عن الترجمة والاستشراق: المترجم بين التبعية والاستقلالية

لقاء مع ريشار جاكمون

 

ريشار جاكمون [ريتشارد جاكموند] (Richard Jacquemond) مستعرِب فرنسي ومترجم وباحث في معهد البحوث والدراسات حول العالَم العربي والإسلامي (IRÉMAM) (Institut de Recherches et d'Études sur le Monde Arabe et Musulman) وأستاذ الأدب الحديث واللغة العربية في جامعة إيكس-مرسيليا (Aix-Marseille Université) في جنوب فرنسا. وهو دارِسٌ متميِّز للأدب العربي وخبير في سوق النشرالمصرية. وُلِدَ عام 1958 في سانت إيتيين [سانت إتيان] (Saint-Étienne) في إقليم اللوار (la Loire) جنوب شرق فرنسا. نال درجةَالدكتوراه عام 1999 على رسالته التي تتناول الحقلَ الأدبي في مصر، وهي دراسة مهمة في سيوسولوجيا الأدب بعنوان: Entre scribes et écrivains. Le champs littérairedansl’Égyptecontemporaine. وقد تُرجِمَت إلى العربية بعنوان: بين كَتَبَةٍ وكُتَّاب: الحقل الأدبي في مصر المعاصرة. كما صدرَت لها طبعةٌ إنكليزية عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة. يصف حياتَه بأنها أشبه بفيلم عربي قضى منها ستَّ عشرة سنة في مصر. ترجمَ العديدَ من المؤلَّفات الأدبية العربية إلى اللغة الفرنسية وخاصة بعض أعمال الروائي المصري صُنْع الله إبراهيم.

محمد علي عبد الجليل

***

محمد علي عبد الجليل: بدايةً، ما الذي شدَّك إلى دراسة اللغة العربية وآدابها؟ وإلى مصر بصورة خاصة؟

ريشار جاكمون: في بداية شبابي، كان لديَّ مشروع سياحي، وهو أنْ أتجوَّلَ في بقاع العالَم. لم يكنْ لديَّ آنذاك أيُّ مشروع مهني. أردْتُ أنْ أنفِقَ ما كان لديَّ من مالٍ في السياحة في بلدان العالَم. بعد أنْ أنهينا رحلَتنا الأولى في بداية الثمانينات في أمريكا الجنوبية واستمتعنا بها. قررنا، أنا ورفيقتي، أنْ نقوم برحلة حول المتوسط. كنتُ أتخيَّـلُ أنَّ السكَّانَ يتكلَّمون لغةً واحدةً وأنه يمكننا أنْ نتجوَّل في حوض المتوسط مستخدمين لغةً واحدةً كما هي الحال في أمريكا الجنوبية. وتحضيرًا لهذا المشروع، قررتُ أنْ أتعلَّمَ اللغةَ العربية. ولم أكنْ وقتذاكَ أعرِفُ أنَّ هناكَ لهجاتٍ مختلفةً فيما بينها وأنَّ الفرق بين اللهجات العربية أكبر بكثيرٍ من الفَـرْق بين اللهجات الإسبانية في أمريكا الجنوبية (الـﭙـيرو والمكسيك وغيرهما).

وهكذا سجَّـلْتُ في قسم اللغة العربية في جامعة إيكس-أون-ﭙـروﭭـانس فقط بهدف القيام بهذه الرحلة المتوسطية التي لم تتمَّ قطُّ. وعندما بدأْتُ دراستي في السنة الأولى شدَّتني اللغةُ العربيةُ فأخذْتُ أَدْرُسُها بكل جدِّية. وصادفَ أنِ افتتحَتِ الحكومةُ الفرنسيةُ مركزًا لتعليم اللغة العربية في القاهرة يقدِّم دروسًا مكثَّفة. وخصَّصَتْ مِـنَـحًا للطلبة المتفوِّقين الذين أمضوا سنةً دراسية في اللغة العربية والذين يمتلكون مشروعًا بحثيًا أو مهنيًا. وحصلْتُ على منحة وذهبتُ إلى مصر. صحيح أنَّ مشروع الرحلة المتوسطية السياحية لم يتمَّ، لكنه استُبدِلَ فيما بعد برحلة إلى مصر لمدة تسعة أشهر. وهكذا بدأَتْ رحلتي مع الأدب العربي.

محمد علي عبد الجليل: لماذا اخترتَ ترجمةَ أعمال كُتَّاب مصريين مثل صنع الله إبراهيم دون غيرها من الأعمال العربية الأخرى؟

ر. ج.: ذلك لأنني، باختصار، كنتُ مقيمًا في مصر. وقد بدأْتُ بالترجمة وأنا ما زِلْتُ في السنة الثانية من دراسة اللغة العربية في القاهرة.

محمد علي عبد الجليل: بخصوص الترجمة، ماهي علاقة الترجمة بالاستشراق؟ وما علاقة الاستشراق بالاستعمار؟ وإلى أي مدى ساهمَ الاستشراقُ بتنشيط حركة الترجمة العربية؟

ر. ج.: يمكن أنْ نقولَ بأنَّ الاستشراقَ هو مشروعُ ترجمةٍ بامتيازٍ سواءً بالمعنى الحقيقي أم المجازي. لقد لعبَ دورًا رائدًا في حركة الترجمة العربية بدليلِ أنه بعدما تَرجمَت حركةُ الاستشراق الثقافةَ العربيةَ إلى اللغات الأوروبية عاد العربُ وترجموا الأعمالَ الاستشراقية إلى اللغة العربية، بمعنى أنهم قاموا بترجمة الترجمة. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك. لقد حلَّلْتُ هذه الظاهرةَ وأعطيتُ بعضَ الأمثلة عليها في مقالي المعَنْون:«La production orientaliste en traductionarabe:traductionou retour à l’original?» الإنتاج الاستشراقي في الترجمة العربية: ترجمة أم عودة إلى الأصل؟»] والمنشور في الكتاب الجماعي الذي يحمل العنوانَ:Après l’orientalisme [بعد الاستشراق] (الصادر في باريس، 2011). فمثلاً، مؤلَّفات جاك بيرك (Jacques Berque) ومكسيم رودِنْسون (Maxime Rodinson) ومحمد أركون وغيرهم مترجَمة كلُّها تقريبًا إلى العربية. في ذلك المقال، ضربْتُ مثالاً كتابَ برنارد لويس (Bernard Lewis) بعنوان: What Went Wrong?: Western Impact and Middle Eastern Response [أين كان الخطأ؟ تأثير الغرب واستجابة الشرق الأوسط] الذي تُرجِمَ مرَّتَينِ إلى العربية[1] وذلك لأُبَـيِّـنَ أنَّ الثقافة العربية المعاصرة تولي أهميةً كبيرةً للنظرة الاستشراقية.

أما بخصوص علاقة الاستشراق بالاستعمار، فإنني مؤمن بأفكار إدوارد سعيد وأرى أنَّ الاستشراق مشروع استعماري، ولذلك فإنَّ صورته سلبية. ولكنَّ الاستشراق سابق للاستعمار ومستقل ذاتيًا عنه (autonome) إلى حد ما. فالاستقلالية قانون عام لكي يتقدَّم العِلْمُ. والعلماء يطمحون منذ القديم (منذ سقراط) إلى الاستقلالية عن السلطة. فالاستشراق، كمجال علمي، مستقل نسبيًا عن السياسي والديني والإيديولوجي، ولكنه بالمقابل تابع إلى حد ما للسياسي والديني والإيديولوجي. هذه هي طبيعة النشاط الإنساني التي يشوبها النزاع بين الاستقلالية والتبعية. رسالةُ الدكتوراه (بعنوان: بين كَـتَـبَةٍ وكُـتَّـاب) التي قمْتُ بها تتمحور حول الفكرة نفسِها. فهي تحليل للتاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجال الأدبي في مصر المعاصرة. قمتُ بدراسة هذا التذبذب بين النزعة نحو الاستقلالية والنزعة نحو التبعية. عنوان الأطروحة يحتوي على لعب بالألفاظ: بين لفظة "كَـتَـبَـة" (جمع: "كاتِب"، بمعنى: كاتب الأمير أو كاتب المحكمة، وهي درجة في الإدارة، أيْ: كاتب تابع للسلطة) وبين لفظة "كُـتَّـاب" (جمع: "كاتِب"، بمعناه المعاصر، أيْ: كاتب مستقل عن السلطة). هناك إذًا "كاتِب" تابع للسلطة (وجمعُه: "كَـتَـبَـة") وهناك "كاتِب" مستقل نوعًا ما عن السلطة (وجمعُه: "كُـتَّـاب"). فالكاتب والعالِم يعيشان أساسًا في نزاع بين التبعية لسلطة خارجةٍ عن نشاطهِما الأدبي أو العلمي وبين طموحهما إلى الاستقلالية عن هذه الضغوط الخارجية.

فالأطروحة تَدْرُس التناقضاتِ في الهوية المزدوجة للكُـتَّاب الذين يعملون في مؤسسات السلطة. فهُمْ، من جهة، يُـعَـدُّون "كَـتَـبَـةً" لأنهم يكتبون ما تمليه عليهم السلطةُ أو ما يوافق سياستَها. ولكنهم، من جهة أخرى، يُـعَـدُّون "كُـتَّـابًا" لأنهم يمارسون الكتابة الإبداعية التي تفترض منهم الاستقلالية وعدم التبعية.

محمد علي عبد الجليل: ما رأيك بحركة الترجمة العربية في العصر الحديث؟ هل هناك ضعف في الكم والكيف كما يقال؟ البعض ينظر إلى الكم الضئيل من الكتب المترجمة من وإلى العربية مقارنةً بلغات أخرى فيحكم على حركة الترجمة بالضعف. ما هي الشروط التي ينبغي أنْ تُحقِّـقَها حركةُ الترجمة في بلد ما (أو لغة ما) حتى يمكننا القول عنها بأنها حركة متقدمة وجيدة؟

ر. ج.: تحليلي لواقع الترجمة العربية هو تحليل سوسيولوجي، ذلك لأنَّ تكويني العلمي في الأساس كان في مجال العلوم الإنسانية وعلم الاجتماع. وبالتالي فإنَّ مدخلي أو لنقلْ مقاربتي للثقافة العربية هي مقاربة سوسيولوجية. عندما أنظر إلى حركة الترجمة العربية المعاصرة فإنني أراها من منظور سوسيولوجي. بمعنى أنني عندما أقرأ الخطابَ السائد عن الترجمة عند المثقفين العرب فإنني أرى أنه خطابُ نقْص. أيْ أنني أحلِّلُ هذا الخطابَ تحليلاً سوسيولوجيًا. فالمشتغلون في مجال الترجمة يرون أنَّ هناك نقصًا في حركة الترجمة العربية من جميع النواحي إنْ مِن حيثُ الكَمِّ أَمْ مِن حيثُ الكيف. يمكن أنْ نلخِّصَ كلَّ الخطاب العربي عن الترجمة بأنه خطاب نقْص (يقولون: "لا نترجم كفاية"؛ "نسيء الاختيار"؛ إلخ.) فأتساءل: لماذا يتحدَّثون عن النقص؟ من أين أتت فكرةُ النقص هذه؟ لا يهمُّني أنْ أعرفَ إنْ كان هناك نقصٌ أم لا. ما يهمُّني، كمراقب خارجي أولاً وكفاعل في حركة الترجمة ثانيًا، هو أنْ أعرفَ لماذا يشعرون بالنقص. خطابُ النقص هذا يدلُّ على أنَّ العقول مازالت مستعمَرة، لأنَّ أصحابَ هذا الخطاب يرون أنَّ العربَ متأخِّرون دائمًا عن رَكْب الحضارة بقطارٍ أو قطارين أو حتى ثلاثة، يرون أنَّ الآخر متقدِّم عليهم وأنهم متأخِّرون عنه. هذا الشعورُ بالنقص ناجمٌ عن كون المجتمعات والثقافة العربية مستهلِكةً أكثرَ مما هي منتجة (سواء للأشياء أم للأفكار). وهنا ينبغي إجراء تحليل اقتصادي وسوسيولوجي وسياسي (تحليل للعلاقات الدولية) لكي نفهم كيف أصبحَت هذه المجتمعاتُ تَستهلِكُ أكثرَ مما تُـنتِـج، مما أدَّى إلى تشكُّل عقدة النقص فيها.

محمد علي عبد الجليل: ما تقوله يُذكِّرُنا بصرخة جبران خليل جبران الشهيرة في وجه أُمَّـته منذ حوالي مئة عام: "ويلٌ لأُمَّةٍ تلبس مما لا تنسج وتأكل مما لا تزرع وتشرب مما لا تعصر".

ر. ج.: نعم هذه هي المشكلة. إذًا، ليس دوري أنْ أحكمَ على حركة الترجمة. لا يهمُّني التقييم أو إطلاق الأحكام. أحاول، كمراقب، أنْ أفهمَ الواقعَ. أمَّا مهمة التقييم فتقع على أصحاب الشأن والفاعلين في مجال الترجمة.

محمد علي عبد الجليل: ولكنَّك، بالإضافة إلى كونك مراقبًا خارجيًا، أنت فاعل أيضًا في مجال الترجمة. فما هو رأيك الشخصي بحركة الترجمة العربية؟

ر. ج.: حركة الترجمة العربية تأخذ منحىً متعرِّجًا بين صعود وهبوط. ربما كانت في الخمسينات والستينات قويةً ثم تراجعَت قليلاً في الثمانينات. والآن هناك حركة جيدة. من جهة أخرى، لا يمكن إطلاق حُكْم عام على حركة الترجمة العربية، لأنَّ المسألة تتعلَّق بكل بلد على حِدَة وترتبط بحركة سوق الكِتاب وواقع النشر.

محمد علي عبد الجليل: يعني أنَّ المسألةَ اقتصاديةٌ بحتة؟

ر. ج.: ليست فقط اقتصاديةً، بل سياسيةٌ أيضًا، لأنَّ الدول تتحكَّم بالإنتاج الثقافي. فالحكومات تخاف من سلاح الثقافة فتتحكَّم به.

محمد علي عبد الجليل: وحريةُ التعبير ألا تؤثِّر على حركة الترجمة؟

ر. ج.: طبعًا. حرية التعبير ومشاكل الرقابة تؤثِّر كثيرًا. باختصار، تنتعش حركةُ الترجمة عندما ينتعش الكِتابُ وعندما تنتعشُ الحريةُ الاقتصادية والسياسية والفكرية. هناك كُتُب من التراث العالمي (أدبية أو علمية) غير مترجَمة لأسباب تتعلَّق بالرقابة. المشكلة إذًا ليست في حركة الترجمة، بل في الثقافة والسياسة بشكل عام وفي سياسات صناعة الكتاب بشكل خاص. المزعِج في الخطاب العربي عن الترجمة هو أنه يعزِل موضوعَ الترجمة عن سياقه العام المتمثِّـل في سوق النشر والظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. حركةُ الترجمة مرتبطة بسوق النشر. ما هي أهداف الناشر؟ مثلاً، عندما يكون هدفُ الناشرُ الربحَ فقط (وهذا ليس عيبًا) يختار ترجمةَ الكتب الأكثر مبيعًا (الرائجة bestsellers). أنا مع الحرية التامة. سوق النشر تتَّسع للجميع. وهنا أريد أنْ أنوِّهَ إلى أنَّ دَور الدولة، هذا إذا كان لها دَورٌ أصلاً، هو المساعدة في ترجمة الكتب التي لا تُباع بسهولة. نلاحظ أنَّ الباحثين والمشتغلين في الشأن الترجمي يتحدَّثون عن مشاكل الترجمة بمعزل عن منطق السوق، في حين أنه يجب علينا أنْ نعترفَ بمنطق السوق، لأنَّ الكِتاب في النهاية منتَجٌ مزدوَج: اقتصادي وثقافي، وبالتالي لا بدَّ أنْ يخضعَ لمنطق السوق. ولكنَّ المشكلة هي أنهم يَنْظُرون إلى صناعة الكتاب من منظور واحد فقط.

محمد علي عبد الجليل: ولكنْ ما هي المشاكل التي تواجه حركةَ الترجمة العربية المعاصرة برأيك؟

ر. ج.: يمكن أنْ نلَخِّصَ مشاكلَ الترجمة العربية المعاصرة في: مشكلة الحرية وضعف سوق النشر والتوزيع وأخيرًا ضعف جودة الترجمة. والمسؤولية لا تقع على المترجِم فقط، بل على الناشر أيضًا. لماذا ينشر الناشرُ ترجمةً غير مفهومة؟ يجب على الناشر أنْ يعرِفَ من هو المستهلِك؟ إلى من يوجِّه الترجمةَ؟

محمد علي عبد الجليل: كيف تنظر إلى مفهومَيْ الأمانةِ والخيانةِ في الترجمة؟ هل هناك ترجمة أمينة وترجمة خائنة أو مترجِم أمين ومترجِم خائن؟

ر. ج.: نعم. هناك ترجمة أمينة وهناك ترجمة خائنة. ولكنَّ الناشر يَـنْـظُر إلى الترجمة هل هي جيدة أم سيئة، مقروءة ومفهومة ومهضومة أم لا. أصلاً، كلُّ المترجمين يلعبون بالنص. الترجمة هي لعِب في الأساس. هناك مقال لبشير السباعي في مجلة فصول بعنوان: المترجِم ممثِّـلاً (بمعنى التمثيل الكوميدي) يتناول هذه الفكرة. المترجِم الجيِّد هو ممثِّل جيِّد.

محمد علي عبد الجليل: إلى أي مدى يمكن للترجمة أنْ تُسبِّبَ إضاعةَ المعنى أو تشويهَه بدلاً من نقله والمحافظة عليه؟ فمثلاً تشير سيمون ﭭـايل (Simone weil) في كتابها رسالة إلى رجل دين إلى أنَّ ترجمة كلمة لوغوس بكلمة ﭭيربوم (كلمة) قد أضاع شيئًا من المعنى. تقول سيمون ﭭـايل: "إنَّ مجرَّد ترجمة كلمة لوغوس Logos بكلمة ﭭيربوم Verbum يشير إلى أنَّ هناك شيئًا ما قد ضاع، لأنَّ كلمة Logos تعني قبل كل شيء علاقة rapport، وتُرادِف كلمةَ أريثماس arithmas، أيْ: عدد، عند أفلاطون والفيثاغوريين. العلاقة تعني التناسب proportion. والتناسب يعني التناغم harmonie. والتناغم يعني الوساطة médiation. ربما أترجمه كذا: في البدء كانت الوساطة [الشفاعة].

ر. ج.: تساهِم الترجمةُ بالتأكيد في ضياع المعنىَ. ولكنْ في القراءة أيضًا ضياع أو فقدان في المعنى. كلُّ نصٍّ قابلٌ لعدد لانهائي من القراءات والمعاني، بحسب جاك دريدا (Jacques Derrida). الترجمات المتعددة لنص واحد ليست سوى قراءاتٍ لهذا النص. والقراءةُ تُنقِصُ في المعنى بمقدار ما تزيد فيه. وبالتالي فإنَّ الترجمة، كقراءة، هي نقْصٌ بقدَر ما هي زيادة. أيةُ قراءةٍ [أو ترجمة] تُضفي على النص معانيَ لم تكنْ بحسبان المؤلِّف، هذا إذا كان هناك مؤلِّف في الأصل. إنَّ "عقدة" الأصل هي التي تُولِّد عقدةَ النقص. ما دمتَ تؤْمِنُ بفكرة الأصل فهذا يعني أنكَ تؤمنُ بفكرة النقص. هذه الفكرة هي نفسها فكرة الكولونيالية [الاستعمارية]. فالمترجمون العرب يسيطر عليهم إيديولوجيا النقص، لأنهم يرون أنفسَهم فرعًا بالنسبة للأصل الذي هو المستعمِر، بمعنى أنَّ المستعمَر هو صورة ناقصة ومشوَّهة عن المستعمِر. هذه هي عقدة الخواجة[2]. يمكن بهذا الصدد الاطِّلاع على كتاب ألبير [ألبرت] ميمي (Albert Memmi) [كاتب فرنسي-تونسي يهودي] Portrait du colonisé, précédé du portrait du colonisateur (1957) (صورة المستعمِر والمستعمَر) والذي تُرجِمَ في لبنان في الستينات. فكرةُ الأصلِ والفرعِ نفسُها موجودةٌ في الترجمة أيضًا، وهي أنَّ الترجمةَ صورةٌ ناقصةٌ ومشوَّهةٌ عن أصلٍ موجود، في حين أنه لا أصلَ أصلاً.

نعود إلى فكرة الضياع في الترجمة. صحيح أنَّ هناك شيئًا ما قد ضاع في أية ترجمة، ولكنْ لماذا نهتمُّ بالضياع ولا نهتمُّ بالعثور؟ لماذا نهتمُّ بما فقدناه ولا نهتمُّ بما كسبناه من معانيَ جديدة؟ لماذا نهتمُّ بالنقصان ولا نهتمُّ بالزيادة؟ في عملية الترجمة، نفقد شيئًا بمقدار ما نكسب شيئًا آخر. مِنَ الطوباويةِ إذًا القولُ بأنَّ هناك شيئًا أصليًا ينبغي الرجوع إليه، إذْ ما مِن شيءٍ اسمُه أصْل.

محمد علي عبد الجليل: هل ترى أنَّ ترجمة العمل الأدبي هي أحد معايير نجاحه. فكثيرًا ما يقال أنَّ الكاتب الفلاني قد تُرجِمَت أعمالُه إلى كذا لغة في إشارة إلى نجاحه وأهميته، وكما يقول المترجم والمؤرخ والفيلسوف الفرنسي إرنست رينان (Ernest Renan) (1823 - 1892): "العمل غير المترجَم هو عمل نصف منشور". ("Uneœuvre non traduiten’estqu’àmoitiépubliée.").

ر. ج.: نعم. ويمكن أنْ نرى في عبارة رينان هذه صياغةً للفكرة نفسها التي قال بها جاك دريدا (1930-2004) بعد قرن، وهي فكرةُ أنَّ العمل الفكري ليس "أصلاً"، أيْ ليس "نسخةً أصلية"، بمعنى أنه [مع الوقت] يتحدَّد ويتجدَّد من خلال مجموع القراءات التي تتولَّد عنه، وبالتالي يتحدَّد ويتجدَّد أيضًا من خلال مجموع الترجمات التي تَنتُج عنه.

محمد علي عبد الجليل: أخيرًا، ما هي أعمالك الحالية؟

ر. ج.: لديَّ مقالات كثيرة عن الترجمة. سأقوم بجمعها وترتيبها ونشرها في كتاب.

الخميس، 8/11/2012

حاوره: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]كتاب برنارد لويس What Went Wrong?: Western Impact and Middle Eastern Response (الصادر عام 2002) ترجمَه المترجمُ السوري عماد شيحة بعنوان: أين يكمن الخطأ؟ (دمشق، 2006، دارالرأي) كما ترجمَه المترجِم المصري محمد عِناني بعنوان: أين الخطأ؟ (القاهرة، 2003).

[2] عقدة الخواجة: هو مصطلح يُـعَـبِّر عن حالة نفسية لدى شعوب المنطقة العربية. ويُقصَد بكلمة خواجة [التي تعني: المعلِّم أو السيد] (khawājah,Khodja,Hodja) الشخص الأجنبي، وخاصةً الغربي (الأوروبي أو الأمريكي). وتَـنْجُـم هذه العقدةُ عن إحساس الإنسان العربي (أو المستعمَر بشكل عام) بالنقص والدونية مقارَنةً بالإنسان الغربي (المستعمِر). فيلجأ المستعمَـرُ، لتعويض هذا النقص، إلى تقليد المستعمِر وحتى إلى تقمُّص شخصيته.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود