|
منقولات روحيّة
صديقي أكرم: قرأت بحثك الذي هدفتَ فيه، عبر منظورك، أن تتحدث عن "البنائية". قرأته بوعي جعلني أتمثل حقيقة هذه "البنائية" تمامًا كما تمثَّلها حكماء الماضي عامة وحكماء شرقنا المضيء بإشراقه خاصة. وفي سبيل توضيح الحكمة الماثلة في مفهوم "البنائية الروحية"، تقضي الضرورة أن أتحدث عن البنائية الكونية، والطبيعة الكائنة، على نحو تضمَّن في الإنسان ذاته، أي في كيانه، والمجسَّدة، أو المشخَّصة في "البنائية الخارجية"، أي البنائية المكانية المحققة في بناء الهيكل أو مكان العبادة أو أي مكان آخر. ولما كانت بنائية الهيكل، أي مكان العبادة، ترمز إلى بنائية جسد الإنسان وروحه من وجهة نظر إيزوتيرية أي سرَّانية، فقد تم بناء الهيكل أو مكان العبادة وفق التقسيم الداخلي، أي الإيزوتيري أو العرفاني الموحِّد لجسد الإنسان وروحه في كيان واحد غير قابل للانقسام. ولما كنا، في حكمة شرقنا، نعتبر مكان العبادة الذي دعي "هيكل سليمان" المثال الأفضل لـ"البنائية الروحية" الفينيقية أو الكنعانية التي كان الفينيقيون والكنعانيون يهندسونها أو يمارسونها، وسعى إلى تحقيقها "حيرام" الفينيقي في هندسة بنائه للهيكل الحجري المعروف بهيكل سليمان، فإنني أسعى إلى البحث في تكامل البنائيتين، أي بنائية الجسد الإنساني والهيكل الحجري، أو المعبد الحجري.
عندما أقرأ عقيدةَ مجْمعِ "ترانت" [ترينتو] Trente، يبدو لي أنْ لا علاقةَ لها بتاتًا بالدين الذي يُعرَض فيها. عندما أقرأ العهدَ الجديد وعلومَ التصوف والليتورجيا [الطقوس] وعندما أشاهد إقامةَ القداس، أحسُّ، بنوع من اليقين، أنَّ هذا الإيمانَ إيماني، أو بتعبير أدق سيكون إيماني إذا لم نأخذْ بالحسبان المسافةَ التي بيني وبينه من جَرَّاء نقصي. يشكِّل ذلك موقفًا روحيًا شاقًا. لا أريد أن أجعلَه أقل صعوبةً، بل أكثر وضوحًا. وأيُّ عناء يمكن قبوله في الوضوح. سأسرد لكَ عددًا لا بأس به من الأفكار التي تسكنني منذ سنوات (أو بعضًا منها على الأقل) والتي تَحُوْل بيني وبين الكنيسة. لا أطلب منكَ أن تناقشَ جوهرَها. وإنه ليسعدني مثلُ هذا النقاش، ولكنْ فيما بعد، في مرحلة ثانية.
لا شيء ملموس في النهاية، لا شيء مؤكد. ولكن، رغم هذا، ينتابك شعور جامح بوجود ما تصبو إليه غامضًا ورائع الجمال معًا. وأنت تعرف أن لا قيمة علمية رصينة ودقيقة تؤكد، في نهاية المطاف، صحَّة ما تذهب إليه. ورغم هذا تجدك متأكدًا من أن ما تتلمسه وتفترضه لم يأت من فراغ إنما من الأرضية الراسخة لواقع حلم معاش. فالأخوة وجدوا ههنا كما وجدوا هناك. وما يؤكد صحة ما تذهب إليه هو ما تركوه خلفهم، وفي كل مكان، من أثر فلسفي وروحاني لا يمكن لأحد تجاوزه و/أو إنكاره. والأخوة ما زالوا بيننا - حتى الآن - كما كانوا على مرِّ العصور، رغم تغيُّر الظروف والمعطيات وتغيُّر المفاهيم. وما يدفعك إلى مثل هذا التخمين هو ما تتلمسه من فكرٍ يعود اليوم، بكل محبة وثقة، ليواجه كلَّ الجهالات التي كانت وما زالت تسعى للتحكم بنا. وهذا ليس مجرَّد شعور. وتتساءل عن الفائدة من مثل هذه المحاولة التي قد لا توصلك إلى شيء في نهاية المطاف؟
مذهب التوحيد، أي إثبات أن مبدأ كل وجود مبدأ واحد من حيث الماهية، نقطة أساسية تشترك فيها المنقولات الأرثوذكسية كافة – حتى إنه يجوز لنا القول بأن تطابُقها في العمق يظهر حول هذه النقطة بالذات على أوضح ما يكون، مترجَمًا إلى تطابُق في التعبير حتى. فبالفعل، حين تكون المقصودة هي الوحدة يمَّحى كل تنوع؛ أما حين يتم النزول إلى الكثرة فتظهر اختلافات الأشكال، وتكون كيفيات التعبير نفسها عندئذ عديدة عديدَ ما تشير إليه، ومن شأنها أن تتنوع تنوعًا غير محدود لتتكيف مع ظروف الأزمنة والأمكنة. لكن "التوحيد واحد"، كما تقول العرب؛ أي أنه في كل مكان دومًا نفسه، ثابت ثبات المبدأ، مستقل عن الكثرة والتغير اللذين لا يقدران أن يؤثرا إلا في التطبيقات من رتبة عَرَضية.
|
|
|