صدام التعريفات٭

 

إدوارد سعيد

 

ظهرت مقالة صموئيل. ب. هنتنغتون "صدام الحضارات؟" في الـ Foreign Affairs صيف العام 1993، لتعلن في جملتها الأولى أنَّ «السياسة العالمية تدخل طورًا جديدًا». وقد عنى بذلك أنَّه في حين كانت الصراعات التي شهدها العالم في الماضي القريب تدور بين اتجاهات إيديولوجية تضع العوالم الأول، والثاني، والثالث في معسكراتٍ متحاربة، فإنَّ أسلوب السياسة الجديد يقتضي صراعاتٍ بين حضارات مختلفة، ويُفْتَرَضُ أنَّها متصادمة: «فالانقسامات الكبرى بين البشر سوف تكون انقسامات ثقافية، وكذلك المصدر الأساسي للصراع... صدام الحضارات سوف يسيطر على السياسة العالمية». ويوضح هنتنغتون بعد ذلك أنَّ الصدام الأساسي سوف يكون بين الحضارة الغربية والحضارات غير الغربية، بل إنه يكرِّس معظم مقالته لمناقشة نقاط الاختلاف الأساسية، سواء كانت موجودة بالقوة أم بالفعل، بين ما يدعوه الغرب من جهة أولى، والحضارتين الإسلامية والكونفوشية من جهة أخرى. أمَّا من حيث التفاصيل، فهو يولي الإسلام قَدْرًا من الاهتمام لا يضاهيه اهتمامه بأيِّ حضارة أخرى، بما في ذلك الغرب.‏

واعتقادي أنَّ قَدْرًا كبيرًا من الاهتمام اللاحق بمقالة هنتنغتون، وبالكتاب العقيم والثقيل الذي تلاها عام 1995، قد نَجَم عن التوقيت الذي ظهرت به، وليس عمّا تقوله على وجه التحديد. فمنذ نهاية الحرب الباردة، وكما يشير هنتنغتون نفسه، جرت محاولات فكرية لرسم خارطة الوضع العالمي الناشئ؛ ومن بين هذه المحاولات وجهة نظر فرانسيس فوكوياما بشأن نهاية التاريخ والأطروحة التي قُدِّمَت في الأيام الأخيرة من إدارة بوش، أو نظرية ما دُعيَ بـ «النظام العالمي الجديد». ومؤخَّرًا قام كلٌّ من بول كينيدي، وكونور كروز أوبراين، وإريك هوبسباوم بالشيء ذاته - في النظرة التي ألقوها على الألفية الجديدة - مع إيلاء اهتمام كبير إلى أسباب الصراعات المقبلة، تلك الأسباب التي وفَّرت لهم دواعي الذعر والإحساس بالخطر. ويتمثَّل جوهر رؤية هنتنغتون (وهي في الحقيقة ليست رؤيته الأصيلة) في فكرة الصدام الذي لا نهاية له، أو في مفهوم الصراع الذي يزحف بسهولة على الفضاء السياسي الذي بات شاغرًا بعد حرب الأفكار والقيم المطَّردة ثنائية القطب التي جسَّدتها الحرب الباردة غير المأسوف عليها. ولذلك لا أحسب أنَّ من الخطأ الإشارة إلى أنَّ ما يقدِّمه هنتنغتون في مقالته هذه - خاصةً أنَّها موجَّهة في المقام الأول إلى صنَّاع الرأي والسياسة في واشنطن من المشتركين في الـ Foreign Affairs، المجلة الأميركية الأبرز التي تتناول السياسة الخارجية - هو طبعةٌ أُعيدَ سبكها من أطروحة الحرب الباردة، ومفادها أن الصراعات في عالم اليوم والغد ستبقى في جوهرها صراعات إيديولوجية وليس اقتصادية أو اجتماعية؛ وبذلك تبقى إيديولوجيا معينة، هي إيديولوجيا الغرب، تلك النقطة أو ذلك المحلُّ الذي يدور حوله كلُّ شيء آخر في رأي هنتنغتون. هكذا تتواصل الحرب الباردة في واقع الأمر، إنَّما على جبهاتٍ كثيرةٍ هذه المرَّة، حيث يكافح كثيرٌ من أنظمة القيم والأفكار الرصينة والأساسية (مثل الإسلام والكونفوشية) بهدف الصعود بل والسيطرة على الغرب. فلا عجب، إذًا، أن يختم هنتنغتون مقالته بِمَسْحٍ مُقْتَضَب لما يمكن أن يفعله الغرب لكي يحافظ على قوته ويبقي خصومه المزعومين ضعفاء ومنقسمين؛ على الغرب أن

يستغلَّ الخلافات والصراعات بين الدول الكونفوشية والإسلامية؛ ... ويدعم ما في الحضارات الأخرى من جماعاتٍ تتعاطف مع القيم والمصالح الغربية، ... ويعزِّز المؤسسات الدولية التي تعكس المصالح والقيم الغربية وتضفي الشرعية عليها... ويزيد تورُّط الدول غير الغربية في هذه المؤسسات. ص 49.‏

يلحُّ تصوُّر هنتنغتون بكلِّ هذه القوة إذًا على أنَّ الحضارات الأخرى تتصادم بالضرورة مع الغرب، كما تتَّسم الوصفة التي يقدِّمها عمّا ينبغي للغرب أن يقوم به لكي يظلَّ منتصرًا بكلِّ هذه العدوانية والشوفينية، مما يضطرنا إلى الاستنتاج بأنَّه مهتمٌّ في حقيقة الأمر باستمرار الحرب الباردة وتوسيعها أكثر من اهتمامه بتقديم أفكارٍ تساعد على فَهْمِ المشهد العالمي الراهن أو بمحاولة المصالحة بين الثقافات المختلفة. فهو يقول في الصفحة الأولى إن الأمر لن يقتصر على استمرار الصراع بل سيتعدَّاه إلى أنَّ

الصراع بين الحضارات سوف يكون آخر أطوار الصراع في العالم الحديث.

وينبغي أن تُفْهَم مقالة هنتنغتون على أنَّها دليلٌ بالغ الاقتضاب وفجُّ التعبير في فنِّ الإبقاء على حالة الحرب في عقول الأميركيين وسواهم. بل يمكن القول إنَّ هذه المقالة تنطلق من وجهة نظر مخططي البنتاغون ومنفِّذي وزارة الدفاع الذين لعلَّهم فقدوا مهنهم مؤقَّتًا بعد نهاية الحرب الباردة، لكنهم وجدوا الآن لأنفسهم وظيفةً جديدة. وتبقى لهنتنغتون فضيلة واحدة على الأقلِّ تتمثَّل في التأكيد على أهمية المكوِّن الثقافي في العلاقات بين البلدان، والتقاليد، والشعوب المختلفة.‏

والمؤسف هو أنَّ «صدام الحضارات» يشكِّل ذلك السبيل الناجع في مفاقمة شتَّى المشكلات السياسية أو الاقتصادية وجَعْلَها مستعصية على الحلِّ. فمن اليسير تمامًا أن نرى، على سبيل المثال، كيف يمكن إذكاء العداء الغربي تجاه اليابان باللجوء إلى أوجهٍ شريرة وخطيرة في الثقافة اليابانية يشير إليها الناطقون باسم الحكومة ويسخِّرونها لخدمة مصالحهم، أو كيف يمكن للجوء القديم إلى «الخطر الأصفر» أن يوظَّف ويُسْتَخْدَم لدى مناقشة المشاكل الراهنة مع كوريا أو الصين. وهذا ما يصحُّ أيضًا على نزعة العداء للغرب المنتشرة في أرجاء آسيا وإفريقيا، والتي تحوِّل «الغرب» إلى مقولةٍ أحادية مصمتة يُفْتَرَض بها أن تعبِّر عن العداء للحضارات غير البيضاء، غير الأوروبية، وغير المسيحية.‏

ولعلَّ اهتمام هنتنغتون بتقديم وصفة سياسية أكثر من اهتمامه بالتاريخ أو بتحليل التشكيلات الثقافية تحليلاً دقيقًا هو ما يجعله مضلِّلاً تمامًا في رأيي سواءٌ فيما يقوله، أم في الطريقة التي يقوله بها. فهو يعتمد في قَدْرٍ كبير من سجاله على رأي مُسْتَهْلَك تمامًا يستخفُّ بما تحقَّق من تقدُّم هائل في فهمنا العياني والنظري لكيفية عمل الثقافات، وكيفية تغيُّرها، وأفضل الطرق لتناولها والإحاطة بها. ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على ما يستشهد به هنتنغتون من أشخاصٍ وآراء لنجد أنَّ مصادره الأساسية هي الصحافة والديماغوجيا الشائعة وليس البحث أو النظرية. وحين تعتمد على معلِّقين، وباحثين، وصحفيين مثل تشارلز كروتهامر، وسيرغي ستانكفيتش، وبرنارد لويس فإنك تميل بالسجال مسبقًا نحو الصراع والتنافر وليس نحو التفاهم الحقيقي وذلك النوع من التعاون بين الشعوب مما يحتاجه كوكبنا. ومراجع هنتنغتون ليست الثقافات ذاتها بل حفنة ضئيلة من المراجع التي يعود إليها عامدًا إذ تلحُّ على النزعة القتالية الكامنة في هذا القول أو ذاك الصادر عمَّن يُدْعَون بالناطقين باسم تلك الثقافات. وعندي أنَّ نوايا هنتنغتون تُفْتَضَح بدءًا من العنوان - «صدام الحضارات» - ذلك أنَّ هذه العبارة ليست عبارته بل عبارة برنارد لويس. ففي الصفحة الأخيرة من مقالته جذور الغضب الإسلامي، التي ظهرت في عدد أيلول 1990 من The Atlantic Monthly - وهي مجلة تنشر بين الفينة والفينة مقالات تزعم أنَّها تصف ما يعانيه العرب والمسلمون من مرض، وجنون، وخَبَل خطير - يشير لويس إلى المشكلة الراهنة مع العالم الإسلامي، فيقول:

ينبغي أن يكون قد اتَّضح الآن أننا نواجه مزاجًا وحركةً يتخطيان كثيرًا مستوى القضايا والسياسات والحكومات التي تسعى لتنفيذها. فما نواجهه الآن لا يقلُّ عن كونه صدام حضارات؛ أي ردود الفعل التي قد لا تكون عقلانية، لكنها تاريخية وتصدر عن خصمٍ قديم لإرثنا اليهودي المسيحي، وحاضرنا العلماني، ولانتشار كليهما على نطاقٍ عالمي. ومما يحظى بأهمية حاسمة ألا نُسْتَفَزَّ من جانبنا إلى ردَّة فعلٍ ضد ذلك الخصم تاريخية بالمثل، لكنها غير عقلانية أيضًا.

ولا أريد أن أبدِّد كثيرًا من الوقت في مناقشة ما تشتمل عليه مقالة لويس من جوانب جديرة بالرثاء؛ فلقد سبق أن وصَفْتُ طرائقه: تعميماته الكسولة، وتشويهه الطائش للتاريخ، واختزاله حضارات برمَّتها في مقولات مثل اللاعقلانية والغضب، وما إلى ذلك. ولا يمكن اليوم إلا لقلَّة من البشر الذين يتمتعون بأيِّ قَدْرٍ من الحسِّ أن تستخدم طوعًا مثل هذه التوصيفات الكاسحة التي يطلقها لويس على أكثر من بليون من المسلمين، المنتشرين في خَمْسٍ من القارات على الأقلِّ، ويتكلمون عشرات اللغات المختلفة، ويعيشون في كنف تقاليد وتواريخ شتَّى. فكلُّ ما يقوله عنهم هو أنهم غاضبون جميعًا من الحداثة الغربية، كما لو أنَّ بليونًا من البشر ليسوا سوى شخص واحد، وكما لو أنَّ الحضارة الغربية مسألة لا تتعدَّى في تعقيدها تعقيد جملةٍ تقريريةٍ بسيطة. لكن ما أودُّ التشديد عليه هو أولاً كيف التقط هنتنغتون من لويس فكرة أنَّ الحضارات أحادية مصمتة ومتجانسة، وثانيًا كيف يزعم - على طريقة لويس من جديد - أنَّ ثمَّة طابعًا ثابتًا يميِّز الثنائية «نحن» و«هم».

ما أعتقده، بعبارة أخرى، هو أنَّه من الضروري بالمطلق أن نؤكِّد على أنَّ صموئيل هنتنغتون، مثل برنارد لويس، لا يكتب نثرًا حياديًا، وصفيًا، وموضوعيًا، بل هو طَرَف متحيِّز لا تكتفي بلاغته بالاتكاء الزائد على سجالات سابقة حول حرب الجميع ضد الجميع، بل تتعدى ذلك إلى تأييد هذه الحرب في حقيقة الأمر. وبذلك لا يكون هنتنغتون حَكَمًا بين الحضارات، بل متحزِّبًا يدافع عمّا يدعوه حضارة محدَّدة في مواجهة جميع الحضارات الأخرى. وهو يعرِّف الحضارة الإسلامية عن طريق الاختزال مثل لويس، كما لو أنَّ الشيء الأهمَّ في هذه الحضارة هو عداؤها المزعوم للغرب. وإذا ما كان لويس يحاول أن يقدِّم مجموعةً من الأسباب التي تدفعه إلى مثل هذا التعريف - كالقول إنَّ الإسلام لم يعرف التحديث قطّ، وإنه لم يفصل قطّ بين الدين والدولة، وإنه عاجز عن فهم الحضارات الأخرى - إلا أنَّ هنتنغتون لا يزعج نفسه بمثل هذه الأمور. فهو يرى أنَّ الإسلام، والكونفوشية، والحضارات الخمس أو الستُّ الأخرى (الهندوسية، واليابانية، والسلافية الأرثوذكسية، والأميركية اللاتينية، والأفريقية) التي لا تزال قائمة هي حضارات منفصلة واحدتها عن الأخرى، مما يجعلها تاليًا في حالةِ صراعٍ كامنٍ يريد أن يديره، لا أن يحلَّه. ولذلك فهو يكتب كمدير لأزمة، لا كدارس للحضارة، ولا كموفِّق بين الحضارات.‏

وثمَّة في القلب من مقالة هنتنغتون ذلك الإحساس بعدم أهمية قَدْرٍ كبير من التفاصيل، وأكوامٍ من البحث العلمي، وعدد هائل من التجارب، التي يختزلها جميعًا إلى زوجٍ من الأفكار التي يسهل التقاطها وتذكُّرها والاستشهاد بها، لتُقَدَّم من ثمَّ على أنَّها عملية، ومفيدة، ودقيقة، وواضحة، وهذا ما جعل هذه المقالة تضرب على الوتر الحساس لدى صنَّاع القرار بعد الحرب الباردة. ولكن هل هذه هي الطريقة المثلى في فَهْمِ العالم الذي نعيش فيه؟ أَمِنَ الحكمة أن يعمد مثقف وخبير أكاديمي إلى وضْع خارطةٍ مبسَّطةٍ للعالم ثمَّ يقدِّمها للجنرالات والمشرِّعين المدنيين كوصفة للإحاطة بالعالم أولاً ثمَّ العمل عليها؟ ألا تطيل مثل هذه الطريقة أمد الصراع، وتُفَاقِمُه، وتعمِّقه؟ ما الذي تفعله للحدِّ من الصراع الحضاري؟ وهل نريد صدام الحضارات؟ ألا تثير هذه الطريقة الأهواء القومية والعداء القومي القاتل، ألا يجدر بنا أن نتساءل ما الذي يدفع أحدًا إلى مثل هذا الأمر: ألكي يفهم أم لكي يفعل، ألكي يخفِّف من احتمال الصراع أم لكي يزيده؟

وسوف أبدأ بِعَرْضٍ للوضع العالمي لألاحظ أنَّه بات من السائد الآن أن يجري الكلام باسم تجريدات كبيرة، ومبهمة وقابلة للتلاعب بها على نحوٍ مقيت في رأيي، مثل الغرب أو الثقافة اليابانية، أو السلافية، أو الإسلام، أو الكونفوشية، وهي لصاقات تختزل الأديان، والأعراق، والإثنيات إلى إيديولوجيات أشنع وأشدُّ استفزازًا من إيديولوجيات غوبينو ورينان منذ 150 عامًا مضت. وقد يبدو ما سأقوله غريبًا، إلا أنَّ هذه الأمثلة المتفشِّية الآن من علم النفس الجمعي ليست بالأمثلة الجديدة، ومن المؤكَّد أنها لا تشتمل على أيِّ قيمٍ تثقيفية أو تنويرية على الإطلاق. وهي توجد في أزمنة انعدام الأمن العميق، أي حين يتقارب البشر من بعضهم بعضًا ذلك التقارب الشديد ويدفع بعضهم بعضًا، إمَّا نتيجةً للتوسُّع، والحرب، والإمبريالية، والهجرة، أو كعاقبةٍ لتغيُّر مفاجئ، غير مسبوق.‏

دعوني أقدِّم اثنين من الأمثلة التي تلقي الضوء على هذا الأمر. لقد برزت لغةُ هوية الجماعة ذلك البروز الحاد بين أواسط القرن التاسع عشر وأواخره وكانت ذروةُ ما آلت إليه عقودًا من التنافس الدولي بين القوى العظمى الأوروبية والأميركية على مناطق في أفريقيا وآسيا. ففي المعركة على المساحات الفارغة في أفريقيا - القارَّة المظلمة - لم تكتف فرنسا وبريطانيا فضلاً عن ألمانيا وبلجيكا باللجوء إلى القوة بل لجأت أيضًا إلى عدد كبير من النظريات وضروب البلاغة التي تبرِّر ما قامت به من سلب ونهب. ولعل المفهوم الفرنسي عن الرسالة الحضارية، La mission civlisatrice، أن يكون أشهر هذه الوسائل، حيث يقوم على فكرة مفادها أنَّ لدى بعض الأعراق والثقافات هدفًا حياتيًا أسمى مما لدى سواها؛ ممّا يعطي الأقوى، والأكثر تطورًا، والأشدَّ تحضُّرًا الحقَّ في استعمار الآخرين، ليس باسم القوَّة الهمجية أو السلب الفجِّ، وكلاهما مكوِّنان أساسيان من مكوِّنات هذه العملية، بل باسم مثل أعلى نبيل. ورواية جوزيف كونراد الأشهر، قلب الظلام، هي تمثيلٌ ساخر، بل مرعب، لهذه الأطروحة، حيث يقول السارد مارلو إنَّ

فتح الأرض، الذي عادةً ما يعني انتزاعها من أولئك الذين لهم بشرة مختلفة قليلاً عن بشرتنا أو أنوف مفلطحة قليلاً قياسًا بأنوفنا، ليس بالشيء الحسن حين تمعن فيه النظر. وما يشفع له هو الفكرة وحدها. فكرةٌ تقف خلفه، فكرة وليس زعمًا عاطفيًا؛ وكذلك إيمان بهذه الفكرة بعيدٌ عن الأنانية: شيءٌ يمكنك أن تعلي من شأنه، وتنحني أمامه، وتقدِّم له الأضاحي.‏

وما يحدثُ استجابةً لهذا النوع من المنطق هو شيئان اثنان. أولهما هو أنَّ القوى المتنافسة تخترع نظريتها الخاصة في القسمة الثقافية أو الحضارية كيما تبرر ما تقوم به في الخارج. وقد كان لدى بريطانيا مثل هذه النظرية، وكذلك ألمانيا، وبلجيكا، ومثلهم الولايات المتحدة بالطبع، في مفهومها عن القسمة الواضحة. وهذه الأفكار الشفيعة تعلي من شأن التنافس والصدام، اللذين يتمثَّل غرضهما الفعلي، كما رأى كونراد بحقٍّ، في تعظيم الذات، والقوة، والفتح، والثروة، والافتخار بالنفس بلا حدود. بل إنَّ بمقدوري القول إن ما ندعوه اليوم بلاغة الهوية، التي تمكِّن عضو جماعةٍ إثنية أو دينية أو قومية أو ثقافية من أن يضع هذه الجماعة في مركز العالم، إنَّما يعود إلى تلك المرحلة من التنافس الإمبراطوري عند نهاية القرن التاسع عشر. وهذا ما يثير بدوره مفهوم «العوالم المتحاربة» الذي من الواضح تمامًا أنَّه يقع في القلب من مقالة هنتنغتون. وكان هذا المفهوم قد حظي بتجسيدٍ مستقبليٍّ مرعب في قصة هـ. ج. ويلز الخيالية حرب العوالم، التي نذكر أنَّها توسِّع هذا المفهوم ليشتمل على معركة بين هذا العالم وعالم آخر بعيد عن كوكب الأرض. أما في حقول الاقتصاد السياسي، والجغرافيا، والأنثروبولوجيا، والتأريخ المترابطة، فنجد أنَّ النظرية التي مفادها أنَّ كلَّ «عالم» منغلق على ذاته، وله حدوده الخاصة وإقليمه الخاص، تُطَبَّق على الخارطة العالمية، وبنية الحضارات، والتصوُّر الذي يرى أنَّ لكلٍّ قسمته، ونفسيَّته، وحميَّته، وهلمجرا. وجميع هذه الأفكار، بلا استثناء تقريبًا، تقوم على الصراع، أو الصدام وليس على الانسجام بين العوالم. وهذا واضحٌ في أعمال غوستاف لوبون (انظر العالم في ثورة) وفي أعمال باتت منسيَّة نسبيًا مثل عمل ف. س. مارفن الأعراق الغربية والعالم (1922) وعمل جورج هنري لين - فوكس بِت ريفرز صدام الثقافات وتماس الأعراق (1927).‏

أما الشيء الثاني الذي يحصل فهو، كما يعترف هنتنغتون نفسه، أنَّ الشعوب الأضعف، أو موضوعات التحديقة الإمبريالية إذا جاز التعبير، تردُّ بمقاومة التلاعب بها واستعمارها المفروض. ونحن نعلم الآن أنَّ مقاومة الرجل الأبيض الأولية الفاعلة قد بدأت ما إنْ وطأت قدماه أمكنةً مثل الجزائر، وشرق إفريقيا، والهند، وسواها. وأنَّ هذه المقاومة الأولية قد أعقبتها مقاومة أخرى، تمثَّلت في تنظيم حركات سياسية وثقافية عازمة على تحقيق الاستقلال والتحرر من السيطرة الإمبريالية. ففي اللحظة ذاتها من القرن التاسع عشر حين بدأت بلاغة التبرير الذاتي الحضاري بالانتشار بين القوى الأوروبية والأميركية، ظهرت بين الشعوب المستعمرَة بلاغةٌ مقابلة، تنادي بالوحدة الإفريقية أو الآسيوية أو العربية، وبالاستقلال، وتقرير المصير. وفي الهند، مثلاً، تشكَّل حزب المؤتمر في العام 1880 وعند منقلب القرن كان قد أقنع النخبة الهندية بأنَّ الحرية السياسية لا يمكن أن تأتي إلا عبر دعم اللغات الهندية، والصناعة الهندية، والتجارة الهندية؛ حيث سار هذا السجال على النحو الذي يرى أنَّ هذه الأشياء لنا ولنا وحدنا، ولن نفلح في النهوض إلا بترسيخ عالمنا إزاء عالمهم؛ ولا بدَّ أننا نلاحظ هنا كيف يجري بناء الـ «نا» - مقابل - الـ «هم». ونجد منطقًا مماثلاً لهذا المنطق في مرحلة الميجي في اليابان الحديثة. كما نجد شيئًا مشابهًا لبلاغة الانتماء هذه في القلب من كلِّ قومية تبنَّتها حركة الاستقلال، حيث تمكَّنت بعد فترة وجيزة من الحرب العالمية الثانية من أن تحقق هدفها المتمثِّل لا بتفكيك الإمبراطوريات الكلاسيكية وحسب، بل بنيل الاستقلال لعشرات وعشرات من البلدان بعد ذلك. فالهند، وأندونيسيا، ومعظم البلدان العربية، والهند الصينية، والجزائر، وكينيا، وهلمجرا: جميع هذه البلدان صعدت إلى المنصَّة العالمية، على نحوٍ سلمي في بعض الحالات، ونتيجةً للتطورات الدولية (كحالة اليابان)، أو الحروب الاستعمارية الشنيعة، أو حروب التحرر الوطني في حالات أخرى.‏

هكذا مضت بلاغة الخصوصية الثقافية أو الحضارية، سواء في السياق الكولونيالي أو ما بعد الكولونيالي، في اتجاهين ممكنين، أولهما هو اتجاه طوباوي ألحَّ على ضَرْبٍ شامل من التكامل والانسجام بين الشعوب جميعًا، وثانيهما هو الاتجاه الذي أشار إلى أنَّ لكلِّ حضارة خصوصيتها، وغيرتها، وأحاديتها المصمتة، مما يدفعها عمليًا إلى رفض جميع الحضارات الأخرى ومحاربتها. ومن بين الأمثلة على الاتجاه الأول لغة الأمم المتحدة ومنظماتها، حيث قامت الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وانطلقت منها محاولات عديدة لإقامة حكومة عالمية، على أساس التعايش، والتقليص الطوعي لحدود السيادة، وتناغم الشعوب والثقافات وتكاملها. أمّا من بين الأمثلة على الاتجاه الآخر فثمة نظرية الحرب الباردة وممارستها، ومؤخَّرًا الفكرة التي مفادها أنَّ صدام الحضارات حتمي، إِنْ لم يكن ضروريًا، في عالمٍ يشتمل على كثيرٍ من الأجزاء المختلفة. وترى وجهة النظر هذه أنَّ الثقافات والحضارات منفصلة أساسيًا واحدتها عن الأخرى. ولست أريد أن أكون هنا من أولئك الذين يثيرون البغضاء. فقد شهد العالم الإسلامي انبعاثًا لبلاغاتٍ وحركاتٍ تؤكِّد على عداء الإسلام للغرب، وكما هو الحال في إفريقيا، وأوروبا، وآسيا، وغيرها، ظهرت حركات تلحُّ على الحاجة إلى إقصاء الآخرين الذين يوصمون بأنهم غير مرغوب فيهم. وكان الأبارثيد في جنوب أفريقيا واحدةً من هذه الحركات، شأنه شأن الاهتمام الراهن بالمركزية الإفريقية واستقلال الحضارة الغربية الكلِّي مما نجده في إفريقيا والولايات المتحدة على التوالي.‏

والغرض من هذا التاريخ الثقافي القصير لفكرة صدام الحضارات هو تبيان أنَّ أشخاصًا مثل هنتنغتون هم نتاج لذاك التاريخ، وأنَّه قد أعطى كتابتهم شكلها وهيئتها. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ اللغة التي تصف الصدام هي لغة مُشبَعة باعتبارات القوة: لغة يستخدمها الأقوياء لحماية ما يملكونه وما يفعلونه، ويستخدمها الضعفاء أو الأقلُّ قوة لتحقيق المساواة، أو الاستقلال، أو ميزة ما إزاء القوة المسيطرة. وهكذا يكون بناء إطار مفاهيمي حول فكرة التضاد بيننا وبينهم ضربًا من الزعم أنَّ الاعتبار الأساسي هو اعتبار إبستمولوجي وطبيعي - حضارتنا معروفة ومقبولة، أما حضارتهم فمختلفة وغريبة - في حين أنَّ الإطار الذي يفصلنا عنهم هو في حقيقته إطار مبنيٌّ بناءً، ومرتبط بالحرب، وبأوضاع بعينها. ونلاحظ ضمن كلِّ معسكر حضاري أنَّ هنالك ممثلين رسميين لتلك الثقافة أو الحضارة يجعلون من أنفسهم ناطقين باسمها، ويخصُّون أنفسهم بدور الإفصاح عن ماهيتـ«نا» (أو ماهيتـ«هم»). وهذا ما يقتضي على الدوام قَدْرًا هائلاً من التقليص، والاختزال، والمبالغة. هذا على المستوى الأول والمباشر، ومن ثمَّ فإنَّ الكلام على ماهية ثقافاتـ«نا» أو حضارتـ«نا»، أو ما ينبغي أن تكون عليه، لابدَّ أن ينطوي على نزاع على التعريف. وهذا ما يصحُّ بصورةٍ مؤكَّدة على هنتنغتون، الذي يكتب مقالته في لحظة من تاريخ الولايات المتحدة حيث يكتنف قَدْرٌ عظيم من الاضطراب تعريف الحضارة الغربية ذاته. ولنتذكَّر أنَّ كثيرًا من جامعات الولايات المتحدة قد هزَّها الخلاف في العقدين الماضيين حول ما يشكِّل مُعْتَمَد الحضارة الغربية المُكَرَّس، وما هي الكتب التي ينبغي أن تُدَرَّس، وما هي الكتب التي ينبغي أن تُقْرَأ أو لا تُقرَأ، أو تُضَمَّ، أو يجري الاهتمام بها. ولقد شهدت أمكنةٌ مثل ستانفورد وكولومبيا جدالاً حول هذه القضية لا بوصفها مجرد مسألة أكاديمية عادية بل لأنَّ تعريف الغرب وأميركا تاليًا كان موضع الرهان.‏

ويعلم كلُّ من لديه أدنى معرفةٍ بكيفية عمل الثقافات أنَّ تعريف ثقافة وتحديد ما تعنيه لأبنائها، هو على الدوام محلُّ نزاع شديد، وديمقراطي، حتى في المجتمعات غير الديمقراطية. فثمَّة مراجع معتمدة ومكرَّسة ينبغي اختيارها ومراجعتها باستمرار، ومجادلتها، واختيارها من جديد، أو استبعادها. وثمَّة أفكار عن الخير والشرِّ، وعن الانتماء أو عدم الانتماء (عن المماثل والمختلف)، وضروب من تراتب القيم التي ينبغي تحديدها، ومناقشتها، وإعادة مناقشتها، وترسيخها أو العكس، تبعًا للحالة. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ كلَّ ثقافة تحدِّد أعداءها، وما يقع خارجها ويهدِّدها. فالإغريق، منذ هيرودوت، كانوا يعتبرون كلَّ من لا يتكلم اليونانية بربريًا بصورة آلية، وآخر ينبغي احتقاره ومقارعته. ويبيِّن كتابٌ ممتاز صدر مؤخَّرًا لعالم الكلاسيكيات الفرنسي فرانسوا هارتوغ، بعنوان مرايا هيرودوت، ما بذله هيرودوت من جهد مدروس في بناء صورة الآخر البربري في حالة الإسكيثيين، على نحوٍ يفوق ما بذله على هذا الصعيد في حالة الفرس.‏

والثقافة الرسمية هي ثقافة الكهنة، والأكاديميين، والدولة. وهي تقدِّم تعريفات للوطنية، والولاء، والحدود، وما دعوته بالانتماء. وهذه الثقافة الرسمية هي التي تتكلم باسم الكلِّ، وتحاول أن تعبِّر عن الإرادة العامة، والروح العامة، والفكرة العامة التي تجمع معًا على نحوٍ حصريٍّ كلاً من الماضي الرسمي، والآباء المؤسسين، والنصوص المؤسِّسة، ومَجْمَع الأبطال والأشرار، وما إلى ذلك، في حين تُقصي من هذا الماضي كلَّ ما هو أجنبي أو مختلف أو غير مرغوب فيه. ومن هذه الثقافة الرسمية تنبع تعريفات ما يمكن قوله وما لا يمكن، وتلك المحظورات والمحرَّمات الضرورية لأيِّ ثقافة كيما تكون لها سلطة.‏

وصحيحٌ أيضًا أنَّه علاوةً على الثقافة السائدة، أو الرسمية، أو المُعْتمَدة هنالك ثقافات معارضة، أو بديلة بعيدة عن الاتِّباع، أو إبداعية تشتمل على كثيرٍ من العناصر المناوئة للسلطة والمنافسة للثقافة الرسمية. ويمكن أن ندعو هذه الثقافات باسم الثقافة المضادة، وهي مجموعة من الممارسات المقرونة إلى ضروب مختلفة من الخوارج: الفقراء، المهاجرين، البوهيميين، العمال، المتمردين، الفنانين. ومن هذه الثقافة المضادة ينبع انتقاد السلطة وتنبع تلك الهجمات على ما هو رسمي واتِّباعي. وكان الشاعر العربي المعاصر الكبير أدونيس قد كتب على نحوٍ مفصَّل عن العلاقة بين الاتِّباع والإبداع في الثقافة العربية وكشف عن الديالكتيك والتوتر المتواصل بينهما. وما من ثقافة يمكن أن تُفْهَم دون وعيٍ ما لهذا المصدر دائم الحضور من مصادر الاستفزاز الخلاَّق الذي تستفزُّ به الثقافةُ غير الرسمية الثقافةَ الرسمية؛ فالاستخفاف بهذا القلق أو التوتر داخل كل ثقافة، وافتراض الاتساق الكامل بين الثقافة والهوية، يعني إغفال ما هو حيوي ومثمر.‏

ولقد اعترت تحولات كثيرة وتبدُّلات دراماتيكية ما شهدته الولايات المتحدة من جدال حول ما هو أميركي. وفي صباي، كانت أفلام الغرب تصوِّر الأميركيين الأصليين على أنهم شياطين وأشرار ينبغي القضاء عليهم أو تدجينهم؛ وكانوا يُدعَون باسم الهنود الحمر، وإذا ما كانت لهم أيُّ وظيفة في الثقافة بوجهٍ عام، فإنَّ هذه الوظيفة كانت تتمثَّل في إحباط مسيرة الحضارة البيضاء؛ وهذا ما يصحُّ على الأفلام بقدر ما يصحُّ على كتابة التاريخ الأكاديمي. أمّا اليوم فقد تغيَّر ذلك تمامًا. وبات يُنْظَر إلى الأميركيين الأصليين على أنهم ضحايا التقدم الغربي الذي اعترى البلد، بدلاً من اعتبارهم أولئك الأشرار الذين ناهضوا هذا التقدم. بل كان ثمة تغيُّر أيضًا في المكانة التي يحتلها كولومبوس، وانقلابات دراماتيكية في طرائق تصوير الأميركيين الأفارقة والنساء. وقد لاحظت توني موريسون أنَّ الأدب الأميركي الكلاسيكي يبدي هَوَس البياض، الذي يشهد عليه موبي ديك لدى ميلفل وآرثر غوردن بيم لدى إدغار آلن بو. وترى توني موريسون أنَّ كتَّاب القرنين التاسع عشر والعشرين الذكور الكبار، أولئك الرجال الذين شكَّلوا المُعْتَمَد المكرَّس لما عُرِف باسم الأدب الأميركي، قد أبدعوا أعمالهم مستخدمين البياض كطريقةٍ لتجنُّب الحضور الإفريقي وسط مجتمعنا، وإسدال الستارة عليه، وإخفائه. غير أنَّ النجاح والتألُّق اللذين تحققهما روايات توني موريسون وكتاباتها النقدية يؤكِّدان بحدِّ ذاتهما على مدى التغير الحاصل بين عالم ميلفل وهمنغواي وعالم دوبوا، وبالدوين، ولانغستون هيوز، وتوني موريسون. فأيُّ رؤية هي أميركا الفعلية، ومن الذي يمكنه أن يدَّعي تمثيلها أو تعريفها؟ السؤال معقَّد ومثير إلى أبعد حدٍّ، ولا تمكن الإجابة عنه باختزال الأمر كلِّه إلى بضع صيغ مبتذلة ومكرورة.‏

ويمكن أن نجد إطلالةً جديدة على المصاعب التي تشتمل عليها النزاعات الثقافية المتعلقة بتعريف حضارةٍ ما في كتاب آرثر شليزنغر الصغير فَصْمُ عرى أميركا. ولأنَّ شليزنغر مؤرِّخ ينتمي إلى التيار السائد فمن الطبيعي أن تنغِّصه حقيقة أنَّ جماعاتٍ بازغةً ومهاجرةً في الولايات المتحدة راحت تخالف الحكاية الرسمية، والأحادية عن أميركا كما اعتاد أن يعرضها المؤرِّخون الكلاسيكيون الكبار في هذا البلد، مثل بانكروفت، وهنري آدامز، ومؤخَّرًا ريتشارد هوفستيتر. فهذه الجماعات تريد لكتابة التاريخ أن تعكس، ليس أميركا كما تصوَّرها وحَكَمَها الأرستقراطيون وملاَّك الأرض وحسب، بل أيضًا أميركا التي لعب فيها العبيد، والخدم، والعمال، والمهاجرون الفقراء دورًا هامًّا على الرغم من عدم الاعتراف بذلك. وسرديات هؤلاء، التي أخرستها الخطابات الكبرى الصادرة عن واشنطن، ومصارف الاستثمار في نيويورك، وجامعات نيو إنجلند، وثروات الغرب الأوسط الصناعية الضخمة، باتت اليوم تبذر الاضطراب في تقدُّم القصة الرسمية البطيء وصفائها الذي تشوبه الشوائب. فهم يطرحون أسئلةً، ويقحمون تجارب التعساء، ويطالبون بحقوق الضعفاء من النساء، والأميركيين الآسيويين والأفارقة، وشتى الأقليات الأخرى، الجنسية والإثنية. وسواء اتفق المرء مع صرخة شليزنغر الملتاعة أم لا، فإنَّ لا مجال لمخالفته في أطروحته الأساسية أنَّ كتابة التاريخ هي الطريق الملكي إلى تعريف بلدٍ ما، وأنَّ هوية مجتمعٍ ما هي إلى حدٍّ بعيد تابعٌ للتأويل التاريخي، الذي يعجُّ بالمزاعم والمزاعم المضادة المتنازعة. والولايات المتحدة هي اليوم في مثل هذا الوضع المشحون الذي يعجُّ بالمزاعم.‏

وثمَّة جدال مماثل يجري اليوم في العالم الإسلامي، مع أنَّ الصراخ الهستيري عن خطر الإسلام، والأصولية الإسلامية، والإرهاب الذي كثيرًا ما يصادفه المرء في وسائل الإعلام الغربية، غالبًا ما تفوته تمامًا رؤية هذا الجدال. فالإسلام، شأنه شأن أيِّ ثقافة عالمية كبرى، يشتمل على تشكيلة مدهشة من التيارات والتيارات المضادة، التي لا يميِّز معظمها أولئك الباحثون الاستشراقيون المتحيِّزون الذين يرون في الإسلام مصدرًا للخوف والعداء، أو أولئك الصحفيون الذين ليسوا على دراية بأيٍّ من لغات المناطق التي يغطُّونها أو تواريخها ويكتفون بالاتكاء على الصور النمطية التي لا تزال متشبِّثة بالغرب منذ القرن الثامن. فإيران اليوم - التي غدت هدفًا لحملة سياسية انتهازية شرسة تشنُّها الولايات المتحدة - تشهد مخاض جدال مدهش في طاقته وحيويته حول القانون، والحرية، والمسؤولية الشخصية، والتراث مما لا يغطِّيه المراسلون الغربيون. فثمة أساتذة ومثقفون بارزون - من رجال الدين وغيرهم - يواصلون تراث شريعتي، ويتحدُّون مراكز القوة والاتِّّباع الحصينة ويحققون قدرًا كبيرًا من النجاح الجماهيري على ما يبدو. وفي مصر، انتهت اثنتان من القضايا المدنية المنطوية على تدخُّل ديني جائر في حياة مفكِّر ومخرج سينمائي مشهور على التوالي إلى انتصار كليهما على الاتباعية المتزمتة (أشير هنا إلى قضيتيِّ نصر أبو زيد ويوسف شاهين). ولقد رأيت أنا نفسي في كتابٍ صدر لي مؤخَّرًا (سياسات الحرمان، 1994) أنَّ مدَّ الأصولية الإسلامية كما يوصف على نحوٍ مُخْتَزَل في الإعلام الغربي، يشهد قدرًا كبيرًا من المعارضة العلمانية، على هيئة نزاعات شتَّى حول تفسير السنَّة في قضايا مثل القانون، والسلوك الشخصي، واتِّخاذ القرار السياسي، وهلمجرا. وعلاوةً على ذلك، فإن ما يُنسى في أغلب الأحيان هو أنَّ حركات مثل حماس والجهاد الإسلامي هي في جوهرها حركات احتجاج تواجه سياسات الاستسلام التي تمارسها منظمة التحرير الفلسطينية وتحشد إرادة المقاومة في مواجهة ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، ومصادرته الأراضي أو ما شابه.‏

وما يدهشني، بل ويزعجني، أنَّ ما من إشارةٍ في أيِّ مكان من مقالة هنتنغتون تدلُّ على معرفته بهذه الجدالات المعقَّدة، أو على إدراكه أنَّ طبيعة الحضارة وهويتها لم تُؤخَذا يومًا من قِبَل جميع أبناء تلك الحضارة على أنهما مسلمتان لا يرقى إليهما الشكُّ. وبعيدًا عن أن تكون الحرب الباردة الأفق المحدِّد للعقود القليلة الأخيرة، أودُّ أن أقول إنَّ هذا الموقف واسع الانتشار من مساءلة السلطة القديمة والتشكيك فيها هو الذي يسم عالم ما بعد الحرب في كلٍّ من الشرق والغرب. وقد فرضت القومية وإزالة الاستعمار هذه القضية إذ دفعتا شعوبًا بأكملها إلى النظر في مسألة الهوية القومية في الحقبة التي تلت رحيل المستعمِر الأبيض. ففي الجزائر، التي هي اليوم موضع نزاع دموي بين الإسلاميين وحكومة معمِّرة وفاقدة للصدقية، كان هذا الجدال قد اتَّخذ أشكالاً عنيفة. غير أنَّه يبقى جدالاً فعليًا ونزاعًا حقيقيًا على الرغم من ضراوته وعنفه. فبعد أن هزمت جبهة التحرير الوطني الجزائرية الفرنسيين في العام 1962، أعلنت أنها حاملة لواء هوية وطنية جزائرية، وعربية، وإسلامية جديدة. ولأول مرَّة في تاريخ الجزائر الحديث، غدت العربية لغة التعليم، واشتراكية الدولة العقيدة السياسية، وعدم الانحياز موقفًا في الشؤون الخارجية. وفي سياق ممارسة جبهة التحرير كحزب واحد يجسِّد هذه الأشياء جميعًا، تحوَّلت إلى بيروقراطية جسيمة مترهلة، واستُنْزِف اقتصادها، وتلبَّث قادتها في مواقعهم كطغمةٍ حاكمة قاسية ومتصلِّبة. ولم تنشأ المعارضة من الدوائر المسلمة وقادتها وحسب بل أيضًا من الأقلية البربرية، التي أحسَّت بانسحاق هويَّتها داخل خطاب الهوية الجزائرية الموحَّدة المزعومة. هكذا تمثِّل الأزمة التي شهدتها السنوات القليلة الماضية نزاعًا متعدد الجوانب على السلطة، وعلى الحقِّ في تقرير طبيعة الهوية الجزائرية: ما الإسلامي فيها، وما نوع هذا الإسلام، وما الوطني، ما العربي والبربري، وهلمجرا.‏

وما يدعوه هنتنغتون باسم «الهوية الحضارية» هو، بالنسبة له، شيء ثابت لا يعرف الاضطراب، مثل غرفةٍ ممتلئة بالعفش وراء المنزل. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، ليس في العالم الإسلامي وحسب بل على سطح البسيطة برمَّتها. والإلحاح على الفروق بين الثقافات والحضارات - علمًا أنني أجد استخدام هنتنغتون لكلمتي «الثقافة» و«الحضارة» مفرطًا في خراقته، وذلك على وجه الدِّقة لأنَّ هاتين الكلمتين تمثِّلان له أشياء ثابتة وجامدة، لا أشياء دينامية دائمة الاضطراب كما هي في الحقيقة - يعني تجاهلاً تامًا للجدال أو النزاع (كيما نستخدم الكلمة الأشدَّ طاقةً وفاعلية بين هاتين الكلمتين) الدائر إلى ما لا نهاية بالمعنى الحرفيِّ حول تعريف الثقافة أو الحضارة داخل تلك الحضارات، بما فيها الحضارات «الغربية» المختلفة. ومثل هذه الجدالات تقوِّض تمامًا أيَّ فكرةٍ عن هوية ثابتة، وتاليًا أيَّ فكرة عن علاقات بين هويات، وهو ما يعتبره هنتنغتون ضَرْبًا من الحقيقة الأنطولوجية (الكيانية) ذات الوجود السياسي، تثبت حتمية الصدام بين الحضارات. ولا حاجة بك لأن تكون خبيرًا في الشؤون الصينية، أو اليابانية، أو الكورية، أو الهندية لكي تعلم ذلك. وثمة المثال الأميركي الذي سبق أن ذكرته. كما أنَّ هنالك المثال الألماني، الذي شهد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واحدًا من أكبر الجدالات حول طبيعة الثقافة الألمانية، وما إذا كانت النازية قد خرجت على نحوٍ منطقي من قلب هذه الثقافة، أم كانت ضربًا من الانحراف والضلال.‏

غير أنَّ ثمَّة ما يزيد على هذا فيما يتعلق بسؤال الهوية. ففي حقل الدراسات الثقافية والبلاغية، وفَّرت لنا الاكتشافات وضروب التقدُّم التي جرت مؤخَّرًا تبصُّرًا أوضح ليس بطبيعة الهوية الثقافية المتنازعة والدينامية وحسب، بل أيضًا بمدى اشتمال فكرة الهوية ذاتها على الفانتازيا، والتلاعب، والاختراع، والبناء. ففي سبعينيات القرن العشرين نشر هايدن وايت كتابًا دعاه ما وراء التاريخ وكان له أبعد الأثر. فهو دراسة لعدد من مؤرِّخي القرن التاسع عشر - من بينهم ماركس، وميشليه، ونيتشه - والكيفية التي يحدد بها اتِّكالهم على مجاز واحد أو سلسلة من المجازات (أو الصيغ البلاغية) طبيعة رؤيتهم للتاريخ. فماركس، على سبيل المثال، يلتزم في كتابته شعريةً محدَّدة تتيح له أن يفهم طبيعة التقدم والاغتراب في التاريخ تبعًا لنموذج سردي محدَّد، يلحُّ على الفارق بين شكل المجتمع وجوهره. وما يهدف إليه وايت من تحليله بالغ الصرامة والألمعي تمامًا لماركس وسواه من المؤرِّخين هو أن يبيِّن لنا كيف تُفهَم تواريخ هؤلاء المؤرِّخين على أفضل وجه، ليس تبعًا لـ «واقعيَّتها» بل تبعًا للكيفية التي تعمل بها استراتيجياتها البلاغية والخطابية الداخلية: فهذه الاستراتيجيات، وليس الوقائع، هي التي تجعل رؤى توكفيل أو كروتشه أو ماركس تعمل فعليًا كمنظومة، وليس أيُّ مصدر خارجي فيما يُدعى بالعالم الواقعي.‏

ويتمثَّل أثر كتاب وايت، شأنه شأن أثر دراسات ميشيل فوكو، في إزاحة الاهتمام بعيدًا عن وجود إثباتات قاطعة للأفكار المطروحة قد يقدِّمها العالم الطبيعي، وتركيز هذا الاهتمام بدلاً من ذلك على نوع اللغة المُسْتخدَمة، التي تُرى على أنَّها تشكِّل عناصر رؤية الكاتب أو مكوِّناتها. وبذلك ننظر إلى فكرة الصدام، على سبيل المثال، ليس على أنها مستمدَّة من صدام واقعي يجري في العالم بل على أنها مستمدَّة من استراتيجيات نثر هنتنغتون، التي تعتمد بدورها على ما أدعوه شعرية إدارية، وهي استراتيجية تفترض وجود كيانات ثابتة ومحدَّدة ميتافيزيقيًا تُدعى الحضارات لا يلبث الكاتب أن يتلاعب بها ذلك التلاعب المثير للعواطف والانفعالات، كما في العبارة التالية لهنتنغتون: «للكتلة الإسلامية التي تأخذ شكل هلال، ممتدٍّ من النتوء الإفريقي إلى آسيا الوسطى، حدود دموية». ولست أعني هنا أنَّ لغة هنتنغتون هي لغة عاطفية وانفعالية ولا ينبغي لها أن تكون كذلك، بل أعني أنها كذلك على نحوٍ كاشفٍ وموحٍ تمامًا، وهي الطريقة التي تعمل بها كلُّ لغة على النحو الشعري الذي حلَّله هايدن وايت. وما يتضح من لغة هنتنغتون هو طريقته في استخدام اللغة المجازية لكي يؤكِّد على البعد والمسافة بين عالمـ«نا» - السويِّ، المقبول، المألوف، المنطقي - وعالم الإسلام، كمثال لافت على نحوٍ خاص، بحدوده الدموية، ومعالمه الناتئة، وهلمجرا. وما يوحي به ذلك هو أنَّ هنتنغتون لا يقوم من طرفه بأيِّ تحليل بقدر ما يقدِّم سلسلةً من الأحكام تخلق، كما سبق أن قلت، ذلك الصدام ذاته الذي يبدو في مقالته كما لو أنه يكتشفه ويشير إليه.‏

وإيلاء قَدْر كبير من الاهتمام إلى إدارة صدام الثقافات وتوضيحه يطمس واقعة التبادل والحوار العظيمين، الصامتين في الغالب، بين هذه الثقافات. أين هي اليوم تلك الثقافة - سواء كانت يابانية، أم عربية، أم أوروبية، أم كورية، أم صينية، أم هندية - التي لم تُقِمْ صلاتٍ مديدةً، ووثيقةً، وبالغة الغنى مع الثقافات الأخرى؟ ما من استثناء لهذا التبادل على الإطلاق. ويتمنى المرء لو أنَّ مديري الصراع أَوْلوا اهتمامًا لمعنى امتزاج ضروب الموسيقا المختلفة في أعمال أوليفييه ميسيان أو تورو تاكيميتسو، على سبيل المثال، وفهموا ذلك المعنى. فعلى الرغم من قوة المدارس الوطنية المختلفة وتأثيرها، إلا أنَّ أكثر ما يستوقف في الموسيقا المعاصرة هو أنَّ أحدًا لا يمكنه أن يرسم حدًّا قاطعًا يحيط بأيٍّ منها؛ وغالبًا ما تنمُّ الثقافات على ذاتها بصورة طبيعية حين تدخل في شراكةٍ بعضها مع البعض الآخر، كما هي الحال في الموسيقا بانفتاحها الاستثنائي على التطورات الجارية في موسيقا المجتمعات الأخرى والقارات الأخرى. وهذا ما يصحُّ إلى حدٍّ بعيد على الأدب، حيث يتواجد قرَّاء غارثيا ماركيز، ومحفوظ، وأوي، على سبيل المثال، أبعد بكثير من الحدود التي تفرضها اللغة أو يفرضها الوطن. وفي حقل الأدب المقارن حيث أعمل ثمة التزام إبستمولوجي بالعلاقات بين الآداب، وتوافقها وانسجامها، على الرغم من الحواجز الإيديولوجية والقومية الضخمة القائمة فيما بينها. ومثل هذا المشروع التعاوني، الجمعيِّ هو ما يفتقده المرء لدى مروجي صدام سرمديٍّ بين الثقافات: أي ذلك التفاني الذي وُجِدَ في جميع المجتمعات الحديثة بين الباحثين، والفنانين، والموسيقيين، وأصحاب الرؤى، والأنبياء في محاولتهم تفهُّم الآخر، تفهم المجتمع الآخر أو الثقافة الأخرى التي تبدو غريبةً وبعيدةً جدًا. ويخطر في الذهن هنا جوزيف نيدهام الذي أمضى العمر كلَّه في دراسة الصين، ولويس ماسينيون الفرنسي ورحلته الطويلة مع الإسلام. ويبدو لي أننا ما لم نؤكِّد على روح التعاون والتبادل الإنسانوي ونعظِّمها - ولستُ أتكلم هنا على الابتهاج الجاهل أو الحماس الغرِّ تجاه ما هو بعيد وغريب، بل على الالتزام الوجودي العميق بالآخر والعمل لخيره - لن يبقى أمامنا سوى أَنْ نقرع الطبول لثقافتـ«نا» ذلك القرع الحاد الاستعراضي إزاء جميع الثقافات الأخرى.‏

وثمة عملان أساسيان من أعمال التحليل الثقافي صدرا مؤخَّرًا ويحظيان بأهميةٍ في هذا الإطار. ففي مجموعة المقالات التي صدرت بعنوان اختراع التراث، وقام بتحريرها تيرنس رينجر وإريك هوبسباوم، وهما من أبرز المؤرِّخين الأحياء، يرى المؤلفون أنَّ التراث بعيدًا عن كونه ذلك النظام الراسخ القائم على الحكمة والممارسة المتوارثتين، غالبًا ما يكون مجموعةً من الممارسات والقناعات المُخْترَعة التي تُسْتخدَم في المجتمعات الواسعة لخلق إحساسٍ بالهوية بعد انهيار ضروب التضامن العضوي، كالتضامن العائلي، والقروي، والعشائري. وبذلك يكون الإلحاح على التراث في القرنين التاسع عشر والعشرين سبيلاً يمكِّن الحكَّام من ادِّعاء الشرعية، مع أنَّ هذه الشرعية مصطنعة إلى هذا الحدِّ أو ذاك. ففي الهند، على سبيل المثال، عمد البريطانيون إلى اختراع مجموعة كبيرة من الطقوس للاحتفال بقبول الملكة فيكتوريا لقب إمبراطورة الهند في العام 1872. وبفعلهم هذا، وبزعمهم أنَّ للدُّربارات، أو المواكب الكبرى، التي تحتفي بهذا الحدث تاريخها الطويل في الهند، تمكَّن البريطانيون من إعطاء حكم فيكتوريا نسَبًا أو مَحْتِدًَا ليسا له في حقيقة الأمر، لكنهما صارا له على هيئة تراثٍ مُخْتَرَع. وفي سياق آخر، تُعدُّ الطقوس الرياضية مثل لعبة كرة القدم، وهي ممارسة حديثة نسبيًا، ذروة احتفاء قديم بالنشاط الرياضي، أمّا في الحقيقة فهي طريقة جديدة في إلهاء أعداد كبيرة من البشر. والأمر الأساسي في كلِّ هذا هو أنَّ قَدْرًا كبيرًا مما اعتدنا على اعتباره حقيقة راسخة، أو تراثًا، إنما يتكشف عن كونه اختلاقًا أو فَبْرَكةً للاستهلاك الجماهيري هنا والآن.‏

غير أنَّ من يقتصر كلامهم على صدام الحضارات لا يبدون أيَّ نأمة تدلُّ على معرفةٍ بهذه الإمكانية. فهم يرون أنَّ الثقافات والحضارات يمكن أن تتغيَّر، وتتطور، وتنكص، وتختفي، إلا أنَّها تظل على نحوٍ غامضٍ حبيسة هويتها، أو ماهيتها المنقوشة في الصخر، إذا جاز القول، كما لو أنَّ ثمة إجماعًا كونيًا أقرَّ تلك الحضارات الستِّ التي يشير إليها هنتنغتون في مطلع مقالته. وقناعتي أنَّ مثل هذا الإجماع لا وجود له، أو أنه إذا ما كان موجودًا، لا يمكن له أن يصمد أمام ذلك التمحيص التحليلي الذي تحشده تحليلاتٌ من النوع الذي قدَّمه هوبسباوم ورينجر. ولذلك فإننا في قراءتنا عن صدام الحضارات لا نقبل تحليل الصدام بقدر ما نطرح سؤالاً، لماذا تسجنون الحضارات في مثل هذا النطاق العقيم، ثمَّ تصفون العلاقة فيما بينها بأنها علاقة صراع أساسي، كما لو أنَّ ضروب الاستعارة والتداخل فيما بينها ليست السمة الأَلْفَت والأهمَّ؟‏

وأخيرًا، فإنَّ مثالي الثالث من أمثلة التحليل الثقافي يفضي بالكثير عن إمكانية خَلْق حضارةٍ ما بأثرٍ رجعيٍّ وتحويل ذلك الخلق إلى تعريف جامد، على الرغم من الأدلة التي تشير إلى هجنةٍ واختلاطٍ عظيمين. وهذا المثال هو كتاب أثينا السوداء، لمارتن برنال، أستاذ العلوم السياسية في كورنِل. ومما يقوله برنال إنَّ التصوُّر الذي يحمله معظمنا اليوم عن اليونان القديمة لا ينسجم على الإطلاق مع ما يقوله عنها كتَّابها في تلك الفترة. فقد ترعرع الأوروبيون والأميركيون، منذ أوائل القرن التاسع عشر، على صورة مثالية للانسجام والحُسْن الأتيكيين، وتخيَّلوا أثينا على أنَّها المكان الذي كان فلاسفةٌ غربيون مستنيرون مثل أفلاطون وأرسطو يعلِّمون فيه حكمتهم، والمكان الذي وُلِدَت فيه الديمقراطية، وحيث ثمَّة أسلوب حياةٍ غربيٍّ يختلف تمامًا، على جميع الأصعدة الهامَّة، عن تلك الأساليب التي تسود في آسيا أو إفريقيا. غير أنَّ القراءة الدقيقة لما كتبه عدد ضخم من الكتَّاب القدماء تكشف أنَّ كثيرًا منهم قد أشاروا إلى وجود عناصر سامية وأفريقية في الحياة الأتيكية. ويخطو برنال تلك الخطوة الأبعد فيوضح من خلال اللجوء البارع إلى عدد كبير جدًا من المصادر أنَّ اليونان كانت في الأصل مستعمرة أفريقية، أو مصرية على وجه التحديد، وأنَّ معظم ما نعتبره اليوم ثقافةً يونانية قديمة كان من إسهام التجَّار، والبحَّارة، والمعلِّمين الفينيقيين واليهود، مما يدفع برنال إلى رؤية تلك الثقافة كخليط من التأثيرات الأفريقية، والسامية، والشمالية في مرحلةٍ لاحقة.‏

ويبيِّن برنال، في الجزء الأشدِّ إثارة من أثينا السوداء، كيف مُسِحَت تدريجيًا من صورة اليونان الأتيكية الأصلية المختلطة التي ظلَّت سائدة حتى القرن الثامن جميع العناصر غير الآرية، وذلك مع تنامي القومية الأوروبية، خاصة الألمانية، على نحوٍ شبيهٍ بقرار النازيين بعد ذلك بسنوات كثيرة منع جميع الكتَّاب وإحراق جميع الكتب التي اعتُبِرَت غير ألمانية، وغير آرية. هكذا راحت اليونان القديمة تتحول شيئًا فشيئًا من كونها نتاج غزو من الجنوب - أي من أفريقيا - كما هو الحال، إلى كونها نتاج غزو من الشمال الآري. وبتطهير اليونان من عناصرها غير الأوروبية المزعجة، صار بمقدورها أن تقف في تعريف الغرب لذاته - وهو تعريف نفعيٌّ بلا شكٍّ - بوصفها أصل الغرب ومنشؤه، ومصدر عذوبته ونوره. والشيء الأساسي الذي يركِّز عليه برنال هو مقدار التغيير الذي أُدْخِل على الأنساب، والسلالات، والذريَّات بحيث تلائم الحاجات السياسية لزمنٍ لاحق. ولا حاجة لإقناع أحد منا بالعواقب الوخيمة التي أدَّى إليها هذا الاختراع الذاتي لحضارةٍ أوروبيةٍ آريةٍ بيضاء.‏

وما يزيد انزعاجي لدى مروِّجي صدام الحضارات هو ما يبدون عليه من إغفالٍ لكلِّ ما نعرفه كمؤرِّخين ومحلِّلين ثقافيين عن الخلاف الواسع حول تعريفات هذه الثقافات ذاتها. فبدلاً من أن نقبل التصور الساذج إلى حدٍّ لا يُصَدَّق والاختزالي على نحوٍ مقصود الذي يعتبر الحضارات متطابقة مع ذاتها، وكفى المؤمنين شرَّ القتال، علينا ألاّ نكفَّ عن التساؤل أيُّ الحضارات هي المقصودة، والمخلوقة، والمُعَرَّفة ومن قِبَل مَنْ، ولأيِّ سبب. والتاريخ القريب يعجُّ بأمثلة تمَّ فيها إقحام الدفاع عن القيم اليهودية المسيحية في قمع الآراء المعارضة أو غير الشعبية لكي نزعم على نحوٍ سلبي أنَّ «الجميع» يعرفون ما هي هذه القيم، وكيف أُريدَ لها أن تُفَسَّر، وكيف يمكن أن تُغْرَس أو لا تُغْرَس في المجتمع.‏

ويمكن أن نجد كثيرًا من العرب الذين يرون أنَّ الإسلام هو حضارتهم، مثلما يمكن أن نجد بعض الغربيين - أستراليين وكنديين وبعض الأميركيين - الذين قد لا يرغبون في إدراجهم ضمن مقولة الغربيين الغامضة والفضفاضة. وحين يتحدث أناسٌ مثل هنتنغتون عن «عناصر موضوعية مشتركة» يزعمون وجودها في كلِّ ثقافة، فإنهم يغادرون العالم التحليلي والتاريخي، مفضِّلين اللجوء إلى مقولات لا معنىً لها في النهاية.‏

وكما سبق أن بيَّنت في عدد من الكتب التي وضعتها، فإنَّ ما يوصف اليوم بـ«الإسلام» في أوروبا والولايات المتحدة إنما ينتمي إلى خطاب الاستشراق، وهو بناء فُبْرِكَ لإثارة مشاعر العداء والبغضاء حيال جزء من العالم صادف أنَّه ذو أهمية استراتيجية كبيرة بسبب نفطه، وقُرْبِه المهدِّد من العالم المسيحي، وتاريخه المرعب في منافسة الغرب. وهذا شيء مختلف جدًّا عن الإسلام الفعلي، كما يراه المسلمون الذين يعيشون في كنفه. فثمَّة عالمٌ من الاختلاف بين الإسلام في إندونيسيا والإسلام في مصر. بل ثمَّة تفجُّر واضح للصراع على معنى الإسلام حتى ضمن البلد الواحد مثل مصر، حيث تتصارع قوى المجتمع العلمانية مع حركات إسلامية احتجاجية وإصلاحية شتَّى على طبيعة الإسلام. والشيء الأسهل، والأبعد عن الصواب، في مثل هذه الظروف هو القول: «ذلك هو عالم الإسلام، لاحظوا أنَّهم جميعًا إرهابيون وأصوليون ولاحظوا أيضًا كم يختلفون عنا».‏

بيد أنَّ الجانب الأوهى في أطروحة صدام الحضارات هو ذلك الفصل الصارم المزعوم بين الحضارات، على الرغم من الأدلة الساحقة التي تشير إلى أنَّ عالم اليوم هو في حقيقته عالم الاختلاط، والهجرة، والعبور. وإحدى الأزمات الكبرى التي تحيق ببلدان مثل فرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة هي تلك الأزمة الناجمة عن الإدراك الذي راح يبزغ الآن في كلِّ مكان أنَّ ما من ثقافةٍ أو مجتمعٍ يمكن اعتبارها أو اعتباره ذلك الشيء الواحد النقيّ. فالأقليات الضخمة - الشمال أفريقيون في فرنسا، والأفارقة والهنود والكاريبيون في بريطانيا، والآسيون والأفارقة في الولايات المتحدة - تدحض الفكرة التي ترى أنَّ بمقدور الحضارات التي تفاخر بتجانسها أن تواصل هذا التفاخر. فما من ثقافات أو حضارات معزولة. وأيُّ محاولة للفصل بينها وتحويلها إلى تلك الحجرات المنيعة المسدودة التي يدَّعيها هنتنغتون هي محاولة تسيء إلى تنوُّعها، وتعدُّدها، وتعقيد عناصرها، وهجنتها الجذرية. وكلَّما زاد إلحاحنا على انفصال الثقافات والحضارات، زاد ابتعادنا عن جادة الصواب حيال أنفسنا وحيال الآخرين. وتصوُّر حضارةٍ حصريةٍ أو مانعة هو، عندي، تصوُّر مستحيل. والسؤال الفعلي، إذًا، هو ما إذا كنا نريد العمل من أجل حضارات منفصلة أم أنَّ علينا أن نتَّخذ السبيل الأشدَّ تكاملاً، وربما الأصعب، فنحاول أن نرى إلى هذه الحضارات على أنها كلٌّ واحد شاسع يستحيل على شخص واحد أن يلتقط معالمه الدقيقة، لكن بمقدورنا أن نحدس بوجوده وأن نشعر به. وعلى أيِّ حال، فإنَّ عددًا من المتخصصين في العلوم السياسية، والاقتصاد، والتحليل الثقافي يتحدثون منذ سنوات عن نظام عالمي متكامل، اقتصادي إلى حدٍّ بعيد، هذا صحيح، لكنَّه مترابطٌ معًا، على نحوٍ يتجاوز كثيرًا من الصدامات التي يتحدث عنها هنتنغتون بكثير من التهوُّر والحماقة.‏

وما يغفله هنتنغتون على نحوٍ يثير أشدَّ الدهشة هو تلك الظاهرة التي كثيرًا ما يُشار إليها باسم عولمة رأس المال. ففي العام 1980 نشر فيلي برانت وبعض مساعديه تقريرًا بعنوان الشمال-الجنوب: برنامج من أجل البقاء. وقد لاحظ كتَّاب هذا التقرير أنَّ العالم بات منقسمًا إلى منطقتين لا متكافئتين أو متفاوتتين ذلك التفاوت الهائل: شمالٌ صناعيٌّ صغير، يضمُّ القوى الاقتصادية الأوروبية والأميركية والآسيوية الكبرى، وجنوب مترامي الأطراف، يضمُّ العالم الثالث السابق علاوةً على عدد من الأمم الجديدة شديدة الفقر. كما لاحظوا أنَّ المشكلة السياسية في المستقبل سوف تتمثَّل في تصوُّر العلاقة بين شمالٍ يزداد ثراءً وجنوبٍ يزداد فقرًا في عالم يزداد اعتماده المتبادل. واسمحوا لي الآن أن أقتبس من مقالةٍ لعارف ديرليك، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ديوك، تتناول قَدْرًا كبيرًا من الأساس الذي يتناوله هنتنغتون إنَّما بطريقةٍ أصوب وأشدَّ إقناعًا:‏

يساعد الوضع الذي خلقته الرأسمالية العالمية على تفسير ظواهر معينة برزت في العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة، خاصةً منذ الثمانينيات [من القرن العشرين]: تحرُّكات الشعوب (وتاليًا الثقافات) على نطاق عالمي، تداعي الحدود (بين المجتمعات، كما بين الفئات الاجتماعية)، تكرُّر ضروب اللامساواة والتعارض التي كانت تُقْرَن في السابق إلى الفوارق الكولونيالية داخل المجتمعات، التجانس والتفتت في آنٍ معًا ضمن المجتمعات وعبرها، تنافذ العالمي والمحلي، وتشوُّش التصور الذي كان ينظر إلى العالم على أنَّه مؤلَّف من ثلاثة عوالم أو من دولٍ أمم. ولقد أسهم بعض هذه الظواهر أيضًا في ظهور تسويةٍ للفروق ضمن المجتمعات وعبرها، وكذلك في ظهور الدمقرطة ضمن المجتمعات وعبرها. ومن السخرية أنَّ من يديرون هذا الوضع العالمي يسلِّمون هم أنفسهم بأنَّ لديهم الآن (أو لدى منظماتهم) القدرة على الملاءمة بين المحلي والعالمي، وعلى قبول الثقافات المختلفة في عالم رأس المال (فقط لتفكيكها وإعادة تركيبها تبعًا لمتطلبات الإنتاج والاستهلاك)، بل على إعادة تكوين الذوات عبر الحدود القومية لخلق منتجين ومستهلكين أسرع استجابةً لعمليات رأس المال. أمَّا أولئك الذين لا يستجيبون، أو «العاجزون تمامًا» وغير الضرورين لتلك العمليات - أربعة أخماس سكَّان العالم حسب تقدير هؤلاء المدراء - فلا حاجة لاستعمارهم؛ يكفي تهميشهم. فبعد الإنتاج المرن الجديد لم يعد من الضروري استخدام القسر الصريح ضدَّ العمل في الداخل أو في المستعمرات. وتلك الشعوب أو الأمكنة التي لا تستجيب لحاجات (أو مطالب) رأس المال، أو التي تذهب بعيدًا في استجابتها «الفعَّالة»، تجد نفسها خارج سكَّته بكلِّ بساطة. حتى إنَّه بات من الأسهل اليوم، قياسًا بما كان عليه الحال في ذروة الكولونيالية، أن يُقال الذَّنْبُ ذنبهم. (Critical Inquiry، شتاء 1994، 351).

إزاء هذه الوقائع الموقعة للكآبة في النفس بل المُنْذِرة بالخطر، يبدو الموقف الذي يرى أنَّ علينا في أوروبا والولايات المتحدة أن نحافظ على حضارتنا بصدِّ الآخرين، وأن نزيد الصدوع بين الشعوب بغية إطالة أمد سيطرتنا، أشبه بموقف النعامة التي تدفن رأسها في الرمال. وهذا، في حقيقة الأمر، هو موقف هنتنغتون، الذي يكشف لنا بكلِّ سهولة عن السبب وراء نشر مقالته في الـ Foreign Affairs، وانكباب كثير من صناع السياسة عليها إذ تتيح للولايات المتحدة أن تطيل أمد عقلية الحرب الباردة وتنقلها إلى زمن مختلف وجمهور جديد. غير أنَّ الأخْصَب والأَنْفَع بكثير هو عقليةٌ عالميةٌ جديدة ترى إلى الأخطار التي نواجهها من موقع البشرية جمعاء. ومن بين هذه الأخطار إفقار معظم سكَّان البسيطة؛ وظهور عصبيات محلية، وقومية، وإثنية، ودينية خبيثة، كما هو الحال في البوسنة، ورواندا، ولبنان، والشيشان، وسواها؛ وتدهور التعليم وهجمة أميَّةٍ جديدة ناجمة عن انتشار وسائل الاتصال الإلكترونية، والتلفزيون، والسُبُل الفائقة والعالمية لتدفُّق المعلومات؛ وتفتُّت سرديات التحرُّر والتنوير الكبرى واحتمال اندثارها الخطير. وأثمن ذخيرة لدينا في مواجهة مثل هذا التحول الرهيب الذي يعتري التراث ويعتري التاريخ هو بروز حسِّ الجماعة، والتفاهم، والتعاطف، والأمل ممَّا يشكِّل النقيض الفعلي المباشر لما يثيره هنتنغتون في مقالته. واسمحوا لي أن أورد بعض الأبيات للشاعر المارتنيكي العظيم إيميه سيزار كنتُ قد استخدمتها في كتابي الأخير الثقافة والإمبريالية:

لكن عمل الإنسان لم يكد يبدأ‏
ولا يزال عليه أن يتغلب‏
على جميع التحريمات المنغرزة في أعماق حميَّته‏
ليس لعرق أن يحتكر الجمال،‏
والذكاء، والقوة،‏
وثمَّة متَّسع للجميع في موعد النصر‏.

مثل هذه العواطف، بما تُلْمِعُ إليه، تمهِّد الطريق أمام انحلال الحواجز الثقافية وضروب الافتخار الحضاري التي تحول دون ذلك النوع من العالمية الحميدة التي نجد إرهاصاتها لدى حركات البيئة، وفي التعاون العلمي، والاهتمام الكوني بحقوق الإنسان، ومفاهيم الفكر العالمي التي تعلي من شأن الجماعة والمشاركة على حساب السيطرة العرقية، أو الجنسية، أو الطبقية. ولذلك، يبدو لي أنَّ الجهود المبذولة في إعادة مجموعة الحضارات إلى مرحلةٍ بدائية من الصراع النرجسي لا ينبغي أن تُفهَم على أنها توصيف للكيفية التي تعمل بها هذه الحضارات في حقيقة الأمر بل تحريضٌ على صراع مدمِّر وشوفينية تنشر الظلام. وهذا على وجه التحديد ما لسنا بحاجةٍ إليه.

***

المُعْتَمَد المُكَرَّس، canon، مفهوم ذو أصول مسيحية يشير إلى مجموع النصوص الدينية المُعتَمَدة والمكرَّسة على أنها "صحيحة" و"موثوقة" ومقدسة تاليًا. وذلك بخلاف النصوص المشكوك في صحَّتها والتي تُدعى بـ"الأبوكريفا". وقد انتقل هذا المصطلح إلى الدراسات الأدبية والنقدية ليشير إلى مجموع النصوص المُعتمَدة والمكرَّسة ضمن تراث محدَّد أوفي حقل معرفي معيَّن، تبعًا لمعايير أو قيم معينة بحيث تشكِّل وحدة نصِّيَّة اُضفي عليها ضرب من التجانس أو اعْتُبِرَت كذلك. كما يمكن إطلاق هذا المصطلح على أعمال مؤلِّف تُقْبَل على أنها صحيحة وموثوقة، كأن نقول المُعتمَد الشكسبيري.

ترجمة: ثائر ديب

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ مجلة الآداب العالمية، عدد خريف 2007.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود