|
إضاءات
إثر قيامي بنشر هذا البحث على صفحات موقع معابر خلال الأعوام 2003 - 2004، وصلني الكثير من ردود الفعل التي كان بعضها طريفًا، وبعضها الآخر أكثر عمقًا، ولكن جميعها تستحق التوقف عندها والتأمل بها. الأمر الذي دفعني إلى المزيد من التفكير فيما كتبته حول هذا الموضوع الشائك والمعقد. وبالتالي، إلى كتابة هذه الخاتمة المتأخرة لهذا البحث المتواضع من أجل توضيح بعض الأمور والإجابة عن بعض التساؤلات المشروعة. فبعض من قرأ النصَّ في حينه بعث إليَّ برسائل تسألني حول كيف بوسعه الانتساب إلى هذه الأخوية. ما يعني ربما أنه قد فهم مما طرحته أني عضو فيها، و/أو أنَّ ما بيَّنته من وقائع حولها قد أعجبه. وهذا موقف مشروع ولكن لا علاقة لي به على الإطلاق، حيث أنَّ قصدي الوحيد من هذه المحاولة كان تبيان وقائع توضِّح إيجاب وسلب ذلك التنظيم المسارِّي النقلي المفترض وليس الترويج له أو لسواه، فهذا الأمر لا يعنيني!
ب. رموز الطبيعة أو الإلهام الروحي للطبيعة: لقد نظر الصوفي إلى الطبيعة بوصفها تعينات وفيوضات مادية للجمال الإلهي فحاول استنطاقها والتوصل من خلالها إلى فك شيفراتها التي يخاطبنا بها العلو، وهذا يئول بنا إلى فرق جوهري يحيل إلى اختلاف أساسي بين نمطين: الأول عيني حسي خالص في وضع لاتجاوزي، والثاني عيني حسي يتعالى بواسطة الكيف الحسي الخيالي إلى تركيب شهود عياني لسريان الألوهية في الطبيعة التي تحولت، من خلال الموقف الروحي والتشكل الغنوصي للتجربة الصوفية في إهابتها بالعلو المحاديث، إلى شيفرة أو شيفرات يقرأ الصوفي فيها، بضرب من الكشف، لغةً ذات حدين إحاليين أحدهما حسي فيزيائي والآخر روحي إلهي، فيرسي تصورًا عرفانيًا للطبيعة يعتقد في سريان الجوهر الإلهي فيها جامدها وحيها، وتحليلاً للعلاقة بين الوحدة والكثرة المنبثقة فيها، فعالم الطبيعة، على حد قول ابن عربي، "صور في مرآة واحدة بل صورة واحدة في مرايا مختلفة".
يختلفُ إدراكُ العالَمِ الخارجي من إنسان إلى آخر ومن مجموعة لغوية إلى أخرى. ففي المحاكاة الصوتية onomatopée مثلاً، تدركُ كلُّ مجموعة لغوية الصوتَ الخارجي وتفسره بطريقة مختلفة. فالعربُ سمِعوا صوتَ الدجاجةِ والضفدعِ كِلَـيْـهِما "نقيقًا"، بينما سمِعَه الفرنسيون "غْلوسُّمون" gloussement للدجاجةِ و"كْواسّْـمُـن" coassement للضفدع. وصوتُ الكلب عبَّرَتْ عنه اللغةُ الفرنسية بكلمة (aboi) و(aboiement) والإنكليزية بكلمة (bark)، بينما عبَّرَتْ عنه العربيةُ بكلمة (عواء)، وذلك حسبما تلقَّى الفرنسيون والإنكليزُ والعربُ الصوتَ وأدخلوه في نظامهم اللغوي. وقد أقرَّ القرآنُ بالاختلاف اللغوي بين البشر كآية من آيات الله: "ومن آياته خلْقُ السماوات والأرض واختلافُ ألسنتكم وألوانكم. إنَّ في ذلك لآياتٍ للعالِمين"، كما أقرَّ أيضًا بالاختلاف الديني: "ولو شاء اللهُ لجعلَكم أُمَّةً واحدةً." "ولو شاء اللهُ لجعلَكم أُمَّةً واحدةً، ولكنْ يُضِلُّ مَنْ يشاءُ ويهدي مَنْ يشاءُ، ولَتُسْألُنَّ عما كنتم تعملون."
لقد نحتت عصبة الأمم في جنيف لفظة apatride أي الذي لا وطن له. وإن لم تخني الذاكرة أظن أن هذا الوضع القانوني الغريب أعطي للروس الذين غادروا بلادهم بعد الثورة البلشفية، ولجأ الكثيرون منهم إلى باريس ولم يحصلوا على الجنسيِّة الفرنسيِّة، أو لم يطلبوها، لاعتبار أنفسهم روسيين معنويًا أو أدبيًا، ولم يصيروا فرنسيين بالمعنى القانوني، فأضطرت عصبة الأمم إلى أن تنشئ هذا الوضع الجديد. تاليًا الوطن انتساب قانوني تريده وليس فقط الرقعة التي تولد عليها. لا يكفي أن تحب الأرض التي جئتها إذ يجب أن تختار دولتها. الدولة إذًا تشكَّل إنطلاقًا من أناس يرتضونها ويؤلِّفونها بمئة شكل وشكل. هي بنية يصنعها المواطنون، فإذا أرادوها كانت وهم أمة في حدودها. وإذا أرادوها يعنون أنهم منضوون تحت لوائها، ولها عليهم حق الإخلاص بحيث لا يريدون انتظامهم في غيرها، إذ لا يستطيعون الإنتماء إلى أوطان أخرى إلا إذا خانوا. والدولة ضعيفة إن أرادوا لها الضعف، وقادرة إن أرادوا لها القدرة. من هذه الزاوية كانت الدولة مرآة المجتمع، وتصبح في آن أداة في خدمة هذا المجتمع بالدفاع عنه، بحمايته، بترقيته؛ فعلى قدر ما يخلص لها تخلص هي أيضًا له، وفي شدَّتها تلازمه ويلازمها.
لحُرِّيـَّة أعذب وأقدس قيم الإنسان، ومن أجلها قامت الحروب والثورات على مرِّ التاريخ والزمان. حرِّية الإنسان وحقه في الحياة الحرة الآمنة والكريمة، حياة في ظلِّ نظام سياسي واجتماعي عادل يحترم إنسانية الإنسان ويتعامل معه كعقل وفكر وروح، فالخالق العظيم خلق الإنسان وكرمه على باقي مخلوقاته. والحرية ليست مجرَّد كلمة يتناولها الجميع بدون أن تترجم إلى إحساس إنساني بقيم هذه الكلمة العظيمة. فمنذ وجود الإنسان على الأرض وظهور المجتمعات البشرية وما يحدث داخلها من صراعات ونزاعات تصادر حريات الآخرين على حساب حريات يصبح الإنسان فيها هو سلعة وحيدة بخسة الثمن حيث تهدر كرامته وإنسانيته لأجل رغيف من الخبز يسكت به جوعه أو قطعة ثياب رثَّة يستر بها عريه. منذ وجود الإنسان والحرية تأخذ حيِّزًا كبيرًا ومساحات شاسعة من تفكير وقلق العقل البشري واهتماماته، سواءً على مستوى القانون أو المجتمع أو الفكر إلى آخر المجالات التي يمكن أن يصل مفهوم الحرية إليها سواء كان التفاعل والتواصل الإنساني بين الفرد وبين المجتمع وعيًا أو ممارسة جماعية.
تروي لنا كل الديانات قصة خلق واحدة تقريبًا يُصنع فيها آدم من أديم الأرض وتليه حواء في الظهور. ولدى استعراضنا للروايات التي تقص علينا كل ما حدث قبل اختتام الخلق بالإنسان لوجدنا أن الإله، الكلي القدرة، بدأ بالنور والظلام (نسبة إلى الرواية التوراتية) وتابع بمخلوقات أدنى نزولاً حتى الحيوانات والحشرات وأدق الكائنات. وبعد كل ذاك التتابع الحافل خلق الإنسان، بدليل أنه علَّمه الأسماء كلها.
ظهرت مقالة صموئيل. ب. هنتنغتون "صدام الحضارات؟" في الـ Foreign Affairs صيف العام 1993، لتعلن في جملتها الأولى أنَّ «السياسة العالمية تدخل طورًا جديدًا». وقد عنى بذلك أنَّه في حين كانت الصراعات التي شهدها العالم في الماضي القريب تدور بين اتجاهات إيديولوجية تضع العوالم الأول، والثاني، والثالث في معسكراتٍ متحاربة، فإنَّ أسلوب السياسة الجديد يقتضي صراعاتٍ بين حضارات مختلفة، ويُفْتَرَضُ أنَّها متصادمة: «فالانقسامات الكبرى بين البشر سوف تكون انقسامات ثقافية، وكذلك المصدر الأساسي للصراع... صدام الحضارات سوف يسيطر على السياسة العالمية». ويوضح هنتنغتون بعد ذلك أنَّ الصدام الأساسي سوف يكون بين الحضارة الغربية والحضارات غير الغربية، بل إنه يكرِّس معظم مقالته لمناقشة نقاط الاختلاف الأساسية، سواء كانت موجودة بالقوة أم بالفعل، بين ما يدعوه الغرب من جهة أولى، والحضارتين الإسلامية والكونفوشية من جهة أخرى. أمَّا من حيث التفاصيل، فهو يولي الإسلام قَدْرًا من الاهتمام لا يضاهيه اهتمامه بأيِّ حضارة أخرى، بما في ذلك الغرب.
الكثير من الكلمات والمصطلحات دخلت وسكنت ثنايا لغتنا العربية، وليس في ذلك عيبًا، ولا أجد غضاضة في استخدامها مثل: البنسلين، الإنفلونزا، التلفزيون، التلفون أو الكمبيوتر أو الإنترنت... الخ، رغم أن مجامع اللغة العربية قدمت لنا بعض البدائل التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وبالمقابل أيضًا هناك الكثير من الكلمات عادت إلينا كالشيك مثلاً ذات الأصل العربي. إيران، الهند، باكستان، تركيا، إسبانيا لغاتها ممتلئة بكلمات عربية، فمسألة التنافذ اللغوي ليست إشكالية إن كانت قائمة على أصول لغوية وقواعد متفق عليها بين العرب جميعًا أو مصطلح لن يحمل معول هدم في الجوهر والمعنى والأداء اللغوي.
|
|
|