|
عن الظلال ورسائل كارثية أخرى
تروي لنا كل الديانات قصة خلق واحدة تقريبًا يُصنع فيها آدم من أديم الأرض وتليه حواء في الظهور. ولدى استعراضنا للروايات التي تقص علينا كل ما حدث قبل اختتام الخلق بالإنسان لوجدنا أن الإله، الكلي القدرة، بدأ بالنور والظلام (نسبة إلى الرواية التوراتية) وتابع بمخلوقات أدنى نزولاً حتى الحيوانات والحشرات وأدق الكائنات. وبعد كل ذاك التتابع الحافل خلق الإنسان، بدليل أنه علَّمه الأسماء كلها. أما النظريات العلمية فتقول بانبثاق النور في انفجار عظيم ولَّد كل ما تلاه من النجوم والكواكب إلى أرقِّ الفراشات، لكنها تعجز عن الجزم بكيفية ظهور الجنس البشري. أما النظرية التطورية فتضع الإنسان في المنتصف تقريبًا بظهوره على الأرض كسليل للثدييات، مما يعني أن الكائنات تابعت التطور والظهور بعد ظهور الإنسان، وأن الإنسان كائن متطور أبدًا ككل شيء آخر. وأخيرًا نصل إلى الفكر الإنساني العظيم (الانفجار العظيم) الذي يولِّد نورًا وأكوانًا، بالضرورة، كل لحظة بتوليده لأفكار خاصة بكل فرد (وهنا تكمن العظمة تمامًا). هذا العقل يقترح التالي: إذا أراد أيٌّ منا فعل أيِّ شيء للمرة الأولى سيلاقي العديد من الصعوبات، بالإضافة إلى أن تكرار الفعل يؤدي إلى تحسن الأداء والخروج بنتائج أفضل بازدياد عدد المرات، مما يوصلنا إلى أن كل مرة ينجز فيها أحد منا عملاً تعني أنه يتفوق على نفسه، ويفعلها بكفاءة وفاعلية أكبر. ولذلك أعتقدُ - دون الشكِّ بقدرة الله الكلي المقدرة، الكلي الحضور، المبدئ والمعيد لكل الأشياء - أن الأنثى ظهرت بعد الذكر لأن الطبيعة تكشف عن نفسها مرة تلو الأخرى في متواليات حتمية كان من ضرورتها مجيء الإنسان البدئي واحدًا ومن ثم الانقسام لتتاح الفرصة لنوع أكثر تفوقًا من أشكال الإنسان، زوج له، أكثر تطورًا وعمقًا، أهم وأكثر قدرة على الاتصال بماهية الأشياء الدفينة، أكثر صبرًا ومحبة وقدرة على تحقيق التغيير في هذا العالم، على تحقيق الوعي، وهو، كما أعتقد، الغاية القصوى من الوجود. ويرى البحاثة الباليونتولوجيون أن المرأة سادت العالم كله في مجتمعات قبلية لآلاف السنين قبل قيام الذكور بثورة على الإناث لتحويل الجماعات من مجتمعات أمومية إلى مجتمعات ذكورية يحكمها الذكر الأقوى. واتفق الكهنة، باختلاف الديانات المتلاحقة، ضمنيًا وبشكل غير مُعلن، على إقصاء المرأة من المكان العام مستخدمين تفاسيرهم الخاصة، وتدويناتهم المختلقة لما كان يحدث، متسلحين بالتخويف من المجهول، وإضفاء صفة المقدسات على ما يخدم مصالحهم وضمان استمراريتهم وبقاء الحكم الذي يرعاهم أطول فترة ممكنة، ملوحين بالحرمان الديني مرة والتكفير مرة وبالهرطقة والإقصاء ليضمنوا لأنفسهم الراحة والأمان، الأمان الذي لن يحصلوا عليه إذا ما كانت القضايا الرئيسية مفتوحة للنقاش.
الخوف، تحت جناح هذه الاتفاقية السرِّية كتبت النصوص الدينية كلها، من أقدم الكتابات وحتى آخر جريدة طبعت اليوم. هذا المجتمع المعادي للمرأة كان عليه أن يوجِد، باستمرار، ذرائعًا مقنعة لاستمرار إبعادها؛ فابتدأ بخلق مفهوم العفة وتمجيد العذارى، كما نرى في أقدم النصوص المكتوبة، وتابع بنسج المفاهيم التي نعرفها اليوم كعادات وتقاليد مجيدة، تقارب القداسة، نتج عنها الكثير من الأمثال الشعبية التي تشكِّل في مضمونها رسائلاً ككل الرسائل الاجتماعية الأخرى التي تصل الإنسان عبر حياته لتعلمه كيفية الاندماج في الجماعة والذوبان فيها كي لا يُعرف، كي يكون مجرد فرد آخر في جماعة أخرى تلصق بنفسها أسماء أكبر منها حقًا لأنها تتشكَّل من أناس فارغين، في الحقيقة، إلا من أفكار بعض أفراد موتى آخرين قدستهم السنوات التي مضت عليهم في القبر، ورسخ اندثارهم شرعية أقاويلهم التي تنتمي إلى عصرهم هم، وليصبح كل خارج عنهم مارقًا هرطيقًا. وهكذا لا يحضر الواحد منا حقًا في وقته، بل يحضر جسده فقط كما يقول هايدغر: الحضور لا يحضر. تبدو الأمثال الشعبية شديدة البراءة للمراقب من بعيد، لا بل ويعتقد أغلبنا أنها شيء يدلُّ على الأصالة والقِدَمِ بين الأمم. هنا أراني أقف، فنحن شديدو الفخر بما يثبت قدمنا لدرجة أننا نحيا به، نعيشه ونشتاق إليه، ونرى فيه كلَّ جميلٍ وكأن الأمم الأخرى لا قديم لديها، بينما ننسى، بكل بساطة، الحاضر الجبار الذي نعيشه، ننسى صائغ المستقبل، ننسى ما نكتبه على أنفسنا. وعندما سيأتي الغد سيتحقق: اليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا. أين نحن حقًا؟ لا أحد يعلم على وجه الدقة. إلا أننا يقينًا نائمون، غير معاصرين لعصرنا. وكما يقول الصادق النيهوم: كيف يمكنك أن تكون معاصرًا وعربيًا في ذات الوقت؟ إلا أن هذا ليس موضوعي. موضوعي اليوم هو الرسائل المتلاحقة التي لا ترحم، والتي نمطر بها كل أنثى نحبها كثيرًا؛ فنحن أمة تريد من الإنسان-الأنثى أن يتحلى بالخجل لأنه حلية الفتاة، نحن نزرع فيها الخجل منذ نعومة أظفارها لنثبت للآخرين أننا ربيناها تربية حسنة، ولنخرج أمام أنفسنا، بشكل ظاهري مزيف، من مأزق الضمير؛ فالآنسة المهذبة هي إنسانة خجولة خفيضة الصوت قليلة الكلام مطيعة، وكأنها بلا روح، بلا قدر، بلا كيان. هم يريدون اصطناع فرد خجول من شيء لا يعرفه، لا يعرف أن عليه أن يشعر بالخجل، قسرًا، من شيء لم يقترفه بعد، وأن عليه أن يتعلم الكلام بصوت خفيض كي لا يعلو صوته بالحق مهما كان مظلومًا في المستقبل، وأن عليه أن يتعلم إخراس صوت العقل والرغبة في التساؤل عن العالم الذي يحيا فيه كي لا تتشكل لديه أية تطلعات مستقبلية ترهق الأهل والزوج المستقبلي، وأن يتعلم أن يكون مطيعًا ككلب يتضور جوعًا من أجل الإيواء واللقمة المستقبلية. أي مسخ صنعتم من أجل تربية المستقبل؟! صنعتم ألف جيل من الإناث الجبانة التي تحمل عقد ذنوب لم ترتكبها. إناث ضائعة لا تعرف كيف تُكوِّن رأيًا عن أي شيء لأنها لم تتعرف حقًا على أي شيء لتتحدث عنه. إناث تعلمت الاستسلام للواقع بشكل فضيلة تسمى الرضا، تتلقى الأوامر من الرجال والأئمة والأهل عن كيفية فعل وطريقة تفسير وأسلوب عيش كل شيء في الحياة، تتلقى وتتلقى وتتلقى مئات الأوامر كل يوم لتنفذ منها كل ما تستطيعه لتقبلوا بها وتحترموها أيها الحمقى. إناث مفصلة على قياس الماضي وغياب اليوم، على قياس النظرات القصيرة المدى الخاصة بغبائكم المبجَّل وحده. إناث لا تملك غير الصمت والصبر لتواجه بهما ثقافةً صنعت بأكملها لكسحها إلى الأبد. والأنثى، كما تعلمون جميعًا، هي التي تحمل أبناءكم، أي أنها الشجرة التي تطرح لكم الثمر. هي في النهاية شجرة، والشجر يحتاج الضوءَ، قبل الماء، لينمو ويقوى ويقدر على الحمل والطرح، فكيف نريد منها أن تعطي وتعطي ثمرات يانعة خلابة، أبناء ناجحين يقتحمون الدنيا ويتفاعلون فيها ليكونوا مثل غيرهم من أبناء الشعوب الأخرى الذين يتعلمون ويعملون ويعيشون حقًا زمانهم الخاص، بتوقيتهم الشخصي وليس على توقيت بني أمية؟ كيف نريد منها أن تكون شريان الحياة الجاري نحو المستقبل إذا كانت أهم رسائلها السرِّية أن تعيش دومًا وأبدًا في ظلِّ رجل؟ ألا يقول لها المثل: ظل رجل ولا ظل حائط؟ أيَّة شجرة مريضة ثمرها كدر معطوب تلك التي تنمو في الظلِّ؟ ولماذا تحتاج المرأة لأن تعيش في ظلِّ رجل؟ أليس الرجل الكائن الأضعف حقًا؟ أليس هو من يحتاجها ليعيش يومًا بيوم؟ ليستمر جيلاً بعد جيل؟ أليس هو من يسافر في جسدها عابرًا العوالم، متدثرًا بصوتها وحده؟ أليست هي من يمثِّل قدرة الخلق بشكل يومي في حياتنا؟ أليست هي الحية حقًا باتصالها بالأرض والسماء دون حُجَّاب وبوابات على مدار الساعة؟ أرى في العتمة أشجارًا تبني مزيدًا من الجدران العالية، وتتنافس فيما بينها على مسرح المهرجين أمام ملك واحد هو الجهل. أرى جدرانًا منيعة، لشدة التخلف عن الحاضر، تتباهى بكثرة الأشجار التي تقف في ظلها، وأشجارًا تباهي بشدة حاجتها للجدران!! النساء العربيات كائنات تولد بسرِّية تحت جنح الظلال، وتعيش محترمة في كنف الظلال، وتموت لتدفن بوقار تحت ظلال أخرى. ففي مجتمعنا تعني كلمة (تقبرني) شدة محبة المرأة للرجل، تعني أنها تعتقد أنها لا تستطيع الحياة دونه ولذلك عليها أن تموت قبله ليدفنها بيديه، وعندها فليشتري لنفسه شجرة جديدة أكثر شبابًا. هذا المجتمع الذي يحيا نصفه في عتمة كتلك، كيف سينهض بحق السماء؟ تُفيد تقارير الأمم المتحدة، لعام 2009، أن 50% من الشعب العربي عاطل عن العمل!! وأنه يفوق الشعوب الأخرى تخلفًا وجهلاً بنسبة 77%! ولا عجب. أضيء لنفسي اليوم مصباحًا أضعه في مشكاة غرفتي، وفي غرفة كل منا مصباح. أشعلوها. فـ (نور الوعي هو كل ما تحتاج، وأنت هو ذاك النور) هكذا قال تولليه. *** *** ***
في اليوم
الخامس بعد اجتياز سِنِّ الخلود |
|
|