إضاءات

تشرين الثاني 2013

November 2013

 

 

أعتقد أنَّ الإبداع البشري لا يصدر عن العقل والمنطق والتحليل والتفكير بل عن اللاوعي، المكوِّن الأهم للإنسان، وبالتالي فإن المبدع في لحظة إبداعه لا يدرك تمامًا ماذا أبدع، ويُترَكُ هذا للمتلقي حسب قيمة العمل وحسب قدرة المتلقي وجاهزيته الروحية والذهنية والعاطفية. إن جميع الأعمال الخالدة في تاريخ البشر هي لانهائية العُمق والأبعاد، يُنهل منها باستمرار دون أن تنضب، وتحيا على مدى السنين وتؤثر في عدد من الناس عبر العصور بحسب عمقها. أمثلة: إلياذة هوميروس، جوكندا داڤنشي، سيمفونيتا بيتهوڤن الخامسة والتاسعة، إلخ. لا يمكن برأيي أن يكون هوميروس قد توقع أن يكون لإلياذته هذا التأثير وهذا الصيت حين كتبها، كما لم يخطر ببال داڤنشي أن تكون قيمة الابتسامة الغامضة للسيدة موناليزا حديث الفنانين، بل البشرية برمَّتها بعد مئات السنين، ويصعب أن نتصور أن بيتهوڤن حلم بأن يُرسَل قرصٌ مضغوط داخل مركبة فضائية غير مأهولة يحوي سيمفونيته الخامسة، ربما يسمعها بالصدفة كائن فضائي كمثال على إبداع البشر على كوكبنا. هل يمكن إذًا أن يكون عقل هوميروس أو بيتهوفن أو داڤنشي قد أنتج كل هذا؟ بالطبع لا.

 

من على صواب؟ المثاليون أم الماديون؟ عند طرحنا للسؤال بهذه الطريقة يغدو التردد في الإجابة مستحيلاً، وبما لا يقبل الشك سيكون المثاليون على خطأ والماديون على صواب. نعم، فالحقائق تأتي قبل الأفكار، حقًا، فكما قال برودن Proudhon: ليس المثالي إلا زهرة تكمن جذورها في الشروط المادية للوجود. أجل، إن التاريخ الفكري والأخلاقي والسياسي والاجتماعي للبشرية ما هو إلا انعكاس للتاريخ الاقتصادي.

تُجمع مجمل فروع العلوم الحديثة على هذه الحقيقة العظيمة، هذه الحقيقة الأساسية والقاطعة، حقيقة أن العالم الاجتماعي، أو كما يجب تسميته العالم الإنساني أو الإنسانية باختصار، ما هو إلا التطور الأخير والأسمى، على كوكبنا على الأقل، والتجلي الأرقى للحيوانية. لكن كل تطور يتضمن بالضرورة نفيًا إما لقاعدته أو منطلقاته. تعبر الإنسانية عن النفي المدروس والتدريجي للعنصر الحيواني في الإنسان، وهذا النفي بحد ذاته، المنطقي بقدر ما هو طبيعي، وهو منطقي لأنه طبيعي وبالتالي أصبح تاريخيًا ومنطقيًا بحتمية تطور وتحقق كل القوانين الطبيعية في العالم، هذا النفي الذي يؤسِّس المثالي وعالم المعتقدات الفكرية والأخلاقية كأفكار.

 

على سبيل التقديم:

يصعب إن لم نقل يستحيل أن نَتعرَّف الإنسان كجوهر مجرد من دون المرور عبر بوابة "الجسد"، "فالهوية الشخصية" مرتبطة "بالهوية الجسدية" التي تُشَكِّل الوجه "الإمبريقي" أو "الفيزيقي" للإنسان. طبعًا للجسد طرق خاصة للتعبير والتواصل، وهي لغة تمزج بين الإيحاء والمجاز، بل إن الجسد هو من يمنح الوجود الإنساني حضوره المادي، ليصبح بذلك هذا الوجود الإنساني وجودًا جسديًا.

الجسد لم ينظر له دائمًا على أنه رمز للوجود الإنساني بل نظر إليه أيضًا على أنه واجهة مختلف التحولات التي يعرفها المجتمع، لذلك طالما كان الجسد عنوانًا لنمط العلاقة التي يقيمها الأفراد فيما بينهم. إلا أننا تعودنا منذ مدة، ليست بالقصيرة، على معاملة مفهوم "الجسد" بنوع من الحيطة والحذر، فهو مرة اعتبر محط إثارة وإغواء، وهو في مرات كثيرة تم اتخاذه سلعة لجني ربح مادي من وراء استثمار طراوته (الرقص، الإعلانات الإشهارية، الدعارة...)، مثلما وُجِدَت شعوب قدَّست الجسد وتعاملت معه تمجيدًا (الفراعنة نموذجًا) واحتفاء بقدراته.

 

عندما ظهرت نتائج القمر الصناعي المصمَّم لإجراء عملية مسح لإشعاع الخلفية الكونية COBE على الملأ لأول مرَّة عام 1992، قال العالم والمشرف على المهمة جورج سمووت واصفًا الأمر: "إذا كنتَ متدينًا، فالأمر أشبه ما يكون بالنظر إلى الله". نال هذا الوصف إعجاب أجهزة الإعلام. وقد وضعت إحدى الصحف الشعبية على صفحتها الأولى صورة يسوع (كما صوَّره فنَّانو العصور الوسطى طبعًا) على خلفية صورة باهتة للكون.

وفي تقرير حول مؤتمر "العلم والبحث الروحاني" المنعقد في مركز اللاهوت والعلم ببيركلي هذا الصيف [2007]، ظهر على غلاف صحيفة نيوزويك (20 تموز/يوليو) عنوان: "لقد عثر العلم على الله". كان هناك عدَّة مئات من العلماء ورجال الدين الذين أجمعوا على الاتفاق بأنَّ كِلا العلم والدين الآن في مرحلة تحوُّل كبرى، أمَّا موضوع التحوُّل هو الله. عبَّر عالم الكونيات الجنوبي الإفريقي وأحد أعضاء كنيسة الكواكر جورج إيليس عم هذا الإجماع بالقول:

 

 

في الاستطلاع الذي أجراه فريق العمل حول الأخلاق لصالح الجمعية الأمريكية للفيزياء، أظهرت ردود الأعضاء الشبان في مجتمع الفيزياء قلقًا لافتًا حول معاملة المرؤوسين والقضايا الأخلاقية الأخرى.

في العام 1987، وبينما كانت العلوم البيولوجية تصارع اتهامات عديدة حول قضايا شخصية تتعلق بالتضليل البحثي، تبنى مجلس المجلس الجمعية الأمريكية للفيزياء بيانًا عن الاستقامة في الفيزياء. وقد نشر البيان في تموز من العام 1987 في مجلة الفيزياء اليوم physics today (ص81) ويبدأ بما يلي:

تمتع مجتمع الفيزياء تقليديًا بالسمعة الحسنة نظرًا لحفاظه على الاستقامة والمعايير الأخلاقية الرفيعة في نشاطاته العلمية. وبالفعل فإن الجمعية الأمريكية للفيزياء هي واحدة من الجمعيات القليلة التي لم تشعر بالحاجة إلى دستور رسمي للأخلاقيات.

 

 

إنَّ حكم الأغلبية ليس شكلاً من أشكال الحكم الديمقراطي، كونها مرتكزة على طغيان ديماغوجية الأغلبية وتحويرها لمآل هيئة الدولة، عبر تحويرها لقوانين إدارتها، لتتطابق مع مصالح هذه الأغلبية، فتصبح الدولة مرة أخرى مطابقة لطائفة الأغلبية بعدما كانت مطابقة لطائفة الأقلية العسكرية الحاكمة. فتختفي الديمقراطية بشكل أعمق في دولة الأقليات والأغلبيات، لأن الأغلبية لا تقول بأن الديمقراطية غير موجودة، بل أنها موجودة من خلالها، فتصبح الأغلبية ممثلة للديمقراطية بمصادرتها الكلية للحكم. إنه طغيان أشد فتكًا بالحريات من النظام الاستبدادي، لأنه طغيان من خلال القوانين المتفقة مع مصلحة الأغلبية الحاكمة. وردع طغيان الأغلبية أصعب إن لم نردعها منذ لحظة وضع دساتير الدولة الجديدة عبر فكرة ارتكاز الحق على الفردانية وتجريد ارتهان القوانين بالأغلبيات، وتصويب مفهوم المصلحة العامة المتمحور حول الفهم العقلاني للحقوق.

 

 

في الذكرى السابعة لرحيل نجيب محفوظ، استعادت الأوساط الثقافية المصرية مواقف صاحب "الثلاثية" وآراءه في المجتمع والسياسة والدين، ورصدت بشكل خاص قراءته لظهور حركة "الإخوان المسلمين" ونموِّها في نتاجه الأدبي الواسع، وذلك بعد مرور عام على تولي هذه الحركة الحكم، وما خلَّفته هذه التجربة القصيرة من ردود في وعي المصريين. شدَّد البعض على ليبيرالية الكاتب وعدائه المبطَّن للإسلاميين، ورأى البعض الآخر أنه صوَّر بكثير من التجرد نمو حركة "الإخوان"، ووصف بشكل غير منحاز صعود نجمها في العقود الأخيرة من القرن العشرين.

 

الساعة الثانية من فجر يوم 28 آب (أغسطس) تلقيت اتصالاً من إحدى الصديقات تصرخ بي وتؤنبني لأنني تأخرت في الردِّ على اتصالها، فتقول لي: "والله عال حضرتك نايمة والآن الضربة الأميركية علينا، هيا أسرعي وافتحي النوافذ؟". للوهلة الأولى اعتقدت أنني أحلم، لكن صراخها المذعور في أذنيَّ بضرورة أن أفتح النوافذ لئلا يتكسر الزجاج أثناء الضربة الأميركية المؤكدة – والتي لا يشك بها السوريون وحتى الأطفال منهم – وجدتني أتجه إلى الشرفة وأرنو إلى البحر. يا لسذاجتي كما لو أنني أتوقع أنَّ الضربة ستأتي من البحر، وبدا كل شيء ساكنًا – سكون القبور – وحاولت استنزاف شيء من رائحة القهوة وأنا أفكر أنها قد تكون المرَّة الأخيرة التي أشرب فيها القهوة. طلع الفجر ولم تتكسَّر النوافذ. مازحتنا أميركا التي تحب اللعب بأعصابنا ولم توجه ضربتها بعد.

 

كنت قد اعتمدت قاعدة أساسية حكمت سلوكي على مدى العقود المنصرمة تقوم على مبدأ يقول: "كلما خفضَّت من حاجاتك ارتقيت بحريتك". وفي التطبيق السياسي لهذا المبدأ نقول: بقدر ما توازن بين قدراتك الذاتية وأهدافك، بحيث يكون اعتمادك على ذاتك أساسيًا بينما اعتمادك على العوامل الخارجية ثانويًا، بقدر ما تمتلك من حرية القرار والإرادة، وإذا كانت السمة الأساسية للعصر الحديث هي العولمة، والترابط والتداخل والصراع بين المصالح الامبراطورية لقوى واحتكارات دولية تبتكر كل يوم أدوات جديدة "ناعمة" للتحكم والسيطرة والإخضاع واستلاب إرادة الشعوب بحيث تأتي القوة العسكرية المباشرة كخيار أخير، وليست كخيار أولي، كما كانت الحال في الامبراطوريات التقليدية، فإن مجرد التفكير بالانعزال عن المؤثرات الخارجية، والعمل دون أخذها في الحسبان ضرب من الوهم المدمِّر، لكن الكلمة الفصل في الموضوع هي: كيف تتعامل مع المؤثرات الخارجية؟ تقاوم بعضها، تحيِّد بعضها الآخر، تستفيد من مساندة البعض الثالث، تمتلك معرفة التناقضات بين المصالح الخارجية دون أن تنجرف لتكون ورقة تلعب بها الأطراف المتصارعة، ودون أن تحوِّل وطنك إلى ملعب لكل من هبَّ ودبَّ.

 

 

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني