|
بحثًا عن الحلِّ: هـ – أثورة هي... أم حرب أهلية؟!
كان أحسن الأزمنة وكان أيضًا أسوأها. كان عصر الحكمة وعصر الجهالة. عصر اليقين
والإيمان وعصر الحيرة والشكوك. كان أوان النور وأوان الظلام. كان ربيع الرجاء
وزمهرير القنوط. كان كل شيء بين أيدينا ولم يكن في أيدينا أي شيء. 1 المرَّة تلو الأخرى نعاود استرجاع مجريات الأحداث. والمرَّة تلو الأخرى نعاود التفكير بها من مختلف جوانبها من أجل فهم طبيعتها وتلمُّس خباياها. والمرَّة تلو الأخرى نكتشف أنها أعقد مما كنَّا نتصور. وأنه، إذا شئنا الخروج من المأزق الذي نحن فيه بمحصلةٍ إيجابية قدر الإمكان، يجب علينا تفهم الأوضاع بكامل تعقيداتها وتداخلاتها. ومع التأكيد على تمسُّك كامل بالمبادئ والقيم، نكتشف أنه يجب التحلِّي ببعض الذرائعية... أليس كذلك يا صديقي؟ لأني اليوم، وأنا أكتب ما أكتب، أسترجع حديثنا الأخير حين طلبت منك مساعدتي على إنجاز هذا الكتاب، فأجبتني بالإيجاب. لكن، حين أكَّدت على ضرورة أن تكون موضوعيًا إلى أقصى حدٍّ في بحثك، وأن تكون في الوقت نفسه ذرائعيًا قدر الإمكان، أجبتني: - قد لا يكون بوسعي ذلك يا "طائر الليل"، قد لا يكون بوسعي ذلك لأني ألتزم في هذا الصراع جانبًا معينًا. - وأنا أيضًا ألتزم الجانب نفسه يا صديقي. أنا أيضًا منحاز بالكامل إلى ما تعنيه هذه الثورة من حرِّية وكرامة. لكن... الواقع يبقى أعقد – وربما أقذر - بكثير من تصوراتنا وتقويماتنا. لذلك، فلنحاول التفكير معًا فيما يجري، مبتدئين بذلك الجدل الدائر حول طبيعة ما نعيشه اليوم، وهل هو ثورة، كما تؤكِّد أوساط المعارضة، أم أنه حرب أهلية كما تقول بعض الجهات الدولية؟
2 وأفكِّر أني في الفصل السابق، وحين كنت أناقش جانبًا من هذا الموضوع، توصلت إلى قناعة مفادها: ... إن ما نعيشه اليوم هو ثورة، بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. ثورة قامت لأن: - من هم على رأس النظام، وتمادوا في غيِّهم إلى حدِّ الفجور قد انعزلوا عن الواقع، ولم يعد بوسعهم التحكُّم بالعباد كما كانوا يتحكمون من قبل أولاً. وأيضًا... - لأن الشعب على اختلاف طوائفه ومركباته الإثنية في مختلف أنحاء البلاد، والذي أصبح يتابع من خلال وسائل الاتصالات الحديثة ما كان يجري حوله من أحداث، والذي قدَّم حتى الساعة آلاف الضحايا، لم يعد بوسعه تحمل الفجور الذي يراه ولا الظلم الذي يمارس بحقه ثانيًا...[1] لأن هذا ما تؤكده كل مجريات وتطورات الأحداث التي بدأت في أواسط آذار 2011 وما زالت مستمرة إلى الآن. تلك الأحداث التي نعود فنتذكَّر أهمَّ مراحلها، مشيرين بهذا الخصوص، إلى أننا لن نستعيد هنا تاريخ المعارضة السورية لنظام البعث عامةً، ولحكم آل الأسد وأقربائهم وحاشيتهم خاصةً. فتلك المعارضة التي لم تنقطع، رغم أنها قمعت بشراسة، بقيت مستمرةً بهذا الشكل أو ذاك خلال كامل تلك الحقبة. لكننا سنكتفي باستعادة تطورات ذلك الحراك الشعبي الذي ترافق مع بدايات الربيع العربي. حراك كانت بداياته وقفات خجولة لشبان حملوا الشموع أمام أبواب السفارتين المصرية والليبية في دمشق من أجل التعبير عن التضامن مع إخوة لهم هناك (وقد كانت السيدة سهير الأتاسي من بين هؤلاء). وأتذكَّر أنه خلال إحدى وقفات الشموع أمام السفارة الليبية رفع لأول مرة شعار (يلِّي بيقتل شعبه خائن). ثم بدأت الاحتجاجات تتسع ببطء... فكانت أول مظاهرةٍ عفويةٍ - غير متوقعة - في قلب المنطقة التجارية في دمشق (في الحريقة) بسبب صدام وقع بين ابن تاجر من المنطقة وبين شرطي اعتدى عليه بالضرب. وقد ضمَّت تلك المظاهرة التي دامت حوالي النصف ساعة ما يقارب الألف متظاهر، وحاول النظام في حينه استيعابها. وأتذكر أنه في تلك المظاهرة أطلق لأول مرة شعار (الشعب السوري ما بينذل). ثم كانت وقفة احتجاجية صغيرة أمام مبنى وزارة الداخلية من أجل المطالبة بالإفراج عن سجناء الرأي. لكنها لم تنجح لأن قوى الأمن قمعتها بقسوة. لم يكن عدد المحتجين يومها يتجاوز المئتي شخص اعتقلت السلطات معظمهم (وقد كان من بين المعتقلين المفكر الطيب تيزيني والناشطة سهير الأتاسي التي ضربت وبقيت محتجزة لعدة أسابيع). ثم كانت حوادث درعا التي سنسلط الضوء عليها قليلاً. لأنه من درعا، انطلقت الشرارة الأولى للثورة السورية. فنتذكر كيف بدأ الحراك هناك، متفكِّرين فيما فجَّر تلك المنطقة الريفية التي كانت محسوبة تقليديًا على حزب البعث. فنجد أن ما فجَّر الأوضاع في درعا كان بكل بساطة تجبُّر وعسف المسؤولين هناك من جهة، وسوء إدارة رؤوس النظام من جهةٍ أخرى. وحول هذا الفجور والتجبُّر تُحكى العديد من الحكايا. منها، ما يعرفه معظم السوريون، أن في الـ13 من آذار اعتقل الأمن بعض طلاب كتبوا على جدران مدارسهم شعارًا اقتبسوه من مظاهرات مصر ويقول "الشعب يريد إسقاط النظام". وما يعرفه الجميع أيضًا أن أهل هؤلاء الأطفال أهينوا وطردوا من قبل مسؤول الأمن العسكري في المنطقة (المدعو عاطف نجيب – أحد أقارب الرئيس) حين سعوا من أجل إطلاق سراح أبنائهم الذين عذِّبوا عذابًا وحشيًا. ونتذكَّر كيف انتشرت المظاهرات وعمَّت مختلف أنحاء هذه المحافظة. فهناك سقط أول شهداء الثورة. وهناك عذِّب وقتل الطفل حمزة الخطيب. وهناك استُخدم الجيش لأول مرة في الـ24 من آذار من أجل اجتياح المدينة وقمع المتظاهرين. كما أنه هناك أيضًا انشق أول جندي رفض إطلاق النار على مواطنيه. وأيضًا، من درعا انطلقت أولى أغنيات الثورة وأجملها "يا حيف"... وبدأت المظاهرات تنتشر في كلِّ أنحاء البلاد. وبدأت هذه الثورة التي ما زالت مستمرة إلى الآن... ونلاحظ أن أهم المناطق التي انتشرت فيها، إلى جانب درعا، كانت الريف الدمشقي وحمص وحماه ودير الزور والحسكة وبانياس وجبلة واللاذقية. أي بشكلٍ عام معظم محافظات البلاد. ونتفكَّر بطبيعة هذه الاحتجاجات فنجد: - أن الأوضاع في ريف دمشق كانت شبيهةً بالأوضاع في درعا، وإنْ كان لكلِّ منطقة خصوصيتها. ففي منطقة الزبداني في ريف دمشق، والقريبة من الحدود اللبنانية مثلاً، ، كان العديد من أبناء المنطقة يعمل في التهريب (منذ ما قبل حافظ الأسد). ففي تلك الأيام، كان الاقتصاد موجهًا وكانت هذه المهربات تؤمن بعض الكماليات للداخل الدمشقي. ثم أضحى هؤلاء المهربين بلا عمل حين أصبح الاقتصاد منفتحًا (أيام بشار الأسد)؛ حيث لم يتح لسكان هذه المنطقة – ومن بينهم طبعًا مهربيها – كما لم يتح لسكان كلِّ المناطق الحدودية السورية الاستفادة من فوائد الانفتاح. لأن الغول (رامي مخلوف) – المحمي من قبل الحلقة الأضيق في السلطة والذي يسيِّر مصالحها – سيطر على كل شيء[2]. وأيضًا، يحكى أنه في الريف الدمشقي، كما في الكثير من المناطق، استولت المافيا السلطوية على أفضل الأراضي الزراعية فحولتها إلى مزارع خاصة وأقامت عليها مشاريعها. ونلاحظ في المقابل أن طيف المشاركين في مظاهرات الريف الدمشقي ضمَّ جميع الفئات والطوائف، وإن كان يغلب عليه، بشكل عام، الطابع الإسلامي السنِّي المحافظ والمعتدل، الذي هو طابع البلد. - وكذلك كانت مجريات الأمور في حمص حيث كانت المظاهرات أكبر وأوسع من باقي المحافظات. حمص التي كان يديرها محافظ روَّع المنطقة بعسفه (السيد إياد غزال أحد أصدقاء الرئيس). فنلاحظ أن الطابع الإسلامي السنِّي المحافظ والمعتدل كان أيضًا هو الغالب، رغم أنه كان من بين المشاركين في هذه المظاهرات أعداد لا بأس بها من أبناء الطوائف الأخرى كالعلويين والمسيحيين، وكذلك أيضًا من أبناء العشائر البدوية. وقد قمع النظام منذ البداية مظاهرات حمص بعنف مفرط. ففي حمص حصل اعتصام كبير في الساحة الرئيسة للمدينة استمر عدة أيام، لكن السلطة أنهته عن طريق الجيش ما أدَّى إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى. وأتفكَّر بأن القمع الوحشي لأبناء العشائر في حمص كان من أهم الأسباب التي أدَّت إلى تمرُّد الريف الشرقي للمدينة، وإلى انتقال الثورة إلى... - محافظة دير الزور حيث التركيبة العشائرية هي السائدة. ونتفكَّر أن هذه المنطقة، كمنطقة درعا، كانت أيضًا من المناطق المحسوبة تقليديًا على حزب البعث. لكنه دائمًا العسف والفجور والعنف المفرط هو الذي أدَّى إلى مثل هذا التحول. ونسجِّل أن مظاهرات منطقة دير الزور كانت كبيرةً. حيث لم يتفوق عليها آنذاك إلاَّ... - المظاهرات التي حدثت في مدينة حماه (هذه المدينة الرافضة لنظام البعث منذ بداياته). فكانت تلك المظاهرة الضخمة التي قامت في 3 تموز 2011 (جمعة إرحل)، والتي أقيل بسببها محافظ المدينة السيد أحمد خالد عبد العزيز الذي يقال إنه كان لينًا مع المحتجين... كما نلاحظ أيضًا هناك، وخلافًا لما جرى في الثمانينات حين قاد الجناح المسلَّح للأخوان المسلمين تمردًا مسلحًا تمَّ سحقه بوحشية، أن مظاهرات حماه كانت تضم معظم شرائح الشعب بجميع فئاته الاجتماعية والسياسية. وخاصةً منها الكتلتان السياسيتان الأساسيتان في المدينة. أقصد الاشتراكيين العرب (الذين تترأسهم الدكتورة فدا حوراني) وحركة الأخوان المسلمين (الذين يترأسهم المرشد العام الحالي للحركة المهندس رياض شقفة)... - وكذلك كان الأمر في معظم مدن وبلدات الساحل السوري كاللاذقية وجبلة وبانياس. وقد جوبهت جميع هذه التظاهرات أيضًا بالعنف المفرط... ونسترجع الأشهر الأولى من هذه الثورة. فنتذكَّر كيف أصبح يوم الجمعة موعدًا تقليديًا لمظاهرات كانت تنطلق من الجوامع بعيد صلاة الظهيرة، وتختلف في تسمياتها من أسبوع إلى آخر... ودائمًا في المقابل، كان عنف السلطة يزداد ويتفاقم. كما كانت أعداد القتلى، تزداد وتزداد. ونشير هنا، للأمانة وللتاريخ، أن السلطة حاولت في بدايات الأحداث تقديم بعض التنازلات الشكلية: - ففي 27 آذار 2011 كان الإعلان عن إلغاء قانون الطوارئ المطبق في البلد منذ الثامن من آذار 1963. وقد استبدال هذا القانون بما أسمي قانون مكافحة الإرهاب. ما زاد الأمور سوءًا... - كما أنه في الـ26 من حزيران 2012 سمحت السلطة لبعض الوجوه المعارضة الأكثر اعتدالاً بعقد لقاء استشاري علني في فندق السيميراميس في دمشق. وقد كان من أبرز الوجوه التي حضرت هذا اللقاء السادة ميشيل كيلو، ومنذر خدًّام، ولؤي حسين. تلا ذلك... - في السابع من تموز 2011 رعاية السلطة للقاءِ التشاوري للحوار الوطني في مجمَّع صحارى ترأسه نائب رئيس الجمهورية السيد فاروق الشرع (المعروف باعتداله). وقد شارك في هذا اللقاء العديد من وجوه البلد، ومن ممثلي أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية والنقابات. بينما قاطعته المعارضة إجمالاً، حيث لم يحضره من وجوهها إلا الدكتور الطيب تيزيني الذي ألقى فيه كلمةً مؤثرة. وقد صدر عن هذا اللقاء الذي تميَّز بارتفاع سقف خطابه السياسي والمطلبي توصيات هامة رفعت إلى السيد رئيس الجمهورية. لكنها بقيت حبرًا على ورق... - وفي الـ18 من أيلول 2011 سمحت السلطة لـ"هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديموقراطي" التي يترأسها السيد حسن عبد العظيم – وهي تجمع معارض معتدل يضمُّ في صفوفه أحزابًا قومية عربية وأخرى اشتراكية وماركسية وكردية – بعقد اجتماع تشاوري في قرية حلبون في الريف الدمشقي شارك فيه حوالي 300 معارض كان من بينهم السادة عارف دليلة وسمير عيطة وميشيل كيلو. وقد أكَّد المشاركون في هذا الاجتماع على التمسك بـ "سلمية الثورة" كعامل حاسم "لاسقاط النظام الاستبدادي". كما حذَّروا من مخاطر عسكرة الانتفاضة، ودعوا إلى عدم الانجرار وراء دعوات التسلح. وأتذكَّر أن العديد من شباب تنسيقيات الثورة رفضوا في حينه المشاركة في هذا اللقاء... - وفي الـ26 من شباط 2012 أصدر رئيس الجمهورية نصَّ دستور جديد ألغيت فيه المادة الثامنة من الدستور السابق المتعلقة بقيادة حزب البعث للدولة وللمجتمع، وأبقى على المادة المتعلقة بدين رئيس الدولة. وقد تضمن هذا الدستور الجديد العديد من المواد المتعلقة بالتعددية السياسية والديموقراطية. لكنه حافظ على الصلاحيات المطلقة لرئيس الجمهورية... ما يعني، في المحصلة، أنه لم يكن لما عكسته الدولة من "شكليات ديموقراطية" ولا لما قامت به من إصلاحات شكلية أي أثر على أرض الواقع. فالعواطف بقيت متأججة من جهة، والسيف كان قد سبق العزل ربما. وبقيت السلطة مستمرة في تصعيد وتيرة عنفها من جهةٍ أخرى. سياسة بات من الواضح اليوم أنها اختارتها طريقًا لها منذ بداية الأحداث.
3 في مثل هذه الأيام كم تبدو السخرية مريرةً يا صديقي... لكن تسلسل الأحداث ومنطقها يذكِّرني بالقانون الأشهر لمورفي[3] الذي يقول إنه "إذا كان ممكنًا أن يتَّخذ أي شيء المنحى الخطأ فإنه سيتخذه حتمًا". لأن هذا المنطق العبثي والساخر ينطبق تمامًا على ما حصل في بلدنا حيث كانت الأمور تتدهور. فشعارات المظاهرات ومطالب المتظاهرين سرعان ما أصبحت أكثر جذرية. ومواقف المعارضة التي كانت معتدلةً في البداية بدأت تتجذَّر. والسلطة التي كان من المفترض أن تعالج الأمور بحكمة بقيت مستمرةً في حلِّها الأمني. وكان في الـ02 من أيلول 2011، الإعلان في اسطنبول عن تشكيل المجلس الوطني السوري[4] الذي ضمَّ الفصائل الأساسية لمعارضة الداخل والخارج. وكان من أبرز مكونات هذا المجلس الإخوان المسلمين، وجماعة إعلان دمشق، إضافةً إلى العديد من الأحزاب الكردية، ومن تنسيقيات الحراك الداخلي. وأيضًا... لمَّا كان لا بدَّ لأي عنف أن يولِّد عنفًا مضادًا، فإننا نلاحظ أن الانشقاقات في صفوف القوات المسلَّحة بدأت تزداد بشكل متصاعد. ففي الـ29 من تموز 2011 أعلن العقيد رياض الأسعد تأسيس ما أضحى يعرف بالجيش الحرِّ الذي اتَّخذ من تركيا مقرًّا لقيادته. وقد حدَّد هذا التنظيم العسكري الجديد أن أهدافه الرئيسة هي حماية المتظاهرين وإسقاط النظام. ثم تصاعدت عمليات هذا الجيش الذي سرعان ما التحق به العديد من المتطوعين من مختلف المناطق وغلب على تركيبته الطابع الإسلامي السني الأكثر جذريةً. ما حوَّل الحراك الجماهيري، الذي كان سلميًا ومدنيًا في بداياته، إلى ثورة مسلَّحة يسودها بشكل عام اتجاه مذهبي محدد! لذلك... ترانا حين ننظر إلى الواقع بمزيد من التعمُّق نجد أن الأمور ليست بالبساطة ولا بالمثالية التي كنَّا نفكِّر بها. وذلك لسببين رئيسيين هما التركيبة المافيوية والطائفية للنظام من جهة، والانقسامات الطائفية العميقة القائمة في البلد والتي زاد منها ضعف المجتمع المدني وغياب الحياة السياسية من جهة أخرى. وأعود من جديد إلى الفقيد ميشيل سورا الذي قدَّم في كتابه الحالة (أو الدولة) البربرية، تحليلاً عميقًا لنظام حكم استند على عصبية مجموعة (الطائفة العلوية) قادتها عائلة أمسكت بمقاليد الملك (أي الحكم أو السلطة) من خلال دعوة (كانت القومية العربية والاشتراكية والعداء للإمبريالية والصهيونية). لأن... ... هذه المقاربة "الجديدة" التي تستعيد البعد الذي تحدث عنه ابن خلدون قبل ما يقارب الستة مئة سنة، تبين كيف يمكن، في لحظة تاريخية معينة، أن تستخدم (عصبيَّة) جماعة تربط بين أبنائها صلاة القربى أو وحدة المصير، (دعوةً) أو فكرًا سياسيًا أو دينيًا معينًا، من أجل الوصول إلى الحكم "الملك"...[5] وتجدنا اليوم فعلاً، وفي لحظة انقلاب تاريخي أسماه ابن خلدون في حينه عصر البربرية (الذي هو اليوم عصر الثورة التي نعيشها)، أمام مجموعة اضطهدت لعقود شعبًا بكامله وسخَّرت كلَّ ثرواته لصالحها. عائلة ما زالت تحاول، متسترةً وراء غلاف تلك الدعوة التي أوصلتها إلى الحكم، الحفاظ على ملك باتت تعتبره ملكًا خاصًا لها. وذلك انطلاقًا من عصبية أصبحت مع الأسف متجسدةً في أبناء طائفتها... تحليل منطقي إلى حدٍّ كبير لأنه يمكِّننا اليوم من فهم جانب أساسي مما حدث من جهة، ولماذا ما زالت الأغلبية العظمى من أبناء هذه الأقلية[6] ملتفَّةً بهذا الشكل القوي حول ذلك النظام الذي أصبحت متماهيةً معه من جهةٍ أخرى. وتجدنا من المنظور نفسه، وفي هذا العصر البربري، نتفهَّم في المقابل لماذا تحوَّل الحراك الشعبي، بهذه السرعة والبساطة، من حراك سياسي مدني ومعاصر وحضاري إلى ثورة دموية متخلِّفة وبدائية تنطلق من العصبيات المضادة لأغلبية سرعان ما تجاوزت كلَّ الدعوات المدنية والديمقراطية لحراكها الشعبي لتعود فتجد في سنَّة شرعها الدعوة التي تجمعها، والتي ستمكنها من استعادة ملك تعتبره حقًا لها. وبالتالي... تجدنا من هذا المنظور، ننتقل بكلِّ بساطة من مفهوم الثورة ذات المبادىء المدنية والديمقراطية إلى مفهوم الحرب الأهلية بين مكونين اجتماعيين أساسيين من جهة، ونعود قرونًا إلى الوراء من جهةٍ أخرى... لأن المجموعة الحاكمة استطاعت – إن لم نقل نجحت – بجهالتها جعل معظم الطائفة التي انبثقت منها، وإلى جانبها معظم باقي الأقليات عامةً، ترتعد خوفًا من مجهول تمت شيطنته فأصبح يتمثل في العصبية المفترضة لأكثرية سكان البلد. كما نجحت إلى حدٍّ كبير في تأجيج تلك العصبية المضادة التي كانت نائمةً تحت الرماد. كما نجحت في جعل المخاوف نفسها تنعكس سلبًا على العالم الغربي المرتعد أصلاً من شبح الأصولية الإسلامية السنِّية المتمثلة بالقاعدة. ونتعمَّق في المزيد... فنجد أنه لم يعد مهمًا اليوم حين نتأمل في الواقع الاجتماعي لأبناء الطائفة العلوية التي يرتكز إليها النظام – وخاصةً لكلِّ من أتيح له زيارة قراها وبلداتها الممتدة من سهل الغاب في وسط سورية، إلى تلك القرى والبلدات الفقيرة المتناثرة على سفوح الجبال التي تحمل اسمهم لنصل إلى التجمعات السكنية الفقيرة في ضواحي حمص وضواحي دمشق كمساكن الحرس والمزة 86 وحيِّ الورد – (لم يعد مهمًا) أن نكتشف أن أبناء هذه الطائفة هم أقل من استفاد من هذا النظام الذي يدفعون اليوم ضريبة دم غالية من أجل الدفاع عنه. لأن الأسوأ كان قد تحقق على أرض الواقع من خلال منطق العصبية الذي أصبح يجمعهم، والذي ما زال سائدًا حتى اللحظة. خاصةً وأن هذا المنطق أصبح يقابله اليوم المنطق الذي أصبح سائدًا لدى الكثيرين من الفقراء من أبناء تلك الأكثرية التي تشكل حاضنة البلد الذين استيقظت عصبيتهم أيضًا. كما استيقظت أيضًا إلى جانبها عصبيات أخرى، كالعصبية القومية للأقلية الكردية التي باتت تفكِّر جديًا بالانفصال عن الكيان السوري الحالي. وبالتالي... من هذا المنظور يا صديقي، يتحول منطق الثورة فعلاً إلى منطق الحرب الأهلية! وتتحول الثورة بكلِّ بساطة إلى حرب أهلية حقيقية تمزق النسيج الاجتماعي للبلد، وتدمِّر ثرواته، وتجعله فريسةً سهلةً لمختلف أنواع المطامع الدولية! وما أكثرها! وهذا أمر شائع ومعروف في التاريخ. فقد حدث الشيء نفسه خلال الثورة الفرنسية التي قامت عام 1789 وخلال الثورة الروسية التي قامت عام 1917. لذلك... تراني اليوم وأنا أكتب ما أكتب، أعود لأتأمل في واقع الصراع الدائر، وفي المبادرات السياسية التي تطرح على الساحة الدولية، والتي كان آخرها تلك التي طرحها مؤخرًا السيد الأخضر الإبراهيمي، والمستندة كما يقولون إلى تفاهم أولي تمَّ التوصل إليه بين الروس والأمريكان؛ تلك الداعية إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية مطلقة الصلاحيات مع بقاء الأسد في السلطة حتى إشعار آخر. وفيما سيحصل إن نجحت هذه المبادرة... أو فيما سيحصل إن فشلت من استفحال في القتال وتفاقم في الدمار والخراب... وأتفكَّر فيما يتحدث عنه البعض من إعادة طرح الموضوع أمام مجلس الأمن للمطالبة بقوات دولية تفصل بين المتقاتلين. طرح يترافق على أرض الواقع، مع تقدم سفن إنزال روسية باتجاه الساحل السوري من جهة، والمباشرة بنصب صواريخ سكود الأطلسية على الحدود بين تركيا وسورية من جهة أخرى. وأيضًا... لسخرية القدر، تجدني أتأمل في خريطة أصبحت متداولة، تبين المناطق التي ستنتشر بها هذه القوات الدولية وأسماها من ترجموا مضمونها إلى العربية "خطة الإبراهيمي لنشر قوات تقسيم سورية" – ما يجعلها تبدو وكأنها خطوط تقسيم فعلي للبلد انطلاقًا من الواقع القتالي الراهن...
لأن ما تطرحه هذه الخريطة من خطوط فصل تحيط بالمناطق التي تجري فيها اليوم أشرس المعارك، تحدُّ فعلاً المناطق التي ما زال النظام مسيطرًا عليها نسبيًا حتى الساعة. ما يدفعنا من جديد إلى المزيد من التمعن في الجغرافيا السياسية للواقع القائم حاليًا في الأرض... وتجدنا أمام واقع كئيب لوطن ممزق واقع أهم ما يميزه: - أولاً: أن المناطق الشمالية الشرقية، والتي تشمل القسم الأعظم من محافظة الحسكة وشمال محافظة الرقة الموازي للحدود التركية – تلك المناطق التي لجأ إليها معظم الأكراد القاطنين في الداخل السوري، ويتجنبها الثوار المسلَّحون من جهة أخرى، وتتواصل جغرافيًا مع كردستان العراق الذي يقدِّم لها المعونة وفتح مؤخرًا حدوده معها من جهة ثالثة – قد أصبحت بالكامل خارج السلطة الفعلية للدولة السورية. وأيضًا... - ثانيًا: نلاحظ فقدان النظام عمليًا اليوم سيطرته الفعلية على مناطق الشمال والشرق والجنوب السوريين، رغم أنه ما زال محتفظًا بتواجده العسكري والأمني في مراكز كافة المدن الرئيسة في محافظات هذه المناطق. كمحافظات إدلب وحلب ودير الزور وحماه وريف حمص الشرقي ودرعا وريف دمشق التي أصبح الثوار يتحكمون بها بشكل شبه كامل. الأمر الذي يفسِّر... - ثالثًا: لماذا بدأ النظام بسحب قواته تدريجيًا من تلك المناطق، ليعيد تجميعها في مناطق أخرى يعتقد أن بوسعه الدفاع عنها بشكل أفضل. أقصد إضافة إلى مدن الساحل، ما تبقى تحت سيطرته من محافظة حمص، ومن دمشق وريفها. ما يعني اننا نواجه اليوم بالقوة احتمالاً فعليًا لتقسيم البلد. وبالتالي...
4 عندما نحاول اليوم تلمُّس بعض الآفاق من أجل الخروج من الورطة التي نحن فيها – وهي ورطة فعلاً – يبدو للوهلة الأولى أننا نواجه حائطًا مسدودًا. لأن الواقع يقول انطلاقًا من حالة الحرب والقتل والدمار التي نعيشها، إن كلَّ الاحتمالات أصبحت مطروحة على أرض الواقع. وهذه الاحتمالات ليست فقط خراب البلد و/أو صوملته (كما يقول السيد الإبراهيمي)، وإنما أيضًا تقسيمه. الأمر الذي يدفعنا جميعًا، من منطق إنساني ووطني، لأن نهدىء من عواطفنا ولأن نفكِّر في الموضوع من مختلف جوانبه ببرود وبذرائعية. لأنه لم يعد يكفي اليوم أن نقول إن النظام هو المسؤول عن كلِّ ما حصل – رغم أنه مسؤول فعلاً وحقيقةً عن ذلك – إنما أصبح من واجبنا التفكير بعمق وقسوة في أمراضنا وفي عصبيات هوياتنا القاتلة. وأن نتفكَّر بالتالي، بمسؤوليتنا فيما حصل من جهة، وفي طرائق الخروج من هذا المأزق من جهة أخرى. ونتعمق في المزيد... لأنه لم يعد مقبولاً ولا كافيًا اليوم أن نتذرَّع بقذارة الأطماع والمصالح الدولية المحيطة بنا – وهي موجودةٌ فعلاً وحقيقةً ولها دورها ومسؤوليتها في الكثير مما حصل – لنقول كما يردد البعض إن هناك مؤامرة دولية على شعبنا وعلى بلدنا، وأن نكتفي بترداد هذه الأسطوانة البائسة. إنما أضحى من واجبنا أن نستيقظ من أحلام يقظتنا وأن نتفهم واقعنا وحجمنا الحقيقي ومصلحتنا كبلد صغير متنوع وحضاري يفترض أن يكون جزءًا من هذا العالم الذي الذي يجب أن نتعلَّم كيف نعيش ونتعايش فيه بسلام وبذكاء... وأتفكَّر بالتالي، أنه من هذا المنظور، أصبح الانتصار العسكري لأحد طرفي الصراع على الآخر – ذلك الانتصار الذي بات (كما قال نائب رئيس الجمهورية السيد فاروق الشرع ) مستحيلاً اليوم على أرض الواقع بالنسبة للنظام، والممكن بصعوبة ولكن بكلفة غالية جدًا بالنسبة للمعارضة المسلَّحة (كما قال نائب وزير الخارجية الروسي السيد بوغدانوف)، أي بعد تدمير البلد وتمزيق نسيجه الممزق أصلاً بشكل كامل – هو الخيار الأسوأ الذي يجب أن نرفضه! ما يعني إن شئنا أن نفكِّر بمسؤولية – ورغم أنه من المستحيل القبول بما يطرحه الروس والإيرانيون والنظام من حكومة وحدة وطنية يقودها الرئيس الحالي وجماعته في المرحلة المقبلة، والدخول في حوار حولها، لأن هذه الطغمة تتحمل المسؤولية الأساسية في إيصال البلد إلى ما وصل إليه. ولا مكان لها بالتالي في سورية المستقبل – أنه... - لا يجوز لأحد اليوم رفض مبدأ التسوية السياسية الداعية إلى تشكيل حكومة مصالحة وطنية تتمتع بصلاحيات واسعة (كما يدعو السيد الأخضر الإبراهيمي) أو حكومة انتقالية تقود المرحلة المقبلة ويتنازل لها الرئيس الحالي عن صلاحياته بالكامل (كما تطالب بعض أوساط المعارضة). ولكن في المقابل... - لمَّا كانت المصالحة والعيش المشترك والبدء بإصلاح ما دمِّر وإعادة اللحمة بين مختلف مكونات مجتمعنا الطائفية والعرقية ضرورة. فإنه من الواجب اليوم حوار المعارضة بمختلف أطيافها مع الطرف الآخر وعلى رأسه الجيش النظامي والطائفة العلوية، والسعي معًا من أجل أن يتخلَّى الجميع عن عصبياته. وإلاَّ فإنه لن يكون في وسعنا إعادة اللحمة إلى البلد. ما يعني على أرض الواقع أنه... - إن كان لا يمكن الموافقة، في مثل هذه الظروف، على ما يطرحه السيد الإبراهيمي من إمكانية إجراء انتخابات قبل أن تهدأ الأوضاع – لأن مثل هذا الطرح الذي يمكن أن يكون صحيحًا في بلد شبه طبيعي كمصر مثلاً، لا يمكن أن ينجح في بلد لم يعرف ماذا تعني الانتخابات الديمقراطية منذ خمس عقود من حكم البعث والعائلة، ويعيش اليوم في حال حرب أهلية – فإنه من الواجب اليوم التأكيد على أن تكون الحكومة الانتقالية جامعة فعلاً وكاملة الصلاحية أيضًا. وأن تكون بالتالي خاصةً... - حكومة بنَّائين تضع أسس إعادة إعمار البلد من جهة، وإعادة لحمة جيشه الوطني الممزق من جهة أخرى. حكومة تضع أسس دستور مدني وديمقراطي وتوافقي. دستور توافق عليه جميع الأطراف، وتجري على أساس مبادئه الانتخابات القادمة. وأيضًا... - لا يمكن من هذا المنظور، القبول بأي تدخل أجنبي مباشر يفرض شكل حكومة هذه المرحلة الانتقالية المقبلة، ومن ستضم أو لا تضم. وإنما، من أجل تجنُّب الآثار الضارة لمختلف التجاذبات والمؤثرات السياسية والعقائدية الدولية والمحلِّية، يجب أن تكون هذه الحكومة مؤلفة بشكل شبه رئيسي من التقنيين. وذلك بعد أن يتمَّ التوافق على المبادىء التي ستوجهها والتي هي باختصار: آ - على الصعيد الداخلي: وضع أسس ومبادىء دولة برلمانية تنبذ بشكل كامل كافة أشكال الطائفية والتعصُّب. وتباشر في إعادة إعمار البلد... ب - على الصعيد الخارجي: مصالحة النظام الجديد مع محيطه العربي والإقليمي والدولي والابتعاد عن سياسة المحاور. ونكتفي حاليًا بهذا القدر. مؤكدين أنَّنا سنحاول في الفصول القادمة التعمق في مضامين هذه المبادىء. إن شاءت الآلهة... *** *** *** [2] بدءًا من كبرى الشركات الخاصة العاملة في البلد وعلى رأسها شركات الخليوي، مرورًا بكبرى الوكالات التجارية والأسواق الحرَّة، وصولاً إلى تكسيات وحتى كراجات المطار الدولي ومواقف السيارات في الشوارع الرئيسة في المدن. [3] كاتب إنكليزي ساخر. [4] أعلن عن تشكيل المجلس الوطني السوري في اسطنبول في الثاني من تشرين الأول 2011. [5] Michel Seurar, L’Etat de Barbarie, page 62. [6] ما بين الـ13 والـ15 % من مجموع سكان سورية. |
|
|