هل عثر العلم على الله؟

فيكتور ستينغر*

 

عندما ظهرت نتائج القمر الصناعي المصمَّم لإجراء عملية مسح لإشعاع الخلفية الكونية COBE على الملأ لأول مرَّة عام 1992، قال العالم والمشرف على المهمة جورج سمووت واصفًا الأمر: "إذا كنتَ متدينًا، فالأمر أشبه ما يكون بالنظر إلى الله". نال هذا الوصف إعجاب أجهزة الإعلام. وقد وضعت إحدى الصحف الشعبية على صفحتها الأولى صورة يسوع (كما صوَّره فنَّانو العصور الوسطى طبعًا) على خلفية صورة باهتة للكون.

وفي تقرير حول مؤتمر "العلم والبحث الروحاني" المنعقد في مركز اللاهوت والعلم ببيركلي هذا الصيف [2007]، ظهر على غلاف صحيفة نيوزويك (20 تموز/يوليو) عنوان: "لقد عثر العلم على الله". كان هناك عدَّة مئات من العلماء ورجال الدين الذين أجمعوا على الاتفاق بأنَّ كِلا العلم والدين الآن في مرحلة تحوُّل كبرى، أمَّا موضوع التحوُّل هو الله. عبَّر عالم الكونيات الجنوبي الإفريقي وأحد أعضاء كنيسة الكواكر جورج إيليس عم هذا الإجماع بالقول:

هناك كمٌّ هائل من البيانات التي تدعم وجود الله. والسؤال الآن يدور حول كيفية تقييمها.

ذكرت صحيفة النيوزويك في روايتها أنًّ "إنجازات العلم الحديث تتناقض مع الدين وتهدم الإيمان". بأية حال،

بالنسبة لعدد كبير ومتزايد من العلماء، فإنَّ هذه الاكتشافات تقدِّم دليلاً وبرهانًا قويين للروحانيات وتمنحنا بعض الأدلة والإشارات حول طبيعة الله... لطالما تخبَّط الفيزيائيون حول علامات تشير إلى أنَّ الكون مصمَّم خصِّيصًا لاحتواء حياة ووعي.

وأنَّ كوزمولوجيا الانفجار الكبير، وميكانيكا الكم، ونظرية الشواش جميعها محدَّدة مسبقًا

لتفتح الباب أمام الله للتدخُّل في هذا العالم.

في البداية، لا توجد أيَّة عمليات مسح أو استبيان تظهر أنَّ هناك "عددًا كبيرًا ومتزايدًا من العلماء" يعثرون على أدلة وبراهين على للروحانيات في أبحاثهم العلمية. هناك استطلاع حديث لأعضاء الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة يظهر 7% فقط من العلماء الذين يؤمنون بوجود إله شخصي، وقد هبطت النسبة من 15% في عام 1933، و29% عام 1914. وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدلُّ على أنَّ أغلب العلماء يبتعدون عن الروحانيات أكثر فأكثر كلَّما تقدَّم العلم.

من الواضح تمامًا أنَّ ما نسمعه ليس هو صوت الأغلبية العظمى من العلماء، بل هو صوت أقلية صاخبة، متضائلة، ومموَّلة بشكلٍ جيد من أدعياء العلم. فلقاء بيركلي هذا لم يكن أكثر من مجرَّد سباق "لسَدَنَة هيكل المسلَّمات" من الأكاديميين الساعين للحفاظ على مسلَّمتهم الأولى وهي أنَّ: الله موجود، في حين أنَّ العلم مستمرٌ بالعمل بنجاح وفعالية وبدون حاجة لمسلَّمتهم تلك.

تجاوز الخطوط الحمراء

يقول الصحفي جورج جونسون في تعليق على هذا اللقاء بصحيفة النيويورك تايمز إنَّ:

المؤمنون الدينيون يبدون أكثر توقًا من قبل لتجاوز الخطوط الحمراء، محاولين تأويل البيانات العلمية بما يتناسب مع حقائقهم الدينية التي يؤمنون بها.

بالنسبة للمؤمنين والمتدينين، تبدو الحياة خالية من أي معنى في كون من دون إله. إنهم ينكرون هذا الاحتمال مع توق شديد لمعنى أو هدف للوجود. لذلك لا يمكن وجود إلا لكون مخلوق، ولا يمكن للبيانات والمعطيات أن تقدِّم شيئًا سوى دعم هذه "الحقيقة".

والحال أنَّ ممارسة العلم الحقيقي تتطلَّب أن يكون كل شيء موضع شكٍّ وتساؤل، ومن ضمنها المسلَّمات التي تستخدم أثناء تأويل البيانات. في حين أنَّ بعض الافتراضات تكون حاضرة دومًا خلال العملية العلمية، إلا أنها جميعها معرَّضة للتغيير ما أن تظهر افتراضات أكثر رسوخًا ومتانة واقتصادية. فسَدَنَة المسلَّمات هؤلاء، المخلصون كدوافعهم، يمارسون علمًا سيئًا ورديئًا عندما يحدِّدون تأويلهم الخاص للأرصاد العلمية على كون مصمَّم.

بالنسبة لسَادِن المسلَّمات، فإنَّ نظرية الانفجار الكبير تقدِّم "دليلاً" بأنَّ عملية الخلق قد حدثت مع مرور الزمن تمامًا كما ورد في الأسطورة التوراتية (البابلية). لا يمكن لشيء أن يأتي من لا شيء، والكون بدوره بحاجة إلى خالق. أمَّا أنَّ فكرة أنَّ الخالق قد جاء من لا شيء فهذه فكرة لا تخطر على بالهم. فالله هو "نمط منطقي" مختلف عن الكون، نمط لا يحتاج خلقًا. ولا يشرح لنا اللاهوتيون لماذا الكون بدوره ليس من ذلك النمط المختلف من الوجود.

يدرك سَدَنَة المسلَّمات أنَّهم عاجزون عن إثبات وجود الله. إنه يعبِّرون ببساطة عن شعورهم القوي بأنَّ التصميم الذكي واضح وظاهر في النظام الذي يحكم الكون. لسوء الحظ، العلم لا يأخذ تلك المشاعر والرغبات بالحسبان بغضِّ النظر عن صدقها وإخلاصها. الكون هو كما هو عليه بغضِّ النظر عن أيَّة رغبات أو أمنيات. إذا كانت البشرية مجرَّد حفنة من الرمال في صحراء لا متناهية الأبعاد، كما تشير تلسكوباتنا، عندها لا يمكن لأمنياتنا ورغبتنا بعدم صحَّة هذه الحقيقة أن تغيِّر شيئًا. علينا تقبُّل هذه الحقيقة وتعلُّم كيفية التعايش معها.

يدرك الملحدون أنَّهم غير قادرين على إثبات عدم وجود الله. إنهم يجادلون بأنَّ الكون بدون خالق هي المسلَّمة الأكثر توافقًا وتناسبًا مع جميع البيانات والمعطيات. فالظهور الطبيعي وغير المصمَّم أو المحدَّد مسبقًا للكون من لا شيء لا ينتهك أي قانون من قوانين الفيزياء الراسخة والمعروفة. فمجموع الطاقة الكلية للكون يبدو أنَّها تساوي الصفر، إذن ليست هناك معجزة طاقية خلقت من "لاشيء" كانت لازمة لإنتاجه. بنفس الشكل، لم تكن هناك حاجة لأيَّة معجزات لظهور النظام. فالنظام يحدث بشكل تلقائي ضمن النظم الفيزيائية.

كون مصمَّم ومضبوط لاحتواء حياة

خلال الأعوام السابقة، استحوذت فكرة أنَّ قوانين الفيزياء مصمَّمة ومضبوطة لاحتواء حياة في هذا الكون على عقول العلماء واللاهوتيين المؤمنين وتفكيرهم على حدٍ سواء. طبعًا لم يسبق لأي فكرة أن استحوذت على هذا القدر من الاهتمام خلال النقاشات الأخيرة حول الدين والعلم.

تقوم حجَّة "التصميم المضبوط" على سلسلة من الحقائق العلمية التي تسمَّى بـ"الصُدَف الأنثروبية". أساسًا هم يقولون إنَّه إذا كان الكون قد جاء مع وجود تغييرات طفيفة جدًا في قيم الثوابت الكونية، لما كان الكون قد أنتج العناصر الأساسية كالكربون والأكسجين، والظروف الأخرى الضرورية من أجل الحياة.

تفترض حجَّة التصميم المضبوط وجود شكل وحيد ممكن من أشكال الحياة. لكن من الممكن ظهور أشكال أخرى من الحياة مع وجود قوانين فيزيائية وثوابت كونية مختلفة. الشيء الأهمُّ هو أن تعيش النجوم لفترات زمنية كافية لإنتاج العناصر الضرورية للحياة بالإضافة إلى الوقت اللازم لظهور وتطوُّر أنظمة معقَّدة غير خطية نسمِّيها "حياة". لقد قمت ببعض الحسابات حيث قمت بتغيير قيم بعض الثوابت الكونية وألقيت نظرة على الكون الذي سيظهر تحت هذه الظروف وما هو شكله. لقد وجدت أنَّ جميع المقادير تقريبًا تؤدِّي لظهور أكوان - بغضِّ النظر عن غرابة بعضها - بنجوم تعيش لمليارات السنوات وأكثر. وسيكون هناك إمكانية لظهور حياة من نمط معين في أغلب تلك الأكوان الممكنة.

إله المعادلات

نمط آخر شبيه بالأول من الحجج نجده كثيرًا ما يتكرَّر في النقاشات الحالية: يُزعَمُ أنَّ المعادلات الرياضية والفيزيائية تقدِّم دليلاً على وجود نظام أفلاطوني للكون يتعالى عليه ويتخطَّى أرصادنا وأبحاثنا.

الاتجاهات الجديدة في اللاهوت المسيحي ومقارباتها مع العلم قد قرَّبت المسيحية أكثر إلى اتخاذها موقف العثور على إله ضمن نظام الطبيعة ككيان مبدع يتعالى على الزمان والمكان والمادة المسؤولة عن ذلك النظام. طبعًا إنَّ الفكرة اللاهوتية الغربية المعاصرة عن الله أقرب ما تكون إلى مثال الخير عند أفلاطون من العجوز الملتحي بلحية بيضاء كيهوه أو زيوس الذي يشبه الصورة المرسومة على سقف كنيسة السستين أو يسوع/أبوللو ذو اللحية الخفيفة على الجدار.

وهنا حيث يلتقي بعض العلماء واللاهوتيون في الوقت الحالي حيث يبدو أنهم عثروا على أرضية مشتركة بينهم - في فكرة أنَّ هناك واقع مجرَّد خالص لا يمكن العثور عليه في الكواركات أو الذرات أو الصخور أو الأشجار أو النجوم أو التجارب والأرصاد. بل يكمن ذلك الواقع في الكمال الرياضي للرموز والمعادلات الفيزيائية. فالإله هنا يتشارك وجوده مع هذه المعادلات في عالم ما أو كمال رياضي ما يتجاوز الإحساس البشري. هذا الإله يمكن معرفته، ليس من خلال ظهوره المادي أمامنا بل من خلال وجوده كواقع أفلاطوني. فجميعنا موجودون "داخل عقل الله".

جميع الجدالات والخلافات السابقة حول وجود الله كانت مقتصرة على الفلاسفة واللاهوتيين. هذا النمط من النقاش المنطقي البحت، حيث لا يتمُّ فيه الاعتماد على الأرصاد إلا قليلاً، مستبعد من قبل غالبية العلماء - المؤمنون منهم والملحدون على حدٍ سواء. العلماء من سَدَنَة المسلَّمات يزعمون أنَّهم يتجاوزون بذلك الحجج اللاهوتية التقليدية ويمضون أبعد منها، وأنَّهم يشاهدون دليلاً مباشرًا على التصميم الذكي ضمن أرصادهم ومعادلاتهم.

وقد عبَّر عن ذلك الفيزيائي بول ديفيز بالقول:

إنَّ حقيقة الكون المبدع بحدِّ ذاتها، وأنَّ القوانين قد سمحت بظهور بنى معقَّدة وتطوُّرها لدرجة الوعي - بمعنى أنَّ الكون قد نظَّم وعيه الخاص - هي بالنسبة لي دليلاً قويًا على أنَّ هناك "شيئًا ما" يجري خلف كل ذلك. فهذا الإحساس بوجود تصميم ذكي غامرٌ بشدَّة.

لاحظوا هنا استخدام تعبير "دليل" Evidence بدلاً من "برهان" Proof ضمن هذا الاقتباس.

ومع ذلك، لا توجد أيَّة علاقة تربط بين الإله الأفلاطوني وإله إبراهيم أو أيٍّ من الآلهة والأخرى، ولا يوجد أي شبه بينهما حتى، لا شخصية ولا مجرَّدة. والمعادلات لا تحتاج فعليًا لتقديم إله متعالٍ مفارق للعالم. كما أنَّ الفيزيائيين الأفلاطونيين يرون أنَّ المجالات الكمومية والمقاييس الزمكانية "أشياء واقعية" أكثر من الكواركات والإلكترونات. في المقابل، الفيزيائيون الماديون يرون أنَّ الكواركات والإلكترونات أكثر واقعية من المقاييس أو المجالات من أي نوع، وأنَّ الأخيرة ليست أكثر من مجرَّد مفاهيم بشرية ابتكرها الإنسان. لكن الأغلبية الساحقة من كِلا المعسكرين لا ينظرون إلى هذه المفاهيم المحتملة بوصفها آلهة. إنهم لا يرون وجود حاجة أو ضرورة لحدوث "معجزة" وراء الكون أو الحياة.

وما زال البحث جاريًا عن إله الفجوات

من بعد كل ما سبق نستنتج سبب عدم ثبات هذا التآلف أو التقارب المزعوم بين الدين والعلم. انظروا إلى التاريخ: لطالما قام العلم بتفسير الظواهر والأرصاد في سياق العمليات الطبيعية (وليست الماوراء طبيعية). أمَّا الدين فقد قام بتقديم تفسيرات غيبية ماورائية خارقة للطبيعة لملء تلك الفجوات التي لم يقدِّم العلم فيها أي تفسير أو تعليل بعد، أو أنه ظلَّ صامتًا حيالها. مجال وحيد هو الذي ظلَّ مشغولاً دومًا في كلا الحالتين: هو مجال الملاحظة البشرية.

تعلَّم الشامان في الأدغال القديمة أنَّ "الأرواح" هي التي تجعل الصخور تتدحرج على التلال، حتى جاء نيوتن وقال إنَّ السبب هو الجاذبية. أمَّا الكهنة الآن فقد تعلَّموا أنَّ "الله" هو من خلق البشر على صورته، حتى جاء داروين وقال إنَّ التطوُّر قد جعلنا على ما نحن عليه الآن. والآن بات لدينا هذا النوع الجديد من العلماء-اللاهوتيون الذين يجادلون بأنَّ العلم طالما أنَّه غير قادرٍ على تفسير هذا الشيء، أو تلك الظاهرة، فما زال هناك متَّسع "لله".

لا يمكننا حتى الآن تفسير لماذا هذه الثوابت في الطبيعة تمتلك هذه القيم بالتحديد، إذن - حسب رأي هذا الصنف الجديد من العلماء - لابدَّ أنَّ الله هو من وضع لها هذه القيم. لا يسعنا الآن تعليل هذا "التأثير والفعلية غير المعقولة للرياضيات"، إذن لابدَّ أنَّ الله هو من ابتكر الرياضيات.

ربما... لكن هل هذا الإله الحديث - إله الفجوات - مقبول ظاهريًا على الأقل أكثر من إله الشامان والكاهن؟ ربما سيتمكَّن العلم في أحد الأيام من ملء هذه الفجوات التي يطلُّ منها ذلك الإله ويلغيه مرَّةً وإلى الأبد.

ترجمة: إبراهيم جركس

*** *** ***


 

horizontal rule

* فيكتور ستينغر Victor Stenger: أستاذ الفيزياء والفلك في جامعة هاواي. والمقالة منشورة في مجلة: Free Inquiry magazine Volume 19, Number 1, 2007

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني