|
المفهوم السِّرَّاني للبنائية
ندره اليازجي
ليست البنائية الروحية
حكرًا لعقيدة خاصة صديقي أكرم: قرأت بحثك الذي هدفتَ فيه، عبر منظورك، أن تتحدث عن "البنائية"[1]. قرأته بوعي جعلني أتمثل حقيقة هذه "البنائية" تمامًا كما تمثَّلها حكماء الماضي عامة وحكماء شرقنا المضيء بإشراقه خاصة. وفي سبيل توضيح الحكمة الماثلة في مفهوم "البنائية الروحية"، تقضي الضرورة أن أتحدث عن البنائية الكونية، والطبيعة الكائنة، على نحو تضمَّن في الإنسان ذاته، أي في كيانه، والمجسَّدة، أو المشخَّصة في "البنائية الخارجية"، أي البنائية المكانية المحققة في بناء الهيكل أو مكان العبادة أو أي مكان آخر. ولما كانت بنائية الهيكل، أي مكان العبادة، ترمز إلى بنائية جسد الإنسان وروحه من وجهة نظر إيزوتيرية أي سرَّانية، فقد تم بناء الهيكل أو مكان العبادة وفق التقسيم الداخلي، أي الإيزوتيري أو العرفاني الموحِّد لجسد الإنسان وروحه في كيان واحد غير قابل للانقسام. ولما كنا، في حكمة شرقنا، نعتبر مكان العبادة الذي دعي "هيكل سليمان" المثال الأفضل لـ"البنائية الروحية" الفينيقية أو الكنعانية التي كان الفينيقيون والكنعانيون يهندسونها أو يمارسونها، وسعى إلى تحقيقها "حيرام" الفينيقي في هندسة بنائه للهيكل الحجري المعروف بهيكل سليمان، فإنني أسعى إلى البحث في تكامل البنائيتين، أي بنائية الجسد الإنساني والهيكل الحجري، أو المعبد الحجري. في هذا المنظور، أعلم، على نحو يقيني، أن البناء الذي دُعي هيكل سليمان، وقام بهندسته وبنائه حيرام الفينيقي، كان ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسة: 1. الفناء الخارجي، أي الساحة الخارجية. 2. المدخل ذو الأعمدة الخمسة. 3. القسم الداخلي الذي يضم في نطاقه: أ. غرفة الذبيحة أي المذبح. ب. غرفة قدس الأقداس. لمّا كانت البنائية الكونية والطبيعية ماثلة في كيان الإنسان، فإني متيقن أن "بنائية الهيكل" أي مكان العبادة تتماثل مع بنائية الإنسان ذاته. وعلى هذا الأساس، أود أن أذكر المقارنة والمقاربة المتكاملتين بين بنائية جسد الإنسان المتضمنة أو المشتملة على كل ما يوجد في الطبيعة والكون، وبنائية الهيكل الحجري، على النحو التالي: 1. الفناء الخارجي، أي الساحة الخارجية، ترمز إلى العالم الخارجي. 2. الأعمدة الخمسة القائمة في المدخل ترمز إلى الحواس الخمس التي هي المدخل الذي من خلاله يلج عالم الخارج إلى عالم الداخل. وهكذا، يصبح عالم الخارج متحِّدًا بكامله في عالم الداخل، ولا يعود الإنسان خاضعًا لتلقائية حواسه الخمس التي هي مجرد مدخل، أي أنها مجرد بوابة عبور فقط. والحق أن الإنسان، الذي يحيا ضمن نطاق حواسه الخمس، لن يكون قادرًا على معرفة سرَّانية كيانه، وسيبقى محتجزًا داخل ظلمة المادة. 3. غرفة الذبيحة وقدس الأقداس، أي الروح، اللذان يرمزان إلى عالم الداخل حيث يقدِّم الإنسان ذاته ذبيحة حية، طاهرة ونقية على نحوٍ يكون الجسد فيه هو الذبيحة الحقيقية، وليس الذبيحة الحيوانية، أو القربان أو أي تقدمة أخرى تكون دعاءً للمغفرة أو للطلب المادي. وفي هذا المنظور، لا يكون وجود الإنسان، إثر تقدمة نفسه ذبيحة، حضورًا روحيًا في قدس الأقداس ما لم يقدم جسده ذبيحة حية وطاهرة، أي ما لم يتجاوز عالم الجسد، أي جسدية المادة، إلى عالم الروح. وهذا يعني أن الجسد هو هيكل الروح. وهكذا، يحقق الجسد روحانيته على نحوٍ تكون فيه الروح والجسد، الذي هو كمال تطور المادة، حقيقة واحدة. تلك كانت بنائية حيرام الفينيقي الذي وُجد مقتولاً بين المذبح وقدس الأقداس. وإثر اغتياله تقدمت جسدية الهيكل، أي مادية البنائية المكانية، وحدها، وتراجعت سرَّانية وروحانية الهيكل، أي روحانية البنائية، وتمَّ الفصل بين الروح والمادة، وانتصر السلب في العالم المادي. هذا السلب الذي أدعوه إبليس. هكذا، تتراجع سرَّانية المبادئ لصالح ظاهرية العقائد أو الشعائر المجسَّدة بالعبادة الظاهرية على أيدي المنتفعين الذين يؤمنون بظاهر الحرف ويرفضون سرَّانية المعنى الماثلة في الروح. وبعد اغتيال حيرام، حدث تراجع أو تقهقر آخر في عام 36 ميلادية أدى إلى إسقاط آخر لروحانية الهيكل والتأكيد على بنائية المكان الظاهرية. صديقي، لما كنتَ قد تحدثتَ عن الأرملة وأبنائها، فإني أسعى إلى البحث عن حقيقة رمزيتها وسرَّانيتها على النحو التالي: أولاً: الأرملة بوصفها أم العالم المحتجبة في سرَّانيتها. ثانيًا: أشكال صوفيا-الحكمة. ثالثًا: طبيعة الأم-الحكمة. رابعًا: الإنسانية بوصفها اليتيمة الكبرى. أولاً: الأرملة بوصفها الأم المحتجبة في سرَّانيتها أبدأ بحثي بالتساؤل التالي: ماهي سرَّانية الأم المقدسة التي هي، كما يدعوها الحكماء، أم العالم؟ لماذا يذكر بعضهم أنها محتجبة؟ هل ثمة ما دعتنا إلى تحقيقه في القديم؟ وما الذي تدعونا إلى تحقيقه أو معرفته في هذا العصر؟ يبدو لي أن البشرية المعاصرة تمثل الأرملة الماثلة في الأم المقدسة - البشرية التي تجردت من طبيعتها المادية، وطبيعتها الروحية، وطبيعتها الإنسانية، وتسعى إلى تدمير الأرض والقضاء على التوازن الإيكولوجي. لذا، تقضي الضرورة والواجب أن نتمثل ثيزيوس، بطل الأسطورة اليونانية، الذي احتفظ بخيط أريادنه الذهبي، أي المبدأ الأنثوي، لكي يجد طريق عودته خارج نمط الحياة المعاصرة حيث ينتظر الوحش مينوتور كي يبتلعنا نحن الذين نخاف أن نفقد انضباطنا العقلي والمنطقي، ونفقد ثقتنا بحدسنا وجانبنا الأنثوي، رجالاً كنّا أو نساء، ونخشى التخلّي عن وهم انفصالنا لكي نعاين صلتنا الداخلية مع الطبيعة والكون، أي الصلة التي هي منظورنا الأنثوي. هكذا، يمثِّل المبدأ الأنثوي الكامن في كل واحد منَّا روح الأرض، أي أكثر جذورنا عمقًا بوصفنا كائنات إنسانية. والحق أن علة ألمنا السلبي تعود إلى اغترابنا عن هذه الصلة الماثلة في هذه الجذور العميقة. من جانبي أعترف بوجود علاج لهذا الاغتراب، وهو ما ندعوه الوعي أو اليقظة التي تعيدنا إلى معرفة، أو تحقيق، الألوهة المحتجبة من جديد. وتعتبر هذه اليقظة، أو الوعي، عودة إلى معرفة أو تحقيق أو إجلال الإله المحايث، أي الحضور الإلهي داخل كل إنسان وداخل الطبيعة، أكثر منه عودة إلى الإله المتعالي أو المفارق الذي يتجاوزنا على نحو عدم حضوره في داخلنا. وفي سبيل اتصال أفضل وأكثر اكتمالاً مع الأنثى المقدسة في داخلنا، يجب علينا أن نتمثَّل النور في داخلنا، ونأتي بالسماء إلى الأرض. وهكذا، نعلم أن الروحانية كامنة داخل أجسادنا وداخل الأرض ذاتها، وليست موجودة فقط في سماء بعيدة عنا. ومتى اعتبرنا الروحانية وجودًا متعاليًا، وقصِّية عن حياتنا اليومية، نعلم أنها تقسمنا إلى قسمين مريعين على نحو يجعلاننا نميل إلى إهمال أجسادنا والتخلي عن الطبيعة. ومتى أقصينا سرَّانية الروحانية عن المجال الفيزيائي، نعلم أننا تركنا العالم مسرحًا لأناس يحرِّضهم الطمع، الأنانية، المصلحة الفردية، والخير الذاتي وليس الخير العام. لذا، فإن العودة اليقظة إلى الإلهة المحتجبة تساعدنا على احترام وتقدير وإجلال القداسة الكامنة في الحياة الفيزيائية أي المادية، وفي أنفسنا، وفي العالم والكون. هكذا، يكون قانون الطبيعة، وقانون الإنسان، وقانون الكون قانونًا تأليفيًا واحدًا. والإنسان الحكيم، أي الإنسان الذي يعي حقيقة وجوده، هو الكائن الذي يحقق هذا القانون في صميم كيانه. في هذا السياق، يدرك الإنسان المبدأ الأنثوي الكامن في عمق كيانه، ويسعى إلى تحقيق الصلة أو العلاقة الضامنة والموحدة لجميع الأشياء، ويرفض، في سعيه هذا، آلية المدنية المعتمدة والمهدمة للحياة. وإن كان الوعي الذكري يحلِّل الأشياء، ويعزلها عن بعضها، ويصنِّفها على حدة، فإن الوعي الأنثوي يعلِّم كيف يتصل كلُّ شيء مع كلِّ شيء آخر، ويشكِّل كلاً واحدًا لا يقبل الفصل أو التقسيم. وهكذا، يمكنني أن أدعو هذا الوعي الأنثوي وعي القلب مقابل وعي الرأس الذكري. وهكذا يكون الوعي الأنثوي الأساس الذي يتأصل فيه الكون والكيان، ويهيء الخلفية الجوهرية التي ستكون الخلفية المقبلة لفعاليات الحياة. ومن هذا المصدر الأنثوي والقدرة على التواصل والتكامل والاتصال مع اللاشعور أو اللاوعي، الذي هو وعي كامن يتطلب التحقيق، ينبثق منظور جديد للعالم يتميز بتأثيره العميق على الحياة. وبالتالي، يدرك الإنسان كيف ينبثق المبدأ الأنثوي المحتجب من جديد ليكون قوة فاعلة في العالم. في هذا المنظور، ندرك كيف تنبثق سرَّانية أسطورة الإلهة من جديد في كل مكان من عالمنا المعاصر. وفي الوقت الحاضر، نرى كيف يتحقق النموذج أو المثال البدئي للإلهة إيزيس على أيدي الذين يهتمون أو يقفون إلى جانب وحدة الحياة قاطبة. وعلى سبيل المثال، نعلم من هذه الأسطورة المصرية، التي نجد لها مثيلاً في جميع الحضارات والأديان القديمة، كيف يقتل شت الشرير الإله أوزيريس، ويوزع أجزاء، أو أعضاء، جسده في كل أنحاء الأرض. وبالتالي، نعلم كيف تطوف زوجته الحزينة إيزيس، وتنتقل إلى أصقاع الأرض وهي تجمع الأجزاء المتناثرة لكي تعيد له، أو تخلق من جديد، كليَّة كيانه. وفي الوقت الحاضر، بدأ عدد كبير من الأشخاص المتميِّزين بالحكمة استعادة إحساسهم أو شعورهم أو حدسهم بالوحدة في داخلهم وداخل العالم نتيجة لبحثهم الدؤوب عن الأجزاء المفقودة، وإعادة جمعها وتوحيدها من جديد. وفي إعادة جمع الأجزاء أو الأقسام المنفصلة أو المعزولة للحضارات ولأمم العالم، يُسهم من يتمثلون بإيزيس في خلق، أو إبداع، أو تكوين، حضارة عالمية تعنى بإحداث تكامل لمقاصد أو أهداف الصفات أو النوعيات الذكرية المتطورة في نطاقيها العقلي والعملي. يؤسفني أن أقول: إن العقل الإنعزالي، أو العقل التقسمي، الذي يتميز به الإنسان المعاصر، أي العقل الذي يفصل الأشياء عن بعضها، ويعزلها إلى أجزاء، ويصنِّفها في اختصاصات ومناهج، يحول دون رؤية الصورة بكاملها. لقد استطاع هذا العقل تدمير الحياة بعزله، وتقسيمه، وتصنيفه. وعلى الرغم من ذلك، نرى الإلهة، أي الوعي الأنثوي الذي استهل رحلة انبثاقه من جديد في كل من الرجل والمرأة في كل أنحاء العالم، يسعى جاهدًا لاستعادة النظام الكلِّي المتضمَّن في العالم. وهكذا، بدأ الوعي الأنثوي، أي اليقظة الأنثوية، بالإضافة إلى الوعي الإيكولوجي، في استعادة بعض العوامل أو العناصر الهامة التي لم تكن قائمة أو ماثلة في فهمنا، وفي استراتيجية تفكيرنا، ومنظوراتنا السياسية. وهكذا، يعتبر الوعي الأنثوي وعيًا منبثًا أو منتشرًا يشير إلى اتصالية جميع الأشياء وإلى تداخل كل شيء في أو مع كل شيء آخر. وبالمثل، يعتمد الفكر الإيكولوجي على الوعي الماثل في النموذج أو النسق الذي يصل كل شيء بكل شيء آخر، ويعلن أن أي أذيِّة تلحق بشيء تلحق بجميع الأشياء الأخرى. يمكنني أن أقول: إن العصر الحديث يتميز باهتمام متنامٍ بالأم الحكيمة المقدسة أي بإلهة الأرض أو بالإنسانية الأرملة. ففي غالبية حضارات وأديان العالم القديمة، كانت الألهة أو الأم الكبرى والعظمى تحتل المركز الأول في العبادة. لذا، نجد كيف أن الإسم الإغريقي لإلهة الأرض G أو Gaia بدأ يجذب اهتمام العلماء الذين أعلنو أن الأرض كيان حيٌّ له نفس تنبض بالحياة، وتكمن فيه الخصائص العقلية والنفسية. هكذا، نعلم أن السرَّانية اليونانية الكلاسيكية مثل Eleusus التي دامت ألفي عام، كانت في صلب سرَّانية الإلهة دِمتر Demeter وبرسفون Persophon؛ وكانت تقبل المنتسبين إليها من الرجال والنساء على نحو سواء من كل أنحاء العالم. وكان تقويض أو تشويه مبادئ الأسرار شبيهًا بتقويض أو تشويه الديمقراطية في عصرنا الحالي. وكانت أمرأة تترأسس هيكل دلفي على نحو دائم. وكان كبار المفكرين والفلاسفة يستشيرونها في الأمور والقضايا الهامة. وكانت بنائية المكان تُعتبر المكان المقدس لـ Gaia أي إلهة الأرض قبل أن يصبح الهيكل معبدًا لأبولو الذي اعتُبر شمس الله. في الوقت الحاضر، يتأمل عدد كبير من الناس التأثير الذي خلَّفته الإلهة أو الأم الكبرى والعظمى. والحق، إن الاهتمام بصحة وحكمة الجسد يُعتبر جزءًا من اليقظة الجديدة الماثلة في تأمل النموذج أو النمط الأصلي أو البدئي للإلهة. هذا، لأن الجسد كان يُعتبر وعاء أو هيكل الأم العظمى في كل الأديان والحضارات القديمة. والحق، إن هذا الاهتمام كان يمارس في الهياكل والمعابد القديمة المماثلة لهيكل دلفي في جميع البلدان الأخرى، وكان تطوير أو تنمية الحدْس ممارسة عميقة الصلة بصوفيا إلهة الحكمة. وكانت بنائية المكان وبنائية الروح متلازمتين في التطبيق والتحقيق. أخلص إلى القول: إن لانهاية المكان كانت تُدعى "الأم". وظلت هذه التسمية قائمة حتى بداية نشاطها أو فعاليتها الكونية. وهكذا، نستنتج ما يلي: 1. تُعتبر ظاهرة الأنثى في العالم المتجلي، المرموز إليها بالأم العذراء في الديانات العالمية، جوهر المادة الذي يساعد الألوهة بأن تكشف عن كيانها في عملية التجلِّي أو الظهور أو الصدور. 2. الطبيعة ذاتها هي أم جميع الأشكال. 3. القمر، بوصفه رمز الحياة المنشئة أي المكوِّنة والخالقة للأشكال، هو رمز تشكيل الطبيعة أو تكوينها. 4. تركيز القدرة الأنثوية في الطبيعة رمز يشير إلى "أم العالم". 5. الإلهة، بظهوراتها كلها، رمز لوحدة شمول الحياة في الطبيعة. إنها تدعى الإلهة الأم العظمى أو الكبرى. ثانيًا: طبيعة الأم العظمى-الحكمة تعتبر الأم العظمى صورة الحقيقة الأكثر قدمًا وانتشارًا بين الشعوب. وفي سرَّانيتها، أو في ظاهرها، تبدو لنا بأنها تتميَّز بقدرة خارقة، وحكمة عظمى، وإلفة كبرى في قلب أو وسط كل حضارة رائعة. فهي تضيء أو تنير الكون كله لسبب هو أنها ليست إلهة محلية أو محدودة بقدرِ ما هي الأم الكونية. وبالفعل، تعبِّر عن نفسها بسلاسة ووضوح داخل كل سرَّانية مقدسة دون أن تجذب الانتباه إلى طبيعتها الأنثوية. هكذا، نعلم أن أنواعًا متعددة من التعابير والمصطلحات المُلحقة بقدسيتها شملت العالم القديم. والحق، إن تقليد الإلهة الحي والمتحقق في كل مكان على هذه الأرض، يرشدنا، ويحمينا، ويرهبنا، ويحرِّضنا، ويشفينا، ويحررنا، ويضيء سبيلنا. وإن كونها الأم العظمى للكون وأشكاله الحياتية لا يقِّل أهمية عن كونها وثيقة الصلة مع كل روح إنسانية هامة. وتعتبر هذه الصلة صوفية في جوهرها، أي حكيمة في حقيقتها. يظهر تقليد الإلهة في صلب التحقيق أو الممارسة على كوكبنا في الوقت الحاضر في الهندوسية والبوذية. ويلاحظ بعض الباحثين أن غالبية المعلمين والممارسين المتقدمين في هذا التقليد هم الذكور. ولا يعتبر هذا الواقع عقبة تعيق فعالية طاقة الإلهة وقدرتها. هذا، لأن الحركة الكبرى على الأرض في الوقت الحاضر ماثلة في الحركة النسائية. ويعتبر هذا التغيير الطارئ برهانًا يتميز بأهميته القصوى لصالح النساء المعاصرات في نطاق الممارسة الروحية. يمكننا أن نرى، ونحن نتأمل الحياة القديمة والحديثة، القدرة المنشئة، والمثقفة، والمحررة للإلهة الأنثوية. إننا نعاينها وهي تفعل في المستويات الأعمق لحكمة الحضارة. فهي تعمل على نحو مباشر من خلال الإنسانية جمعاء، ومن خلال الرجال والنساء بالدرجة الأولى. تشير بعض الأبحاث إلى أن الإلهة الأم هي الخلق المبدع، والمقدس الإلهي، والقدرة الكامنة والفاعلة في التطور، والوعي الذي لا يحد بزمان ومكان، والحقيقة المتعالية أو المتسامية، وكما تذكر النصوص التانترية: هي كل امرأة. إنها تشكل المبدأ الأنثوي داخل كل ذكر وأنثى حيث يتجلى فيه الجنس الأنثوي الحرُّ، أي الأم-الحكمة المضيئة، والغبطة والوعي المجرد من الثنائية. ويعبر هذا المبدأ الأنثوي عن علاقة وثيقة ووحدة مع الإلهة-الحكمة عبر هذه المزايا المتعددة وعبر صفاتها المقدسة والإلهية. وهكذا، نستطيع أن نحقق حضور الأم، ونتصل مع الطيف الكامل لتجلِّيها وظهورها، ونستغرق على نحو تدريجي معها على كل مستوى من مستويات الكيان، ونتكل أو نعتمد عليها لكي نجد حلاً يساعدنا على تجاوز معضلة حياتنا. هذا، لأن مرضنا المزمن والمستعصي يكمن، في أساسه، في خضوعنا للفردية الإنعزالية، ولماديتنا المُغرقة كما اعتدنا على إدراكهما والخضوع لهما. ويعتبر هذا الإدراك والخضوع شكلاً من أشكال الجنون، وتضخيمًا مأساويًا للأنا المتملكة والمتسلطة. وليس بوسعنا الخلاص من هذا الجنون، ومن تضخيم مركزية الأنا، إلا بلقائنا الأليف والمحب مع الأم العظمى-الحكمة. وهكذا، نعتبر الكون كله مضمونًا في داخل الإنسان، ويخصُّه وحده. يصف بعضهم الحماقة أو الجنون الفردي والجماعي لمركزية الأنا بأنه مجرد إسقاط أو مجرد انعكاس للحقيقة. وهكذا، لا يحصل الإنسان على الغبطة الحقيقة نتيجة لانغماسه في استراتيجية معقدة، أكانت مادية أم دينية، بل نتيجة لتعمقه في وعي أصلي وبدئي، يسبق عملية الإسقاط والانعكاس ويتجاوزها في آن واحد. هذا، لأن الكون المنعكس فينا ليس إلا انعكاسًا باهتًا للحقيقة الإلهية السامية. وفي محاولة الحصول على الصورة المنعكسة، نخدع أنفسنا دون أن نحصل على التجربة الروحية الحقيقية أو نحققها. لذا، يجب علينا أن نلتفت إلى الأساس لكي نكتشف الكنز اللامحدود للسعادة والغبطة الكامنتين في داخلنا. في نطاق الانعكاس، نجد أنفسنا وجهًا لوجه مع التطور المحتوم لظروف فيزيائية وعقلية لا تُحصى. ومع ذلك، يبقى النطاق اللامحدود واللامتعيَّن للوعي الأصلي أو البدئي بسيطًا وحرًّا على الدوام، ولا يكون مشروطًا أو مقيدًا بالشدة أو الضغط الناتج عن الفكر والموضوع. والحق أقول: إن العالم الفينومنولوجي، أي الظاهري، ليس إلا الوعي الخاص واللانهائي للأم- الحكمة. لذا، يعتبر هذا الوعي الباب المؤدي إلى التجربة الروحية المختبرة والمباشرة لوعي لازماني هو وعي ديناميكي، نقي ولطيف تعززه الإلهة-الحكمة التي تسكن داخل كل فكرة واعية، وكل حركة واعية وكل إدراك واع. يتجلَّى الكون في كل ظاهرة وهو ينبض بالحياة ضمن وحدة أو كلية الحقيقة-الأم-الحكمة التي تنعم في غبطتها. وتتجلَّى هذه الإلهة-الحكمة في كل الأحداث، والأنماط، والمعاني، وتشمل كلِّية الحضارات والأديان التي تعبر الحدود الحضارية التي تتضمن فيها. وهكذا، تظهر جميع الأشكال وتختفي ضمن سرَّانية اللاشكلية للأم-الحكمة. ويعتبر الانفتاح إلى سرانيتها ولوجًا إلى نطاق البصيرة السامية التي هي فجر الإستنارة، أي اليقظة التي تضع نهاية لواقع الثنائية. وهكذا، يتَّحد شكلها وكل شكل آخر في ظلمة مشعة. في ذروة هذه التجربة المُلهمة، تُدرَك الأم-الحكمة وحدها في، ومن خلال، كل كشف أو ظهور، ويُدرَك المدرَك أيضًا. وفي هذه التجربة الروحية المُختبرة، يتعامل الإنسان مع قدرة الإلهة-الحكمة، ويعاين الانسجام الذي يؤلف جميع الأشياء في تكامل الوحدة. ثالثًا: أشكال صوفيا-الحكمة، أو هندسة الروح تستتر صوفيا، إلهة الحكمة، في الطبيعة. ومع ذلك، يبحث عنها الفلاسفة، محبّو الحكمة، خارج الطبيعة، ويتحدثون عن المفاهيم الروحية المقدسة في الأمور أو الأشياء المألوفة. ويعتبر بعضهم صوفيا الحكمة المقدسة، ويجعلونها تشخيصًا لعملية كونية أو لنموذج بدئي. وفي هذه الحالة، تكون صوفيا انتشارًا للحكمة والذكاء القدسي، أو العقل الإلهي في عالم المادة. ويعتبر بعضهم حضور صوفيا-الحكمة في كل معلم أو ظاهرة من ظاهرات أو معالم حياتنا. وهكذا، نعلم أن صوفيا-الحكمة حاضرة على نحو دائم، وتحثنا لكي نكتشف حكمتها الكامنة في الأشكال عامة، وتضمين القيمة والمعنى في حياتنا وفي العالم. ولما كانت الأرض موطن الإنسان، وكان حضور صوفيا-الحكمة ضرورة تلازمنا لنعود بها إلى نطاق حكمتها، وجمالها، ونظامها، فإن واجبنا يقضي بتحقيق هذه الضرورة الطبيعية والكونية والإنسانية. تعتبر الهندسة المقدسة، أي العلم الروحي القديم الذي يسعى إلى معرفة معنى الأشكال - المربع، الدائرة، المثلث، المكعب، الصليب، الـ PI، والجسِّم كثير السطوح - مظهرًا أو معلمًا لحكمة صوفيا.
وهكذا، تكمن صوفيا-الحكمة على نحو ميثاق أو تصميم، وتستتر حولنا على نحو أنماط بدئية أو على نحو هندسة روحية. وتعتبر هذه الهندسة المعنى المضمون والمختبر للأنماط الهندسية والبُنى التي نجدها في كل مكان أو في كل شيء داخل التكوين الأرضي. لذا، كانت الأشكال والعلاقات الماثلة في الهندسة تمثِّل لغةً رمزية للنفس، وللأنماط البدئية التي تحدث عنها يونغ وعلم الفلك، أي علم الأسترولوجي في مفهومه القديم. وفي هذه الثلاثة، ندرك كيف نفكر على نحو رمزي. وعندما نتعمَّق في دراسة فكر يونغ، ندرك كيف تتماثل الأنماط البدئية الماثلة في الأم-الحكمة، والبطل، والطفل الإلهي، والرجل المسن الحكيم. لذا، نجد داخل أو ضمن ديناميكية الأسترولوجيا السجلَّ الأعظم للألجبرا algebra، أي عالم جبر الحياة. وبالإضافة إلى ذلك، نستطيع أن نميِّز في باطن ديناميكية الأسترولوجي لغة وصفية بدئية لجميع العمليات النفسية داخل الإنسان. وتعتبر هذه اللغة خريطة تظهر كيف يتعامل الناس مع عملية الحياة المتطورة عبر التجربة المختبرة. وهكذا، نعلم أنها لغة رمزية تحتضن جميع العمليات التطورية الماثلة في الأنماط البدئية. وبالإضافة إلى ذلك، نختبر الهندسة داخل أنفسنا بوصفها حكمة رمزية هي مورفولوجيا التصورات التي هي، بدورها، أشكال الحكمة ذاتها. لذا، نجد خلف كل ظاهرة فيزيائية، انطلاقًا من البللورات إلى الزهور والأشكال الأكثر تعقيدًا، تضمينًا روحيًا. هكذا، تتوسَّط صوفيا-الحكمة بين عالم الخارج وعالم الداخل، أي، كما يقول يونغ، بين محور الأنا والنفس. وبالإضافة إلى ذلك، توحِّدنا صوفيا-الحكمة مع العالم. والحق، إن تجربتنا الروحية المختبرة لإعادة توحيد العالمين، الخارجي والداخلي، تعتبر مصدرًا أو أساسًا للبصيرة والغبطة. وفي هذه الحالة، تساعدنا على فهم العالم على نحو أفضل. وعندما ندرك أن صوفيا-الحكمة هي الزميلة التي تساعد الألوهة على مثولها في العالم، ندرك، في الوقت ذاته، أنها كوَّنت العالم المادي، وهندسته على النحو الذي يشير إلى تضمين العقل الإلهي في الأشكال. عندئذ، استترت صوفيا في المادة وكأنها نقاط من النور، وتركت آثارها في كل مكان. وبعد ذلك، أبدع الله الإنسانية لكي تكتمل صوفيا-الحكمة في وحدتها من جديد، ولكي نكتشفها من جديد ونتذكرها. لذا، تستتر صوفيا في كل ذرة وكل خلية تمامًا كما تستتر على نحو إلهام ورؤيا في داخلنا، هي بصيرة. وبهذا التستُّر أو التخفِّي أبدعت صوفيا–الحكمة أشكال الهندسة كبداءة لأوضاعنا أو أحوالنا النفسية، وكشيء يمكننا أن نراه في الواقع، ونختبره. في هذا المنظور، نعلم أن الطبيعة تستتر، في غموضها، ضمن أو داخل أنماط هندسية سابقة لوجودها، وبواسطة صوفيا-الحكمة التي حاكتها، وشكَّلتها، وكوَّنتها بإبداع، بخيوط شبكتها. وعندما نكتشفها، يستعيد العالم نظامه الحافل بالقيمة والمعنى، ونتجاوز، عبر هذا الكشف، مفهوم الفوضى والعماء. وعندما نكتشف الدلائل الماثلة في صوفيا-الحكمة، نعلم أننا قد حصلنا على البراهين الأولية التي تؤكد وجود أو حضور النظام الإلهي. لذا، كانت المشاكل التي نصادفها في عصرنا الحالي، سواء أكانت مشاكل فردية أم حضارية، نتيجة لإقصاء صوفيا-الحكمة عن العلم، وإقصاء الأسترولوجيا عن الأسترونوميا، والهندسة عن الرياضيات، والمعنى الباطني للأشياء عن ظاهرها. هذا، لأننا، في حياتنا، نفقد المعنى المضمون في التفكير الرمزي كما نفقد العملية التطورية المستترة. ولقد تحولت مفاهيمنا وتصوراتنا إلى أقطاب متصارعة أو متنازعة. والحق، إن نسياننا لصوفيا-الحكمة كلَّف البشرية الكثير من المعاناة والألم، الأمر الذي أوقع الخلاف بين الرجل والمرأة، هذا الخلاف الذي أدى إلى سيطرة الذكورة واستبعاد الحكمة-الأنثى. في هذا السياق، نحتاج إلى إعادة النظر لكي نستعيد التضمينات المستترة والكامنة داخل هذه الرموز الفيزيائية، والهندسية، والرياضية. لذا، كان البحث عن أنماط صوفيا-الحكمة البدئية ماثلاً في الحكمة المقدسة، أي الإلهية الكامنة في كل إنسان وفي المبدأ المتضمَّن في الإبداع الفيزيائي والهندسي للكون. لذا، تعلمنا صوفيا-الحكمة، وتلهمنا عندما نكتشف سرِّها، وتؤكد وجودها أو حضورها لنا عبر أقطابها المتقابلة، والمتكاملة، والمتوافقة. لذا، تعتبر صوفيا-الحكمة المعزِّي، والروح القدس، والمرشد الداخلي والوجه الأنثوي للحدْس المُرسل إلينا ليؤكد لنا أن العالم منظَّم، وجميل، وحكيم، ويستحق محبتنا. في هذه الحالة، يتماثل اكتشاف صوفيا-الحكمة المختبئة في الطبيعة والمستترة فيها مع إطلاق سراح الروح السجينة في المادة، أو ما أشار إليه الخيميائيون القدامى ودعوه "الحمامة في الحجر".
الحمامة في الحجر وهذا يعني أن صوفيا-الحكمة كانت، في قديم الزمان، ترمز إلى الحمامة البيضاء الماثلة في الروح القدس، أي بوصفها جزءًا من الثالوث المقدس، وكانت، في الوقت ذاته، ترمز إلى التحرر أو الانعتاق من "حجر" المادة بالمحبة التي هي الصفة الرمزية للمحبة المخلِّصة. عندما نتأمل الدائرة، ندرك أن فراغها كان يعتبر، منذ القديم، رمزًا للروح اللامتجسِّدة أو اللاظاهرية، أي وجه الله، أو الشمس الداخلية، أو اللؤلؤة القيِّمة، أو المركز الأبدي في داخلنا. وعندما نتفحَّص حقيقة الدائرة، ندرك أنه يمكننا أن نفترض أننا نرى المساحة المحتواة ضمنها أو داخلها، لكننا، مع ذلك، نعرف أن مساحة الدائرة لا تُحد، ولا تُحسب، ولا تُدرك. وهذا يعني أنها مجهولة. هذا، لأن سرَّانية الـ"PI" تحول دون هذه المعرفة. وفي الهندسة، تعتبر الـ"PI" معادلة تُظهر أو تعيِّن نسبة محيط الدائرة لقطرها. وقد أغضب هذا الأمر الرياضيين لعصور مديدة. وفي الوقت الحاضر، استطاعت الحواسب أن تبلغ، في حسابها، ملايين الأرقام العشرية. وهذا يعني أن هذا الرقم لا نهائي، ويعني، أكثر من ذلك، بأننا لا نستطيع أن نقيس كل شيء ونشرحه، إنما نستطيع أن نقارب حقيقة الشيء. وهكذا، تكون الدائرة الفارغة، من خلال الـ"PI" رمزًا مرئيًا للامعلوم أي للمجهول، تمامًا كما تكون النفس رمزًا مرئيًا للمجهول. وبالتالي، تجعلنا صوفيا-الحكمة نتواضع إزاء هذا الأمر. وهكذا، يعتبر الـ"PI" رمزًا سرَّانيًا قادرًا على تحقيق انفتاح بصيرتنا. والحق، إن صوفيا-الحكمة تفتح لنا بابًا ندخل من خلاله، أو تشق لنا طريقًا نعبره إلى سرَّانية النفس المجهولة أو اللامعلومة. عندما نضع نقطة في وسط الدائرة، نعلم أنها تشكل نقطة الإدراك وبداية الكشف لعالم الروح. وعندما نمدُّ خطًا من محيط الدائرة إلى النقطة، نعلم أننا نحصل على نصف قطر هو رمز هندسي يشير إلى طريقة أو كيفية اتصال الشخصية، أو الأنا مع النفس. وهكذا، تدور الأنا على نحو لولبيٍّ حول محيط الدائرة، أي على طول محيط كلية النفس، وهي تسعى جاهدة في بحثها عن الإستنارة، بمعنى أنها تبحث عن النقطة المركزية. هكذا، نعلم أن حياة الأنا تتمثل في استمرارية البحث، أي في استمرارية الدوران في دائرة، ومحاولة تقييم آلاف آلاف الأشياء في العالم الظاهري، إنما تعجز عن ذلك. وفي الواقع، يصيبنا التعب من هذا الدوران الذي لا ينتهي، ونشعر، نتيجة لذلك، بالضياع والمعاناة من أزمة نفسية. عندئذٍ، ندرك أن واجبنا يقضي بالدخول إلى المركز أو الوسط الذي هو نصف القطر، أي الطريق الوحيد الذي تعبره الأنا التي تعاني من الدوران حول المحيط. وهكذا، يكون نصف القطر الطريق الوحيد الممتد من الأنا إلى المحيط، إلى الضيف الإلهي أي النفس المتلألئة بالإشراق والضياء. يعتبر نصف القطر خطًا فريدًا مستقيمًا، والبعد الأول الناتج عن الامتداد. وكذلك، يعتبر برهانًا أو دليلاً عميقًا للثنائية التي تختبرها الأنا. ويمثل هذا الخط الطول المجرد من العرض، والمسافة الأقصر بين نقطتين. 1 ــــــــــــ 2 إنه خط يقسم الواحد إلى اثنين. ويتضمن هذا الخط القسمة، والآخر، والأقطاب المتقابلة، والسماء والأرض، والداخل والخارج. ومع ذلك، يجذبنا الخط المستقيم إلى أكثر المسائل الجدلية اهتمامًا في عصرنا الحديث، ألا وهي قضية العلاقة الوثيقة التي لا يمكننا تجنُّبها. وإذا اقتضى الأمر ظهور نصف القطر في امتداده أو الكشف، فإنما يجب عليه أن يضحي ببراءة النفس في سبيل عالم يسوده البُعد والثنائية حيث يهيمن الألم. ويلازم الخط الزمان الخطي الذي هو مجرد سلَّم من المراتب والشاكرات. والحق، إن المراكز الروحية الداخلية، المدعوة "شاكرا"، مرتبة عموديًا على نحو متجاور للعمود الفقري بحيث أن كليهما يمثلان كلِّية الوظائف العليا المتكاملة للوعي. وفي هذا التجاور والتكامل، يُلغى الانفصال، وتسود العلاقة الودية المتداخلة. لذا، نقول: تنتظرنا صوفيا-الحكمة المعزِّية والمحبة على الجسر القائم بين الأقطاب لكي ترشدنا إلى مسكننا الحقيقي. في هذا المنظور، يعتبر الصليب جسرًا يصل بين أقطاب. ويحدثنا المبدأ الإيزوتيري كيف صُلبت الروح الإنسانية على صليب المادة الثنائي المصنوع من محورين هما الزمان والمكان. ويعتبر الخط العمودي ذكريًا وخلاَّقًا بينما يعتبر الخط الأفقي أنثويًا ومتلقيًا على نحوٍ يمثل الخطان فيه ثنائية الكيان الإنساني المميز بمعلمي الذكورة والأنوثة. ولكونهما صليبًا، يمثلان، في الوقت ذاته، العلاقة الوثيقة بين هذين المعلمين. وهكذا، يعتبر الصليب أحد أقدم الرموز الهندسية التي عرفتها شعوب البشرية. ولم يكن الصليب رمزًا خاصًا بالمسيحية وحدها. لقد عرفته شعوب غنوصية أو إيزوتيرية عديدة. ويمثل أحد أسراره في كون المكعب تعبيرًا ثلاثي البعد له، تمامًا كما يكون الشكل كثير السطوح أحد أسراره المتلازم، على نحو أبدي، مع المادة، ومع عنصر التراب على نحو خاص. وتبدو لنا الدهشة الصوفية-الحكيمة عندما تنفتح السطوح الست للمكعب لتصبح مكانًا يتميز ببعدين يشكلان الصليب.
يهبنا هذا الأمر المعادلات والصيغ الرمزية للمادة، والتجسُّد، والعلاقة الوثيقة، أي عملية الصلب. ومتى صنعنا مكعبًا مؤلفًا من سبع وعشرين مكعبًا، نجد أن المكعب السابع والعشرين يشغل مركز الوسط، ويكون في تماس مع كل مكعب آخر في المجموعة. وبالنسبة لصوفيا-الحكمة، نسأل: ما هو التضمين الروحي لهذا الواقع الهندسي؟ وعن هذا السؤال، نجيب: يعتبر المكعب المركزي، مثل النفس، حاضرًا في العالم الثلاثي البعد. ومع ذلك، يبقى مختلفًا وغير مرئي. وهنا تكمن النفس مطمئنة في مركز المكعَّب أو في صليب المادة أو في وسط حياتنا، وتذكرنا بأنها تمتلك أيضًا زائرًا إلهيًا مستترًا داخل الجسد المادي. في هذا المنظور، نسأل: كيف يمكننا أن نتسامى بثنائية الصليب المصنوع من خطين متقاطعين؟ ومن جانبنا، نجيب: إننا نتسامى بقدرة أو سلطة الثلاثة، أي المثلث على نحوٍ تكون فيه الأنا معلقة على القطبين المتقابلين والعائدين لهذا العالم الثنائي من أجل تحقيق حياة عزيزة وجليلة. ولكن، عندما ننظر إلى الأعلى من نقطة تلاقي الخط الأفقي مع الخط العمودي لنرى قمة الصليب، نتخيل بأننا ننشئ شكلاً ينطوي فيه خطان: أحدهما للهندسة، أي المكان المنطوي إذ نستعمل ثلاثة خطوط فقط تمثل المثلث. وعندئذ، ندهش لما يحدث في هذا المضمار، وندرك أن التفسير النفسي لهذه البنية الهندسية البسيطة هو ما اصطلح يونغ على تسميته "الوظيفة المتعالية" التي تشير إلى اتحاد الأقطاب المتقابلة. وهكذا، نعلم كيف ينغلق وينفتح كل قطب على الآخر، أي كيف ينفتح الوعي واللاوعي على بعضهما في حوار مماثل لمناقشة تبدو وكأنها مجابهة تُحدث توترًا يُحدث، بدوره، شيئًا ثالثًا حيًا. وتعتبر هذه العملية حركة تخرج عن نطاق التعطيل المؤقت بين الأقطاب المتعارضة لتبلغ مستوى جديداً للكيان يُعرف بأنه تأليف جديد. ويتحقق الحلُّ المناسب عندما ندرك الموضوع من مستوى آخر أو من بعد آخر. وهكذا، تتوسط صوفيا-الحكمة، الماثلة في الحدس، بين تعارضات الأنا، وترفعها نحو النفس نتيجة لتحرير البصيرة الروحية من التجربة. وبهذه الطريقة تنمو حكمتنا وتزداد. عندما تذكر كلمة "ننمو" نعلم أننا نضمِّن الرقم الذهبي الذي يمثل المبادئ كليَّة الحضور والماثلة في الطبيعة، الأمر الذي يجعل كلاً من الحركة، والتطور والتعديل المستمر ممكنًا. وهكذا، نجد phi، بوصفه الميزة الظاهرة للتصميم، في كل شيء انطلاقًا من أصغر الجزئيات إلى الإنسان. وفي وفاق مع الشكل الهندسي، تُبدع phi انفتاحًا أو تفتحًا لولبيًا. وفي الرياضيات، تبدع phi سلسلة مضافة. وتعكس كلا السلسلتين المتعاقبتين نسبة phi وهي تتطور وتنمو. تعتبر هذه النسبة أكثر الأمور روعة في أسرار الهندسة الإلهية. إنها اتساع يحقق فيه عقل الإنسان تجريدًا رياضيًا يتكامل مع قانون من قوانين الطبيعة ويتوافق معه، أي يتطابق معه. وهكذا، يحتل الرقم الذهبي الذروة الأعلى في الهندسة والرائعة المثلى. وهكذا، نعلم أن الله يهندس. وتؤكد أيضًا أن قيمة الرمزية تقبل البرهان هندسيًا. وبالتالي، يمكننا أن نقول: يمكن للرمز أن يؤدي إلى حقيقة تستطيع، عن طريق الامتداد والتوسع، أن تؤدي بنا إلى حقيقة أسمى وأعظم. وبالمثل، يمثل رمز هندسي مثل phi التجلِّي الإلهي الأبدي للإنسان في عالمنا الأرضي، ويظهر عظمة وسمو صوفيا-الحكمة.
في العالم القديم، شبه الحكماء تجلِّي صوفيا أو ظهورها بتربيع الدائرة. ويعد هذا التربيع الحل الأقصى والأسمى للتعارضات الثنائية لسبب هو أنه يستحيل علينا، على نحو تقني، أن تجعل من المربع دائرة. ومع ذلك، يجب أن نأخذ هذا الأمر بمعناه الرمزي لنعلم أن الدائرة ترمز إلى الروح والنفس، بينما يرمز المربع أو المكعب إلى المادة وإلى الأنا. لذا، كانت عملية تربيع الدائرة تمثل العملية المستمرة للكشف والظهور، وللتجسُّد والتشخيص. في لغة علم نفس الأعماق اليونغي، تدعى معالم انسجام وتكامل جميع معالم النفس محيط الدائرة. ويوصف نصف القطر وكل التناقضات والتعارضات بالتفرد أي التشخيص الذي يشير إلى عدم الانقسام. لذا، يكون تحقيق النفس، أي التشخيص وعدم الانقسام، مشروعًا طويل الأمد. ويمثل هذا المشروع ثيولوجيا الروح، أي الغاية السرَّانية لكوننا أحياء. وعندما نشبِّه تربيع الدائرة بالتجسُّد أو التشخيص، نعلم أننا نهدف إلى تمثُّل بصيرة عميقة فينا. ويشبَّه هذا التمثل بالإنسان الذي لبس الجسد المادي ويسعى جاهدًا إلى تجاوز المربع أو المكعب لكي يتَّسع إلى كلية النفس نتيجة لزيادة سطوح إضافية إلى شكله المكعب الأصلي. وعلى هذا الأساس، يتطور وينمو نتيجة لتتابع الشكل كثير السطوح النظامي حتى يبلغ المرحلة المعقدة للإثنى عشر في السطوح، أي الشكل ذا المئة وعشرين وجهًا أو سطحًا. وكلما أضاف سطوحًا خلال عملية التشخيص، يقترب المكعب من الكمال الدائري للنفس، ويربِّعه على نحو تقريبي. وعندئذ، يصبح الفرد بكامله إنسانيًا قدر الإمكان - الله يصبح إنسانًا. وهكذا، يكون التفرُّد أو التشخيص تجسُّدًا، أي هبوطًا إلى الجسد وإلى العالم الظاهري. في هذا المنظور، نعلم كيف هبطت صوفيا إلى عالم المادة واستترت فيه. لا يعنى الإنسان بقضية ما إن كانت الدائرة تتحول بكاملها إلى مربع، ولا يجعل منها قضية شبيهة بـ pi. إن اهتمام الإنسان يكمن في العملية التطورية النامية على نحو دائم. ومتى تأمل الإنسان هذه القضية الصعبة، تصوَّر وكأنه كائن في مركز هندباء برية مرصَّعة بالجواهر وهي في مرحلة الفُطر النفَّاث. هذا، لأن الهندباء البرية تعتبر وجهًا طبيعيًا لصوفيا-الحكمة. إنها معلِّمة حافلة بالعجائب - هي قُرص ذهبي من الأشياء في مرحلة معينة ودائرة كاملة وممتلئة بأنصاف قطر بيضاء مضيئة في مرحلة أخرى. وهكذا، تعتبر رمزًا حيًا وكاملاً بالنسبة للسرَّانية العظمى الكائنة في مركز الخليقة؛ إنها المحبة المضيئة بقوة الروح المشرقة. هذه هي البصيرة التي تسعى صوفيا-الحكمة أن تلهمنا إلى ما لانهاية. وفي الواقع، تتمثل هذه المحبة بتأكيدنا الودي، وتصميمنا على محبة العالم المادي ومحبة أسرار حكمته التي تساعدنا على تحرير حمامة صوفيا من حجارة العالم - أن نكون في العالم، ولا نكون فيه. وبجهد بسيط، نعاين العالم بعين مُحبَّة، ونستطيع أن نعاين صوفيا-الحكمة في ظهورها، وجمالها المشرق، ونعود بروح العالم إلى حياتها المؤهلة بيننا. والحق، إن اكتشاف هذا الواقع الكامن بعمق في الطبيعة وفينا يعتبر جزءًا من انبثاق جديد للمبدأ الأنثوي في هذه الفترة الزمنية. وإن عودة صوفيا-الحكمة المنبثقة في كل مكان، يعتبر قضية هامة. ولقد تنبأ بعض حكماء الماضي بحلول عصر جديد يتمثل بعصر الروح القدس. والحق، إن هذا العصر هو عصر صوفيا-الحكمة، أي حين تعلن صوفيا مبدأها التالي "إني أوحِّد جميع الأشياء". وهكذا، تصبح صوفيا-الحكمة حاملة الألوهة، أي الأم الداخلية للطفل الإلهي، أي النفس المتجسِّدة أو المشخصة في داخلنا. وتساعدنا صوفيا على الولادة من جديد، من خلال الروح، في العالم. وفي هذا العالم الجديد، أي في الولادة الجديدة، تساعدنا صوفيا على معاينة الأشكال الطبيعية للروح الإنسانية في الأشكال الهندسية الطبيعية. صديقي، أود قبل البدء ببحث موضوع تكامل المادة والروح في العلم والحكمة، أن أتحدث عن الحكمة في سرَّانيتها وعلنيتها، في شمولها وخصوصيتها، ضمن نطاقات ثلاثة متصلة في جوهرها: أولاً الحكمة الإلهية: هي الحكمة الجوهرية والكونية المستغرقة في ذاتها - أي في سكينة الأبدية والسرمدية؛ هي الحكمة الكلِّية والشاملة التي تتخلل الوجود وتثبت فيه على نحو حضور، دون تعيين أو تحديد؛ هي الحكمة التي ندعوها الحكمة الحقيقية السامية أو الوعي الكوني؛ هي الحكمة التي ندعوها ثيوصوفيا. ثانيًا الحكمة البدئية: هي الحكمة التي تميَّز بها إنسان البدء، الكائن الروحي الذي كان على اتصال وثيق مع الحكمة الكلية والكونية، هي الحكمة التي يتصف بها الكائن الإنساني-الروحي وهو يمارس اتصاله بالواقع المادي لكي يحقق حضوره الروحي في العالم المادي؛ هي الحكمة التي تشير إلى المعرفة من أجل المعرفة التي يختبرها الإنسان بالعلم الروحي؛ هي الحكمة التي ندعوها صوفيا؛ هي الحكمة التي تشير إلى كون العالم المادي ظهورًا للعالم الروحي، ويمارس فيه الإنسان سموه الروحي. ثالثًا محبة الحكمة: هي الحكمة التي تميز بها الإنسان بعد ممارسة اتصاله بالواقع المادي؛ هي فعل العقل الذي يحب الحكمة وهو يمارس تجربة وجوده في الواقع المادي عن طريق العقل؛ هي الحكمة التي تشير إلى المعرفة التي اختبرها الإنسان البدئي بالعلم الذي ندعوه العلم المادي؛ هي الحكمة العقلية التي ندعوها فيلوصوفيا؛ هي المستوى الذي تراجعت فيه الحكمة عن علاقتها الوثيقة مع الحكمة الإلهية. تشتمل الحكمة القديمة، أو البدئية-صوفيا، وهي تسعى إلى تحقيق الحكمة الإلهية-ثيوصوفيا على مستوى الطبيعة، على المبادئ الثلاثة التالية: 1. تحقيق الأخوة الإنسانية ومحبة جميع الناس بمعزل عن عرقهم أو لونهم أو عقيدتهم. 2. توحيد نطاقات الفكر الإنساني في دراسة مقارنة للدين، والفلسفة والعلم. 3. دراسة القوانين الإنسانية والطبيعة والكونية، والولوج إلى سرَّانية حضورها وظهورها، أي تجلِّيها. يعد هذا البحث تعبيرًا عن وجهة نظر الحكمة التي تبنَّت المبادئ التي نجدها في نصوص العالم القديم، وتتبنَّى، في آن واحد، المبادئ الماثلة في العلم الحديث. وتتمثل الحكمة القديمة في وعي شامل وكلِّي يتجاوز التقليد السائد في العقائد الفئوية والمذهبية الخاصة، وذلك لأنها تعتمد الحكمة في مصادرها وأشكالها المتنوعة. تؤمن الحكمة القديمة التي يدعوها بعضهم "ثيوصوفيا" بكل المبادئ السامية. وتسعى هذه الحكمة إلى تحقيق لقاء يوحِّد أبعاد الفكر الإنساني ومستويات تنوعاته دون الوقوف عند حدوده الضيقة وقواعده المشروطة. ولما كانت هذه الحكمة شاملة وكونية، فإنها تمثِّل تجلِّي مبدأ الشمول والكل على مستوى عالم الإنسان. ولئن كانت الحكمة تتصف بالشمول، إنما تتميَّز بخلفية تلقي، من خلالها، ضوءًا على ما جاء في الفلسفات العديدة لتنتقي من مبادئها ما يتماثل أو ينسجم مع هذه الخلفية أو اللوحة التي تُرسم عليها صور الإنسانية المشرقة. وفي هذا المنظور، ندرك أن الحكمة لا تقف من أي مبدأ موقف الرفض الكلي، أو تقف منه موقفًا سلبيًا أو عدائيًا. وعلى غير ذلك، تسعى إلى بناء جسر بينها وبين الحكمة المنطوية في المبادئ الأخرى. في هذا السياق، ندرك الجانب الفلسفي-الروحي والعلمي للحكمة البدئية التي تميَّز بها الإنسان الأول لدورنا الحالي الذي اصطُلح على تسميته بـ"آدم". أما الجانب العلمي، النظري والواقعي فإننا ندركه في المبادئ العقلية والمنطقية المتسامية التي يتحدث عنها العلماء-الحكماء الذين بلغوا، في بحوثهم، تخوم الحكمة المضمونة في صدر الحقيقة الواحدة الشاملة. وإن من يتعمق في دراسة هذه الفئة الواعية والحكيمة، يعلم أنها تتجاوز العلوم المادية التي نجدها في بطون الكتب وفي البحوث الرائعة. أولاً: الحكمة القديمة والعلم الحديث تبحث الحكمة البدئية في الموضوعات والقضايا المطروحة في نطاق الفكر الإنساني دون أن تتجاوز المستوى الذي بلغته العلوم التجريبية المختبرة التي ندعوها العلم المادي. وإن هي تجاوزتها، فلأنها تريد أن تشير إلى أن المستوى الذي بلغته مبادئ الحكمة التي نجدها في تعاليم الـ"ثيوصوفيا" أسمى بكثير من المستوى الذي بلغته المعرفة العلمية المختبرة. فالعلوم الفيزيقية، في نظرها، ما زالت متخلِّفة عن معرفة الحقيقة في جوهرها، وما زالت تتلمس سطوح المعرفة المنطوية في الحكمة، وتدرك ظاهرتها فقط. وفي هذا التسامي والتجاوز، يتبوأ العلم الروحي، المنطوي في الحكمة والمعبِّر عنها، الصدارة. هذا، لأن العلم الروحي يشير إلى أن المعرفة السامية والوعي الصافي لا يتحققان إلا بالحكمة التي تتجاوز التجربة الحسية -الحكمة التي تمثلها حكماء الماضي، وتوصلوا، من خلالها، إلى معرفة أسرار الكون، والحياة الطبيعية والإنسان، ووحّدوها في كيان واحد. يمكننا أن نقول: إن الحكمة القديمة لا تتنكر للنتائج الباهرة التي حققتها العلوم الحديثة في أبحاثها الأخيرة المتطورة. فقد عمد علماء البيولوجيا، والفلك والفيزياء، في الفترة الأخيرة، إلى إقامة تأليف بين أبحاثهم واختباراتهم، وسعوا، بجهودهم المتواصلة في مراكز بحوثهم، إلى تحقيق علاقة متداخلة بين هذه العلوم. ولا شك أن التأليف الذي أحدث تكاملاً بين هذه العلوم بلغ نطاق التوحيد. وقد وطَّد الاعتقاد والإيمان الراسخين بالوحدة الروحية-النفسية-الفيزيقية للكون. ويشير هذا التأليف إلى أننا سنجتاز عتبة أو مرحلة جديدة للحياة والوعي تتَّسم بتلاقي العلوم وتآلفها، وتتسامى على التشتت الذي أصابها في القرون الماضية. ويعود الفضل لهذا التلاقي إلى الجهود التي بذلها علماء-حكماء عديدون في النطاقات الثلاثة المذكورة. وفي سبيل تحقيق التأليف، وُضعت مؤلفات عديدة تبحث في النتائج التي اختبروها، وحمل، على سبيل المثال، العناوين التالية: العلم والروحانية، الطاقة والمادة الحيَّة، الطاقة والخصائص النفسية والعقلية للمادة، الروح، ذلك المجهول، التأليف الجديد للمادة والعقل. وقد ساهم علماء-حكماء أفذاذ في هذه الدراسات والأبحاث. إن دلَّت هذه النتائج العلمية التأليفية على شيء، فإنما لتبرهن على وجود حقيقة كونية واحدة تتجاوز الظاهرات كلها وتشملها في آن واحد. ولا يدهشنا أن نعلم أن هذه النتائج، التي توصل إليها العلماء-الحكماء بعد جهد كبير استغرق قرونًا عديدة، اتخذت، أثناءها، من التجربة والاختبار طريقة للبرهان الذي يؤكد حضور حقيقة شاملة وكلية، نجدها في مؤلفات الحكمة القديمة المتصلة بـ"الحكمة الكونية" أو في تعاليم بعض الحكماء أمثال إخوان الصفا ومؤسسي هيكل دلفي، الذين احتفظوا بسرَّانية هذه العلوم، وعلموها لمريدين مختارين، أصبحوا، بدورهم، معلمين حكماء ومرشدين. في الوقت الحاضر، تبعث الحكمة القديمة مبادئها المكنونة، وعلومها السرية السامية إلى الوجود، وتركز جهودها على دراسة كل حصيلة علمية، وكل بحث اختبره العلماء في كل الحقول، وذلك لثلاثة أسباب: أولاً: هو أن هذا العصر قد طُبع بطابع البحث العلمي، والتجربة، والاختبار، والسعي إلى صياغة قانون يوحِّد جميع القوانين والقوى الأربع الرئيسة. فلا بدَّ، في هذه الحالة، من اعتماد طريقة علمية ومنطقية تضع الحكمة البدئية موضع الاختبار. ثانيًا: هو أن النتائج، التي توصل إلى تحقيقها العلماء-الحكماء، تتوافق مع ما جاءت به كتب الحكمة القديمة ومبادئ المعلمين الحكماء الكبار. وهكذا، لا نجد اختلافًا بين العلم الروحي والعلم المادي، حتى ولو كانت الأسبقية من نصيب العلم الروحي. ثالثًا: هو أن العلماء-الحكماء الباحثين عن الحقيقة يسعون إلى معاينة مبادئ الحكمة في تجاربهم واختباراتهم، الأمر الذي يجعل العلم الحديث عودًا إلى الحكمة. نستدل، مما تقدم، أن الحكمة المضمونة في الحكمة الكونية، أو في المؤسسات الفلسفية والعلمية التي تسعى إلى المعرفة اللامشروطة، وإلى الحقيقة السامية الّتي تتبنَّى الطرائق الكفيلة بشرح وتوضيح مبادئ الحكمة القديمة وحقائقها. وتثابر هذه الحكمة في جهودها، على المستوى العلمي والروحي، وتشدد على طرح قضية هامة على بساط البحث هي أن الروح والمادة قطبا كيان واحد على مستوى كوكب الأرض، وأن الدراسة العلمية المعمقة تعجز عن رؤية الكل أو اختباره في الظاهر وحده، الأمر الذي يشير إلى تقاعس التجربة الجزئية عن معالجة الحقيقة الجوهرية بكليتها. وعلى غير ذلك، تستطيع الحكمة، وهي العلم المُختبر بمفهومه الروحي، والتي تبحث عن الكثرة المتنوعة ضمن وحدة متكاملة، أن تشاهد الوحدة التي تؤلف هذه الكثرة الظاهرية في الأجزاء الفردية. أما العلم التجريبي الذي يبحث في الكثرة والتعدد المتجزئ والمتنوع، فإنه يعجز عن تأليف أبعاد الكثرة في وحدة شاملة وكلية. لذا، يؤكد العلم الروحي، الماثل في الحكمة، على أن الفرق القائم بينه وبين العلم المادي، الممثل بالتجربة الحسية والإدراكية، فرق في الدرجة وليس في الجوهر. هذا، لأن الروح والمادة وجود واحد يتَّصف بمراتب اهتزازية تتدرَّج من الكثافة إلى اللطافة. يمكننا أن نوجز ما أوردتُه أعلاه، فأقول: إن العلم الروحي، وهو عملية متنامية لوعي المادة، لا يبحث في وجود الجسد الإنساني كظاهرة واقعية فحسب، بل يدرسه على نحو وجود متصل بالكون. فالجسد الإنساني يُدرس من حيث أنه حقيقة كونية وكليَّة. ولا تكتمل هذه الدراسة إلا إذا وعينا الكل الكوني في الإنسان. يبدو لنا أن النتائج التي توصَّل إلى معرفتها العلم الروحي تعتبر مذهلة إذا قيست بالنتائج التي توصل إلى معرفتها العلم المادي. لذا، يقف الباحث من هذه النتائج عند مفترق طرق عاجزًا عن تبيان الطريق الذي يوصله إلى الغاية المنشودة ما لم يركز تفكيره، ويحث طاقته على الفعل وعقله على التأمل. وفي هذا المنظور، لا يكتمل كل علم منهما إلا بالآخر، وبالتأكيد، يكون الفشل حليف العلم المادي في حال عجزه عن تصور الكل، أي وحدة الوجود الروحية، والنفسية، والعقلية، والمادية. هذا، لأن الروح والمادة كيان واحد، وما الفرق بينهما غير فرق في درجة الاهتزاز. وبالمثل، يعتبر العلم الروحي والعلم المادي علمًا واحدًا، وما الاختلاف بينهما غير اختلاف في الفهم والوعي. وفي القديم، قالت الحكمة: كما في السماء، كذلك على الأرض. أقرَّ العلم المادي أن المادة طاقة في درجة اهتزاز معينة. وتأكَّد علماء الفيزياء المحدثون، الذين يختبرون تجاربهم جنبًا إلى جنب مع علماء الفلك والبيولوجيا، أن الجزيئات الدقيقة التي وجدوها في وسط النيوترون، ودُعيت نيوترينو، تتماثل مع الأشعة التي تأتينا من مسافات بعيدة جدًا. وبرزت حقيقة جديدة في هذه البحوث أشارت إلى أن الالكترونات السالبة هي أيضًا الكترونات موجبة. وبعد مخاض طويل في هذه البحوث، أدرك العلماء أن هنالك، في أعماق المادة، مادة أخرى هي مادة مضادة. وفي هذا المجال، يمكننا أن نسأل: ما طبيعة هذه المادة؟ ثمة حقيقة واحدة ندعوها الطاقة. ولا نخرج عن نطاق الحقيقة إن نحن دعونا هذه الطاقة حياة أو روحًا. ولهذا، يؤكد العلماء-الحكماء المحدثون وجود نفس شاملة وكونية، هي حياة، أو طاقة، أو وعي كوني، أو روح واحدة للكون كله، فكأن للكون رئة واحدة يتنفس منها، وروحًا واحدة تحييه، وأعضاء واحدة تسري فيه حياة واحدة. والحق إن الجوهر الثلاثي للكون يشير إلى الروح والمادة والعلاقة المتداخلة والمتبادلة بينهما التي ندعوها النفس أو الحياة. ولقد أدى هذا المنظور إلى وضع نهاية للنظرية الآلية التي تحدث عنها فلاسفة وعلماء قدامى جعلوا من الكون آلة ضخمة تتحرك أجزاؤها وفق نظام وتدبير يصدران عن كيان أو مهندس يقع خارجها، يضبطها ويحركها. أحلَّ علماء وحكماء وجهة النظر الديناميكية محل وجهة النظر الميكانيكية-الآلية. ووفق وجهة النظر الديناميكية، تسري حياة واحدة في الكون، وتتخلَّل أجزاءه كلها، وتنبث في كل نقطة من نقاطه. ويرى أنصار الديناميكية أن الروح-الحياة التي تنبث في الكون واحدة، والطاقة التي تفعل فيه واحدة، والمادة التي نراها، ونلمسها ونحس بها ونُجري تجاربنا عليها أو معها أو فيها ليست أكثر من تموجات اهتزازية معيَّنة لهذه الطاقة، أو الحياة أو الروح، أو هي مجرد كثافة معيَّنة لها تتوافق مع مستوى كوكبنا. هكذا، يتجلَّى الكون في مستويات هي موجات اهتزازية وحقول طاقة تمتد من الأدنى إلى الأعلى، من الأكثر كثافة إلى الأقل كثافة، أي الأكثر لطافة. وبالإضافة إلى ذلك، يعتقدون أن الكون البدئي هو، كما يقول أحد العلماء-الحكماء، الأبدية التي يُعتبر الزمان صورتها المتحركة. ثانيًا: التكامل أو الوحدة الضمنية للأقطاب المتقابلة تنتهي نظرية الأضداد عند تخوم النظرية الديناميكية التي يعترف أنصارها بأن الأضداد غير موجودة في الكون. وعلى غير ذلك، يعترف أنصارها بوجود ثنائية ظاهرية تتجلَّى في قطبين هما وجهان لكيان واحد أو لحقيقة واحدة. والحق، إن هذه الثنائية لا تحتفظ بواقعيتها وظاهريتها ونحن نتوغل إلى أعماق الوجود المادي، لأننا نجدها جوهرًا واحدًا هو إشعاع. لما كانت الأرض تحتل المركز الأدنى في سلَّم مراتب الوجود، وتتصف بكثافة كبرى وبدرجة اهتزاز ضئيلة، فإن الثنائية تبدو وكأنها مسلَّمة أو ضرورة أو حتمية. وإذا كان الكون يتألف من عوالم يتداخل بعضها ببعض، بحسب مستويات اهتزازها، فإنما لنشير إلى أنه نطاق واحد حيٌّ، تسري فيه طاقة واحدة، وعي واحد، وخصائص نفسية وعقلية واحدة. وعلى الرغم من اختلاف أو تنوع مستويات الكون، لكن تداخلها ببعضها، أو مع بعضها، يشير إلى تفاعلها ضمن كيان كوني واحد. والحق، إن مستويات الكون ليست منضَّدة أو مرتَّبة فوق بعضها، وذلك لأن التنضيد أو التسلسل الرتبي يحرم المستوى الأدنى من مزايا المستوى الأعلى. ومع ذلك، لا يستطيع سكان هذا الكوكب أن يشعروا، أو يحسِّوا باهتزازات العوالم الأخرى، وذلك لأنها تخرج عن نطاق كثافتهم. ولن يكونوا قادرين على الشعور أو الإحساس بها ما لم يتجاوزوا كثافتهم بحكمة ووعي. والحق، إن دائرية الكون، أو كرويته دليل على تداخل العوالم. لذا، نجد أن بعض العلماء يخطئون إن هم شبَّهوا الحياة على مستوى آخر، أو على كوكب آخر، بمستوى الحياة على كوكبنا. وإن هم أخضعوا تلك الحياة لمقاييسنا ومعاييرنا، لكننا، مع ذلك، لا نستطيع أن ننفي الحياة على مستوى آخر، أو في عالم آخر، أو نؤكد وجودها لمجرد أن حياتنا الأرضية تخضع لمعايير اصطلاحية نتفق على وضعها، ونصوغها بقواعد معيَّنة. لما كانت العوالم متضمنة في جسدنا فإن الواجب يقضي بمعرفة الإنسان للحقيقة الكونية ووعيها، وهو يحيا حياته الأرضية. ولا شك، أن هذه المعرفة حكمة تتطلب التحقيق. إذن، فالإنسان المكوَّن على صورة نظام كوني يسعى إلى تحقيق الغاية من وجوده بحكمة ووعي دون أن يبقى محتجزًا داخل المقاييس الفيزيقية المحدودة. ثالثًا: العلم المادي يتلمَّس الطريق بدأ العلم يتلمَّس الطريق المؤدي إلى معرفة الحقيقة. فقد بدأ هذا العلم بدرس القوانين الكونية الشاملة ساعيًا إلى إدراك هذه الحقيقة الكلية على نحو تصوُّر وحدْس معًا. وفي دراسته، توصل هذا العلم إلى الإقرار بروحانية المادة وخصائصها العقلية والنفسية، والاعتراف بنفس للكون تنبض بالحياة، والوعي والحكمة، وبطاقة ديناميكية تفعل فيه، وبحياة دائمة لا تضمحل، وبوعي كامن ومنطوٍ، وبعقل يتجاوز الدماغ. وتأكد هذا العلم من استمرار وجود الطاقة بعد تقلُّص الكتلة. فالمادة لم تعد تحافظ على تعريفها القديم الذي يشير بأنها طاقة هامدة أو خامدة. وعلى غير ذلك، أصبحت تُعرف بأنها الطاقة ذاتها، الفاعلة ضمن اهتزاز معيَّن. ولذا يضيِّق العلماء-الحكماء المحدثون الفجوة الواسعة التي كانت تفصل بين الروح والمادة. فقد بنوا جسرًا يصل بين قطبي الثنائيات الأرضية. وعلى هذا الأساس، لا يعتبرون الوجود على مستوى كوكب الأرض تناقضًا لثنائية ضدَّين. والحق، إنهم بدأوا يعون الوحدة الكامنة والمنطوية في قلب تنوعات الأشياء والموضوعات. يمكننا أن نقول: إن الثنائية، المطروحة على مستوى تناقض الأضداد، أدت إلى تأخر البشرية وتخلُّفها في نطاق المعرفة والحكمة وتضامن الناس في المحبة أجيالاً طويلة. فقد قلَّصت هذه الثنائية العدائية القدرة على المعرفة إلى حدها الأدنى، وفرضت حصارها على مجال البحث، والتقصِّي، والاختبار. وفي الآونة الأخيرة، بدأ العلماء-الحكماء يدركون أن الكون لا ينضوي تحت مقولة المادة والروح، بل يتَّصف بمزايا الوحدة المتكثرة ضمن جوهر أو كيان واحد يتدرج عبر مستويات سلسلة الوجود الكبرى. إذ أدرك العلماء-الحكماء هذه الحقيقة، سهُلت عليهم الدراسات والبحوث، واتَّجهت حقول اختصاصاتهم إلى التكامل والتوحيد، ونزعت مفاهيمهم إلى التقارب. ويعترف أولئك العلماء-الحكماء بوجود كوني، وقانون واحد يشمل جميع الصيغ والقواعد، الأمر الذي رفضه أدعياء ثنائية الأضداد المتناقضة على المستوى الأرضي والكوني. فالثنائية، في مفهومها العامي، تحمل في ثناياها بذور التناقض. هي ثنائية نزاعية وخصامية، أدت إلى كل ما نجده من تناقضات عدائية بين المادة والروح، بين العقل والدماغ، بين المثال والواقع، بين الظلام والنور، بين الفناء والبقاء، بين الحياة والموت، بين المادة الحية وغير الحية، بين الرجل والمرأة، بين الخير والشر، بين الله وإبليس، بين الأعلى والأدنى، بين الإله المشخص والإله الشامل. لقد أقامت هذه الثنائية الخصامية والعدوانية حواجز منيعة بين تعارضات أقطاب ظواهر الوجود، وأدت إلى تعزيز الكثرة والتجزئة، وعجزت عن وعي الوحدة الكامنة فيها. وهكذا، تقهقر مبدأ التكاملية الذي يصالح التعارضات الظاهرية في أقطابها الثنائية المتقابلة. رابعًا: تكامل العلم المادي والعلم الروحي في نطاق الحكمة ظلت الأطروحات العقلية والروحية ضمن نطاق الرمزية طيلة قرون عديدة. ولم يبذل الباحثون جهدًا كافيًا ليبدعوا أو يعوا سرَّانية الحكمة، الأمر الذي جعل منها أسطورة متَّهمة بالغموض، أو أحجية سحرية تخرج عن نطاق الحكمة، والفلسفة، والعلم. والحقيقة هي أن هذه الأطروحات احتفظت بسرَّانيتها وعاشت في طيِّ الكتمان. ولهذا السبب اتُّهمت سرَّانية الحكمة باللغز، والغموض، والغيبية كما تفهمها غالبية الناس. وعلى غير ذلك، تنأى السرَّانية عن عجزٍ في الفهم أو قصور في الإدراك والوعي. فهي تعني التعمّق في العرفان. وليس السرُّ شيئًا غير الحقيقة التي يزداد الإنسان فهمًا لها ومعرفةً بها، فتزداد عمقًا، ويزداد تأمله بها عمقًا. لذا، تكمن السرَّانية في الحكمة التي نحاول أن نميط اللثام عن الحقيقة المختبئة والمستترة في عمق الوجود والطبيعة والإنسان. إنها الرؤيا التي تسبر عمق الحقائق والوقائع التي نعجز عن معرفتها أو حدْسها إلا بالتجربة الروحية المختبرة بالعقل المتصل بالروح والمجرَّد من الدماغ الذي هو مجرد ترتيب للعالم المادي في الإنسان، ومجرد موضع يرتِّب فيه العقل المستنير معلوماته ومعارفه. هنالك عمق في الكون ندعوه سرًّا، وهنالك إنسان هو عمق بذاته، وسرٌّ يسعى إلى فهم حقيقته وحقيقة الكون. ولما كانت السرَّانية كامنة فيه وخارجة عنه، وعميقة كل العمق، فإنه يستغرق في هذه السرَّانية وهو يتأملها في داخله وخارجه، ويتدرج في مستوى فهمها ووعيها حتى يبلغ حدود تحقيقها وفق كمال هذا العالم وحكمته، لذا، تشير حقيقة الحياة في معاينة سرَّانية الحكمة عبر الرمزية، بحيث يُبصر الإنسان سرَّانية الرمز في الداخل والخارج. وإذا كنا نعترف أن الحياة سرٌّ، والحقيقة السامية والمطلقة سرٌّ، والإنسان سرٌّ، والوجود، في مستوياته، سرٌّ، والمادة، في جوهرها، سرٌّ، فإنما نعني أن السرَّانية تغلِّفنا، وتحيط بنا، وتحيينا في عمقها، وتحملنا في أحشائها تمامًا كما نحملها. وفي النتيجة، نرى أنفسنا ونحن نسعى جاهدين لوعي أو فهم حكمتها التي تشير إلى فهم أو وعي أنفسنا وكل ما تنطوي عليه سرَّانية حكمة الوجود. هكذا نعلم أن العلم الروحي هو العلم المادي ذاته، إنما يتميِّز بعمق وسرَّانية هذا العلم. وفي هذا المنظور، يمثل العلم الروحي النومين، أي الباطن والجوهر، ويمثل العلم المادي الفنومين، أي الظاهر والخارج الذي يشير إلى السرَّانية الكامنة في الجوهر والباطن. وهكذا، يتجلَّى الرمز في الظاهر، ويتجلَّى السرُّ في الباطن. هكذا يكون حكماء الروح علماء مادة تعمقوا في دراسة أنفسهم، ودراسة سرَّانية علم المادة. وبالمثل، يكون علماء المادة حكماء يختبرون سرَّانية الروح الماثلة في الحكمة، في تجاربهم وبحوثهم. وفي هذه الصورة التأليفية، نشاهد العلم وهو يضع الحكمة موضع التجربة والاختبار. صديقي: أحب، وقد بلغت هذا المستوى من مقدمتي، أن أتحدث عن الحكمة بمفهومها المطلق. وتتدرج هذه الحكمة في هبوطها من المستوى الإلهي إلى المستوى المادي في مستويات ثلاثة: 1: الحكمة الإلهية – ثيوصوفيا - هي الحكمة السامية المطلقة، أي الحقيقة السامية أو الوعي الكوني اللامتعيَّن، واللاموصوف، واللامحدود، واللانهائي. 2: الحكمة البدئية – صوفيا - هي حكمة الإنسان الروحي البدئي الذي كان، عبر حكمته، على صلة مع الحكمة الإلهية – الإنسان الذي كان يعرف أن العالم المادي ظهور للعالم الروحي، ويمارس فيه سموَّه الروحي، ويحقق الحكمة الإلهية على مستوى الحكمة. 3: محبة الحكمة – فيلوصوفيا - هي المستوى الذي تراجعت فيه الحكمة عن علاقتها الوثيقة مع الحكمة والحكمة الإلهية. وفي هذا المستوى، أصبح الإنسان محبًا للحكمة، ولم يعد حكيمًا. والحق، إن تراجعًا جديدًا حديثًا وأخيرًا حدث لمحبة الحكمة تمخَّض عنه ظهور العقل الذي يسعى إلى المعرفة عن طريق التجربة، فيخطئ ويصيب. وفي هذا التراجع، حدث تراجع جديد إلى الثنائية، والتعدد، والتنوع، الأمر الذي أدى إلى ضياع العقل وسط الكثرة، نتيجةً لتراجعه عن الحكمة. وقد أدى هذا التراجع الأخير إلى البحث عن الوحدة التي تجمع الأجزاء المتوزعة، والسعي للعودة إلى الحكمة التي هي السبيل الوحيد لتحقيق الحكمة المطلقة السامية في العالم الأرضي. وإذ فقد الإنسان حكمته أضاع الحكمة الكامنة في وسط المادة، في كيانه وفي الكون، لذا، أصبحت الإنسانية تمثل اليتيمة الكبرى التي تتألم نتيجة لضياع الحكمة وفقدان التكامل والوحدة. في هذا المنظور، أتساءل: من هي الأرملة الحقيقية؟ ومن هي اليتيمة الحقيقية؟ والحق، إن الأرملة هي الحكمة المفقودة أو المرفوضة، واليتيمة هي الإنسانية المتألمة التي فقدت سرَّانية الحكمة الكامنة والمضمونة في العالم المادي وفي كيان الإنسان. وهكذا أصبح الإنسان محبًا للحكمة التي أضاعها نتيجة لضلاله ومركزية أناه، الإنسان الذي جهل أن الأنا، في حقيقتها، هي كون بكامله يتكامل في وجوده الطبيعي والإنساني والكوني. هكذا، تبحث الإنسانية اليتيمة عن كيانها، وجوهرها وروحها. وبالتالي، أصبحت تبحث عنها في الظاهرات وحدها، وفي التشخيصات، والتجسيدات والشعائر التي أحلَّها الإنسان الجاهل محلَّ الحكمة. في هذا المنظور، لم تعد البشرية تُصغي للحكمة الماثلة في تعاليم ومبادئ حكمائها الذين ينشدون تحقيق الحكمة الإلهية في عالم المادة. لقد أحلَّ الإنسان الناموس المكتوب بالحرف محل الناموس الروحي الذي نحته الله في الإنسان ليكون الغاية الأولى والنهائية، أي الأخيرة التي يجب عليه تحقيقها في العالم المادي. لذا، تتألم الحكمة في سرَّانيتها تمامًا كما تتألم الإنسانية التي رفضت سرَّانية الحكمة. وهكذا، حُرمت الحكمة من تحقيقها في روحانية بنائية الهيكل الماثلة في الإنسان، والطبيعة والكون. لذا، يعلِّم الحكماء المبدأ الروحي الذي يدعو الإنسان إلى تحقيق روحانيته في هيكل جسده. وهكذا، تنتظر صوفيا – الحكمة – الأرملة عودة الإنسانية اليتيمة إلى وعي مضمون حكمتها، وإلى تحقيق هذه الحكمة في حياتها الأرضية، وتحقيق دستورها الماثل في كلمتين: كونوا حكماء. والسؤال الأخير الهام يتلخَّص في الكلمات التالية: هل بقيت صوفيا – الحكمة – الأرملة مستترة في سرَّانية حكمتها لأن اليأس اعتراها إذ علمت أن أبناءها وبناتها اليتامى أوغلوا في الجهل الذي يحول دون معرفة الحكمة المنطوية في وجودهم بشكل عام وفي أجسادهم بشكل خاص، وإذ أدركت أن الألم السلبي يسيطر عليهم نتيجة لهذا الجهل الذي يؤدي إلى الشرِّ؟ *** *** *** [1] المقصود هنا محاولة أكرم أنطاكي التي بعنوان أبناء الأرملة المنشورة في معابر، والتي يشكل هذا الفصل مقدمة وخلاصة فلسفية لها.
|
|
|