|
إضاءات
تُعتبر "الذاكرة" قوة مذهلة للذات الإنسانية ويعود ذلك للدور المهم الذي تؤديه في جعل المكان أكثر سموًا وروحانية وذلك من خلال منحها الموضوعات المادية التي تعرفها أو تلك التي تتخيلها وجودًا غير مادي. إضافة إلى ذلك، ما من أحدٍ يستطيع أن يُنكر دور "الذاكرة" البارز أيضًا إزاء الزمن، فمن خلال قدرتها على حثِّ الصور المحفوظة في رحاب ميدانها الداخلي للمشاركة بفعَّالية في الديمومة الداخلية للزمن يستطيع هذا الأخير أن يسمو ويصبح أكثر روحانية. لا يمكن حصر موضوع "الذاكرة" فقط بالأشياء العابرة أو المُتحركة، ففي رده الشهير على نبريديوس Nebridius، دحض القديس أوغسطين هذه الفكرة قائلاً: لا بدَّ من التنويه بأن ما يمكننا تذكره ليست فقط الأشياء العابرة، وإنما أيضًا، وفي أغلب الأحيان، الأشياء التي تستمر في وجودها.
مصير المفقودين وإظهار حقائق ما جرى وتحديد المسؤوليات ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم عبر المؤسسات القانونية والقضائية، وهذا شرط لازم وواجب وضروري، فلا يمكن أن تبرد روح الثأر والانتقام ومحاصرة الفوضى المحتملة، ما لم يشعر المتضررون بأن حقوقهم لن تضيع وأن المرتكب لن يفلت من العقاب، ولا يمكن الإنسان أن يغذي انتماءه إلى المجتمع ويساهم ببنائه إذا لم يطمئن إلى أنه سيحصل على العدالة.
المرَّة تلو الأخرى نعاود استرجاع مجريات الأحداث. والمرَّة تلو الأخرى نعاود التفكير بها من مختلف جوانبها من أجل فهم طبيعتها وتلمُّس خباياها. والمرَّة تلو الأخرى نكتشف أنها أعقد مما كنَّا نتصور. وأنه، إذا شئنا الخروج من المأزق الذي نحن فيه بمحصلةٍ إيجابية قدر الإمكان، يجب علينا تفهم الأوضاع بكامل تعقيداتها وتداخلاتها. ومع التأكيد على تمسُّك كامل بالمبادئ والقيم، نكتشف أنه يجب التحلِّي ببعض الذرائعية... أليس كذلك يا صديقي؟ لأني اليوم، وأنا أكتب ما أكتب، أسترجع حديثنا الأخير حين طلبت منك مساعدتي على إنجاز هذا الكتاب، فأجبتني بالإيجاب. لكن، حين أكَّدت على ضرورة أن تكون موضوعيًا إلى أقصى حدٍّ في بحثك، وأن تكون في الوقت نفسه ذرائعيًا قدر الإمكان، أجبتني: - قد لا يكون بوسعي ذلك يا "طائر الليل"، قد لا يكون بوسعي ذلك لأني ألتزم في هذا الصراع جانبًا معينًا. - وأنا أيضًا ألتزم الجانب نفسه يا صديقي. أنا أيضًا منحاز بالكامل إلى ما تعنيه هذه الثورة من حرِّية وكرامة. لكن... الواقع يبقى أعقد – وربما أقذر - بكثير من تصوراتنا وتقويماتنا. لذلك، فلنحاول التفكير معًا فيما يجري، مبتدئين بذلك الجدل الدائر حول طبيعة ما نعيشه اليوم، وهل هو ثورة، كما تؤكِّد أوساط المعارضة، أم أنه حرب أهلية كما تقول بعض الجهات الدولية؟
1.
لم تكن الأحداث التي عصفت بمدينة حماه ذلك العام هي
الأولى من نوعها بعد انقلاب الثامن من آذار 1963، فلقد عاشت المدينة أحداثًا
مشابهة في شهر نيسان من العام 1964، لكن على نطاق أضيق وحصيلة من الضحايا
والدمار أقل.
-1- لم يكن أحدًا ليتوقع بأن منظمة "شبيبة هتلر" (Hitler-Jugend) البائسة التي أعلن عن تأسيسها في اجتماع الحزب النازي السنوي عام 1926 في مدينة فايمار، ذات التاريخ الثقافي العريق، سيكون لها شأن كبير في الفترة اللاحقة من عمر الرايخ الثالث حين استولى الحزب على السلطة في مفارقة تاريخية، جعلت أحد المضطربين نفسيًا يتربَّع على رأس أعلى سلطة في بلاد الجيرمان. كان هتلر لا يمل هذيانًا عن دور الأطفال واليافعين في التأسيس والمساهمة في بناء جبروت القوة الألمانية العارية التي بشَّر فيها في كتابه الشهير مستندًا إلى أصول عرقية لا تعرف للمنطق حدودًا. بعد عبورها من شبيبة "حزبية" إلى شبيبة "الدولة" ومع تلبُّد غيوم الحرب العالمية عشية العام 1939 صدر قانون "الخدمة الإلزامية للشبيبة" الذي ما أن جف حبره إلا وقد كان ما يقارب 8 ملايين طفل ويافع ألماني ونمساوي دون سن الثامنة عشرة، ومن كلا الجنسين، ملتحقين بهياكله وملتزمين بنشاطاته التي أصبحت مميتة بعد حين. تلقى هؤلاء الأطفال واليافعين تربية صارمة ووضعوا في معسكرات كانت أشبه بالثكنات العسكرية رغم وجود بعض النشاطات التي تسمح لهم بنوع من الإحساس بالمغامرة وحب الفضول الشقي. لم تكن نشاطاتهم تقف عند جمع مخلَّفات الأسلحة والمساعدة في بعض أعمال الصيانة والبناء، والاطلاع على صنوف الأسلحة والمثابرة على دروس "فلسفة الأعراق" الخالدة وتعاليم "الدين النازي" الجديد فحسب، وإنما تعدَّتها إلى المشاركة في الأعمال العسكرية القتالية واللوجستية، التي كانت تتزايد تباعًا مع دخول الحرب أوقاتها الحالكة واشتداد المعارك حول وداخل المدن الألمانية الكبرى. مع الإشارة إلى أن من يشتدُّ عوده منهم يتم تزكيته لفرق العاصفة، إحدى أشرس الفرق القتالية الألمانية
من حيث المبدأ، سقط النظام السوري منذ أول رصاصة أطلقها في 18 آذار (مارس) 2011 على متظاهرين سلميين خرجوا إلى الشارع يهتفون للحرية والإصلاح. واقعيًا، ليس من الممكن تحديد إطار زمني لرحيل النظام والتأسيس لمرحلة انتقالية تقود إلى سورية جديدة. ولكن من نافل القول إنه لا يمكن نظامًا قتل أكثر من ثلاثين ألفًا من مواطنيه، تسبب في مقتل آلاف أخرى من جنوده ومؤيديه، اعتقل وعذب مئات الآلاف، هدم البنية التحتية لبلاده ودمر اقتصادها، دمَّر النسيج الاجتماعي بين العناصر المكونة للأمة، وعزل سورية عن محيطها العربي ومجالها الدولي، أن يستمر في حكم بلده وشعبه.
في البدء كان الوجود مختلفًا، فالاختلاف هو السمة الأكثر جوهرية وموضوعية للوجود. الوجود لا يكون إلا مختلفًا، لذلك فهو لا يُسأل عن سبب اختلافه. في الحقل البشري الاختلاف موجود في الخَلق والخُلق، في القدرات والطموحات، في الوقائع والنظرات، في التفرد والاجتماع... إلخ. الاختلاف بهذا المعنى هو الحقيقة الكبرى، هو الحق بذاته، هو الحياة ونداؤها، هو مولد الحركة، هو الباعث على التقدم والتطور، هو الوجود وتاريخه...
في متابعتنا لفكر سعد الله ونوس وعبر واحدة من مقابلاته التلفزيونية، تجذبنا جملة عميقة في مضمونها وغنية في معانيها تقول إن حرية الكاتب لا تكتمل إلا بحرية القارئ. تعطي هذه الفكرة، ذات البعد الإنساني، الأولوية للذات الجماعية وليس للذات الفردية؛ هي فكرةٌ تدل على انهمامٍ بالشأن العام وميلٍ لبناء آلية تواصلية مع الآخرين، وتشير أيضًا إلى محاولة ونوس الابتعاد عن تنظير أُحادي الجانب والاهتمام بوعي القارئ قبل التقوقع داخل تأملاته الشخصية وأفكاره المُجرَّدة. لقد سبق لسارتر الانطلاق من "الأنا" للتأكيد على أنَّ الحرية تتمثل في قدرة وعي "الأنا" على تجاوز ما هو كائن، أو هي قدرة "الأنا" على تجاوز ماضيها وحاضرها من أجل تحقيق المستقبل الذي تستطيعه وتتمناه، من هنا قال ساتر في كتابه الوجود والعدم: "إنني مُدان بأن أكون حرًا". بالمقابل، لا يرى ونوس حريته إلا من خلال حرية الآخرين، أي إن عدم تحقق حرية القارئ يؤدي لانعدامها لدى "أنا" الكاتب وذلك لسبب واضح مفاده أن هذه "الأنا" لا تنفصل عمليًا عن المجتمع الذي تكتب عنه ومن أجل قضايا ومشكلات أفراده. يتساءل ونوس، خلال هذا اللقاء، كيف يُمكن لشخص مُقيَّد السلوك والإرادة ومَنزوع الأمل والرجاء حضور مسرحية يتغنى أبطالها بمعاني الحرية وبمفردات تدعو لكسر قيود الاستبداد العقلي والسياسي؟ وما هي ثمرات الكلام ومدح الحرية بشكل منفرد؟ بعبارة أخرى، ما فائدة التغريد بأصوات منفردة في مجتمع مُغلق ومُتحجر، وكيف يمكن لإنسان مسلوب الحرية حضور مسرح يتغنى بهذه القيمة المثلى؟..
ريشار جاكمون [ريتشارد جاكموند] (Richard Jacquemond) مستعرِب فرنسي ومترجم وباحث في معهد البحوث والدراسات حول العالَم العربي والإسلامي (IRÉMAM) (Institut de Recherches et d'Études sur le Monde Arabe et Musulman) وأستاذ الأدب الحديث واللغة العربية في جامعة إيكس-مرسيليا (Aix-Marseille Université) في جنوب فرنسا. وهو دارِسٌ متميِّز للأدب العربي وخبير في سوق النشرالمصرية. وُلِدَ عام 1958 في سانت إيتيين [سانت إتيان] (Saint-Étienne) في إقليم اللوار (la Loire) جنوب شرق فرنسا. نال درجةَالدكتوراه عام 1999 على رسالته التي تتناول الحقلَ الأدبي في مصر، وهي دراسة مهمة في سيوسولوجيا الأدب بعنوان: Entre scribes et écrivains. Le champs littérairedansl’Égyptecontemporaine. وقد تُرجِمَت إلى العربية بعنوان: بين كَتَبَةٍ وكُتَّاب: الحقل الأدبي في مصر المعاصرة. كما صدرَت لها طبعةٌ إنكليزية عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة. يصف حياتَه بأنها أشبه بفيلم عربي قضى منها ستَّ عشرة سنة في مصر. ترجمَ العديدَ من المؤلَّفات الأدبية العربية إلى اللغة الفرنسية وخاصة بعض أعمال الروائي المصري صُنْع الله إبراهيم. |
|
|