هل الإبداع
الإنساني نتاجُ الذهن؟
(الهايكو مثالاً)
سامر زكريا
خلال
مقارنتي، مع بعض الأصدقاء في مجموعة
"الهايكو-
سوريا"، بين قصيدتَي
هايكو: الأولى من تأليفي ونصُّها:
بحُرقة
رمَقَني البوم
في سُوق الطُّيور.
والثانية من قصائد صديقي أسامة أسعد، ونصُّها:
على
أرضيَّة القارب الخشبية
تحاولُ قولَ شيءٍ ما
سمكةُ الشبُّوط.
كنت أخبر الأصدقاء أنني أردتُ من قصيدتي "البوم" التعبير عن مأساة
الإنسان (وكل الكائنات) المسحوق المظلوم تحت وطأة ماكينة الحياة، الذي
يجد نفسه فجأةً في وضع لا يستحقه، فيشعر بالعجز ولا يسَعه إلا التعبير
عن هذا بصمت وألم. إن نظرة البوم المهيب الذي انتهى به الأمر إلى أن
يباع أسيرًا في سوق الطيور تعبِّر عن هذا المعنى، فقد تحوَّل البوم
العظيم إلى طائرٍ في قفص لا يكترث له أحد سوى المارُّ المنتبه الذي
بادله النظرات. إن القصيدة تحمل البعد المأساويَّ لهشاشة الحياة
وعبثيتها.
أما قصيدة الشبُّوط فقد ناقشتُها كما يلي:
هذه القصيدة تحمل تاريخًا وجوديًا يتعلق بمحصلة حياة الإنسان كنتيجة
لحياة كل الكائنات التي سبقت تطوره: إن ما تحاول سمكة الشبوط قوله وهي
تلفظ أنفاسها الأخيرة يوحي بكلِّ شيء: بمشاعر الخواتيم ومراجعة شريط
الحياة، لحظات الفرح والحزن والإنجاز والإحباط، القرب والبعد والفقد
واللقاء، بالجدوى من الحياة برمَّتها! إن سمكة الشبوط التي تحاول قولَ
شيءٍ ما، تقولُ كلَّ شيء.
ومن وحي المناقشات وتعليقات الأصدقاء، طُرح السؤال التالي: هل تُقاس
قيمة النصِّ (شعر، نثر، هايكو) أو العمل الفني (لوحة، منحوتة، مؤلف
موسيقي) بما عناه الكاتب أو الفنان لحظة الكتابة أم بفهم وعمق
المتلقِّي الذي يكتشف فيه أبعادًا جديدة وروابط لم تكن في حسبان المبدع
- لحظة الإبداع على الأقل -؟
أعتقد أنَّ الإبداع البشري لا يصدر عن العقل والمنطق والتحليل والتفكير
بل عن اللاوعي، المكوِّن الأهم للإنسان، وبالتالي فإن المبدع في لحظة
إبداعه لا يدرك تمامًا ماذا أبدع، ويُترَكُ هذا للمتلقي حسب قيمة العمل
وحسب قدرة المتلقي وجاهزيته الروحية والذهنية والعاطفية.
إن جميع
الأعمال الخالدة في تاريخ البشر هي لانهائية العُمق والأبعاد، يُنهل
منها باستمرار دون أن تنضب، وتحيا على مدى السنين وتؤثر في عدد من
الناس عبر العصور بحسب عمقها. أمثلة: إلياذة هوميروس، جوكندا داڤنشي،
سيمفونيتا بيتهوڤن الخامسة والتاسعة، إلخ.
لا يمكن برأيي أن يكون هوميروس
قد توقع أن يكون لإلياذته هذا التأثير وهذا الصيت حين كتبها، كما لم
يخطر ببال داڤنشي أن تكون قيمة الابتسامة الغامضة للسيدة موناليزا حديث
الفنانين، بل البشرية برمَّتها بعد مئات السنين، ويصعب أن نتصور أن
بيتهوڤن حلم بأن يُرسَل قرصٌ مضغوط داخل مركبة فضائية غير مأهولة يحوي
سيمفونيته الخامسة، ربما يسمعها بالصدفة كائن فضائي كمثال على إبداع
البشر على كوكبنا.
هل يمكن إذًا
أن يكون عقل هوميروس أو بيتهوفن أو داڤنشي قد أنتج كل هذا؟ بالطبع لا.
أظنُّ أن الإبداع العظيم يتجلى في لحظة عبر اللاوعي، عبر باطن المبدع،
الذي يحمل في طياته اللاوعي الجمعي للبشرية، وكنتُ قد ذكرتُ سابقًا
أنَّ الهايكو الممتاز لا يمكن أن ينشأ تمامًا عن التأليف والتركيب
المقصود بقرار من العقل، وهذا حال كل الإبداع والفن. ينحصر دور التفكير
فقط في صياغة القصيدة؛ تبديل كلمة بأخرى أو حذف أو إضافة كلمة.
والأمر ذاته
يحدث مع التأليف الموسيقي والرسم والشعر. من المعلوم أن المبدع يتحدث
عن لحظة "إلهام" يكون قادرًا خلالها على الإبداع، وبعدها يمكن أن يتحدث
عن تعديل اللوحة أو القصيدة أو المؤلَّف الموسيقي... إلخ، لهذا السبب
بالذات لا يدرك المبدع بعقله تمامًا أبعاد وروابط وعمق عمله الإبداعي،
لأن العمل الإبداعي أتى من تجلٍّ للوعي الكَونيِّ (العقل الكلِّي)
فيه خلال
لحظةٍ بعينها تهيأت عندها الظروف المناسبة لإنتاش البذرة - الكامنة في
خافية المبدع أساسًا.
مثلاً: اللحن الأساسي لسميفونية بيتهوڤن الخالدة لم يأتِ قطعًا عن طريق
تفكير بيتهوڤن وتحليله، يمكن فقط أن يكون عقله وخبرته قد ساهما وساعدا
في الصياغة النهائية. وكذلك الموناليزا: لمسة الابتسامة الخالدة
الغامضة اللانهائية – التي لا يمكن لنا أن نصفها أو نحددها مهما
حدَّقنا في اللوحة ومهما كنَّا خُبراء وأكاديميين في فنِّ التصوير
الزيتي – لم تأتِ عن طريق عقل وذهن وتفكير داڤنشي وإرادته الواعية، بل
أتت عن طريق تجلِّي العقل الكلِّي من خلال باطنه في تلك اللحظة.
الأمرُ ذاته ينطبق على القصائد العظيمة التي تُقرأ مرارًا ولا تُملُّ،
ويمكن لنا أن ننزل بضع درجات لنقيم على سبيل المثال الهايكويات
الممتازة التي يكتبها أحدهم ثم يرسل لي رسالة يقول فيها: في الحقيقة لم
أكن أقصد كلَّ هذا حين كتبتُ قصيدتي.
هذا طبيعي، فكما ذكرتُ أعلاه:
المؤلف لم يكن يعلم أنَّه يقصد كل هذا، لكن باطنه يعلم هذا (وهذا يفسر
أيضًا ما يردني من رسائل تؤكد على "وحي" لحظة الهايكو قبل النوم بقليل
- حيث يتجلى بعضٌ من اللاوعي ويرتقي ممتزجًا بالوعي والإدراك) أو حتى
خلال النوم: ثمة ندرةٌ من الأشخاص أكَّدت لي أنها تستيقظ فجأةً لتكتب
الهايكو قبل أن تعود مجددًا إلى النوم. إذًا، لا تتعلق قيمة العمل
الإبداعي ومستواه بإرادة ووعي المبدع لحظة إطلاق إبداعه، بل بفهم
المتلقي العميق وإدراكه للأبعاد والممكنات التي يوحي بها النص.
دمشق، تشرين الأول، 2013
*** *** ***