|
اللغة العربية عبر الإنترنت
الكثير من الكلمات والمصطلحات دخلت وسكنت ثنايا لغتنا العربية، وليس في ذلك عيبًا، ولا أجد غضاضة في استخدامها مثل: البنسلين، الإنفلونزا، التلفزيون، التلفون أو الكمبيوتر أو الإنترنت... الخ، رغم أن مجامع اللغة العربية قدمت لنا بعض البدائل التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وبالمقابل أيضًا هناك الكثير من الكلمات عادت إلينا كالشيك مثلاً ذات الأصل العربي. إيران، الهند، باكستان، تركيا، إسبانيا لغاتها ممتلئة بكلمات عربية، فمسألة التنافذ اللغوي ليست إشكالية إن كانت قائمة على أصول لغوية وقواعد متفق عليها بين العرب جميعًا أو مصطلح لن يحمل معول هدم في الجوهر والمعنى والأداء اللغوي. أما الخوف، وكل الخوف، فهو الماثل أمام أعيننا من أمثلة صارخة في تحوُّل الكلمات المبهمة غير الدقيقة، أو التي لا معنى وقيمة لها، في تحولها بقدرة الفوضى، إلى مصطلح! الخوف، كل الخوف، من "العربليزية" التي انتشرت عبر الشبكة العنكبوتية بطريقة مرعبة. الخوف، كل الخوف، من الشباب المستلب. الخوف، كل الخوف، من شباب لا يقرأ العربية ولا تهزُّه قصيدة شعر. الخوف، كل الخوف، أن هذا الممسوخ، الذي مسخ أجمل ما في الحياة العربية: لغتها، سيصبح ذات يوم أغبر صاحب قرار! هذه اللغة الممسوخة – إن جاز لي استخدام كلمة لغة لها – منتشرة للأسف قبل أن نعرف الشبكة العنكبوتية أو الإنترنت ولكن بشكل آخر؛ إنها منتشرة في البيوت والجامعات والشوارع والمحلات التجارية وعناوين الشركات الاستثمارية وفي كل مكان، إنها النموذج للتشوُّه والبؤس الحضاري الذي نعيشه على الأرض العربية، إنها، وبكل بساطة (غير تبسيطية)، تعبير عن انكسار الأمة فينا وانكسارنا في قلب الأمة بالمعنى الواقعي لا التشاؤم. ونظرًا لأن الحديث عن اللغة يفتح جرحًا غائرًا في قلب امرأة ليست عربية الجذور واللسان، إنما فيها تجذَّرت هذه العربية كهوية وانتماء وتجاورتا في الذاكرة كنخلة صحراء وشجرة بلوط. وأجد نفسي حزينة أمام لغة تتهاوى أو... تتهافت! عندما نعرف أن الجامعات الغربية تطلق على مواد اللغة اسم (اللغة والحضارة)، ذلك لأن التفكير يتسلَّل ضمن استراتيجية التسمية، فاللغة ليست محايدة أبدًا كما قال أفلاطون بأنها مرآة عاكسة للفكر، إنما اللغة، برأيي، تدخل في عمق الفكر والتفكير. تشترك جميع اللغات الإنسانية في ثلاث مكونات أساسية: الأصوات والدلالات والتراكيب، كما أنها تتصف بالتجديد والإبداع، فكل لغة تملك نظامًا ما يساعدها على توليد وإنتاج عدد غير متناه من التعبيرات والتراكيب التي من شأنها أن تؤدي إلى تقدم الشعوب وتمكنهم من توظيف طاقاتهم وقدراتهم العقلية وحلِّ مشاكلهم اليومية. إن تلك الخصائص والسمات لا تنفرد بها لغة عن سواها من اللغات بل تشترك فيها كافة اللغات على الأرض وفي كل الأزمنة بما في ذلك العربية. لا يوجد أيُّ تميُّز أو خصوصية لأي لغة عن الأخرى إلا بقدر اهتمام شعوبها وقيادتهم الفكرية والعلمية والسياسية. ولو بدأت استحضارًا للذاكرة من تجارب شعوب لأهتز نخاع العظم، لعظمة تجربتهم اللغوية من البعد القومي لها، والتي تلازمني عند إعطاء أمثلة حيَّة لشعوب حاولت جاهدة الحفر لنفسها عميقًا عن مكان في اللامكان في هذا الزمن المستعصي. الكوريون، وطوال ستين سنة أي بمرور جيلين كاملين، تمَّ منعهم من تداول واستخدام لغتهم إبَّان الاحتلال الياباني لهم، ولما استقلت البلاد جاء أول مرسوم في أول عدد من الجريدة الرسمية بمنع تداول اللغة اليابانية (لغة المحتل لها)، فاحتشد الكهول والشيوخ ليلقنوا الأطفال والشباب لغتهم القومية، ولم تنطلق السنة الدراسية الأولى بعد الاستقلال إلا وقرار الإنسان قد امتطى سفينة التاريخ ببعث لغته القومية في كوريا التي تعد الآن من أهم الدول النامية وقد سبقتنا بمراحل خطيرة ومهمة اقتصاديًا وعلميًا وتقنيًا. ومن منا لم تهزُّه كلمات الزعيم الفيتنامي الكبير هوشي منه قوله لشعبه حينما طرحت مسألة تأكيد هوية بلاده (والتي أطلق عليها وصف الڤتنمة): حافظوا على صفاء اللغة الڤيتنامية كما تحافظون على صفاء عيونكم، تجنبوا بعناد أن تستعملوا كلمة أجنبية حين يصبح بإمكانكم أن تستعملوا المفردات الڤيتنامية، وقد عبَّر عن هذا الموقف الزعماء الذين رافقوه فقال خليفته فيما بعد فام فان دونج: لقد عبَّرت اللغة الڤيتنامية عن الثورة الڤيتنامية ورافقتها وكبرت معها. وأسوق مثالاً آخر لبلد إفريقي يعد من الدول النامية الضعيفة اقتصاديًا مثل: تنزانيا التي وقف زعيمها يوليوس نيريري بقوة بعد الاستقلال للدفاع عن السواحلية - اللغة الوطنية لبلاده - بمواجهة الإنجليزية حتى أصبحت جامعة دار السلام تدرس سائر المواد بما في ذلك الطب والهندسة باللغة السواحلية. ثمَّة تجربة عربية، وإن لم تجد نجاحًا كبيرًا لظروف معقدة متشابكة بهموم ملتبسة أخرى. نقف بإجلال أمام التجربة الجزائرية في إعادة اللغة العربية إلى المكتب والشارع والبيت الجزائري إلى حدٍّ كبير. ولكن من كلِّ تجربة الجزائر اللغوية أتوقف متأملةً لموقف مستعمرها بحادثة وقعت في عهد الرئيس بومدين الذي كان مهتمًا بتعليم المغتربين في فرنسا اللغة العربية من خلال ما كان يعرف باسم: ودادية المغتربين (وإن توقف المشروع بعد رحيل بومدين، لأننا وللأسف كعرب ترتبط المشروعات دومًا بالأفراد الذين ما أن يرحلوا حتى نهدم ما بدأوه... بدون هذا لن نكون عربًا). والذي حدث أن بعض الفرنسيين رغب بتعليم أبنائهم اللغة العربية من خلال إلحاقهم بهذه المدارس التي أنشاتها الودادية في بعض المدن الفرنسية، وحين تمَّ عرض الأمر على وزارة التربية الفرنسية رفضت، وبحزم، الاستجابة لهذا الطلب، وبعثت برد واضح حاسم قالت فيه: نذكركم بالقاعدة التربوية الفرنسية التي تمنع التلميذ الفرنسي من أن يتعلم لغة أجنبية في المرحلة الابتدائية حفاظًا على شخصيته الوطنية في هذه السن المبكرة! إنَّ الدراسات التي قامت بها مراكز البحوث الدولية حول مصير اللغات أظهرت أن اللغات التي لا يستخدمها أقل من خمس سكان العالم لن يكتب لها البقاء، وأنه لن تبقى من اللغات العالمية إلا تلك التي تنتشر بين أكثر من مليار نسمة وهي: الإنجليزية، الإسبانية (بحكم استخدامها في أمريكا الجنوبية)، الصينية، واللغة العربية إذا ما أصبحت لغة مسلمي العالم! فماذا فعلنا وماذا فعل الآخرون؟ نشطت فرنسا بعد أن وجدت لغتها مهددة إلى حدٍّ ما. نشطت بعد نشر هذه الدراسة بتأسيس ودعم الفرانكوفونية خوفًا على عالمية لغتها وثقافتها لدرجة أن الحكومة الفرنسية تدعم ما يقارب الـ 80% من ميزانية المنظمة الدولية للفرانكفونية لتمويل برامجها. فرنسا تنفق سنويًا الملايين من أجل إحياء اللغة الفرنسية أمام الهجمة الإنجليزية، وخاصة بعد انتشار الإنترنت، وتخصص سنويًا منحًا مجانية لدراسة اللغة الفرنسية لغير الناطقين بها، إضافة لامتداد شبكة نشاطها خارج حدود الفرانكوفونية لتضيف رصيدًا لها من الأصدقاء من خلال التفاعل الثقافي، وتلعب ملحقياتها الثقافية دورًا بارزًا في هذا المجال نتلمسه جيدًا نحن الإعلاميون. لم نَنْـسَ بعد أن قرار وزير التربية الهولندي، والذي كان يقضي بتدريس مواد كلية الطب باللغة الإنجليزية بدلاً من اللغة الهولندية، قوبل بالاحتجاج إلى حدِّ اتهام الوزير بالخيانة العظمى بسبب تخليه عن اللغة القومية. لقد اجتمع في الولايات المتحدة من أجناس وأعراق ما لم يسمح في البدء بأي توائم وتناغم ثقافي، ولكن الرابطة اللغوية – في إطار اللغة الإنجليزية – جسَّدت هوية قومية ما كان لها أن تتشكَّل لولا التوحد اللغوي الذي هو من صنع الإرادة البشرية. وهاهي من خلال اللغة تشكِّل أكبر تحد لثقافات الشعوب التي تتحرك وتحاول بينما نحن لا نملك سوى الندب والعويل من وهم نظرية المؤامرة التي تحاك لنا وعلينا من كل حدب وصوب، وعندما نتعرض للمؤامرة فعلاً لا نجد حتى الدموع للصمت المريب. هناك طرفة تقول أن أحد المعلمين أخذ في شرح دروسه بلغة عربية فصحى، فتساءل الطلاب فيما بينهم: لماذا يتحدث هذا المعلم بهذه الطريقة؟ هل هو مكسيكي؟ نحن، ويا للأسف، ندين بانتشار العربية الفصحى بين الأجيال الجديدة للمسلسلات المكسيكية وأفلام الرسوم المتحركة المدبلجة أكثر من كلِّ جهود مناهج وزارات التربية والتعليم العربية الفاشلة، فأي مصيبة وقعت به لغتنا الجميلة؟ دعونا نستعرض بعض أخطر السلوكيات المدمرة للغتنا، تلك المسلكيات التي نقوم بها نحن وليست متكئة على نظرية المؤامرة التي بدأت من سياسة التتريك العثماني ومن ثم الاستعمار الحديث والتي أخذت أشكالاً جديدة في أذهاننا المشبعة بنظرية المؤامرات. بعيدًا عن الاستعمار والمستعمرين دعوني أطرح بعض الصور والمواقف العربية للعربية الفصحى قبل أن تأخذ ذاك المنحنى المأساوي عبر شبكة الإنترنت. ما زلنا نعيش أسوأ أمية أبجدية بين دول العالم النامي، وقد أخفقت كل محاولات محو الأمية وتعليم الكبار إضافة إلى تزايد معدلات الفقر بطريقة مخيفة في مدننا العربية مما أدى ويؤدي إلى تسرب آلاف مؤلفة من التلاميذ الصغار إلى سوق العمل من أجل لقمة العيش. والإحصائيات، التي بين يدي، تشير إلى أن نسبة الأمية الأبجدية في تصاعد حيث وصلت عام 1995 إلى حوالي 60%، ووصلت عام 1997 إلى 65% كنتيجة لتزايد الفقر، وفي عام 2002 ارتفعت الى 70%. ولكم تخيُّل القادم لمستخدمي اللغة العربية الفصحى؟ ثمة نقطة على غاية من الأهمية تتعلق بالبعد اللغوي الروحي للطفل العربي في حضن الأسرة العربية ذات المستوى الثقافي والاجتماعي المتوسط وما فوق. لغة المنزل تخوض صراعًا خفيًّا بين حرب اللهجات المحلية المنعكسة من أداء المحطات الفضائية العربية، واستخدام اللغات الأجنبية داخل البيوت كنوع من التباهي ومظهر من مظاهر الرقي الاجتماعي، ولغة الخدم الركيكة الناجمة عن تفشي ظاهرة جلب الخدم الآسيويين. وثمة دراسات اجتماعية مهمة اطَّلعتُ عليها في الجامعة الأردنية وجامعة القاهرة تشير إلى بؤس الحالة اللغوية للصغار، وخاصة مرحلة رياض الأطفال. ولكم تخيُّل أي متاهات نضع فيها أطفالنا الأبرياء أمام منحنيات اللامعنى. من هم الذين يعلمون اللغة العربية في مدارسنا العربية؟ ثمة صورة بائسة كرسها الإعلام ووسائل الفنون من مسرح ودراما تلفزيونية وسينمائية عربية لصورة نمطية لأستاذ اللغة العربية، بغض النظر عن حقيقة وواقعية الصورة إلا أن هذا التكريس ألغى الاحترام لمعلم اللغة العربية، وبالتالي كيف يستمد الطفل والشاب المعرفة ممن لا يحترمه! كنتيجة لعدم وجود حركة تعريب عربية متقدمة، وللتشكيك الدائم بها كلغة، علمًا بأنه قد تمَّ اتخاذ قرارات تربوية في العديد من الدول العربية بهدف الحدِّ من استخدام اللغة العربية وتقليص الحصص الخاصة بها على اعتبار أنها لغة ذات طبيعة اجتماعية وثقافية وجزء من التراث العربي الإسلامي وينبغي اقتصار التدريس بها في مواد دراسية خاصة مثل التربية الإسلامية والتاريخ والجغرافيا بالإضافة إلى مادة اللغة العربية. إضافة إلى انتشار مدارس في المدن العربية رغم أن مجالس إدارتها وطلبتها عرب إنما يتم فيها التعامل مع اللغة الإنجليزية أو الفرنسية كلغة وحيدة للتدريس، وهذا ينسحب على استخدامها بشكل آلي في التفاصيل اليومية، كامتداد للمدارس التبشيرية التي أنشئت منذ قرن. إلا أن النوع الجديد الذي أعنيه هنا ازداد حدة وغلوًّا في استعدائه ونظرته الفوقية للغة العربية. وخطورة الأمر تكمن في أن هؤلاء التلاميذ هم من أبناء المتعلمين والمثقفين والنخب السياسية، فأي خراب لغوي يكمن في ذواتهم؟ هؤلاء الذين يومًا ما سيرثون السلطة وسيقودون الأمة؟ من خلال رصدي الشخصي لمكتبة الطفل والمراهق العربي وجدت أن المكتبة العربية فقيرة جدًا بالأدب الراقي الذي يجب أن يرافق المراحل العمرية للطفل منذ مرحلة الطفولة المبكرة، أي مرحلة ما قبل المدرسة إلى مرحلة الشباب خطوة بخطوة وبكفاءة إبداعية ولغوية. للأسف، يغلب على النتاج الخاص بالطفولة السطحية وعدم الجاذبية من حيث الشكل والألوان، وبمحمول لا يتناسب ومتغيرات القرن الحادي والعشرين، فكيف إذن باللغة التي لا تعدو إلا صفَّ الأحرف المسكينة لتشكل كلمات لا لون لها ولا طعم. وهذا من شأنه دفع الأطفال باتجاه الكتب الأجنبية إما بلغاتها أو ترجماتها. وما أن يصل الطفل إلى مرحلة المراهقة حتى ينسحب تدريجيًا نحو الكتب الأجنبية لقربها من متطلبات مرحلته العمرية العاطفية النفسية الانفعالية المتأججة، والتي يجد مراده ومتعته في تلك الثقافة لتمتعها بوافر من حرية التعبير. وفي المقابل نتجاهل نحن هذه المرحلة، بل لا يحسب لهم أدنى حساب في النتاج الإبداعي العربي. ولا أدري لماذا نعاملهم على أساس أنهم كبار مما يؤدي بهم إما إلى التوقف عن القراءة والمطالعة أو الإقبال على النتاج الأجنبي. وفي الحالتين ينعكس الأداء اللغوي بوضوح على الإنترنت من خلال شباب يتعاطون اللغة الإنجليزية بكفاءة عالية دون روح عربية، أو هؤلاء الذين اخترعوا العربليزية لجهلهم اللغتين: القومية والمكتسبة في آن واحد. ويتضح جليًّا الضعف الشديد في بنية ثقافتهم. فكيف ولماذا نعتب عليهم؟ وفي الجانب الآخر فئة من المراهقين الذين يتجهون إلى الكتابات اللاهوتية، ما يتحول إلى ثقافة القنبلة العنقودية التي ستتفجر في وجوهنا في أي لحظة. هؤلاء (أعترفُ) متمكنون لغويًا، وخاصة لعلاقتهم الوطيدة بالقرآن والمسجد، ولكنه تمكُّن أعمى جامد جاف لا حياة فيه بل أقرب إلى المومياء. إنهم يصلون إلى درجة إضفاء صبغة القداسة على كل ما هو موروث لغوي وبالتالي تحريم التغيير والتجديد من منطلق (كل بدعة حرام)، وبالتالي يشكلون السدَّ في وجه التطوير والتجديد اللغوي الذي نحن بأمس الحاجة إليه. دعونا نسلط الضوء على بعض الأشياء ذات العلاقة باللغة أو بحماية وتطوير آلياتها، فمثلاً منتديات وجمعيات حماية اللغة، تلك المؤسسات التطوعية: من هم الأعضاء والعضوات فيها؟ وكم هو حجم المأساة القابع في بعض تلك المؤسسات لتقليديتهم المعرقلة لأي تطور؟ وهم أصلاً ليسوا من مستخدمي الإنترنت وتقنية المعلومات، أو حتى من متابعي تطورات العلوم في مجالاتها الأخرى، وبالتالي إدراكاتهم لفظية محصورة ولا مجال لاستيعاب تلك المفاهيم التي تتخلق في كل يوم. وهل المجامع اللغوية العربية هي الأخرى أكثر تطورًا وقدرة على استيعاب إيقاع الزمن، وهل هي قادرة على اللحاق بآلاف مؤلفة من المصطلحات العلمية والسياسية والاقتصادية التي تستجد كل يوم على الساحة العالمية والتي تؤدي إلى توالد مفاهيم جديدة دخلت خلايا حياتنا اليومية ورغم أنفنا؟ ونحن نتحدث عن اللغة العربية كلغة منطوقة، فماذا بشأن فنون الخط العربي الذي آلت به الأمور ليتحول إلى فرجة في المتحف يعلوه غبار العدم! مشكلة التعريب التي لم ولن تحل، وإن كانت تجربة العراق وسوريا في مجال تدريس العلوم بالعربية ناجحة بدليل تميُّز علماء العراق. ولكن، ما هو مصير الشباب الخريج من الجامعات المعرَّبة للعمل في سوق العمل العربي؟ النتائج محزنة ومخزية للغاية، وكثيرًا ما يتم رفض تعينهم وتفضيل الآسيويين عليهم بسبب اللغة! أو لستم معي في أن الفرق بين التعريب والتغريب ليست نقطة فوق العين، إنما هي نقطة حارقة كاوية فوق العقل طالت مدتها في حياتنا العربية أكثر مما ينبغي! عندما نعرف أن مؤسسات التعليم العالي تفرض على أساتذتها وباحثيها نشر بحوثهم باللغة الإنجليزية، بغض النظر عن طبيعة تخصصاتهم العلمية، فكيف لهؤلاء الاهتمام باللغة؟ وكيف لهم أن يقدموا دراسات اجتماعية إنسانية حول إرهاصات وإشكاليات اللغة! كم من المعاهد والمراكز الأكاديمية والجامعات الممتدة على مدى خريطتنا العربية فكرت، ولو مجرد تفكير، بدراسة علاقة اللغة بتكنولوجيا المعلومات مثلاً؟ أما الإعلام العربي فحدث ولا حرج، ووصلت به الصفاقة إدخال المتلقين العرب، بكل مستوياتهم الثقافية، أتون حرب اللهجات المحلية المتنافسة. اكتفت التلفزة العربية بحماية اللغة من خلال عرض المسلسلات المكسيكية التافهة المملة والرسوم المتحركة بما تحمله من محملات ومدلولات لا علاقة لها بالنمو الروحي للطفل. بين أرصدة اللغات تعتبر العربية الفصحى واحدة من أغنى اللغات الحية بالمفردات، ورغم ذلك نفتقر في تعبيرنا إلى دقة المصطلح الذي تتمتع به اللغة الأجنبية. في المنطقة الخليجية ثمة مشكلة خطيرة في التواجد الأسيوي الكثيف والخلل الخطير في التركيبة السكانية الذي فرض على المجتمعات الخليجية لغاته ومفرداته بعكس ما هو حاصل في أغلب دول العالم حيث يتعلم العمال لغة أهل البلاد وليس العكس كما هو حاصل. ونظرًا لوجودي في الوجود الخليجي، يلزمني استخدام عشرات الكلمات الهندية والبنغالية والإيرانية حتى تسير حياتي طبيعية، يلزمني تحطيم لغتي العربية وحتى الإنجليزية حتى أتمكن من مواصلة أيامي بشكلها الذي يفترض أن يكون اعتياديًا. ووقتها، ورغم كراهيتي لما هو اعتيادي، أتوق إلى الاعتياد اللغوي الذي صار معجزة نحلم بها لكثرة الإشكاليات التي نقع فيها. ومن الملاحظات الأخرى، وكنتيجة للتواجد الأسيوي المكثف والذي يتهدد الهوية واللغة (وكما يقولون شرُّ البلية ما يضحك)، أن من يقوم بأعمال التخطيط والكتابة الإعلانية هم من غير العرب، ولذلك لا تندهشوا للمفارقات العجيبة ولمئات الأخطاء اللغوية الفادحة التي تبقى معلقة، بكل تحدٍّ صارخ، في الأسواق والشوارع. لقد ارتبطت حضارة الأمم دومًا بلغاتها ارتباطًا عضويًّا في التحام لا تقوم معه فاصلة بين ما يمكن أن يعتبر سببًا أو مسببًا حتى ليصعب إيجاد جواب حاسم لسؤال هل تنشأ الحضارة من اللغة أم تنشأ اللغة من الحضارة؟ لا يهتدي الفكر في النهاية إلا إلى جواب توفيقي وهو أن اللغة والحضارة وجهان لعملة واحدة أو أنهما تتقاطعان وتتفاعلان؛ فلا حضارة مزدهرة بدون لغة مزدهرة واسعة الانتشار، ولا لغة مزدهرة في غياب حضارة أو عند مرورها بمنحنى التراجع أو التردي. إن التحديات التي تواجه اللغة العربية في هذا المفترق التاريخي كثيرة وخطيرة، ولكن التركة التي نحملها كفيلة بهدِّ الجبال العربية. اللغة العربية الآن تحتضر في كل المناطق الناطقة بها كوسيط لكل المعاملات التجارية، المراكز التجارية، التجارة الإلكترونية، كتابة اللوحات الإعلانية واللافتات، كثافة العمالة الوافدة الآسيوية في منطقة شبه الجزيرة العربية، ربط الوظيفة في سوق العمل بإجادة اللغة الإنجليزية ولا يتم الاكتراث إطلاقًا باللغة العربية. ثمة خلط وخطأ كبير وقع به العرب المسلمون أدى بهم إلى الاسترخاء والثقة بالمعجزة والمجهول في تفسير الآية الكريمة (إنّا نحن أنزلنا الذكر وإنّا له لحافظون) أدى بالمسلمين إلى الاعتقاد بأن اللغة العربية في مأمن وأمان، ومحمية بمعجزة إلهية، وقلة من تنبه ويحاول التنبيه إلى أن الله تكفَّل بحفظ القرآن وليس اللغة كاستخدام وتطوير، ومن هنا الخوف من تراجع اللغة العربية الفصحى تدريجيًا لتتحول إلى لغة لاهوتية أو نخبوية للمثقفين فقط. في إحدى لقاءاتي التلفزيونية قبل عام سألت البروفسور منير نايفة، عالم الفيزياء الفلسطيني الأصل والمتجنس بالجنسية الأمريكية منذ ثلاثين عامًا، هذا العالم العربي الجليل والمرشح لجائزة نوبل للفيزياء؛ سألته: عندما تكون في المختبر وتجري تجاربك في عالم الليزر والإلكترونات بأي لغة تفكر، كيف تخاطب نفسك عندما تجد غموضًا والتباسًا ما، بأي لغة يحدث المونولوج العقلي الداخلي لحظات التفكير؟ أجابني بمنتهى المصداقية أنه يفكر بالعربية، ومن ثم خلال زمن ما تحدث الترجمة التلقائية في دماغه. قال: أفكر أول ما أفكر بالعربية. لذلك فهذا العالم الجليل، وأيضًا معه عالم الفيزياء العراقي الأصل الأمريكي الجنسية البروفسور موفق الجاسم الذي يعد من أبرز علماء الطاقة في الولايات المتحدة، وعلى الصعيد الدولي قدموا مع زملائهم بحوثًا في مؤتمر العلماء الذي عقد في الشارقة قبل عامين حول ضرورة تعليم الطفل العلوم بلغته الأم، نظرًا للمجالات الواسعة لاكتشاف عباقرة صغار؛ هؤلاء شعروا بالخيبة التي تتدلى أطرافها حتى النخاع العربي في مجال الترجمة والتعريب رغم إيمانهم باللغة العربية. لكم هذا يثير الشجن اللغوي لتعثر أحلام علماء عرب كبار في القرن الحادي والعشرين يحلمون ويفكرون ويحبون بالعربية ويعيشون ملوكًا في القارة الأمريكية! ولو دخلنا دهاليز الحالة الجديدة في عصر المعلومات سنجد أنه قد جد الكثير من الجديد، لقد دخلنا قرنًا يتسم بالحضارة اللامحسوسة وباعتمادها على المعلومات، وأصبح هذا المجال مؤثرًا في الذات من البعد الفكري والنفسي والمادي بما في ذلك خلق الثروات وتوزيعها. فمثلاً على صعيد قطاع معالجة المعلومات يشتغل ثلثي اليد العاملة في أكثر الدول المتطورة في تكنولوجيا المعلومات، فهناك من يمتهن مهنًا تتطلب التعامل مع الحروف والأرقام والرسوم البيانية، ويفوق عددهم حاليًا في الولايات المتحدة العاملين في حقل الزراعة مثلاً. مجتمع المعلومات هذا يستوجب خلق أساليب جديدة في استعمال اللغة مما يستدعى تطوير نشاط حديث في العلوم الاقتصادية سماه البعض (الصناعات اللغوية)، وسماه آخرون (تكنولوجيا اللغة). ونظرًا لبروز مفاهيم ومنتوجات حديثة – كنتيجة للتطور التقني يستوجب الأمر وضع ملايين العبارات الجديدة للدلالة عليها، والذي من شأنه إثراء اللغة وتسهيل مهمتها في التعامل مع المعاني والمفاهيم الجديدة، ولتجنب اللبس والأخطاء، ولتسهيل استيعاب العلوم والتكنولوجيا. لذا تنبهت الدول المتطورة إلى خطورة الثورة المعلوماتية فأقامت مشاريع عملاقة لتخضع التكنولوجيا أو التقنية لخدمة لغاتها وليس العكس. وهذه الصناعات اللغوية تعد حقلاً معرفيًا جديدًا بدأ ينمو في الجامعات ومراكز البحوث العلمية ويعرف بـ (هندسة اللغة) أو (الهندسة اللسانية)، وهو ميدان متعدد الاختصاصات من أهم مقوماته اللسانيات عامة واللسانيات الحاسوبية على وجه الخصوص، وهو يتضمن نشاطات ويتفرع فروعًا متعددة تهدف كلها إلى تمكين الفرد من محاورة الآلة عبر استعمال اللغات البشرية الطبيعية المكتوبة والمنطوقة. وحاليًا ينصب اهتمام الباحثين على جوانب عدة تتعلق بتوليد اللغة وفهمها وترجمتها آليًا، ويهتم آخرون بمعالجة الوثائق وتفسيرها عبر شبكات الحواسيب. ومن نتاج الصناعات اللغوية: نظم حاسوبية تمكن آليًّا من تحويل الكلام المنطوق نصًا مكتوبًا، والنص المكتوب كلامًا منطوقًا، وتحويل نص من لغة إلى أخرى، أي الترجمة آليًّا وبمساعدة الحاسوب، إضافة إلى النظم التي تؤمن تصريف الأفعال والأسماء وتحليل الكلام والتراكيب واستخراج أبرز ما جاء فيها من معان. وعندما نطرح إشكالية اللغة أو تطوير اللغة في الشبكة العنكبوتية لا بد من أن نتعدى علوم اللسانيات إلى علوم النفس والعلوم المعرفية الأخرى، فهل نمتلك آليات لتفعيلها وربطها بعلوم اللغة والحواسيب؟ نحن ما زلنا لم ننهي إشكالياتنا اللغوية المتوارثة أصلاً فكيف بمشكلات لغوية عبر الكمبيوتر ستواجهنا؟ هناك قائمة صعوبات سنواجهها في التعامل مع هذه الأنظمة الذكية، فمثلاً كيف يمكن التمييز بين كلمات متماثلة في اللفظ ومختلفة في المعنى مثل (عصا ) و(عصى)، وكذلك علامات التعجب والاستفهام والمضاف والمضاف إليه، وما إلى ذلك من تعقيدات في اللغة. التحديات اللغوية عبر الحاسوب أو الكمبيوتر، التي يمكن أن تواجهنا في إنجاز تواجد اللغة العربية بقوة وبعلمية دقيقة، لا تعد ولا تحصى، وتزداد تعقيدًا بسبب تأخرنا حتى في المحاولة الجادة لإيجاد صيغ الحلول العملية، وكل دقيقة تمرُّ تزداد الهوة والإشكالية حدة. وبالنسبة للغة العربية فلها خصائصها الذاتية البنية والرسم، والمسألة ليست عرض العربية على الشاشة فقط إنما ثمة ميادين يجب الولوج إليها مثل: معالجة الوثائق، معالجة الكلام المنطوق، علمًا أن هناك دراسات قام بها قسم تقنيات اللغة بالمعهد الإقليمي للعلوم الإعلامية والاتصالات عن بعد بتونس قبل حوالي عشر سنوات، ولكن ما زال التحدي الأكبر في كيفية إخراج هذه البحوث والدراسات من الأدراج المغلقة لتجد طريقها إلى النور؟! ثمة شعور داخلي اعتبره حقًّا مشروعًا كالغيرة من الفرانكوفونية، فما إمكانية تأسيس منظمة عالمية للدول والشعوب الناطقة بالعربية على غرارها، وخاصة أن العالم العربي والإسلامي يبلغ تعداده اليوم مليار ومائتي مليون نسمة؟ وهل يا ترى أحداث الحادي عشر من سبتمبر، هل ستكون جدارًا في وجه مثل هذا التوجه أو أي تعاون عربي حتى وإن كان لغويًّا؟ هل سنتهم بالإرهاب إن تخندقنا واجتهدنا في الحفاظ على لغتنا القومية؟ قد يبدو كلامي غوص في سخرية عبثية ما، ولكنني، في حقيقة الأمر، أنطلق من دراسة قامت بها المراكز البحثية في مجال الإنسانيات في جامعة كولومبيا خرجت بنتائج تقول بأن اللغة العربية الفصحى، بما تحتويه من ألفاظ وتعبيرات (وبالتالي المعنى المحمول فيها)، توجه العربي نحو العدوانية لما فيها، كوعاء لفكره، من مفردات عدوانية. وبالتالي خلصت النتائج بأن اللهجات المحلية أكثر رقة وسموًا وإنسانية ولطفًا. وبالتالي خلصت الدراسات بنتيجة تمَّ تمريرها على الدوائر الاستخباراتية والسياسية الأمريكية بأهمية تشجيع هذه اللهجات لتطغى على الفصحى. وكلنا يعرف أن بعض المثقفين اللبنانيين آمنوا بلهجتهم كلغة قائمة وقادرة على مناطحة الفصحى، وألَّفوا كتبًا عديدة، ومن قبلهم قامت بنفس هذا الفعل رموز وقمم إبداعية مصرية إثر التوقيع على معاهدة كامب ديفيد، وكان واضحًا أن المصريين الجدد أرادوا الفرعنة والخروج من وعاء العربية. أسوق هذا الكلام لأتساءل: أوليست حرب اللهجات عبر الفضائيات، والتي وصلت حدَّ التقزز، أليس في ذلك إشارة واضحة إلى أن محاولة إنقاذ الفصحى والعربية الأصيلة ستزداد ضراوة أمام لغة الإنترنت (الانجلوساكسوني)؟ لقد تضامنت القوة العسكرية والاقتصادية والقوة المعلوماتية في مزيج يتحدد على أساسه مدى الثقل السياسي لأيَّة أمة على الخريطة الجيوبولوتيكية، وبالتالي أصبح التحدي السياسي يأخذ أبعادًا ومدى تقترب كثيرًا بل تلامس نظرية المؤامرة، فلم يعد سرًّا اهتمام المخابرات الأمريكية بالترجمة الآلية من العربية إلى الإنجليزية، فهم يخططون لاستغلال تكنولوجيا المعلومات في تحليل ما ينشر في جرائدنا وكتبنا ووثائقنا لكي يسهل عليهم كشف، بدقة متناهية وبسرعة فائقة، كل ما يشغل ويحرك مشاعرنا ويثير أعصابنا ومواضع الضعف ومكامن القوة فينا، وذلك للتحكم في ردود أفعالنا والتنبؤ بما يمكن أن تكون عليه تصرفاتنا. إن تحليل الحصاد اللغوي هو بمثابة الصور الإشعاعية لأدمغتنا، وهو بلا شك أكثر فاعلية وأشد تأثيرًا وأقل كلفة. وعلى صعيد آخر، كلما ازدادت هلامية اللغة كانت أبعد عن الدقة في عصر يتسم بدقة شديدة أصبحت فيه المفاوضات السياسية والاقتصادية تعتمد على تكتيكات لغوية، ومثال على ذلك وثائق منظمة التجارة العالمية التي وصلت صفحاته إلى ملايين الأوراق، ونحن الطيبون وقَّعنا على بياض، وانضممنا الى هذه المنظمة اعتمادًا على ترجمات هلامية مختصرة في كثير من الأحيان. وستدفع الأجيال القادمة ثمنًا باهظًا لهذه الورطة. وفي الجانب الإسرائيلي ثمة مؤشرات تثير الكثير من التساؤلات والشكوك، وخاصة أن أيدولوجيتهم الصهيونية قائمة أصلاً على مبدأ إقصاء الآخر. هذا الكيان لم يتوقف عن محاولاته اختراق المجتمعات العربية، بما في ذلك اللغة. وأعود بالذاكرة إلى كلمة شمعون بيريز عند تسلمه جائزة نوبل للسلام عندما وعد العالم العربي بدعم إسرائيل لإدخال الكمبيوتر في نظم التعليم امتثالاً لتجربة إسرائيل الناجحة في هذا المجال. قد لا يعني كلامي شيئًا إن لم نتذكر كلمته في حفل توقيع اتفاقية مؤتمر القاهرة، وأكد فيه أن الحاسبات الإلكترونية مرعبة أكثر من الأسلحة. المسألة أنني لست واقعة تحت وطأة نظرية المؤامرة، ولكن المعطيات تضعني أمام تساؤلات وتحليلات وربط ما: لماذا محاولات إسرائيل المستميتة لاحتكار سوق الترجمة الآلية من لغات دول الاتحاد الأوروبي إلى العربية وليس العبرية؟! إسرائيل تقوم بتطوير برمجيات باللغة العربية! لماذا إصرار إسرائيل على أن تكون الأسواق العربية أهم سوق تصدير تكنولوجيا المعلومات لديها؟! نحن اليوم نشكو الإهمال والتجاهل والتهميش والإقصاء، هل أمامنا وسائل ناجعة كعرب للانخراط باقتدار في المنظومة الإنسانية بكل أبعادها بجبهة ثقافية عتيدة وبدون لغة قومية عصرية قوية متماسكة؟ لا ثقافة بدون هوية حضارية، ولا هوية بدون نتاج فكري، ولا فكر بدون مؤسسات علمية متينة، ولا علم بدون حرية معرفية، ولا معرفة ولا تواصل ولا تأثير بدون لغة قومية ضاربة بجذرها في التاريخ وتقف بشموخ أمام العصر بكل إرهاصاته. لا بد من الاعتراف بحاجتنا الماسة والملحة لنهضة لغوية شاملة قادرة على تلبية مطالب ومقتضيات العصر، شريطة أن لا يلقى ذلك على عاتق اللغويين فقط، بل لا بد من وجود التقنيين والفنيين والعلماء والمشتغلين في مجالات الكتابة الإبداعية بجانبهم للوصول إلى صيغ ومصطلحات ومفردات عربية سليمة دقيقة علمية عملية. والعمل أيضًا على تعريب الحاسوب وليس الترجمة العربية فقط. وقد التقيت العديد من الشباب العربي الموهوب في مجال الحاسوب الذين، للأسف، لم يجدوا آذانًا صاغية من أصحاب الأموال وأصحاب القرار، لم يلقوا الاهتمام والرعاية، ولم تَتَبَنَّ أي جهة بحثية تجاربهم المذهلة. وهذا ما يجعلني واقعية، ولن أقول متشائمة، ذلك أن المعطيات العربية تشير بوضوح لما هو قادم. التحرك لحماية اللغة العربية للنهوض بها لا يمكن أن يتم على المستوى القطري الضيق، بل يحتاج إلى إستراتيجية قومية، وهذا ما يجعلني متشائمة، فكل المشروعات القومية في منطقتنا العربية فشلت وأخفقت وسكنت الأدراج والنسيان. ونظرة إلى ملايين الأوراق المكدسة كمشروعات قومية في مكاتب مؤسسات جامعة الدول العربية كفيلة بالتنبؤ بمستقبل المشروع اللغوي النهضوي. وعلى ما يبدو أن من سينقذ اللغة العربية من (تهافتها) وتهاويها المهين القرآن الكريم والشاعر والكاتب الحقيقي فقط لا غير. هذا ما سيبقي على رمق روحها حية تتنفس. أما انطلاقها العالمي فهذا صعب للغاية في ظلِّ ظروف دقيقة معقدة متسارعة لا حيلة لنا فيها، في ظلِّ عباءة أصحاب القرار الذين هم أصلاً لا يعرفون اللغة العربية بدليل خطاباتهم المهلهلة. وأخيرًا لست متشائمة، ولكنني حزينة، فكلما اتضحت الرؤية ازدادت الضبابية، وكلُّ ما يقال، وما سيقال، حول اللغة العربية، وحول مصير اللغة العربية، سيبقى نفخًا في قربة مقطوعة ما لم تكن هناك رؤية واضحة لأصحاب القرار، وقرار سياسي إلزامي، وقوة تنفيذية تحمي القرارَ نفسَه. وبمنتهى الألم أعترف أننا نعاني من أزمة أمة قبل أن تكون أزمة لغة. عذرًا إن أطلت، لكن قضية تهافت العربية عبر الإنترنت وضعتني في مواجهة حادة مع الذاكرة، فتداعت. وها أنا أقف بكثير من الانفعال أمامها، هي التي ما زالت تحتفظ بصور دمعات الجدة (نانا القادمة من أقاصي الشمال حيث الجبال القفقاسية) تسيل عبر أخاديد عميقة تناجي الخالق وتعاتبه لأنه لم يخلقها عربية، ولم تتمكن من إتقان اللغة التي اعتقدت بقدسيتها. ظلت عاشقة، وبصوفية نادرة تناجي ليل نهار، ولكن بلغة شركسية. أذكرها وأذكر شهوة اللغة في قلبها المفطور، وأنظر إلى العرب الأقحاح على الأرض العربية وقد غادروا قصور لغتهم المسحورة إلى عوالم العربليزية! فهل ما زالت الأرض بتتكلم عربي؟ وماذا عن مستقبلها في الزمن الافتراضي؟ سؤال عالق في حلكة الزمن العربي. *** *** *** |
|
|