا على أفكاره. وأتى إصدار كتاب وظيفة هزَّة الجماع The Function of Orgasm في عام 1941 وسرَّعَ في البحث عن أفكار رايش على الرغم من أن الكتاب لم يحصَل على إجابةٍ نقدية مفيدة، وهذا فضلاً عن توزيعه السيئ. ثم قام رايش بإنشاء دار نشره الخاصة، وسماها مؤسسة الأورغون للنشر والطباعة Orgone Institute press، ولم يكن لديها أي بائع، كما أنها لم تقم بأي نوع من التسويق، وكان ترويج كتبه وأفكاره يتم فقط شفهيًا. وبالرغم من ذلك فقد انتشرَت بتؤدة أفكاره، وازداد عدد المهتمين بهذا العمل، وكانت تلك الظروف مؤاتية مع استعدادي الشخصي لشروعي بالعمل في حقل العلاج الرايشي.

كنت أعمل كمعالِجٍ رايشي قبل انطلاقي إلى سويسره بعامين. وفي أيلول 1947 غادرتُ مع زوجتي إلى جامعة جنيف حيث تخرَّجتُ في حزيران سنة 1951 بصفة دكتور في الطب (M.D). وقمتُ أثناء إقامتي في سويسرا ببعض العلاجات مع أشخاص كانوا قد سمعوا كلامًا عن عمل رايش وتاقوا لمعرفة تقنيته العلاجية الجديدة. فبدأتُ بزهوٍ ساذج مثل عديد من المعالِجين الشبان وذلك لمعرفتي شيئًا حول مشاكل الأشخاص الانفعالية مع يقينٍ قائم على التحمُّس أكثر من التجربة. وأستطيع بالرجوع إلى تلك السنوات رؤيةَ محدودياتي سواءً في الفهم أو في المقدرة. واعتقدتُ رغم ذلك أنني ساعدت بعض الأشخاص. فحماستي كانت قوةً إيجابيةً، والتأكيد على التنفس والاستسلام كانا في وجهةٍ صحيحة.

وقد حصَلَ تقدم هام في العلاج الرايشي وذلك قبل مغادرتي لهذا البَلَد، كما هو الحال في اللمس المباشر لجَسَد المريض من أجل استرخاء التوتُّرات العضلية التي تُعتبَر عقبةٌ أمام القدرة على الاستسلام للمشاعر والأحاسيس والسماح بنمو انعكاس هزَّة الجماع. فخلال اشتغال رايش عليَّ كان يطبِّق بيديه عرضيًا ضغطًا ما على بعض عضلات جسمي المتوتِّرَة وذلك من أجل مساعدتي على إرخائها. وكان هذا الضغط يُطَبَّق اعتياديًا على عظم الفك لديَّ ولدى الآخرين. ذلك أن عضلات المنطقة الفكية متوترَة للحدِّ الأقصى عند الكثير من الأشخاص، فالذقن يبقى جامدًا في موقف تصميم يميل إلى التحمُّل، أو يندفع إلى الأمام في وضعيةٍ من التحدي، أو منكمِش على نحوٍ غير طبيعي. وفي كل الأحوال ليس مرِنًا بشكلٍ كاملٍ، وتدل وضعيته الثابتة على موقف صار بنيويًا. وإذ تصير عضلات المنطقة الفكية تعِبَةً فإنها تُطلِق توتّرَها. وكنتيجةٍ لذلك، يصير التنفُّس أكثر حريةً وعمقًا، وتحصل ارتجافات لاإرادية متكرِّرَةً في الجسم، وفي الساقين. وكانت مناطِق التوتُّر العضلية الأخرى التي طُبِّقَ عليها الضغط هي الجزء التابع للرقبة، والمنطِقَة السفلى للظهر، والعضلات الحامِلَة للفخذين. وفي كل الأحوال كان الضغط يُطبَّق على نحوٍ اختياري فقط في تلك المناطق حيث يمكنُ للتوتُّرات أن تُلمَس.

كان اللمس باليدين يشكِّل انحرافًا هامًا عن مسيرة التحليل النفسي التقليدية. فلقد كان أي اتصال جسماني بين المحلِّل والمريض في عمليات التحليل الفرويدية ممنوعًا بشكل حصري. فالمحلِّل كان يجلس وراء المريض دون أن يراه هذا الأخير. وكان هذا يفيدُ ظاهريًا مثل شاشةٍ حيث يمكن للمريض أن يُسقِطَ عليها كل أفكاره. ولكن المحلِّل لم يكن سلبيًا بشكل كامل، ذلك أن إجاباته اللفظية وتفسيراته لموضوع الأحاديث التي تدور حول أفكار المريض التي يعبِّر عنها، كانت توثر على فكر المريض تأثيرًا هامًا. أما رايش فقد جعل من المحلِّل قوةً أكثر إيجابيةً في طريقة العمل العلاجية. كان رايش يجلس في ركنٍ حيث يستطيع مواجهة المريض، ويراه المريض في الوقت نفسه، ويقوم رايش بلَمَسَاتٍ جسمانية عند الضرورة، وعندما يكون ذلك ملائمًا. كان رايش رجلاً طويلاً ذا عينين كستنائيتين هادئتين، ويدين قويتين وحارتيْن. نعم، هذه هي الذكرى التي أحتفِظ بها عن هذا الرجل خلال زمن جلساتنا.

ليس بمقدورنا اليوم تقييم التقدم الثوري الذي مثَّلَه هذا العلاج في فترة ازدادت فيها الشكوك والعَدَاوات التي أثارَتها. فبسبب الانشغال القوي لهذا العلاج بالجنسانية، واستعمال اللمس الجسماني بين المعالِح والمريض، أدى ذلك إلى اتهام ممارسي العلاج الرايشي باستخدام التحريض الجنسي لإثارة القدرة على هزَّة الجماع.

وادَّعوا أيضًا بأن رايش كان يستمني مرضاه. ولكن، لا شيء أكثر بعدًا عن الحقيقة من هذا. وإذا أظهر هذا الافتراء شيئًا فهو يُظهِر درجةَ الخوف التي كانت تدور حول الجنسانية واللمس الجسماني في تلك الفترة. ولكن هذا الجو قد تغيَّر بشكل هائل في الثلاثين سنة أخيرة فيما يُقال سواءً بخصوص الجنسانية أو اللمس. فأهمية اللمسة نُظِرَ إليها مؤخرًا على أنها شكل أولي للاتصال، وقيمتها العلاجية لا شك فيها. ومن البديهي أن أي اتصَالٍ جسماني بين المعالِج والمريض يعطي للأول مسؤولية احترام العلاقة العلاجية فيما بينهما متجنِّبًا بذلك أي تورط جنسي مع المريض.

عليَّ أن أضيف إلى أن معالِجي الطاقة الحيوية مُدَرَّبون على استخدام أيديهِم بقصد اللمس والشعور بالتقلُّصات أو العضلات المتوقفة عن العمل، ولتطبيق الضغط الضروري للاسترخاء أو لإنقاص التوتر العضلي لا بد من التنبُّه لتساهل المريض مع الألم، وذلك للتوصُّل إلى إقامة اتصال من خلال لمسة ناعمَة ومهدِّئة بوسعها تقديم الدعم والدفء. وفي أيامنا هذه من الصعوبة بمكان فهم رحابة الخطوة التي قام بها رايش سنة 1943.

لقد سهَّلَ استخدام رايش للضغط الجسماني تدفُّق الأحاسيس والمشاعر واستعادة الذكريات التي تعقب ذلك. أفاد أيضًا في تسريع السياق العلاجي، والضغط الجسماني عامِلٌ ضروري ألا وهو أن يتم إنقاص تواتر الجلسات إلى مرة واحدة في الأسبوع. في هذه الفترة، كان رايش قد طوَّرَ مهارة جديرة بالذكر، وهي قراءة الجسد ومعرفة كيفية تطبيق الضغطات التي ستعمل على إرخاء التوترات العضلية فاتحًا الطريق أمام سَيَلان إحساس يعبُرُ الجسد أسماه رايش باهتزازات. ونحو سنة 1947 كان رايش قادرًا على تطوير انعكاس هزَّة الجماع لدى بعض المرضى وذلك خلال ستة أشهر على وجه التقدير. يمكن تقييم هذه المأثَرَة بمقارنتها بواقِعِ ما كنتُ عليه في علاجي معه حوالي الثلاث سنين، بجلسات لثلاث مرات في الأسبوع، وذلك قبل حصولي على نمو انعكاس هزَّة الجماع لديّ.

عليَّ أن أشير إلى أن انعكاس هزَّة الجماع ليس هو في الحقيقة هزَّة الجماع نفسها، ذلك أن الجهاز التناسلي ليس مشاركًا فيه، حيث لا يوجد تكوُّن وبالتالي لا يوجد تفريغ للإثارة الجنسية. وإنما يشير انعكاس هزَّة الجماع إلى أن الطريق مفتوح للهزَّة الحقيقية إذا ما تمَّ تحويل التسليم أو التخلي إلى حالة جنسية. ولكن لا يحصل هذا التحويل بالضرورة. فالحالتان الجنسية والعلاجية مختلفتان، فالأولى تحوي تحميلاً انفعاليًا ذي طاقة أكبر بكثير من الأخرى. وعدا عن ذلك، فلدى الفرد في الحالَة العلاجية المكسب بالاتكال على دعم المعالِج الذي في حالة مثل رايش ذا شخصية قوية جدًا، يمكن أن يكون ذلك عاملاً هامًا. وعلى أية حال، ففي غياب انعكاس هزَّة الجماع من المستبعد على الفرد أن يحظى بالحركات الحوضية اللاإرادية التي تحصل في ذروة الفعل الجنسي. وتشكِّل هذه الحركات قاعدة الاستجابة لهزَّة جماع كلية. وعلينا ألا ننسى أنه في نظرية رايش، ليس انعكاس هزَّة الجماع معيارَ الصحة الانفعالية وإنما المعيار هو استجابة هزَّة الجماع للفعل الجنسي.

على الرغم من ذلك، يملكُ انعكاس هزَّة الجماع أيضًا بعض الآثار الإيجابية على الشخصية. وذلك بحصوله في جوٍّ آمِن للوضع العلاجي، وهو تجربة تمنح شعورًا بالفرح والحرية، حيث يشعر الفرد كما لو أنه حر من المكبوتات، وفي الوقت نفسه يشعر على أنه متصِلٌ ومتكامِلٌ مع جسده ومن خلال الأخير مع الوسط المحيط. كما أنه يحصل على إحساس بالحضور الجيد، والسلام الداخلي. ومن المعروف أن حياة الجسم تكمن في مظهره اللاإرادي. وأقول هذا اعتبارًا من تجربتي الشخصية ومن تعليقات المرضى على مدار السنين.

لسوء الحظ، لا تدوم هذه المشاعر الجميلة بسبب الضغط الناجم عن الحياة اليومية في ثقافتنا الحديثة. فإيقاع وضغط وفلسفة أيامنا هذه هي أضدادٌ للحياة. فمراتٌ كثيرة تتم خسارة انعكاس هزَّة الجماع حينما يفتقد المريض القدرة على التحكُّم بتوتراته اليومية دون فهم لأنماط السلوك العصابية. وهذا ما حصَلَ في تلك الفترة مع مريضين لرايش. فبعد عدة شهور من انتهاء علاجهما الناجح جدًا بشكل ظاهري، أتيَا يطلبان مني علاجًا تكميليًا لأنهما كانا عاجزين على إبقاء مستوى التقدُّم الحاصِل في علاجات رايش. إذاك فهمتُ أنه لا يمكن أن يوجد أي طريق للصحة الانفعالية، وأن العمل الدؤوب على كل مشاكل الفرد هو الشكل الوحيد لتأمين فعاليته الممتازة. وعلى كل حال، فأنا كنتُ لا أزال مقتنِعًا أن الجنسانية هي المفتاح لحل مشاكل الفرد العصابية.

من السهولة انتقاد رايش بسبب التأكيد الذي أعطاه على الأهمية المركزية لمسألة الجنس، لكنني لم أفعل ذلك. كانت الجنسانية ولا تزال مفتاح كل المشاكل الانفعالية، لكن تشوهات أداء الوظيفة الجنسية يمكن فهمها فقط من خلال المنظومة الكلية للشخصية الإنسانية، ومن جهة أخرى ضمن منظومة أوضاع الحياة الاجتماعية. وبعد سنوات جاهدتُ في قبول ذلك، وصلتُ إلى نتيجة أنه لا يوجد مخرج واحد فقط يكشف كل أسرار الوضع الإنساني. وكان قد تأصَّل جهادي في رغبة عميقة بالاعتقاد في أنه توجد إجابة واحدة فقط. أما الآن، فأنا أفكر بمصطلحات الأقطاب وصراعاتها التي لا يمكن تجنبها وحلولها المؤقتة. إذ إن رؤية الشخصية التي تنظر للجنس على أنه المفتاح الوحيد للشخصية هي رؤية ضيقة زيادة عن اللزوم، كما أن تجاهل دور الجنس في تحديد شخصية الفرد هو ازدراء لواحدة من أهم قوى الطبيعة.

في إحدى صياغاته الأولى حتى قبل مفهومه حول غريزة الموت اقترح فرويد تناقضًا بين غرائز الأنا والغرائز الجنسية. فالأولى تسعى للحفاظ على الفرد، في حين الثانية تسعى للحفاظ على النوع. وهذا ما أوقع الفرد في صراع مع المجتمع الأمر الذي نعرف أنه حقيقي بالنسبة لثقافتنا[3]. كما أن هنالك صراع آخر متصل بالتناقض الموجود في المجاهدة من أجل السلطة (حافزٌ أناني)، والمجاهدة من أجل اللذة (حافز جنسي). إن التأكيد المفرِط على السلطة في ثقافتنا تضع الأنا على عداء مع الجسد وجنسانية الجسد مؤديًا بذلك إلى تناقض بين كلٍّ من الحافزين، في حين أن الحالة المثالية تكمن في الدعم والتعزيز المتبادل بين الأنا والجسد. ولكن، لا يمكن الذهاب إلى الطرف النقيض والتمركز فقط حول بؤرة الجنسانية. وصار هذا واضحًا بالنسبة لي بعد متابعتي دونما نجاح لهدف واحد ألا وهو التحقيق الجنسي لمرضايَ، وذلك على غرار رايش. فالأنا موجود بالنسبة للرجل الغربي كقوةٍ ذي اقتدار لا يمكننا تجاهلها أو وضعها جانبًا. وهكذا، فالهدف العلاجي يكمن في تكامل الأنا مع الجسد، وفي مسعاه نحو اللذة والتحقيق الجنسي.

بعد سنتين فقط من العمل الشاق، ولولا ذلك الجزء من أخطائي لما توصَّلتُ إلى تعلُّم هذه الحقيقة. لا يُستثنَى أحدٌ من هذه القاعدة في أن التعلُّم يحصل عندما نتعرَّف على أخطائنا. ولكن لم يكن لي أن أفهم طاقة ديناميكية الشخصية دون العزيمة على بلوغ الغاية من الإشباع الجنسي وقدرة هزَّة الجماع. كما لا يمكن فهم الحركات اللاإرادية وردود أفعال المنظومة الحية للكائن الإنساني بدون معيار انعكاس هزَّة الجماع.

توجد أيضًا عدة عناصر غامضة في أداء الوظيفة والسلوك الإنسانيين، وهذه العناصر هي أبعد من متناول العقل المنطقي. فعلى سبيل المثال، زهاء عام قبل أن أغادر نيويورك عالجتُ شابًا كان يعاني من مشاكل تؤخذ على محمل الجد. فقد كان يشعر بقلق عميق كلما اقترب من فتاة. وكان يشعر بالدونية، وبعدم الكفاءة، كما كانت لديه ميول أخرى كثيرة ذات طابع مازوخي. وفي مرات كثيرة كانت لديه هلوسة في أن الشيطان يتربَّص له خفيةً. وخلال مدة علاجه تحسَّنَ قليلاً فيما يتعلَّق بالعوارِض المرضية، لكن هذه العوارِض لم يتم إنهاؤها إطلاقًا. بيد أنه طوَّر علاقة مستقرة مع فتاة، متمكِّنًا من اختبار لذة صغيرة في الذروة الجنسية.

التقيتُ به بعد خمس سنين، وذلك بعد عودتي لهذا البلد. فروَى لي قصةً مؤثرة. فببقائه دون علاج بعد مغادرتي، قرر متابعة العلاج بذاته. وقد تضمَّن ذلك تمارين التنفس الأساسية التي كنّا نقوم بها في معالجتنا. ففي كل الأيام عند عودته من عمله كان يستلقي في السرير ويحاول التنفس بعمق وامتلاء، كما كان يقوم بذلك معي. إذاك، وذات يوم، حصَلَت المعجزة. فقد اختفى قلقه كله. وأحسَّ آمِنًا في ذاته، واضِعًا حدًا لاستهانته بذاته، والأكثر أهمية في ذلك كله، كان ظهور المستوى الكلي لقدرة هزَّة الجماع في الفعل الجنسي. وكانت هزَّات الجماع لديه كاملة ومشبِعَة، وهكذا صار رجلاً مختلفًا.

عندما التقيتُ به مجددًا، قال لي بحزن: "دام ذلك كله زهاء شهر واحد". وكما أتى التغيُّر كذلك تلاشى بسرعة كبيرة، وعاد إلى إشراطه الفقير السابق. بعد ذلك، التقى مع معالِجٍ رايشي آخَر قامَ بعلاجه عدة أعوام، محرزًا تقدمًا غير ثابت. وعندما عدتُ للعمل، بحثَ عني مجددًا لكي يعاود علاجه معي. فقمتُ بعملي معه أكثر من ثلاث سنوات مساعدًا إياه لكي يتغلَّب على الكثير من عيوبه. ولكن، لم تعُد المعجزة تتكرَّر أبدًا. ولم يتوصَّل البتة لبلوغ مستوى التقدم الجنسي والانفعالي الذي كان قد بلَغَه في الفترة القصيرة التي تلَت مغادرتي.

كيف إذن بمقدورنا أن نفسِّر هذا الظهور غير المتوقع للصحة التي بَدَت تنبعث من تلقاء ذاتها فقط، ومن ثم اختفاؤها؟ تجربة مريضي هذا جعلَتني أتذكر الأفق الضائع Lost Hrizon لجيمس هيلتون James Hilton الذي كان شعبيًا في تلك الفترة. ففي هذه القصة الخيالية اُختُطِفَ البطل كونوِي Conway سويةً مع بعض رفاق الرحلة، وأُخِذوا بطائرة إلى وادٍ سرِّي في أعلى جبال الهيمَلايا ويُدعَى شانغري-لا Shangri-Là وهو جبل يوصَف أدبيًا على أنه "من عالمٍ آخَر". ولم يكن يوجد موتٌ ولا شيخوخة بالنسبة لأولئك الذين كانوا يعيشون في هذا الوادي. كان النظام الحكومي متَّزنًا، والذي يمكن القول عنه أيضًا إنه ليس من هذا العالَم. يشعر كونوِي بالإغراء لبقائه في شانغري-لا حيث وَجَدَ أسلوب الحياة الهادئ والعقلاني ممتعًا إلى أقصى حد. ودُعِيَ لكي يصير زعيم جماعة الوادي، لكنه سَمَحَ لأخيه بإقناعه أن ذلك كله ليس أكثر من وهم. وأخوه الذي يُغرَم بفتاةٍ صينية يستميل كونوِي على الهروب معهما إلى "الحقيقة". وهكذا ينطلِقون، لكن كونوِي يرتاع ذات مرة خارج الوادي وذلك لرؤيته الفتاة التي أحبَّها أخوه تتحول إلى عجوز ومن ثم تموت. فأيٌّ من الحقيقتين هي الأكثر صحةً؟! يقرِّر كونوِي الرجوع إلى شانغري-لا. وفي نهاية القصة، نراه يعبُر الجبال بحثًا عن أفقه الضائع.

إن التحول المفاجئ الذي طرأ على مريضي يمكن الحُكم عليه من منطلَق مبدأ التغيُّر في حسِّ الحقيقة لشخصٍ ما. فخلال شهر عاش هذا المريض أيضًا "خارج هذا العالَم" تاركًا وراءه كل الهموم ومشاعِر الذنب والمكبوتات الناجِمَة عن حياته في هذا العالَم. وساهمت كثيرٌ من العوامل دون شك في إحداث هذه النتيجة. والحال أنه كانت توجد حالة من النشوة والإثارة عند بعض الأشخاص الذين طبَّقَ عليهم رايش عمله خلال تلك الفترة سواءً كانوا من الدارسين أو المرضى. وكان رايش كصوت صارخ في البرية يعلن حقيقة مطلقة فيما يتعلق بالكائنات الإنسانية وجنسانيتها. وكانت أفكاره ذات نكهةٍ ثورية. وإنني متأكد من أن مريضي هذا قد عايش هذا الإحساس سويةً مع تنفسه الأكثر عمقًا، الأمر الذي أحرز أثرًا بارزًا كما تمَّ وصف ذلك أعلاه.

لقد أسَّسَ الخروج من عالمِه الخاص ومن وجودِه الخاص تجربةً متعالية (تجاوزية) transcendental. والحقيقة أن كثيرين اختبروا تجارب مماثِلَة بديمومةٍ أطول أو أقصر. والعامل المشترك بين هؤلاء هو الشعور بالانطلاق، والإحساس بالحرية، واكتشاف الذات في داخل كل منهم، وهي كينونة حيَّة على نحوٍ كامل وموهوبة بالاستجابات العفوية. إلا أن تحولات كهذه تحدث على نحوٍ غير متوقع وبدون التخطيط لها أو برمجتها. ولسوء الحظ ففي مرات كثيرة حين يتغيرون مستعيدين حالتهم الفطرية بسرعة كبيرة، تتحول تلك الهمة البهية التي تواكب هذا التغيُّر بين ليلة وضحاها إلى ضعف وخوف كما كان الشخص دائمًا على هذه الحال. وعلى هذا النحو أصبح لدينا الفضول لمعرفة ما هو واقع وجودنا الحقيقي. لماذا لا نستطيع البقاء على حالةٍ من الحرية؟!

لقد حصل لأغلبية مرضايَ نوع من تجربة التعالي transcendental وذلك خلال مدة علاجهم. لقد كان كل واحدٍ منهم يكتشف أفقًا مغطىً سابقًا بضبابٍ كثيف، وعلى نحوٍ مفاجئ يصير هذا الأفق مرئيًا بشكل واضح. وعلى الرغم من أن الضباب يتكثَّف من جديد لكن الذاكِرَة تحتفِظ بما حَصَلَ من تجربة تعالٍ transcendental وتقدِّم بدورها حافزًا لالتزام متواصِل بهدف التغيير والنمو.

إذا سعينا إلى التعالي transcendance فإننا سوف نحصل على رؤى كثيرة، لكننا وبشكل مؤكد سوف ننتهي عند نقطة الانطلاق نفسها. أما إذا وقع اختيارنا على النمو فإننا سوف نحصل على لحظاتنا من التعالي transcendance، ولكن، ستكون هذه اللحظات قمم خبرةٍ في مسيرةٍ أكثر انبساطًا في السعي نحو أنيةٍ أكثر أمانًا وغنىً.

الحياة في حد ذاتها سيرورة تطوُّر يبتدئ مع نمو الجسم وأعضائه مرورًا بتطور مهاراته المحرِّكَة، ومع تحصيله للعلم، واتساع رقعة العلاقات، وانتهاءً بمجمل التجربة التي ندعوها "معرفة". فهذه المظاهر من النمو تتقارب منذ أن تجري الحياة وتنمو في وَسَطِ جوٍّ ثقافي واجتماعي سليم. وعدا عن كون سيرورة النمو مستمرة فهي ليست منتظمة البتة. إذ توجد فترات من التطور عندما يستوعِب الفرد خبرةً تهيِّئه لارتقاء جديد. ويقود كل ارتقاء إلى قمة جديدة مؤسِّسًا ما ندعوه بذروة التجربة. وعلى كل ذروة بدورها أن تندمج بالشخصية لكي يحصل نمو جديد، ولكي يصل الفرد إلى الحكمة. ذات مرة، قلتُ لرايش بأنه لديَّ تعريف للسعادة. فرَفَعَ حاجبيه، ونظَرَ إليَّ بسخرية، وسألَني: ما هي؟!. فأجبتُه: "السعادة هي وعي النمو". أخفض حاجبيه، وأجابني: "ليس هذا بالتعريف السيئ".

إذا كان تعريفي ذا قيمة فإنني أقترح على معظم الأشخاص الذين يبحثون عن علاج أن يدركوا بأن نموهم قد توقَّف عند مرحلةٍ ما. وبشكل مؤكد فإن مرضى كثيرين يستنجدون بالعلاج لإعادة سياق النمو إلى مجراه الطبيعي. وبمقدور العلاج أن يتوصَّل إلى ذلك بتقديمه خُبُرَات جديدة ويساعِد على إزالة أو التقليل من التعطّلات الوظيفية، والعقبات أمام استيعاب هذه الخبرات. وتتكوَّن هذه التعطلات الوظيفية من أنماطٍ بنيوية من السلوك تمثِّل بدورها حلاً غير مرضٍ ناجمًا عن صراعات الطفولة. وهذه الأنماط تخلق أنيةً عصابية ومحدودة بما تسعى للإفلات أو التحرُّر منه. ومن خلال العمل على ماضي الشخص، يكتشِف المريض في العلاج صراعاته الأصلية وطرقًا جديدة للتعامل مع حالات مثل رفض الآخر له، وتهديد الحياة، فهذه الحالات ترغمُه على أن "يتدرَّع" كوسيلة للبقاء على قيد الحياة. فالطريقة الوحيدة للتوصُّل إلى النمو الحقيقي في اللحظة الحاضرة، تكمن في معايشة الماضي من جديد. إذا تمَّ إلغاء الماضي، فلن يكون هنالك مستقبلاً.

إن النمو عبارة عن سيرورة طبيعية ليس بالإمكان تسبيبها. وقانونه مشترك بين كل الكائنات الحية. فعلى سبيل المثال، تنمو شجرة للأعلى فقط وذلك إذا ما نمَت جذورها باتجاه مركز الأرض. هكذا إذن نتعلَّم من خلال دراسة الماضي، وعلى هذا النحو يستطيع الشخص من النمو فقط إذا ما ثبَّتَ جذوره في ماضيه نفسه. وماضي الشخص نفسه هو في جسمه.

وبالرجوع إلى تلك السنوات من الحماسة والإثارة، يتراءى لي كم كانت سذاجةً مني بانتظاري أن يتم حلُّ المشاكل البنيوية العميقة لشخص من عصرنا الحديث وذلك من خلال أي نوعٍ من التقنية. لا أعني القول هنا، بأن رايش كان على وهمٍ إزاء مهمَّته الضخمة. فقد كان واعيًا جدًا للوضع، خصوصًا أن مسعاه لأساليب أكثر فاعلية للتعامل مع هذه المشاكل، صدَرَ بشكل مباشر انطلاقًا من هذا الوعي لديه.

وهكذا حمَلَه هذا المسعى لتقصي طبيعة الطاقة المستخدمة في منظومة الكائنات الحية، فادَّعَى لنفسه كما نعرف اكتشاف طاقة جديدة أسماها بالأورغون orgone، وهذه الكلمة مشتقة من مصطلحات "عضوي" orgânico أو organismo. فابتكرَ جهازًا بوسعه تجميع هذه الطاقة، وبهذه الطاقة كان يجري تحميل جسم أي شخص بها حين يجلس في هذا الجهاز، وأنا شخصيًا أنشأت واحدةًَ من هذه المدَّخَرَات للأورغون، واستعملتها شخصيًا. وبَدَت هذه الآلَة مفيدة في بعض الحالات، ولكن لم يكن لها أي تأثير على مشاكل الشخصية. فما زالت هذه المشاكل على المستوى الفردي تقتضي حلاً وتوافقًا بين عناية العمل التحليلي، والاقتراب الجسماني الذي يساعد الشخص على استرخاء عضلاته المتقلصة على نحو مزمن، والتي تمنعه من الحرية وتحد حياته. فعلى المستوى الاجتماعي، يجب أن يوجد تغيرًا تطوريًا في مواقف الإنسان إزاء نفسه، وإزاء وسطه المحيط، وإزاء المجتمع.

قدَّمَ رايش على كلَيْ المستويين إسهامات كبرى، فإن تفسيره لطبيعة بنية الطبع، وإظهار ماهيتها الوظيفية، وذلك من خلال وضعيات الجسم، قد مثَّلَت تقدمًا هامًا في معرفتنا للسلوك الإنساني. كما أدخل مفهوم قدرة هزَّة الجماع orgasm كمعيار للصحة الانفعالية، وهو كذلك بشكل مؤكد، كما أظهر قاعدته الجسمانية في انعكاس هزَّة الجماع في الجسم. وعلى هذا النحو وسَّعَ معارفنا بخصوص سياقات الجسم الإنساني، وذلك باكتشافه معنى ردود فعل الجسم غير الإرادية. كما طوَّر أيضًا تقنية فعَّالَة نسبيًا لمعالجة الاضطرابات الانفعالية (اللاإرادية) لحياة الفرد.

أوضحَ رايش بشكل جيد جدًا كيف أن بنية المجتمع تنعكس على بنية طبع أعضاء هذا المجتمع فرديًا، وتفسير أوضح فيه المظاهراللاعقلانية للسياسة. وأطلَقَ إمكانية الوجود الإنساني حرًا من المكبوتات، وكل أشكال القمع التي تضيِّق على دوافع الحياة.

وفي رأيي، إذا ما أردنا لرؤية رايش هذه أن تخرج إلى النور، فما علينا إلا أن نتبع الطريق الذي رسَمَه لنا.

كانت مساهمة رايش العظمى بالنسبة للعرض الذي نحن بصَدَدِه الآن، هي رسمه المُنْجَز للدور الرئيسي الذي على الجسم أن يتكفَّل به في أية نظرية للشخصية. وهكذا قدم عملَه القواعِد الأساسية لعلم جديد بزغ إلى الوجود هو علم الطاقة الحيوية.

ترجمة: نبيل سلامة

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] يشتمل الجهاز العصبي الودي السمبتاوي أو العصبي النباتي على سلسلة مزدوجة من عقد تنطلق من المخيخ وتمتد على طول شوكات العمود الفقري وعلى جانبيه، فتقع إحداها على يمينه والأخرى على يساره. تتحد هاتان السلستان عند مراكز عصبية تسمى ضفائر. ويقوم الجهاز العصبي السمبتاوي أو العصبي النباتي بعمله آليًا دون تدخل العقل. ويُعَدُّ هذا الجهاز مسؤولاً عن تنظيم وضبط وتوجيه آلية الجسم الفيزيقي كالتنفس، والهضم، والقلب، والأمعاء. عن دراسات في فلسفة المادة والروح-الأعمال الكاملة. تأليف: ندره اليازجي. (م)

[2] تم نشر هذه الأفكار لأول مرة في كتاب سابق عن هذا بعنوان Die Funktion Des Orgasmus (Internationaler Psychoanalytischer).

[3] هذا الصراع هو ما عبر عنه فرويد نفسه بما أسماه مبدأ الواقع ومبدأ اللذة، فعندما يتعارض المبدآن ينشأ الصراع بينهما إلى أن يفسح مبدأ الواقع المجال لمبدأ اللذة أن يتحقق وذلك بعد صراع معروف منذ مراحل التكوين الأولى لدى الطفل من المرحلة الفموية إلى الشرجية فالقضيبية فالتناسلية، ثم تأتي الفترة الخضراء حيث الكمون الجنسي لينفجر فيما بعد في المراهقة حيث يحتدم صراع مبدأ الواقع مع مبدأ اللذة. (المترجم)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود