|
شبكة الفكر: الحديث الثالث
أكرر لكم أننا لا نحاول إقناعكم بأي شيء، يجب أن يكون هذا واضحًا، فنحن لا نحاول إقناعكم بقبول وجهة نظر معينة، ولا نحاول التأثير عليكم، كما لا نحاول الدعاية لأي شيء. نحن لا نتحدث عن شخصيات، كما لا نتساءل عمن هو المصيب ومن هو المخطئ، بل نحاول معًا فهم ورؤية ماهية العالم وماهية أنفسنا، ماذا فعلنا بالعالم وماذا فعلنا بأنفسنا. سنحاول معًا فهم داخل الإنسان وخارجه. التحرر شرطُ الرؤية الواضحة الوحيد. حيث من الواضح أنه إذا ما تعلق المرء بتجربة معينة وأحكام وآراء مسبقة معينة فإنه لن يكون قادرًا على التفكير بصفاء. تدفعنا الأزمة العالمية الماثلة أمام أعيننا وتحثنا على التفكير معًا لنجد حلولاً لمشاكلنا الراهنة، ليس تبعًا لشخص معين، لفيلسوف أو لمعلم (غورو). نحن نحاول هنا أن نرى معًا، لأنه من الهام أن نتذكر دومًا أن المتحدث إليكم إنما يشير إلى شيء نختبره معًا، فهو ليس منحازًا إلى طرف معين، بل نحن نتعاون في محاولة للفهم، في رحلة تجمعنا، ولهذا فنحن نعمل مع بعضنا. من المهم جدًا أن نفهم أن وعينا ليس وعيًا فرديًا يخصنا وحدنا، كما أنه لا يخص فئة خاصة أو جنسية معينة، بل هو أيضًا كل المخاض الإنساني المتضمن الصراع والشقاء والفوضى والألم. نختبر معًا ذلك الوعي الإنساني، وعينا الإنساني، ليس وعيك وحدك أو وعيي وحدي، بل وعينا جميعًا. قدرة العقل هي أحد العوامل المطلوبة في هذا البحث. فالعقل هو القدرة على التبيان والفهم والتفريق، كما أنه القدرة على ملاحظة وموضعة كل ما جمعناه مع بعضه ثم الانطلاق من هنا تحديدًا. ومع ذلك، من الممكن أن يتعرض كل ما جمعناه بفطنتنا واكتناهنا للأمور وتفكرنا بها للإجحاف. إذ إن الذكاء ينتفي حين يكون هناك تحيُّز. عندما تتبع شخصًا آخر يُقصى عقلك بكل بساطة، فاتباع الآخر (مهما كان نبيلاً) يُنكر عليك قدراتك الذهنية وملاحظاتك الخاصة لتصبح مجرد تابع لشخص ما يخبرك ما تفعل ويملي عليك ما تفكر به. ولدى فعلك هذا يُمحى عقلك من الوجود، إذ عندما تختفي المراقبة، لا يبقى هناك فكر. يقتضي العقل الشك والتساؤل، لا التأثر بالآخرين وبحماسهم وطاقتهم. كما يقتضي أيضًا الدراسة المجردة الموضوعية. لا يعني العقل القدرة على فهم كل ما هو عقلاني ومنطقي فقط، بل يعني أيضًا تقصي كل ما يمكننا من معلومات، ونحن نعلم بأن كل المعلومات الموجودة في العالم غير مكتملة، ولن تكتمل يومًا في أي موضوع أو أي شيء. وأنى وجد العقل وجدت الحيرة والملاحظة والتفكير المجرد المنطقي. إن إدراك الإنسان ككل، وفهم كل تعقيداته واستجاباته الفيزيولوجية والعاطفية، وقدرته الذهنية، شغفه وآلامه، إن فهم كل ذلك بلمحة واحدة هو إدراك أسمى. ومع هذا، لم يتجاوز العقل حتى الآن مسألة الصراع والنزاع. لذا سنحاول أن نكتشف معًا هل بوسع العقل تجاوز الصراع. فالإنسان يعيش في صراع منذ اللحظة التي يولد فيها إلى لحظة موته. حيث توجد دائمًا معركة من أجل التحقق، من أجل أن تتحول – كما يقولون – روحيًا، أو نفسيًا، بمعنى أن تصبح ناجحًا في الحياة، وأن تتحقق. كلُّ هذا يشكل حركة التحقق: أي أن هذه هي حالي الآن لكني سأصل مبتغاي، سأصل إلى المبدأ الأسمى مهما كان اسمه (الله، البراهمان، أو أي اسم آخر...). إن المحاولة المستمرة لأن تصبح – أو لأن تكون – هي الأمر عينه. ولكن عندما يحاول الإنسان أن يصبح شيئًا ما، باتجاهات مختلفة، فإنه في ذات الوقت ينكر وجوده. بينما عندما تحاول أن تكون فإنك تتحقق أيضًا. انظروا إلى حركة العقل، والفكر هذه: أنا أفكر، أنا موجود، ولأنني غير راض، وغير سعيد بما أنا عليه أحاول أن أثبت وجودي في مجال ما، وأتحرك بشكل مباشر في اتجاه هدف محدد؛ قد يؤلمني الطريق، لكني أعتقد أن الغاية مرضية. هناك صراع موجود دائمًا من أجل أن أكون وأن أتحقق. جميعنا يحاول التحقق، جميعنا يريد بيتًا أفضل ومركزًا أكبر مع ما يحمله من سلطة أوسع، ومكانة أعلى. وإذا لم نكن بيولوجيًا بوضع جيد فإننا نسعى لأن نصبح بوضع أفضل. ونفسانيًا، تتولد كل المسارات الفكرية الداخلية وكل تطورات الوعي وجميع الدوافع من إدراك الإنسان أنه لا شيء في الحقيقة، وأنه بوسعه حين يصل تجاوز هذه الحالة نفسيًا، داخليًا، حيث هناك دومًا ذلك الهروب مما هو كائن، هروب دائم مما أنا عليه، من حالتي التي لا ترضيني إلى ما يرضيني. ومهما كانت أهدافي المنشودة، سواء كانت راحة داخلية عميقة أو سعادة أو تنَوُّرًا روحيًا (وهذا ليس سوى تصور فكري متحول) أو اكتساب معرفة أكبر، فإنها تبقى جميعًا مجرد رغبة في التحقق – بمعنى هذا أنا اليوم، وذاك ما سأصبحه غدًا. وهذه العملية تعتمد على الوقت، فالدماغ مبرمج على هذا الأساس. كل حضارتنا وتشريعاتنا الدينية وجميع ما يحيط بنا يقول: "تحقق". وهذه ظاهرة موجودة حول العالم. يحاول الجميع أن يصبح شيئًا ما. ليس في الغرب فقط بل في الشرق أيضًا. أن يكون، أو يتفادى أن يكون. والآن، هل هذا هو سبب الصراع، داخليًا وخارجيًا؟ داخليًا، هناك التقليد الأعمى والمنافسة ومحاولة مطابقة الذات مع المثال. أما خارجيًا فهناك التنافس بين ما يسمى بأفراد الجماعة الواحدة ضد جماعة أخرى، بين أمة وأخرى. أي أن هذه النزعة لأن أصبح، وأن أكون شيئًا ما، موجودة داخليًا وخارجيًا. ونتسأل: هل هذا هو السبب الرئيسي للصراع؟ هل حُكم على الإنسان أن يعيش – طوال حياته على هذه الأرض الرائعة – في صراع مستمر؟ يستطيع الفرد منا أن يبرر ويمنطق الصراع قائلاً إن الطبيعة ذاتها في صراع، فالشجرة تصارع لأجل الوصول إلى أشعة الشمس، وإنه جزء من طبيعتنا، فقد تطورنا عبره، ونمونا وتحولنا إلى ذلك الكائن الرائع الذي هو الإنسان. وأنا لا أقول هذا ساخرًا. فدماغنا مبرمج ليتصارع. ولدينا مسألة لم نستطع حلَّها مطلقًا. فقد تستطيع الهروب ذهنيًا إلى وهم يسعدك، أو قد تتخيل أنك قد حققت شيئًا ما داخليًا وتسعد بذلك. لكن يجب على الذهن العاقل البحث في كل هذا. يجب أن يشعر بالشك والارتياب. لماذا عاشت المخلوقات البشرية منذ نشأتها ولملايين السنين وصولاً إلى الحاضر في حال من الصراع؟ لقد قبلنا به، واحتملناه، وقلنا إن التنافس جزء من طبيعتنا، كما هو العنف والتقليد والتكيف والخضوع. لقد قررنا أنه جزء من نموذج الحياة الأبدي. لماذا يكون الإنسان المتطور إلى حد كبير في اتجاه ما غبيًا إلى هذه الدرجة في اتجاهات أخرى؟ هذا يدفعنا إلى التساؤل: هل ينتهي الصراع عبر المعرفة – معرفة الذات أو العالم، المادة والتعلم عن المجتمعات للوصول إلى تنظيمات ومراكز أفضل، للتوصل إلى معرفة أكبر فأكبر؟ هل يحل هذا صراعنا البشري؟ أم أن التحرر من الصراع لا علاقة له أبدًا بالمعرفة؟ نمتلك الكثير من المعرفة عن العالم والمادة والكون، كما لدينا الكثير من المعرفة التاريخية بأنفسنا. هل تستطيع هذه المعارف تحرير الإنسان من الصراع، أم أنه لا علاقة للتحرر من الصراع بتحليل واكتشاف الأسباب والعوامل المختلفة له؟ هل بوسع الاستكشاف التحليلي للأسباب تحرير الذهن من الصراع – ذلك الصراع الذي يدور داخلنا طوال نهارنا والمستمر أثناء نومنا؟ نستطيع دراسة وتفسير الأحلام، ونستطيع أن نسأل لِمَ يحلمُ الإنسانُ عمومًا، لكن هل يحل هذا ذلك الصراع؟ هل يستطيع الذهن التحليلي الذي يحلل بوضوح شديد وبمنطقية وعقلانية التوصلَ إلى تحديد أسباب الصراع، هل بوسعه إنهاء الصراع؟ أثناء عملية التحليل يحاول المحلل تحليل الصراع، وهكذا فإنه يفصل ذاته عن الصراع، هل يحل هذا الفعل الصراع؟ أم أن الحرية لا علاقة لها بأي من تلك العمليات؟ لو تبعت شخصًا يقول: "سأريك الطريق، لقد تحررت من الصراع، لذلك سأريك الطريق". هل يساعدك هذا؟ لقد كان هذا دور الكاهن، والمعلم (الغورو) وكل من يسمى بالشخص المستنير، أولئك الذين يقولون: "اتبعوني... سأنير لكم الدرب"، أو: "سأحدد لكم الهدف". لقد كرر التاريخ ذلك ألفية بعد أخرى، ومع ذلك لم يستطع الإنسان إيجاد حل للصراع المتجذر داخله. دعونا نستكشف معًا – لا أن نوافق كما على مفهوم نظري مجرد – إن كان يوجد حقًا إدراك ما، فعل ما، قادر على إنهاء الصراع، حالاً وليس تدريجيًا، وما هي آثار ذلك؟ فالدماغ المبرمج على الصراع هو من دون شك أسير ذلك النمط. ونتساءل عن إمكانية إيقاف هذا النمط مباشرة، وليس بشكل تدريجي. قد تعتقد أنك قادر على الخلاص منه بالهروب عبر إدمان المخدرات أو الكحول أو الجنس أو أشكال عديدة أخرى من الضوابط، أو عبر استسلامك لشيء ما. لقد جرَّب الإنسان آلاف الطرق المختلفة للهروب من حالة الرعب التي يفرضها الصراع. ونحن نسأل الآن: هل يستطيع الدماغ المشروط الانعتاق من الشرطية بشكل فجائي ومرة واحدة؟ قد يكون هذا السؤال نظريًا وغير واقعي، قد تقول إنه مستحيل وإنه مجرد كلام، مجرد أمنية أو رغبة في التحرر من هذا الصراع. ولكن، إن فكرت في الموضوع بتعقل ومنطقية، مستخدمًا كامل قدراتك الذهنية، ستكتشف أن الزمن غير قادر على تخليصك من هذه الحالة. وأول ما يجب عليك إدراكه هو أنه لا يوجد غدٌ سيكولوجي. إن اكتشفت هذا حقًا، لا نظريًا، إنما بقلبك وعقلك، في أعمق أعماق وجودك فإنك ستكتشف أن الزمن ليس بوسعه حل هذه المعضلة. ومجرد إدراك هذا يعني أنك كسرت النمطَ وبدأتَ ترى شقوقًا وثغرات في النمط الذي فهمناه عن الوقت كوسيلة وكأداة لحل ألغاز هذا الدماغ المبرمج والانفصال عنها. وعندما تفهم ذلك في قرارة نفسك بوضوح وتعرف أن مرور الوقت لن يحررك حتمًا فستبدأ بلحظ التصدعات في السياج المحيط بالعقل. لقد قال العلماء والفلاسفة: "الوقت عامل أساسي للنمو البيولوجي واللغوي والتكنولوجي"، لكنهم لم يتعمقوا مطلقًا في محاولة فهم الطبيعة النفسية للزمن، لأن كل بحث يستهدف فهم الزمن من الناحية النفسية يعني البحث في مجمل عقدة التحقق السيكولوجي – هذا ما أنا عليه الآن، لكني سأصبح هكذا؛ أنا تعيس، لم أحقق شيئًا، وحيد بلا أمل، لكن غدي سيكون مختلفًا. إن مجرد فهمك بأن الوقت يُعذِّي الصراع هو بحد ذاته سلوك وقرار تم اتخاذه – ليس عليك أن تقرر – لأن الإدراك بحد ذاته هو في الوقت نفسه سلوك وقرار. للصراع أشكال متعددة، إذ توجد آلاف الآراء ولهذا توجد آلاف الأشكال من الصراع. لكننا لا نتكلم عن أشكال عديدة منه، إنما عن الصراع بحدِّ ذاته. لا نتحدث عن صراعك الشخصي – مثل عدم توافقك مع زوجك، أو عدم راحتك في عملك، أو أي شيء آخر – ولكننا نتحدث عن صراع الذهن البشري في وجوده. هل يوجد إدراك – غير ناتج عن الذاكرة وتراكم المعرفة – يشمل الطبيعة بكليتها وبنية الصراع المتخلل فيها؟ هل يوجد إدراك يعي كل هذا؟ هل وجد أبدًا إدراك مماثل، غير تحليلي، أو ناتج عن الملاحظة العقلانية لأشكال الصراع المتعددة، أو يشكل استجابة انفعالية عاطفية للصراع بحد ذاته؟ هل يوجد إدراك غير ناتج عن الذاكرة، التي تعني الوقت، وتعني الفكر؟ هل يوجد إدراك غير ناتج عن الزمن أو الفكر وقادر على فهم الطبيعة الكلية للصراع، وقادر بسبب ذاك الفهم على الخروج بنتيجة تُنهي الصراع؟ الفكر هو الزمن. الفكر هو التجربة والمعرفة اللتان تتجمعان في الدماغ على شكل ذاكرة. وهذه الذاكرة من نتاج الزمن – فأنا لم أكن أعرف قبل أسبوع لكني أعرف الآن. إن ازدياد المعارف وتوسعها وتعمقها ناتج عن الزمن، لذلك فإن الفكر هو الزمن – وهذا ينطبق على كل نشاط نفسي. كما أنني أحتاج الوقت إذا قررت الذهاب إلى مدينة أخرى، أو قررت تعلم لغة جديدة، أو أردت لقاء أحدهم في مكان بعيد. كل هذا المنهج الخارجي موجود داخليًا، فأنا لم أصبح، لكنني سأكون. لذلك فإن الفكر هو الزمن، ونحن لا نستطيع فصلهما أبدًا. وها نحن نسأل: أيوجد إدراك غير متمخض عن الفكر والزمن – إدراك مختلف كليًا عن النمط المألوف الذي اعتاده الدماغ؟ هل يوجد شيء مماثل قادر ربما على حل هذه المشكلة؟ لم نتخلص من هذه المشكلة على مدى ملايين الأعوام من الصراع، وما زلنا نكرر النمط ذاته. يجب أن نبحث بعقلنا وبكل رويَّة عن طريقة، وعن إدراك يغطي الصراع بأكمله. عن فهم يكسر النمط وتكراره. لقد وضع المتحدث هذا السؤال أمامكم. ونتساءل الآن: كيف نستطيع التصدي لهذا معًا؟ قد أكون مخطئًا، ولاعقلانيًا، ولكن بعد أن استمعتم إلي بانتباه فقد تحولت هذه إلى مسؤولية منوطة بكم كما هي منوطة بي، بأن نرى إن كان الأمر هكذا، وكان الحلُّ ممكنًا. لا تجيبوا: ليس هذا ممكنًا في الواقع لأني لم أقم بذلك، ولأنه ليس ضمن دائرة اهتماماتي، ولأني لم أتعمق به مليًا، أو لأني لا أريد التفكير به مطلقًا لأنني راض عن صراعي ولأنني متأكد من أن البشرية ستتحرر يومًا ما من الصراع كله. كلُّ هذه الإجابات هي محاولات للهرب من المشكلة. لذلك، فإننا وقد أصبحنا مدركين معًا لكلِّ تعقيدات هذا الصراع، ترانا لا نستطيع التنكر له، لأنه موجود وحقيقي تمامًا كالألم في الجسد. هل أدركنا، ومن دون وجود أي خيار آخر، أن الأمر هكذا. وفي الوقت نفسه هل تساءلنا عن إمكانية وجود طريقة مختلفة أخرى لمقاربته سويةً؟ والآن، هل نستطيع مراقبته – ولا يهم ما هو – من دون تسميات ومن دون الاستعانة بالذاكرة؟ انظر إلى صديقك أو إلى زوجتك أو إلى أي شيء آخر وحاول مراقبة ذلك الشخص من دون تلك المسميات (زوجتي) أو (صديقي) أو (نحن ننتمي إلى تلك الجماعة)، بمعنى التفكير بالشخص دون النظر إليه من خلال الذكرى. هل جربت هذا مرة واحدة وبشكل مقصود؟ النظر إلى الشخص من دون تسميته، من دون زمن ومن دون ذكريات، والنظر أيضًا إلى نفسك – إلى تلك الصورة التي كونتها عن ذاتك، وإلى الصورة التي بنيتها عن الآخرين، النظر إليها وكأنك تراها للمرة الأولى، كما تنظر إلى الوردة لأول مرة. تعلَّم أن تنظر. تعلَّم أن تلاحظ من دون عمليات فكرية. لا تقل إن هذا ليس ممكنًا. لو ذهبت إلى أستاذ جامعي بقصد التعلُّم منه ومن دون أن تعرفه فأنت حكمًا ذاهب للاستماع إليه. لا تقل له: "أعرف هذا عن الموضوع"، أو "أنت مخطئ"، أو "أنت مصيب"، أو "لا يعجبني موقفك"، بل انصت إليه، واكتشف. لأنك عندما تبدأ بالاستماع إليه بكل حواسك وبكل إدراك فإنك تبدأ باكتشاف حقيقته: هل هو أستاذ مزيف يستعمل العديد من المصطلحات أم هو معلم متعمق حقًا في أغوار مادته. والآن، هل نستطيع الاستماع والمراقبة معًا دون كلمات ولا ذكريات، دون كل نشاطات الفكر، بمعنى الانتباه التام، ذلك الانتباه الذي لا ينبع من مركز إنما هو بلا مركز. إذا كانت لديك وجهة نظر خاصة تدفعك للحضور فاعلم أن ذلك هو شكل من أشكال التركيز. ولكن، إذا حضرت من دون وجهة نظر، فإن هذا يعني أنك تمنح الموضوع انتباهك التام، إذ لا يوجد زمن لمثل هذا الانتباه. سمع الكثيرون منكم المتحدث، لحسن الحظ أو لسوئه، لسنوات طويلة، ومع ذلك يلاحظ الإنسان أن إيقاف برمجة الدماغ لم يحصل بعد. ولطالما استمعتم لجملتي هذه ومع ذلك لم تتوقف البرمجة الدماغية عن العمل. هل يحصل هذا لأنكم تريدون التحصيل، وتريدون أن تصبحوا، تريدون التوصل إلى حالة ذهنية جاهزة لا برمجة فيها؟ لقد استمعتم ولم يتغير شيء، وأنتم تأملون في تحقيق هذا يومًا ما – وهذا ليس سوى شكل آخر من محاولة التحقق. لذا، فأنكم ما زلتم في حال صراع. وهكذا ترمون كل شيء جانبًا وتقولون بأنكم لن تحضروا مجددًا لأنكم لم تحصلوا على ما كنتم تريدون (أريد هذا لكنني لم أحققه). وهذه الإرادة هي الرغبة في التحول إلى حالة ما، وهي سبب الصراع. إنها رغبة نابعة من الدماغ المبرمج. ونحن ندعو لإيقاف سير ذلك البرنامج، وذلك النمط، وإلى التمعن من دون الاستعانة بحركة الفكر. الأمر يبدو بسيطًا جدًا. لكن حاول أن تفهم المنطق الذي يتضمنه والعقلانية المنضوية في داخله، ولا تفعل هذا لأن المتحدث طلب منك أن تفعل، بل لأنه فعل عقلاني، لأنه على الإنسان أن يختبر القدرة على المنطق والعقلانية لكي يعرف محدوديتهما، لأن التفكير العقلاني المنطقي ليس سوى بعض من الفكر. وحين تدرك أن الفكر محدود، وتتلمس محدوديته، لا تحاول أن تحصل منه على المزيد لأنه سيبقى محدودًا مهما تعمقت بتفكيرك. بينما لو نظرت إلى وردة، من دون تسميتها ومن دون التفكير بلونها، لو نظرت إليها فقط فإن تلك النظرة ستوقظ فيك حساسية عالية، حساسية قادرة بحد ذاتها على إيقاف ذلك الشعور بثقل الدماغ، وستمنحك حيوية غير عادية. لأنه عندما يكون فهمك للأشياء خالصًا نقيًا فإنك ستحصل على نوع مختلف كلياً من الطاقة، وبعيد كل البعد عن الفكر وعن الزمن. 16 تموز، 1981 ترجمة: يارا البرازي *** *** *** |
|
|