|
الحرية عند سعد الله ونوس بين العقل والدين
في متابعتنا لفكر سعد الله ونوس وعبر واحدة من مقابلاته التلفزيونية، تجذبنا جملة عميقة في مضمونها وغنية في معانيها تقول إن حرية الكاتب لا تكتمل إلا بحرية القارئ. تعطي هذه الفكرة، ذات البعد الإنساني، الأولوية للذات الجماعية وليس للذات الفردية؛ هي فكرةٌ تدل على انهمامٍ بالشأن العام وميلٍ لبناء آلية تواصلية مع الآخرين، وتشير أيضًا إلى محاولة ونوس الابتعاد عن تنظير أُحادي الجانب والاهتمام بوعي القارئ قبل التقوقع داخل تأملاته الشخصية وأفكاره المُجرَّدة. لقد سبق لسارتر الانطلاق من "الأنا" للتأكيد على أنَّ الحرية تتمثل في قدرة وعي "الأنا" على تجاوز ما هو كائن، أو هي قدرة "الأنا" على تجاوز ماضيها وحاضرها من أجل تحقيق المستقبل الذي تستطيعه وتتمناه، من هنا قال ساتر في كتابه الوجود والعدم: "إنني مُدان بأن أكون حرًا". بالمقابل، لا يرى ونوس حريته إلا من خلال حرية الآخرين، أي إن عدم تحقق حرية القارئ يؤدي لانعدامها لدى "أنا" الكاتب وذلك لسبب واضح مفاده أن هذه "الأنا" لا تنفصل عمليًا عن المجتمع الذي تكتب عنه ومن أجل قضايا ومشكلات أفراده. يتساءل ونوس، خلال هذا اللقاء، كيف يُمكن لشخص مُقيَّد السلوك والإرادة ومَنزوع الأمل والرجاء حضور مسرحية يتغنى أبطالها بمعاني الحرية وبمفردات تدعو لكسر قيود الاستبداد العقلي والسياسي؟ وما هي ثمرات الكلام ومدح الحرية بشكل منفرد؟ بعبارة أخرى، ما فائدة التغريد بأصوات منفردة في مجتمع مُغلق ومُتحجر، وكيف يمكن لإنسان مسلوب الحرية حضور مسرح يتغنى بهذه القيمة المثلى؟ إذا أردنا البحث عن إحدى الصور التي تُجسد فكرة سعد الله ونوس هذه، فإننا نجدها حاضرةً في أفكار شخصية الشيخ جمال الدين بن الشرائجي في مسرحية منمنمات تاريخية. يسعى ونوس، من خلال فصول مسرحيته هذه، إلى تحليل حِقبة تاريخية عبر حسٍ نقدي وميلٍ لبناء تفسيرات مُمكنة لوقائع عاش العرب مرارة نتائجها لمدة طويلة، إذ ناقش حصار التتار لدمشق في عهد تيمورلنك وعرض عدة صور لرد فعل أهل المدينة ونخبها السياسية والدينية والتجارية حيال هذا الغزو. لقد برز بشكل واضح انتقاده لتلك النَخب التي تعمل على تكريس مفهوم الاستكانة بين الناس ساعيةً للحفاظ على تفوقها السياسي والمالي وعلى تميزها الاجتماعي. بالمقابل، تحاول شخصية الشيخ جمال الدين البرهنة على أن إقالة العقل وإلغاء وظيفته الناقدة والتمسك الشديد بنصوص موروثة تجسد أولى خطوات الهزيمة. ولا يتردد في التأكيد على أن إهمال المضمون الثوري لبعض النصوص الدينية – كما فعل فقهاء دمشق حين اعتبروا طاعة تيمورلنك من طاعة الله – يعمل على تعميق انكسار الناس وإحالتهم إلى عبيد مستسلمين أمام ظلم داخلي (النخب المُتسلطة) وخارجي (الغزاة). لننظر، إذًا، عن قرب في مقتطفات من آراء شخصية الشيخ جمال الدين بن الشرائجي كما عرضها ونوس خلال فصول هذه المسرحية: عندما يُتهم هذا الشيخ، من قبل شخصيات النخبة في دمشق، بأنه مُلحد بسبب خوضه في قضايا تتعلق بالقضاء والقدر يجيبهم بالقول: "ما وهبنا الله العقل إلا لكي نفكر ونتأمل ونعتبر". ويضيف إن "أكمل مراتب الإيمان هو ما تحصَّل بالحكمة". وعندما ينتقدونه قائلين إن الجدل في مسائل القدر يُعادل مقالات الكفار من المتكلمين والفلاسفة، يردُّ متسائلاً: "وهل يكفر المرء إذا عزَّز الإيمان بآيات العقل؟" – ولعل ما يقصدهُ جمال الدين هو نصوص من قبيل: "أتأمرون الناس بالبرِّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" (البقرة، 44)، "...إن السمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولا" (الإسراء، 36)، و"أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها" (الحج، 46) – هنا يختم جمال الدين فكرته بالقول: لولا أن الإنسان مخيَّر وحرٌّ لما قال الله تعالى في كتابه العزيز: فمالهم لا يؤمنون. إنه سبحانه وتعالى يخاطبنا نحن الذين نعقل ونفهم. وإنه يخاطبنا لأننا أحرار. نعم... هذا هو الدين إننا أحرار ومخيَّرون. لقد اختار سعد الله ونوس شخصية جمال الدين لما يحمله هذا الأخير من أفكار قوامها العقل وقدرة الإنسان على التمييز بين الأشياء. فالإنسان بوصفه كائنًا عاقلاً يستطيع إدراك واجباته المُدوَّنة في النصوص الدينية، ولديه من المَلَكَات العقلية والوجدانية ما هو كفيل بأن يُحسن التعامل مع أقرانه ويضع قواعدَ تُقونن العلاقة مع أعدائه. ولكن، في الوقت ذاته، لا يمكن لهذا الاستعداد العقلي أن يُثمر نتائج ملموسة من دون التمتع بالحرية، فشرط تكليف الإنسان – أي إنسان بغض النظر عن وظيفته أو وسطه الاجتماعي أو حتى لون بشرته – بواجبات دينية أو اجتماعية أو سياسية هو تمتعه بالحرية. فكل تكليف يتبعهُ نتائج، ومشروعية الحكم على هذه النتائج نابعة من أن الفرد حرٌّ في احترام واجباته هذه أو لا. حقيقةً، نستنتج من قراءتنا لأفكار هذه الشخصية قاعدةً هامةً وهي: لا بد من تأسيس الحرية على العقل، فالحرية هي حرية العقل وليست حرية النزوات. وإذا ما تبعنا مبدأ أن العقل هو أعدل القدرات قسمة بين الناس فإننا نجد برهانًا على صحة وواقعية فكرة ونوس "إن حرية الكاتب لا تكتمل دون حرية القارئ"، فيجب أن يتمتع كل إنسان بحريته لأنه يمتلك قدرات عقلية تؤهله لتحمل مسؤولية نتائجها. وما سبق يقودنا أيضًا لتفهم السبب الذي دفع الشيخ جمال الدين للدفاع عن الحرية، فهذه الأخيرة تُخوِّل الإنسان مناقشة النصوص الدينية وتلك المتعلقة بالقوانين الاجتماعية والسياسية والخوض في مفرداتها ومعانيها وأسباب نُزولها وظروف صياغتها، وتسمح له بالثورة على من يُوظِّف هذه النصوص لصالح استمرار تسلط الأغنياء وطغيان السلطة السياسية على حساب عامة الناس. في مشهد آخر من هذه المسرحية، تأمر نُخبة المجتمع الدمشقي، التي تمثل الحاكم ورجال الدين والتجار، بحرق كتب مثل المُغني في علوم التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار المعتزلي، وكتاب فصل المقال لابن رشد. يأتي رد الشيخ جمال الدين على هذا الفعل لاذعًا ومختصرًا بعبارة واحدة عميقة في مكنونها وواسعة في دلالتها: "لا يَحظر هذه الكتب إلا الجهل والطغيان". لقد أراد القول إن من يَمنع المعرفة ومن يُقيِّد عملية التساؤل كابحًا ميل الناس لاكتشاف الجديد هو من جهة أولى جهل أولئك الذين يعدُّون أنفسهم أوصياء على الدين، ومن جهة أخرى طغيان أهل المال والسلطة السياسية. على وقع جملته آنفة الذكر، يُطرح عليه السؤال التالي: أتعدُّ أهل الاعتزال والفلسفة والبِدع بين المسلمين؟ سريعًا يجيب جمال الدين بالقول: "عالِم يجتهد خير من عالِم يحمل أسفارًا". من المعلوم لنا أن السِّفر هو الكتاب الكبير، وهذه الصفة الأخيرة ليست محصورةً بعدد صفحاته، وإنما هو كبيرٌ بما يتضمنه من أفكار قابلة للنقاش، ومن قضايا قابلة للمقايسة وللتجاوز، وبما يحتويه أيضًا من إشكاليات لا بد من القطع مع مضمونها في حال عدم توافقها مع الحاضر. إذًا، إن العالِم المجتهد، العاقل والحر، والذي لا يتردد في الاستزادة من المعرفة بفضل تساؤلاته ومناقشاته غير المشروطة، هو أفضل من ذاك العالِم الذي يرث حلولاً جاهزة تعمل، حقيقة، على تكريس مبدأ اللامساواة الاجتماعية وتعزز من استمرارية استبداد الحكام واضعةً حرية الناس في مستنقع النسيان. إنه عالم مُقلِّد مُكرِّر وناطق لما قاله الأولون على الرغم من حمله لكتاب مُشبع بنصوص تُعلي من شأن العقل، لا بل وتأمر الإنسان بضرورة توظيف هذه القدرة في سبيل مصلحة الناس، ومن أجل تنوير عقول الشباب ورفع ظلم أهل المال والسلطة عن المجتمع. يُضيف الشيخ جمال الدين، ردًا على مشاهدته لفعل إحراق الكتب، ما يلي : "ما أتعس حالنا إذا كان علماء الأمة يسمُّون الاجتهاد والعلم كفرًا". وردًا على اتهامه بالإلحاد، يختم مؤكدًا أن "الله وهبني عقلاً فلِمَ أُعطِّلهُ". كيف لأمة، إذًا، الدفاع عن حدودها وعقول أبناءها حبيسة التقاليد والاستبداد السياسي؟ كيف لها اللحاق بركب الحضارات وحريةُ أفرادها محصورة في أحلامهم المكبوتة والمُختبئة كلص في منطقة اللاشعور؟ يحاول الشيخ جمال الدين، ضمن هذا الإطار، البرهنة إذًا على أن سلاح الأمة لا يقتصر على السيف وعلى شجاعة رجالها، وإنما يمتد ليشمل سلاح الاجتهاد والعلم، ويتيح للأفراد حرية العمل ومواصلة البحث من أجل المساهمة في تطوير فكر المجتمع وتحصينه، معرفةً وحدودًا، ضد أعدائه. وهنا تأتي فكرته الرائعة ذات الدلالة العميقة: تعطيل العقل المُوهوب من قِبل الخالق هو عملٌ لا شرعي. لكن لماذا يجب عدم تعطيل هذه القدرة؟ لن نبحث كثيرًا عن الإجابة، فهدف هذا الشيخ هو هدفٌ عملي يمس المجتمع بأسره إذ يقول: "آمنت أن العقل خير من النقل وأن الله عادل لا يقدِّر على عباده الفقر أو الذل". إن العلاقة واضحةٌ بين فكرة أن الله وهب العقل للإنسان والفكرة الأخرى التي تقول بأن الخالق لا يقدِّر على الإنسان الفقر أو الذل. باختصار، يتوجب على الإنسان أن يكون حرًا لأنه كائن عاقل، وبالتالي من واجبه التمرد على ما هو غريب عن طبيعته الإنسانية، أي الثورة على الظلم وإنهاء تسلط النخب السياسية والاقتصادية والدينية إنقاذًا له ولأقرانه، وتحقيقًا لمبدأ المساواة بين البشر. حاول ونوس إذًا، من خلال شخصية الشيخ جمال الدين بن الشرائجي، إلقاء الضوء على أفكار مهمة يمكننا إيجازها على النحو التالي: تبدأ ثمرات حرية الإنسان بالبزوغ عند الإقرار بقدرته على الاجتهاد وعلى تجاوز ما عفا عنه الزمان؛ تتولد حريته عندما تكون حرية جماعية لا فردية، حرية لا تتبلور صورها ونتائجها دون تحقق الحرية الفكرية للسواد الأعظم من الناس. من هنا تتولد أولاً محاولة البرهنة على أن الدين مع حرية الإنسان وليس ضدها، وأن شرط وجود هذا الأخير وتكليفه بأوامر وواجبات يقود بالضرورة لمنحه حريته. إذ يُجسد الدين، حسب ونوس وعلى لسان هذا الشيخ، طرفًا أساسًا في حياة المجتمعات الإنسانية، ولكن في غياب العقل وفسحة الحرية وفي غياب جدلية النص والواقع قد يتحول الدين إلى نقيض، إذ يعمل على ترسيخ استبداد الحاكم وتعميق الهوة بين النخب الدينية والتجارية وبين عامة الناس. ثانيًا، إن إبراز سعد الله ونوس لشخصية الشيخ جمال الدين يُشير إلى قناعته بأن الحرية الممنوحة للإنسان في النصوص الدينية لا تقتصر على شخصية العاِلم فقط، فالحرية لا تتجسد ولا تُمارس إلا من قبل جموع الناس، ولا معنى لحرية العالِم المُستقاة من هذه النصوص إذا لم تكن ممنوحة لكل أفراد المجتمع. وهذا ما أراد التعبير عنه سعد الله ونوس عندما قال إن حرية الكاتب لا تكتمل إلا بحرية القارئ، وأن حرية الكاتب وحيدًا هي حريةٌ نظريةٌ ومجردة، شبيهةٌ بحرية أفكار السجناء. فإن أقصى ما يمكن أن تبلغهُ حرية الكاتب وحيدًا هو تغريدٌ منفردٌ يقابله تصفيق العاجزين، لذلك لا تتحقق حرية الذات دون أن تسبقها حرية جميع الذوات. *** *** *** عن موقع الرأي العربي |
|
|