French Arabic

رسالة إلى رجُلِ دين

 

سيمون ﭭـايل

 

عندما أقرأ عقيدةَ مجْمعِ "ترانت" [ترينتو] Trente [1]، يبدو لي أنْ لا علاقةَ لها بتاتًا بالدين الذي يُعرَض فيها. عندما أقرأ العهدَ الجديد وعلومَ التصوف والليتورجيا [الطقوس] وعندما أشاهد إقامةَ القداس، أحسُّ، بنوع من اليقين، أنَّ هذا الإيمانَ إيماني، أو بتعبير أدق سيكون إيماني إذا لم نأخذْ بالحسبان المسافةَ التي بيني وبينه من جَرَّاء نقصي. يشكِّل ذلك موقفًا روحيًا شاقًا. لا أريد أن أجعلَه أقل صعوبةً، بل أكثر وضوحًا. وأيُّ عناء يمكن قبوله في الوضوح.

سأسرد لكَ عددًا لا بأس به من الأفكار التي تسكنني منذ سنوات (أو بعضًا منها على الأقل) والتي تَحُوْل بيني وبين الكنيسة. لا أطلب منكَ أن تناقشَ جوهرَها. وإنه ليسعدني مثلُ هذا النقاش، ولكنْ فيما بعد، في مرحلة ثانية.

أريد منكَ جوابًا أكيدًا - دون استخدام عبارات من مثل: "أعتقد أن"، إلخ. - عن توافُقِ كلِّ رأي من هذه الآراء أو تعارُضِه مع الانتماء إلى الكنيسة. فإذا كان هناك تعارض، أود أن تقول لي صراحةً: أرفض المعموديةَ (أو الغفران) لكل من يخبرني بانضمامه إلى الآراء المتضمنة في العناوين رقم كذا وكذا. لا أطلب ردًا سريعًا. فليس الأمر عاجلاً. أطلب فقط جوابًا قاطعًا.

أعتذر عن هذا الإزعاج الذي أسببه لكَ، ولكنْ لا أرى كيف يمكنني تجنُّبَه. فالتفكير في هذه المسائل أبعد ما يكون في نظري عن اللعب. ليس لأنها تتمتع بأهمية أكثر من حيوية فحسب، نظرًا لأن الخلاص الأبدي مرهون بها، ولكنْ لكونها أيضًا تتمتع بأهمية تجاوز إلى حد بعيد، في نظري، أهميةَ خلاصي. فمسألة الحياة والموت لعب مقارنةً بها.

إنَّ بعضًا من الآراء التالية مشكوك فيه في رأيي؛ ولكنْ إذا كان الإيمان الصارم يقتضي اعتبارَها خاطئة، فستشكِّل هذه الآراءُ عندي عقبةً جديةً مثلها مثل الآراء الأخرى، لأنَّ عندي قناعةً راسخةً بأنه مشكوك فيها، أي أنه ليس مشروعًا نفيُها نفيًا قاطعًا.

فبعض هذه الآراء (خصوصًا الآراء المتعلقة بالأسرار والكتابات غير اليهودية المسيحية وملْكي صادق[2] Melchisédech، إلخ.) لم تُستنكَرْ أبدًا، على الرغم من أنها لاقت على الأرجح دفاعًا في القرون الأولى. ما يعني أن أتساءل فيما إذا لم تكن مقبولةً سرًا. مهما يكن من أمر، إذا قمتُ أنا أو أيُّ شخص غيري اليوم بعرضها علنًا وقامت الكنيسةُ بإدانتها فلن أتخلى عنها إلاَّ إذا أقنعوني بخطئها. أفكر بهذه الأشياء منذ سنوات متسلِّحةً بقوة الحب والانتباه اللَّتينِ أمتلكهما. هذه القوة ضعيفة ضعفًا يُرثى له، بسبب نقصي الكبير جدًا؛ ولكنها تأخذ دائمًا بالازدياد، على ما يبدو لي. وكلما ازدادت تصبح الروابطُ التي تربطني بالإيمان الكاثوليكي أقوى أكثر فأكثر وتترسَّخ أكثر فأكثر في عمق قلبي وعقلي. ولكنْ في الوقت نفسه تكتسب هذه الأفكارُ التي تبعدني عن الكنيسة، هي الأخرى، قوةً ووضوحًا. فإذا كانت هذه الأفكار تتعارض حقًا مع الانتماء للكنيسة فقلَّما يكون هناك إذَنْ من أمل في أن أتمكن أبدًا من المشاركة في الأسرار [الكنَسية]. وإذا كان الأمر كذلك، فإنني لا أرى كيف يمكنني أن أتجنب الاستنتاجَ بأنني أنزع لأنْ أكونَ مسيحيةً خارجَ الكنيسة. قد تنطوي إمكانيةُ مثل هذه النزعة على أنَّ الكنيسةَ ليست كاثوليكية في الواقع كما هي في الاسم وأنَّ عليها أنْ تصبحَ في يوم ما كاثوليكيةً إذا كان مقدَّرًا لها أنْ تقوم بمهمتها.

إنَّ للآراء التالية درجاتٍ متفاوتةً في الاحتمال واليقين عندي ولكنها جميعًا مصحوبةٌ في ذهني بعلامة استفهام. ولن أُعبِّر عنها بالصيغة الدلالية للفعل l'indicatif إلاَّ بسبب فقر اللغة؛ كنتُ أحتاج لصيغة تصريف إضافية للأفعال. ففي مجال الأشياء المقدَّسة، لا أؤكِّد شيئًا تأكيدًا قاطعًا. لكنَّ مقدَّساتِ آرائي المطابِقة لتعاليم الكنيسة مصحوبة أيضًا في ذهني بعلامة الاستفهام نفسها.

[كما] أعتبر عدمَ إطلاق حُكْم بحق جميع الأفكار مهما كانت وبدون استثناء أحدَ مكوِّنات فضيلة التواضع في مجال الفكر.

وإليكَ لائحةَ الآراء:

1- إذا أخذنا فترةً من التاريخ السابق للمسيح والبعيد إلى حد ما عنه – بعيد عنه خمسة قرون مثلاً – وتغاضينا عن الباقي، كان في ذلك الوقت نصيبُ إسرائيل من الله والحقائق الإلهية أقلَّ من نصيب عدة شعوب مجاورة (الهند، مصر، اليونان، الصين). لأن حقيقة الله الجوهرية هي أنه رحيم. فالاعتقاد بأن الله يمكن أن يأمر البشر بأعمال ظلم وقسوة فظيعة هو أكبر خطأ يمكن أن يُرتكَبَ بحقه. إن زيوس، في الإلياذة، لا يأمر بأي عمل وحشي. كان اليونانيون يعتقدون بأن "زيوس المتوسِّـل" يسكن في كل شقي يستجدي الرحمةَ. يَهْوَه هو "رب الجنود". وتاريخُ العبريين يُظهِر أنَّ ما ذُكِرَ ليس كواكبَ فحسب، إنما محاربو إسرائيل أيضًا. إذْ يعدِّد [المؤرِّخ اليوناني] هيرودوت[3] عددًا كبيرًا من الشعوب الهلنستية والآسيوية كان لأحدِها فقط "زيوسُ الجنود". لم تكنْ هذه الشتيمةُ معروفةً للآخرين جميعًا. إنَّ كتاب الأموات الذي يوغل في التاريخ ثلاثة آلاف سنة على الأقل مشبع أكثر، بلا شك، بالمحبة الإنجيلية. (يقول الميْتُ لأوزيريس[4]: "يا ربَّ الحق، أرفع إليكَ الحقيقةَ... لقد هدمْتُ الشرَّ لأجلك... لم أقتلْ أحدًا. لم أسبِّبِ البكاءَ لأحد. لم أتركْ أحدًا يتضوَّر جوعًا. لم أكُ قطُّ سببًا في أنْ يؤذيَ سيِّدٌ عبدَه. ولم أسبِّبِ الخوفَ لأي إنسان. لم أتكلَّمْ أبدًا بصوت متعالٍ. لم أُصِمَّ أُذنَيَّ أبدًا عن سماع القول الحق الصائب. لم أتباهَ باسمي للحصول على التشريف. لم أُنكِرِ اللهَ في تجلياتِه...").

لقد رفض العبريون الذين كانوا لأربعة قرون خلَتْ على احتكاك مباشر بالحضارة المصرية أنْ يتبنَّوا روحَ الرِّفق هذه. لقد كانوا يريدون القوة... إن كل النصوص السابقة للنفي موصومة بهذا الخطأ الأساسي عن الله، على ما أعتقد، باستثناء كتاب أيوب الذي لم يكن بطله يهوديًا ونشيد الأناشيد (ولكنْ هل كان سابقًا للنفي؟) وبعض مزامير داوود (ولكنْ هل نسبتها له أكيدة؟). من جهة أخرى، فإن أول شخصية نقية تمامًا تَظهَر في التاريخ اليهودي هي دانيال (الذي تعلَّم أسرارَ الحكمة الكلدانية). وحياةُ الباقين جميعهم تدنِّسها أمورٌ شنيعة، ابتداءً من إبراهيمَ. (لقد بدأ إبراهيمُ بدفع امرأته للزنى[5].)

قد يبعث ذلك على الاعتقاد بأن إسرائيل قد تعلَّمَ الحقيقة الأكثر جوهرية عن الله (أي أنه رحيم قبل أنْ يكون قويًا) من منقولات أجنبية، كلدانية أو فارسية أو يونانية وبفضل النفي.

2- إن ما نسميه عبادة الأوثان ليس إلاَّ من صُنع خيال التعصب اليهودي إلى حد كبير. فجميع الشعوب في جميع الأزمان كانوا موحدين دائمًا. فلو قُيِّضَ لبعض العبريين من خير العصور أنْ يقوموا من الموت ويُعطَوا سلاحًا لأبادونا عن بِكْرة أبينا، رجالاً ونساءً وأطفالاً، بجريمة الوثنية. ولأخذوا علينا عبادَتنا لبعل وعشتار، معتبرين المسيحَ بعلاً والعذراء عشتارَ.

بالمقابل فإن بعلاً وعشتارَ كانا رمزَينِ للمسيح والعذراء.

معنا حق بتذرُّعنا، لمهاجمة بعض هذه الطقوس، بالفجور الذي كان يرافقها – ولكنه، على ما أعتقد، أندر مما نتوقع اليوم. لكن الأعمال الوحشية التي ترتبط بعبادة يَهْوَه والإبادات التي يأمر بها هي أعمال تدنيسية لا تقلُّ بشاعة. الوحشية جريمة أكثر بشاعة من الفجور. فالفجور، من جهة أخرى، يرضى بالقتل مثلما يرضى بالمعاشرة الشهوانية.

إن مشاعر من يسمَّون بالوثنيين تجاه تماثيلهم هي على الأرجح المشاعر نفسها التي توحي بها اليوم الصلبانُ وتماثيلُ العذراء والقديسين بالانحرافات نفسها لدى الضعفاء روحيًا وفكريًا. ألا نضفي عادةً قوةً خارقة على تمثال محدد للعذراء؟ فإذا حصل لهم أنْ آمَنوا بحضور كلي للألوهة في حجر أو خشب فربما كانوا على حق أحيانًا. ألا نؤمن بحضور الله في الخبز والنبيذ؟ ربما كان هناك حضور حقيقي لله في تماثيلَ منحوتةٍ ومكرَّسةٍ حسب شعائر معيَّنة.

إن الوثنية الحقيقية هي الشهوة ("... الشهوة الردية والطمع، الذي هو عبادة الأوثان"، رسالة بولس إلى أهل كولوسي، 3، 5)، والأمة اليهودية كانت متَّهمة بنهَمها للخيرات الدنيوية حتى في لحظات عبادتها لإلهها. لم يكنْ صنمُ العبريين من معدِن أو خشب، إنما كان قومًا وأمة، شيئًا دنيويًا أيضًا. إن دِينَهم في جوهره لا ينفصل عن عبادة الأوثان هذه، بسبب وجود مفهوم "الشعب المختار".

3- كان يُنظَر إلى طقوس أسرار مدينة ألفسينا Éleusis [6] وطقوس الإله أوزيريس على أنها أسرار بالمعنى الذي نقصده اليوم. وربما كانت أسرارًا حقيقية، لها قوة المعمودية والمناولة [الإفخارستيَّا] نفسها، آخذةً هذه القوةَ من العلاقة نفسها مع آلام المسيح؛ الآلام التي كانت قادمة؛ واليوم مضتْ. إنَّ الماضيَ والمستقبل متناظرَينِ. لا يمكن أنْ يكون لعلم التأريخ دور حاسم في العلاقة بين الله والإنسان، تلك العلاقة الأبدية.

إذا لم يكن الفداءُ، بالصور والوسائل الحسية التي تقابله، موجودًا على الأرض منذ بدء الخليقة فلا يمكننا أنْ نغفر لله – إذا جاز لنا استخدام هذه الكلمات دون أنْ تُعَدَّ كفرًا – شقاءَ كثير من الأبرياء والنازحين والمستعبَدين والمعذَّبين والمحكوم عليهم بالموت على مر العصور السابقة للعصر المسيحي. المسيح حاضر على هذه الأرض، إلاَّ إذا طرده البشرُ، حيثما يكون هناك جريمة وشقاء. فبدون الآثار الخارقة لهذا الحضور، كيف يتجنب الأبرياءُ الذين تسحقهم المصيبةُ السقوطَ في جريمة سبِّ الله، ومن ثم السقوطَ في عذاب جهنم؟

من جهة أخرى، يتكلم القديس يوحنا عن "الحمَل الذي ذُبِحَ منذ تأسيس العالَم".

إن الدليل على أن مضمون المسيحية كان موجودًا قبل المسيح هو أنه لم يكن هناك منذ ذلك الوقت تغييرات هائلة في سلوك البشر.

4- ربما كان لدى شعوب مختلفة (الهند، مصر، الصين، اليونان) كتابات مقدسة منزلة مثلها مثل الكتابات اليهودية-المسيحية. وربما كانت بعضُ النصوص التي مازالت حتى يومنا هذا إمَّا مقتطفاتٍ منها أو أصداءً لها.

5- تثبِتُ الفقراتُ الخاصة بملْكي صادق (سِفْر التكوين، مزامير، القديس بولس) أن هناك خارج إسرائيل ومنذ فجر إسرائيل خدمةً للرب ومعرفةً لله على صعيد المسيحية نفسه، خدمةً ومعرفةً تفوقان كثيرًا جميع ما ملكَتْه إسرائيلُ على الإطلاق.

لا شيء يمنع من افتراض وجود علاقة بين مَلْكي صادق والأسرار القديمة. هناك صلة بين الخبز والإلهة ديميتر Déméter [7]، بين الخمر وديونيسوس Dionysos [8]. مَلْكي صادق، على ما يبدو، بحسب سِفْر التكوين، مَلِكٌ من كنعان. وعليه فإن فساد مُدُن كنعان وجحودها كان على الأرجح إمَّا يعود تاريخُه إلى بضعة قرون، عند حدوث المجازر، وإمَّا كان ذلك اختلاقاتِ افتراءٍ من صنع العبريين ضد ضحاياهم.

6- إنَّ نص القديس بولس عن مَلْكي صادق، والقريب من كلام المسيح: "رأى إبراهيمُ يومي"[9] قد تشير حتى إلى أنَّ ملكي صادق كان أصلاً تجسيدًا للكلمة.

على أية حال، من غير المؤكد أنه لم يكنْ هناك للكلمة تجسُّداتٌ سابقة على يسوع المسيح وأنَّ أوزيريس في مصر وكريشنا في الهند لم يكونا في عِداد هذه التجسُّدات.

7- إذا لم يكنْ أوزيريسُ إنسانًا عاش على الأرض كإله مثله مثل المسيح فإن تاريخ أوزيريسَ كان إذًا على الأقل نبوَّةً أوضح بكثير وأكمل وأقرب إلى الحقيقة من كل ما نسميه بهذا الاسم في العهد القديم. كذلك الأمر فيما يخص الآلهة الأخرى التي ماتت وقامت من الموت.

تتأتَّى الأهميةُ القصوى الحالية لهذه المسألة من فكرة أنه أصبح مُـلِحَّـًا معالجةُ الطلاق الحاصل منذ عشرين قرنًا والذي يزداد خطورةً يومًا عن يوم بين الحضارة الدنيوية والروحانية في البلاد المسيحية. إنَّ حضارتَنا لا تَدِين في شيء لإسرائيل وتَدِين بالقليل القليل للمسيحية؛ إنها تَدِين بكل شيء تقريبًا للأقدمين الذين سبقوا المسيحية (الرومان، الكهنة السلتيين [الكَلتيين أو الويلز] druides، روما، اليونان، الإيجيين، الكريتيين، الفينيقيين، المصريين، البابليين...). إذا كان هناك حاجز منيع بين هذه العصور القديمة وبين المسيحية فإن بين حياتنا الدنيوية وحياتنا الروحية الحاجزَ نفسَه. لكي يكونَ للمسيحية تجسُّدٌ حقيقي ولكي يسودَ الوحيُ المسيحي على الحياة برُمَّتِها، ينبغي الاعترافُ قبل كل شيء بأن حضارتنا الدنيوية تنبثق تاريخيًا من وحي ديني مسيحي في جوهره وإن كان سابقًا على المسيحية من ناحية التسلسل الزمني للأحداث. ينبغي اعتبارُ الحكمة الإلهية المصدرَ الوحيد لكل نور على الأرض، حتى النور الضعيف الذي ينير أشياءَ هذا العالَم.

كذلك الأمر بالنسبة لـﭙروموثيوس[10]. فقصة ﭙروموثيوس هي قصة المسيح نفسها بإسقاطها على الأزل. ولا ينقصها إلا تعيُّـنُها في الزمان والمكان.

إنَّ الميثيولوجيا اليونانية مليئةٌ بالنبوءات. وكذلك حكايات الفلكلور الأوروبي، أو ما نسميه حكايات الجن.

إنَّ كثيرًا من أسماء الآلهة اليونانية هي على الأرجح في الواقع عدة أسماء تدل على أقنوم إلهي واحد، هو الكلمة. أعتقد أن هذا الأمر ينطبق على ديونيسوس وأﭙولو Apollon [11] وأرتميس Artémis [12] وأفروديت [13] الإلهية وﭙروموثيوس وإله الحب l'Amour وﭙروسيرﭙينا Proserpine [14] وغيرها.

أعتقد أيضًا أن هسْتيا Hestia [15] وأثينا Athéna [16] وربما هيفيستوس Héphaïstos [17] هي أسماء للروح القدس. هستيا هي النار المركزية. لقد خرجَتْ أثينا من رأس زيوس بعد أنْ أكل زوجتَه الحكمة la Sagesse التي كانت حبلى؛ لقد "انبثقَتْ" إذَنْ من الله وحكمته. ورمزُها الزيتونُ، وللزيتِ، في الأسرار المسيحية، صلةٌ بالروح القدس. يشرحون عادةً بعضَ أفعال المسيح وأقواله بقولهم: "كان لا بد أن تتم النبوءات". ويقصدون النبوءاتِ العبريةَ. ولكنْ يمكن شرح أفعال أخرى وأقوال أخرى بالطريقة نفسها مقارنةً بالنبوءات غير العبرانية.

بدأ المسيحُ حياتَه العامة بتحويل الماء إلى خمر وأنهاها بتحويل الخمر إلى دم. فأشار بذلك إلى صلته بديونيسوس؛ وكذلك من خلال قوله: "أنا الكرمة الحق."

يُعبِّر القولُ: "إذا الحبة ماتت" عن صلته بالآلهة التي ماتت وقامت من الموت والتي كان النبات رمزًا لها، مثل أتيس Attis وﭙروسيرﭙينا.

إنَّ لأمومةِ العذراء علاقةً خفية بكلام أفلاطون في طيمايوس عن جوهر معيَّن، أمّ لجميع الأشياء ودائمًا عذراء. كانت جميع الآلهة الأمهات في العصور القديمة، مثل ديميتر وإيزيس رموزًا للعذراء. لا بد للتشبيه المُـلِـحِّ للصليب بالشجرة وللصلب بالشنق أنْ يكونَ له علاقةٌ بأساطيرَ لم تعدْ موجودةً اليوم.

إذا كانت القصيدةُ الإسكندناﭭية رُونيَّةُ[18] أودِن[19] la Rune d'Odin سابقةً على كل عدوى مسيحية (وهو أمر لا يمكن التحقق منه)، فإنها تحتوي أيضًا على نبوءة تسترعي الانتباهَ:

"أعلمُ أنني معلَّق على شجرة تهزُّها الرياحُ، تسعَ لياليَ كاملةً، مجروحًا برمحٍ، مقدَّمًا إلى أودين، نفسي إلى نفسي. معلَّق على هذه الشجرة التي لا يعلم أحدٌ من أي جذر خرجَتْ.

"لم يعطِني أحدٌ خبزًا ولا قدَحًا مصنوعًا من قرْن لأشرب منه. نظرتُ إلى أسفل، عكفتُ على حروف الرُّون، تعلمْتُها وأنا أبكي، ثم نزلْتُ من هناك." (الإيدا Edda الأولى)

لا شك أنَّ لتعبير "حمَل الله" علاقةً بمنقولاتٍ قد ترتبط بما نسميه اليوم الطوطمية[20]. فقِصَّةُ زيوس عمون Zeus Ammon عند هيرودوت (عندما ذبح زيوسُ كبشًا ليتجلى لمن كان يتوسل إليه بأن يتراءى مغطَّىً بجِزَّة من صوفه)، تلك القصة القريبة من كلام القديس يوحنا: "الحمَل المذبوح منذ تأسيس العالَم"، تلقي ضوءًا ساطعًا على الموضوع. إن القربان الأول الذي نال رضا الله، أيْ قربان هابيل، والذي يُذْكَر في قانون القُدَّاس كرمز لقربان المسيح، كان ذبيحةً حيوانية. وكان الأمر كذلك في القربان الثاني، قربان نوح، الذي أنقذ البشريةَ في نهاية الأمر من غضب الله وأدَّى إلى وضع ميثاق الله مع البشر. وهنا تكمن النتائج نفسها لآلام المسيح. فهناك علاقة خفية بين الاثنين.

لا بد أنهم فكروا، في عصور موغلة في القِدَم، بوجود حضور حقيقي لله في الحيوانات التي يقتلونها ليأكلوها؛ بأنَّ اللهَ قد حلَّ فيها ليقدِّمَ نفسَه طعامًا للبشر. كانت هذه الفكرةُ تجعل من الطعام الحيواني تقرُّبًا من خلال تناول القربان المقدس، في حين أن ذلك يُعَدُّ بتعبير آخر جريمةً، على الأقل من وجهة نظر فلسفية نوعًا ما وديكارتية إلى حد ما.

ربما كان هناك في مدينة طيْبة Thèbes، في مصر، حضورٌ حقيقي لله في الحمَـل المضحَّى به ضمن طقوس، كما هي الحال اليوم في خبز الذبيحة المكرَّس. هذا يستدعي أنْ نلاحظَ أنَّ الشمسَ كانت في برج الحمَـل لحظةَ صلب المسيح.

يصف أفلاطونُ، في محاورته طيمايوس Timée، التركيبَ الفَلَكيَّ للكون كنوع من الصلب لنفْس العالَم، حيث تكون نقطةُ التلاقي هي نقطة تقاطع دائرة البروج، أي برج الحمَـل.

وتشير عدةُ نصوص (إﭙينوميس Épinomis، طيمايوس Timée، المائدة Banquet، فيلولاوس Philolaos، ﭙروكلُس [بروقلُس] Proclus) إلى أنَّ البناء الهندسي للمتوسط النسبي بين عدد وبين الكل الواحد، مركز الهندسة اليونانية، كان رمز الوساطة الإلهية بين الله والإنسان.

وعليه فإنَّ لعدد كبير من أقوال المسيح التي روتْها الأناجيلُ (وخاصة القديس يوحنا) الشكلَ الجبري للمتوسط النسبي، بتأكيد واضح جدًا. مثال: "كما أرسلني أبي، كذلك أُرسِلكم، إلخ." علاقةٌ واحدة تجمع الآبَ بالمسيح والمسيحَ بالتلاميذ. فالمسيحُ هو متوسط نسبي بين الله والقديسين. حتى إنَّ كلمة توسُّط médiation تشير إلى ذلك.

أستخلص من ذلك أنه مثلما عُرِفَ المسيحُ في المسِّيَّا في المزامير وفي العبد المتألم le Juste souffrant في إشعياء وفي الأفعى البرونزية في التكوين، كذلك عُرِفَ في المتوسط النسبي في الهندسة اليونانية، والذي أصبح منذ ذلك الحين النبوءةَ الأكثر وضوحًا.

يقول [كوينتس] إنيوس Ennius في نص فيثاغوري: "ندعو القمرَ la Lune ﭙروسيرﭙينا [بيرسفوني] Proserpine... لأنه كأفعى يدور مرةً للشمال ومرةً لليمين."

إنَّ جميع الآلهة الوسطاء التي يمكن مماثلتها بالكلمة هي آلهة قمرية تحمل أبواقًا وقيثاراتٍ وأقواسًا تُذكِّر بالهلال (أوزيريس، أرتميس، أﭙولو، هرمس، ديونيسوس، زاغروس، إله الحب l'Amour...). كان ﭙروموثيوس استثناءً، ولكنَّ أسخيلوس يشبِّهه بالكلمة، محكومًا عليه بالتشرد الأبدي كالكلمة المحكوم عليها بالصلب؛ وكان ذا قرنين. (لاحظْ أنَّ المسيح كان متشردًا قبل أنْ يُصلَبَ – ويصفُ أفلاطونُ إلهَ الحب l'Amour كمتشرد بائس.)

إذا كانت الشمسُ صورةَ الآب، فإن القمر، كانعكاس تام لإشراق الشمس، ولكنه انعكاس يمكن تأمُّله ويعاني من التناقص والاضمحلال، هو صورة الابن. عندئذٍ، يكون النورُ نورَ الروح.

كان عند هيراقليطس Héraclite تثليث، نستشفُّه فقط من خلال مقتطفات النصوص التي بقيَتْ لنا عنه، ولكنه يَظْهَر بوضوح في نشيد إلى زيوس لـ "كليانتس" Cléanthe، من وحي هيراقليطس. الأشخاص هم: زيوس واللوغوس والنار الإلهية أو الصاعقة.

يقول كليانتس لزيوس: "يرضى هذا العالَمُ بالسيطرة (Ecôn createitai). هكذا تكون فضيلة العبد الذي تضعه تحت يديكَ غير المرئيتَينِ. في النار، ذات الحدين، كائن حي خالد، الصاعقة." ليست الصاعقةُ أداةَ إكراه، ولكنها نار تبعث على الرضا والخضوع الإرادي. إنها إذن الحب l’Amour. وذلك الحب هو عبد، كائن حي خالد، وبالتالي شخص Personne. ربما كانت صور زيوس القديمة وهو يحمل فأسًا ذا حدين (رمز الصاعقة)، في النقوش الكريتية crétois تحمل أصلاً هذا المعنى. إنَّ عبارة "ذو حدين" قريبة من قول المسيح: "ما جئتُ لأحملَ سلامًا، بل السيف[21]." كانت النار دائمًا رمزًا للروح القدس في العهد الجديد.

كان الرواقيون، ورثةُ هيراقليطس، يسمون النارَ التي تدعم طاقتُها نظامَ العالَم باسم ﭙنوما[22] pneuma. والـﭙنوما [النفَس] هو الوحل الناري.

ففي رأيهم وفي رأي الفيثاغوريين، يُعَدُّ السائلُ المنوي الذي يُنتِج التكاثرَ المادي [الإنسال] نفَسًا pneuma [ﭙنوما] ممزوجًا بالسائل.

إنَّ كلام المسيح عن الولادة الجديدة – وبالتالي كل ما يتعلق برمزية المعمودية – ينبغي، لفهمه فهمًا أفضل، مقارنتُه بصورة خاصة بالمفاهيم الفيثاغورية والرواقية عن الإنسال. من جهة أخرى فإنَّ جوستينوس Justin، على ما أظن، يشبِّه المعموديةَ بالإنسال. وعليه، فإنَّ الكلام الأورفي[23]: "أيها الجدْيُ، لقد وقعْتَ في الحليب." ينبغي ربما مقارنتُه بالمعمودية. (كان القدماء يرون الحليبَ شيئًا مصنوع من نطاف الرجل).

ربما تريد الكلمة الشهيرة "ﭙـانُ[24] Pan الكبيرُ ماتَ" أنْ تعلن ليس زوالَ الوثنية بل موتَ المسيح – بما أن المسيح هو الـﭙـانُ الكبير والكل الكبير. يقول أفلاطون (في محاورته كراتيلس Cratyle) أن الكل الكبير هو اللوغوس. وفي طيمايوس Timée، يُطْلَق هذا الاسمُ على نفْس العالَم l’Âme du Monde. يشير القديس يوحنا، باستخدامه كلمتَي لوغوس [الكلمة] وﭙنوما [النفَس] إلى الصلة العميقة التي تربط الرواقية اليونانية (لنميِّزَها عن رواقية كاتون Caton وبروتوس Brutus) بالمسيحية.

كان أفلاطونُ يعرف أيضًا بوضوح، وقد لمَّح إلى ذلك في مؤلَّفاته، عقائدَ التثليث والشفاعة والتجسد والآلام ومفاهيم النعمة والخلاص بالمحبة. عرف الحقيقةَ الجوهرية، ألا وهي أنَّ الله هو الخَيْر[25]. وليس اسمه القدير إلاَّ زيادة.

عندما قال المسيح: "جئتُ لألقيَ نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمَتْ[26]؟" فإنه قد أشار إلى صلته مع ﭙروموثيوس. ولا بد من مقارنة قوله: "أنا الطريق" بالطاو الصيني، تلك الكلمة التي تعني حرفيًا: الطريق، وتعني مجازًا: منهج الخلاص من جهة، وتعني من جهة أخرى: الله اللامتشخص الذي هو إله الروحانية الصينية، والذي هو بالمقابل قدوة الحكماء ويفعل باستمرار على الرغم من أنه غير متشخص.

يُذكِّرنا قوله: "أنا الحق" بأوزيريس، رب الحق. وعندما يقول في أحد أقواله الأكثر أهمية: "هؤلاء الذين يصنعون الحق" (poiountes alêtheian)، يستخدم تعبيرًا ليس يونانيًا وليس، على حد علمي، عبريًا (للتحقق من ذلك). ولكنه مصري. إنَّ "معاتْ"[27] «Maât» تعني العدالة والحقيقة معًا. ولهذا دلالة. ليس عبثًا ذهاب العائلة المقدَّسة إلى مصر.

يُنظَر إلى المعمودية على أنها موت مرادف للمُسارَرات القديمة. فالقديس إكليمندس الروماني Clément Romain يطْلِق كلمةَ "مسارَر" على المعمَّد. إنَّ استخدام كلمة "أسرار" «mystères» للدلالة على الطقوس sacrements يشير إلى هذا الترادف ذاته في المعنى. فبيتُ العِماد الدائري يشبه الحوضَ الحجري الذي أقيمَ فيه، بحسب المؤرِّخ هيرودوت، احتفالٌ لإعلان سر آلام أوزيريس. وكلاهما يُذكِّر بعُرض البحر الذي كانت تعوم فيه سفينةُ نوح وسفينةُ أوزيريس، ذلك الخشبُ الذي خلَّصَ البشريةَ قبل أنْ يخلِّصَها خشبُ الصليب.

هناك كَمٌّ كبير من الروايات من المثيولوجيا والفلكلور يمكن ترجمته إلى حقائقَ مسيحيةٍ دون إكراه أو تشويه في أي جانب منه، ولكنْ بتسليط ضوء ساطع على تلك الروايات. فتصبح هذه الحقائقُ واضحةً أيضًا.

8- كلما توسَّل إنسانٌ بقلب سليم إلى أوزيريسَ أو ديونيسوس أو كريشنا أو بوذا أو الطاو أو غيرهم، أجابَ ابنُ الله بإرسال الروح القدس إليه. فيفعل الروحُ في نفسه، ليس بدفعه إلى التخلي عن موروثه الديني، بل بإعطائه النورَ – وفي أحسن الأحوال الامتلاءَ بالنور – داخلَ هذا الموروث.

كانت الصلاةُ عند اليونانيين تشبه الصلاةَ المسيحية إلى حد كبير. عندما يقول [الشاعرُ التراجيدي] إسخولوس Eschyle في مسرحية الضفادع Les Grenouilles لـ "أرسطوفانُس" Aristophane: "ديميتر، أنتِ التي غذَّيتِ فكري، اجعليني أهلاً لأسرارِكِ!"، فإنَّ ذلك يشبه إلى حد كبير صلاةً مرفوعةً إلى العذراء ولا بد أنْ يكون لها القوة نفسها. يصف إسخولوسُ التأملَ وصفًا تامًا في الأبيات الرائعة: "إنَّ من ينادي بمجد زيوس، وفكرُه متَّجهٌ إليه، يتلقَّى امتلاءً بالحكمة." (كان يعرف التثليثَ: "... لدى زيوس يقوم فعلُه وكلامُه".)

بناءً على ذلك، لا جدوى من إرسال بعثات تبشيرية لحث الناس في آسيا أو أفريقيا أو أوقيانوسيا[28] على الدخول في المسيحية.

9- عندما قال المسيح: "إذهبوا وبشروا جميع الأمم"، كان يأمر بنقل بشارة وليس تعليمًا لاهوتيًا. كان، هو نفسه، يقول عندما جاء: "فقط لخِراف إسرائيل" فأضاف ثانيةً هذه البشارةَ إلى دِين إسرائيل.

كان المسيح، على الأرجح، يريد من كل رسول من رُسُله أنْ يضيفَ أيضًا بشارةَ حياة المسيح وموته إلى دين البلد الذي يكون فيه. ولكنْ أُسيءَ فهمُ الأمر، بسبب قومية اليهود الراسخة. فكان لا بد لهم أنْ يفرضوا كتابَهم المقدَّس في كل مكان.

إذا وجدتم بأن هناك كثيرًا من الرجم بالغيب[29] في افتراض أنَّ الرسل أساؤوا فَهْمَ أوامر المسيح، أجيبُ بأنه من المؤكَّد تمامًا وجود عدم فهم من طرفهم حول عدد من النقاط. لأنه بعد أنْ قال المسيح الذي قام من بين الأموات: اذهبوا وعلِّموا الأممَ (أو الوثنيين gentils)[30] وبعد أنْ أمضى أربعين يومًا مع التلاميذ يكشف لهم عن مذهبه، كان بطرس يحتاج إلى كشف خاص وإلى رؤيا ليقرِّرَ تعميدَ أحد الوثنيين؛ كان عليه أن يذْكرَ هذه الرؤيا ليشرحَ ذلك الفعلَ للناس المحيطين به؛ وقد وجد بولسُ صعوبةً كبيرة في إلغاء الختان.

من جهة أخرى، مكتوبٌ أنه يُحْكَم على الشجرة من ثمارها. وقد حملَت الكنيسةُ ثمارًا رديئة لا تحمِلُ على الاعتقاد بأنه لم يكنْ هناك من خطأ في بدايتها.

لقد اجتُثَّت أوروبا من جذورها روحيًا وقُطِعَت عن هذه الموروثات القديمة حيث هناك جذور لجميع مقوِّمات حضارتنا؛ وذهبَتْ تقتلع القاراتِ الأخرى من جذورها ابتداءً من القرن السادس عشر.

لم تخرجِ المسيحيةُ عمليًا، بعد عشرين قرنًا، من العِرْق الأبيض؛ وما تزال الكاثوليكيةُ محدودةً. لقد بقيَتْ أمريكا ستةَ عشر قرنًا دون أنْ تسمعَ بالمسيح (مع أنَّ بولُسَ الرسولَ قال: البشارة التي أُعلِنَت في جميع الخليقة) وأُبيدَت أممُها بأفظع الأعمال الوحشية قبل أنْ يتسنَّ لها التعرُّف عليه. إنَّ حماسَ المبشرين لم يُنَصِّرْ أفريقيا وآسيا وأوقيانوسيا، بل وضعَ هذه المناطقَ تحت السيطرة الباردة والوحشية والهدامة للعِرْق الأبيض الذي سحقَ كلَّ شيء.

من الغريب أنْ يؤديَ كلامُ المسيح إلى مثل هذه النتائج فيما لو فُهِمَ فهمًا صحيحًا.

قال المسيح: "علِّموا وعمِّدوا الذين يؤمنون."، أي الذين يؤمنون به. لم يقلْ أبدًا: "أجبِروهم على إنكار جميع مقدَّسات آبائهم وعلى اتِّخاذ تاريخِ شعبٍ صغيرٍ مجهولٍ كتابًا مقدَّسًا لهم." لقد أكدوا لي أنَّ تقاليدَ الهندوس لا تمنعهم بتاتًا من تقبُّل المعمودية لو أن المبشرين لا يفرضون عليهم إنكارَ ﭭيشنو وشيـﭭـا كشرط للمعمودية. إذا كان الهندوسي يعتقد أنَّ ﭭيشنو هو الكلمة وأن شيـﭭـا هو الروح القدس وأنَّ الكلمة تجسَّدَت في كريشنا وفي راما قبل أنْ تتجسد في يسوع، فبأي حق تُرفَضُ معموديتُه؟ كذلك فإنَّ اليسوعيين، في النزاع بينهم وبين النظام البابوي حول البعثات التبشيرية في الصين، هم الذين نفَّذوا كلامَ المسيح.

10- كان العمل التبشيري، كما جرى على أرض الواقع (وخاصةً منذ إدانة سياسة اليسوعيين في الصين في القرن السابع عشر) عملًا سيئًا، إلاَّ اللهمَّ في بعض الحالات الخاصة. لقد رافق المبشرين، وحتى الشهداءَ منهم، جنبًا إلى جنب المَدافعُ والسُّفُنُ الحربيةُ لتكون شاهدًا حقيقيًا على الحمَـل. لا أعلم أن الكنيسة استنكرَت رسميًا على الإطلاق الأعمالَ التأديبية التي جرت للثأر لهؤلاء المبشرين.

أنا شخصيًا لا أعطي حتى عشرين فلسًا لأي عمل تبشيري. أعتقد أن تغيير الإنسان لدِينه أمرٌ خطيرٌ كتغيير الكاتب للغته. قد ينجح ذلك، ولكنْ قد يكون له عواقبُ وخيمة.

11- يحتوي الدِّينُ الكاثوليكي على حقائقَ صريحةٍ أضمرَتْها الأديانُ الأخرى. ولكنْ بالمقابل فإن الأديان الأخرى تضم حقائقَ صريحةً أضمرَتْها المسيحيةُ. فالمسيحي الأكثر ثقافةً يمكنه أيضًا أن يتعلم كثيرًا عن الأمور الإلهية في منقولات روحية أخرى، على الرغم من أن النور الداخلي يمكن أيضًا أن يجعلَه يكتشفُ كلَّ شيء من خلال دِينه هو. مع ذلك، إذا اختفت هذه المنقولاتُ الروحية الأخرى من على سطح الأرض فسيكون ذلك خسارةً لا تعوَّض. وقد قضى المبشرون على الكثير منها أصلاً.

يقارن القديسُ يوحنا الصليبُ Saint Jean de la Croix الإيمانَ بالأضواء الفضية المنعكسة والحقيقةُ هي الذهب. إنَّ مختلفَ المنقولات الروحية الحقيقية هي انعكاسات مختلفة للحقيقة الواحدة، وربما كان لها القيمة الثمينة نفسها. ولكننا لا ندرك ذلك، لأنَّ كلاً منا يعيش واحدةً من هذه المنقولات ويرى المنقولاتِ الأخرى من الخارج. وعليه، فإنَّ الدِّينَ لا يُعرَف إلاَّ من الداخل، كما يردَّد الكاثوليكُ باستمرار، محقِّين، لغير المؤمنين. وكأنَّ هناك رَجُلَينِ في غرفتين متَّصلتَينِ، كلٌّ منهما يرى الشمسَ من النافذة ويرى جدارَ جاره تضيئه الشمسُ، فيعتقد كلٌّ منهما أنه يرى الشمسَ وحدَه وأن جارَه لا يرى سوى انعكاسها.

تعترف الكنيسةُ بأن تنوعَ التوجهات vocations له قيمة كبرى. يجب توسيع هذه الفكرة لتشمل جميعَ التوجهات خارج الكنيسة. لأنَّ هناك توجهاتٍ خارجها.

12- إنَّ الله، كما يقول الهندوسُ، شخصي ولاشخصي. فهو لاشخصي بمعنى أن طريقته الخفية جدًا في كونه شخصًا [أقنومًا] تختلف تمامًا عن الطريقة البشرية. ولا يمكننا التقاطُ هذا السِّرِّ إلاَّ إذا استخدمْنا معًا، كطرفَيْ مِلْقَط، هذين المفهومَينِ المتناقضَينِ الذَينِ يتعارضان هنا ويتطابقان في الله. (كذلك الأمر في كثير من الأضداد، كما فهمَ الفيثاغوريون.)

لا يمكن أنْ نتفكر في الله كثلاثة وواحد في آنٍ معًا وليس بالتعاقب (وهو أمرٌ وصلَ إليه قليلٌ من المسيحيين) إلاَّ بالتفكر به كشخصي ولاشخصي في آنٍ معًا. بخلاف ذلك، نحن نتصوره تارةً أقنومًا إلهيًا واحدًا وتارةً ثلاثة آلهة. وكثير من المسيحيين يخلط هذا التذبذب بالإيمان الحقيقي.

هناك قديسون ذوو روحانية عالية جدًا، مثل القديس يوحنا الصليب Saint Jean de la Croix، التقطوا معًا وبقوة متساوية المظهرَ الشخصي والمظهر اللاشخصي لله. إنَّ النفوس الأقل تقدُّمًا تصبُّ انتباهَها وإيمانَها بصورة خاصة أو حصرية على أحد هذين المظهرَين. وهكذا فإنَّ قديسة ليزيو Lisieux الصغيرة "تيريزا" [تيريزا الطفل يسوع Thérèse de l’Enfant-Jésus أو تيريزا مارتان Thérèse Martin] لم تتصورْ إلاَّ إلهًا شخصيًا. وبما أنَّ كلمة الله Dieu في الغرب تشير في معناها الدارج إلى شخص [أقنوم]، فإنَّ الأُناسَ الذين ينصبُّ انتباهُهم وإيمانُهم وحبُّهم، بصورة حصرية تقريبًا، على المظهر اللاشخصي لله، ليس إلاَّ، يعتقدون أنفسَهم ويقولون عن أنفسهم أنهم ملحدون، على الرغم من أنَّ الحب الفائق يسكن أرواحَهم. هؤلاء يَخْلصون حقًا.

يُعرَفون من موقفهم إزاء الأمور في هذه الدنيا. فجميع الذين يمتلكون الحبَّ الصافي للقريب ويَقْبلون نظامَ العالَم، بما في ذلك المصيبة، جميع هؤلاء، حتى وإنْ عاشوا ملحدين ظاهريًا، يَخْلصون بالتأكيد.

إنَّ هؤلاء الذين يمتلكون تمامًا هاتين الفضيلتَين، حتى وإنْ عاشوا وماتوا ملحدين، هم قديسون.

عندما نلتقي بمثل هؤلاء الناس، فلا جدوى من هدايتهم. إنهم هُداةٌ مهديُّون، وإنْ لم يكنْ ذلك مرئيًا؛ إنهم مولودون من جديد بالماء والروح، حتى وإنْ لم يعرفوا المعموديةَ أبدًا؛ إنهم أكلوا خبزَ الحياة، حتى وإنْ لم يشاركوا أبدًا في المناولة.

13- إنَّ البِرَّ [الإحسان] والإيمان لا ينفصلان، على الرغم من تمايزهما. كذلك يكون النوعان الخاصان بالبِر أيضًا. فكل من يكون قادرًا على القيام ببادرةِ رحمةٍ خالصة إزاء إنسان بائس (وهو أمر نادر جدًا أيضًا) يمتلك، ربما بصورة ضمنية، ولكنها حقيقية دائمًا، محبةَ الله والإيمان.

لا يُخَلِّصُ المسيحُ جميعَ من يقولون له: "يا رب، يا رب." ولكنه يُخَلِّصُ جميعَ من يعطون جائعًا كِسْرةَ خبز بقلب سليم، دون أنْ يفكروا بالمسيح إطلاقًا. هؤلاء، عندما يشكرهم، يجيبون: "ولكنْ متى أطعمناكَ يا رب؟"

وعليه، فإن تأكيدَ القديس توما بأن من يرفض بندًا واحدًا من الإيمان ليس لديه أيةُ درجة من درجات الإيمان إنما هو تأكيد خاطئ، إلاَّ إذا تمكَّنَّا من إثباتِ أنَّ الهراطقةَ ليس لديهم إحسان للقريب. ولكنَّ هذا صعب. فعلى حد علمي، كان الكاثاريون cathares "الكُـمَّـل"، على سبيل المثال، يمتلكون إحسانًا بدرجة نادرة جدًا حتى بين القديسين.

إذا زعمْنا بأنَّ الشيطانَ يُحْدِثُ لدى الهرطقة مظاهرَ مثل هذه الفضائل ليغويَ نفوسَهم شرَّ إغواء فإننا نعارضُ ذلك بالقول: "تعرفون الشجرةَ من ثمارها"؛ إننا نفكر تمامًا مثلَ هؤلاء الذين كانوا يرون المسيحَ به مسٌّ من الشيطان؛ ونصبح ربما قابَ قوسين أو أدنى من ارتكاب الخطيئة دون غفران والكفر بحق الروح. كذلك فإنَّ الملحد و"الكافر"، القادرَينِ على الرحمة الخالصة، قريبان من الله قُرْبَ المسيحي منه، وبالتالي يعرفانِه جيدًا أيضًا، على الرغم من أنَّ معرفتَهما يُعبَّر عنها بكلمات أخرى أو يُصْمَتُ عنها. لأنَّ "الله محبة". وإذا كان يثيب من يطلبونه فإنه يعطي من يتقربون إليه النورَ، وخاصةً أنهم يتوقون إلى النور.

14- يقول القديسُ يوحنا: "إنَّ كلَّ من يؤمن بأنَّ يسوعَ هو المسيح يكون مولودًا من الله." وعليه، فإنَّ كلَّ من يؤمن بذلك، حتى وإنْ لم يَقْبلْ شيئًا مما تؤكده الكنيسة، يكون عنده الإيمان الحقيقي. وبهذا، يكون القديس توما مخطئ تمامًا. علاوةً على ذلك، فقد ناقضَت الكنيسةُ العهدَ الجديد بإضافة بنود إيمانية أخرى على التثليث والتجسد والفداء. كان عليها، تقيُّدًا بما قال القديس يوحنا، ألاَّ تحْرِمَ أبدًا إلاَّ "الدوكيتيين"[31] «docéistes»، الذين ينكرون التجسُّدَ. فكان تعريفُ الإيمان الذي قدَّمتْه عقيدةُ مجْمعِ "ترانت" المسكوني [ترينتو] Trente (اعتقاد راسخ بكل ما تُعلِّمه الكنيسة) بعيدًا كلَّ البعد عن تعريف القديس يوحنا الذي كان يرى أنَّ الإيمان ليس سوى مجرَّد الاعتقاد بتجسد ابن الله في شخص يسوع.

وجرت الأمورُ وكأننا صرنا ننظر إلى الكنيسة كإله متجسد على الأرض لا إلى يسوع. فاستعارة "الجسد السرِّي" «corps mystique» تفيد كجسر بين المفهومَين، ولكنْ مع فارق بسيط: وهو أنَّ المسيح كان كاملاً، بينما كانت الكنيسةُ ملطَّخةً بعدد كبير من الجرائم.

ينطوي المفهومُ التوموي [نسبةً إلى القديس توما] للإيمان على "توتاليتارية" ["شمولية"] خانقة كتوتاليتارية هتلر أو أكثر. لأنه إذا اعتنقَتِ الروحُ اعتناقًا كليًا ليس فقط جميعَ ما أقرَّتْه الكنيسةُ بل جميعَ ما ستُقِرُّه دائمًا كإيمان صارم، فلا بد أنْ يُلْجَمَ العقلُ ويقتصرَ على مهمات وضيعة.

إنَّ استعارة "الحجاب" و"الانعكاس" التي يطبقها الصوفيون على الإيمان تتيح لهم الخروجَ من هذا المكان الخانق. فهم يَقْبلون تعاليمَ الكنيسة ليست على أنها الحقيقة بل على أنها شيء توجد وراءه الحقيقة.

وهذا بعيد كلَّ البعد عن الإيمان الذي حدَّدَتْه عقيدةُ مجْمعِ ترانت. أصبح الأمرُ وكأنَّ هنالك دِينَينِ متمايزَين، دِينَ المتصوفة والدِّينَ الآخرَ، يحْمِلان تسميةً واحدة: المسيحية وداخل مؤسسة اجتماعية واحدة.

أعتقد أنَّ الدين الأول [دِينَ المتصوفة] هو الصحيح وأنَّ للخلْطِ بين الدِّينَينِ محاسنَ كثيرةً ومساوئَ كثيرةً في آنٍ معًا.

حسب مقولة القديس يوحنا، ما كان للكنيسة الحقُّ أبدًا في حَرْمِ أحدٍ يؤْمن حقًا بأنَّ المسيحَ هو ابن الله نزل على الأرض وسكن الجسد.

إنَّ تعريفَ القديس بولس أوسع أيضًا: "الإيمان بأنَّ الله موجود ويكافئ الذين يطلبونه". ليس لهذا المفهوم علاقةٌ بتاتًا بمفاهيم القديس توما ومجْمع ترانت. بل هناك تعارُض. لأنه كيف يجرؤ أحدٌ على التأكيد بأنه ليس هناك أبدًا من أحد بين الهراطقة يطلب الله؟

15- كان مثَلُ السامريين في نظر الشريعة القديمة كمَثَل الهراطقة في نظر الكنيسة. وكان مثَلُ الكاثاريين "الكُمَّـل" (من بين آخرين غيرهم) في نظر عدد كبير من اللاهوتيين كمَثَل السامري الصالح في نظر الكاهن أو اللاوي[32] lévite. وعليه، فما هو رأيُنا بهؤلاء الذين تركوهم يَقْتلون وشجَّعوا سيمون دو مونفور Simon de Montfort؟ كان من المفروض من هذا المثَل أنْ يُعلِّمَ الكنيسةَ عدمَ حَرْمِ أحدٍ على الإطلاق إذا كان يطبق محبةَ القريب.

16- ليس هناك، بحسب ما تتيح ليَ الرؤيةُ، من فرق حقيقي – إلاَّ اللهمَّ في أشكال التعبير – بين المفهوم المانوي والمفهوم المسيحي للعلاقة بين الخير والشر.

17- إنَّ المنقول الروحي المانوي هو أحد المنقولات التي يمكننا أنْ نجد فيها حقيقةً بالتأكيد إذا ما درسناه بإخلاص وعناية.

18- بما أنَّ نوحًا كان "أحدَ رموز المسيح" (انظرْ أوريجانوس[33] Origène) وكان كاملاً بحق وقد تقبَّلَ اللهُ قربانَه الذي أنقذَ البشرية فأقام اللهُ من خلال شخصه عهدًا مع جميع البشر، فإنَّ سُكْرَه وعرْيَه ينبغي على الأرجح فهمُهما بالمعنى الصوفي. وفي هذه الحالة، يكون العبرانيون قد شوَّهوا التاريخَ، كساميين وكقتَلة الكنعانيين. ويكون حامٌ[34] Cham هو الذي شارك في الكشف الذي حصلَ لنوح؛ ويكون سامٌ[35] Sem ويافثُ Japhet هما اللذين رفضا المشاركة فيه.

يؤكد أحد الغنوصيين الذين ذكرهم إكليمندس الإسكندري Clément d’Alexandrie (البُسُط[36] Stromates، 6، 6) أنَّ الإلهياتِ الرمزيةَ لفيريقيدس Phérékydes (معلِّم فيثاغورس) مستمَدَّة من "نبوءات حام" – وقد كان فيريقيدس سوريًا. قال: "تحوَّلَ زيوسُ، لحظةَ خَلْقِه العالَمَ، إلى محبة..." أكان حام هذا ابنًا لنوح؟

ما يحمل على قول ذلك هو علم الأنساب. فقد خرج من حام المصريون والفيليستان Philistins (أي الإيجيون-الكريتيون أو البلاسغيون Pélasges، على الأرجح) والفينيقيون والسومريون والكنعانيون – بتعبير آخر كل الحضارة المتوسطية السابقة مباشرةً للعصور التاريخية.

يؤكد هيرودوت، مؤيَّدًا بعدة قرائن، أن الهيلينيين les Hellènes قد استمدوا جميعَ معارفهم الميتافيزيقية والدينية من مصر عِبْرَ الفينيقيين والبلاسغيين Pélasges.

نَعْلم أن البابليين قد استمدوا منقولاتِهم من السومريين – الذين تعود إليهم بالنتيجة "الحكمةُ الكلدانية".

(كذلك فإنَّ دِينَ بلاد الغال [كلتية الغال] druidisme de Gaule إيبيري [من شبة الجزيرة الإيبيرية، إسبانيا] وليس كلتيًا celtique؛ لأنَّ بعض الإغريق كانوا يرون فيه، بحسب ديوجين لايرس [اللايرسي، من لاييرت Laërte] Diogène Laërce، أحدَ أصول الفلسفة اليونانية، مما يتعارض ربما مع الوصول المتأخر للكلتيين [السلتيين] Celtes إلى بلاد الغال.)

إنَّ حزقيال Ézéchiel، في الفِقْرة الرائعة التي يقارن فيها مِصْرَ بشجرة الحياة وصُوْرَ بملاك الشيروبيم Chérubin الذي يحرسها، يؤكد تمامًا ما أخبرنا به هيرودوتُ.

يبدو، إذَنْ، أنَّ الشعوبَ المتحدرة من حام Cham، وأولها مصر، قد عرفَتِ الدِّينَ الحقَّ، دِينَ المحبة، حيث يكون الله ذبيحةً مضحَّى بها في الوقت الذي يكون فيه سيدًا قديرًا. ومن بين الشعوب المتحدرة من سام Sem ويافث Japhet، تلقَّى بعضُها – كالبابليين والكلتيين والهيلينيين – هذا الوحيَ الخاص بالشعوب المتحدرة من حام بعد أنْ غزَوهم واجتاحوهم. ورفضَتْه شعوبٌ أخرى – كالعبرانيين والرومان – عن كِبْرٍ واعتزاز بالأمة. (عند العبرانيين، ينبغي استثناءُ دانيال وإشعياء Isaïe ومؤلِّف كتاب أيوب وغيرهم البعض؛ وعند الرومان، ينبغي استثناءُ مرقص أوريليوس[37] Marc Aurèle وبمعنىً ما ربما رجال مثل ﭙـلوتُس[38] Plaute ولوقريطُس[39] Lucrèce.)

وُلِدَ المسيحُ في أرض تابعة لشعبَينِ متمرِّدَين. ولكنَّ الإلهام الذي هو مركز الدين المسيحي هو صِنْوُ الإلهام لدى الـﭙـلاسغيين Pélasges ومصر وحام.

مع ذلك، فقد أضفى كلٌّ من إسرائيل وروما طابَعَهما على المسيحية، أما إسرائيلُ فمن خلال ضمِّ العهد القديم إلى الكتاب المقدس، وأما روما فمن خلال جعل المسيحيةِ الدينَ الرسمي للإمبراطورية الرومانية، وهو أمر قريب مما كان يحلم به هتلر.

يفسِّر هذا الدنسُ المزدوج والأصلي تقريبًا جميعَ الأخطاء التي دنَّسَت تاريخَ الكنيسة وجعلَتْه شنيعًا إلى هذا الحد على مر العصور.

هناك أمر فظيع أيضًا هو أنَّ صلْبَ المسيح ما كان ليتمَّ إلاَّ في مكان ينتصر فيه الشرُّ على الخير انتصارًا ساحقًا. فلا بد، إذَنْ، للكنيسة التي وُلِدَتْ وترعرعَتْ في مثل هذا المكان أنْ تكون مدنَّسةً أيضًا منذ الأصل وأنْ تظلَّ كذلك.

19- ليست الكنيسةُ طاهرةً كليًا إلاَّ من ناحية واحدة، كونَها محافِظة على الأسرار. فما هو كامل ليس الكنيسة، إنما جسد المسيح ودمه على المذبح.

20- لا تبدو الكنيسةُ معصومةً؛ ذلك لأنها تتطور في الواقع. ففي القرون الوسطى، كانت السلطة [العقائدية] العامة للكنيسة تأخذ بالمعنى الحرفي لمقولة: "لا خلاصَ خارج الكنيسة". هذا ما تشير إليه الوثائقُ على الأقل. واليوم نفهمها بمعنى الكنيسة التي لا تُرى.

يعلن أحد المجامع المسكونية أنَّ كلَّ من لا يؤمن بقول المسيح: "... من لم يولَدْ من جديد بالماء والروح..." يُعَدُّ محرومًا، فتدل كلمة ماء على مادة المعمودية. وبناءً على هذا الفهم، يكون جميع الكهنة اليوم محرومين. لأنه إذا كان ممكنًا لإنسانٍ لم يتلَقَّ المعموديةَ ولم يطلبْها أيضًا أنْ يَخْـلُصَ، كما نقِرُّ اليوم عمومًا، فلا بد أنْ يكون مولودًا من جديد بالماء والروح بمعنى ما رمزيٍّ بالضرورة؛ فنأخذ عندئذٍ كلمةَ "ماء" بالمعنى الرمزي.

يعلن مَجْمعٌ مسكوني أنَّ كلَّ من يدَّعي تيقُّنَه من ثباته النهائي دون تلقِّيه وحيًا خاصًا يُعَدُّ محرومًا.  وقد قالت القديسة تيريزا دو ليزيو Thérèse de Lisieux، قبل موتها بقليل، بأنها متيقِّنة من خلاصها، دون أنْ تدَّعيَ أيَّ وحي. ولم يمنعْها ذلك من اعتبارها قديسة.

إذا سألنا عدةَ كهنة هل مثل هذا الأمر إيمانٌ قاطع، نحصلُ على إجابات مختلفة، وغالبًا ما تكون مريبة. وهذا يخلق وضعًا مستحيلاً، في حين أن المؤسسة متصلبة إلى درجة أن القديس توما استطاع إصدار التأكيد المذكور أعلاه.

هناك شيء ما غير سوي داخل الكنيسة.

21- يتطلب، بصورة خاصة، الاعتقادُ بأن خلاصَ الإنسان ممكنٌ خارج الكنيسة المرئية أنْ نعيد التفكيرَ في بنود الإيمان، تحت طائلة تناقضها التام من الناحية المنطقية. لأن المؤسسة برُمَّتِها مبنيةٌ على التأكيد المعاكس الذي لا يجرؤ أحد تقريبًا على الموافقة عليه اليوم.

مازلنا لا نريد الاعترافَ بضرورة إعادة النظر هذه. نتملَّصُ منها بحِيَل بالية. ونُموِّه التصدعاتِ ببدائلَ لرأْبِها ونموِّه الأخطاءَ المنطقية الصارخة.

إذا لم تعترف الكنيسةُ عاجلاً بهذه الضرورة فإنه يُخشى ألاَّ تتمكن من تأدية مهمتها.

لا خلاصَ من دون "ولادة جديدة"، من دون استنارة داخلية، من دون حضور للمسيح وللروح القدس في النفْس. إذا كان هناك، إذَنْ، من إمكانية للخلاص خارج الكنيسة فسيكون هناك إمكانية للوحي الفردي والجماعي خارج الكنيسة. وفي هذه الحالة، يشكِّل الإيمانُ الحقيقي نوعًا من الانتساب والانتساب المختلف جدًا عن الإيمان الذي ينطوي على الاعتقاد برأي ما. ينبغي إعادة التفكير بمفهوم الإيمان.

22- في الواقع، يتلاقى الصوفيون من جميع المنقولات الدينية تقريبًا تلاقيًا يكاد يصل إلى حد التطابق تقريبًا. فهمْ يشكِّلون حقيقةَ كل دين. إن التأملَ الذي يمارسونه في الهند واليونان والصين وغيرها فائقُ الطبيعة مَثَلُه كمَثَل تأمل الصوفيين المسيحيين. خصوصًا أن هناك صلةً كبيرةً جدًا بين أفلاطون والقديس يوحنا الصليب مثلاً. وكذلك بين الأوﭙَنشاد الهندوسية والقديس يوحنا الصليب. كما أن الطاوية قريبةٌ جدًا من التصوف المسيحي.

كانت الأورفيةُ orphisme والفيثاغوريةُ منقولاتٍ صوفيةً حقيقية. وكذلك ألفسينا Éleusis [الطقوس الأليوسينية].

23- ليس هناك، بعد جريمةٍ بشعةٍ بشاعةَ جريمةِ قتل كائن كامل، أيُّ سبب يدعو للافتراض بأن البشرية لا بد أنها أصبحَت أفضل؛ إجمالاً، لا يبدو في الواقع أنها أصبحَتْ أفضل.

فالفداء يتوضع على مستوىً آخر، مستوى أزلي.

بصورة عامة، ليس هناك من داعٍ لإقامة علاقة بين درجة الكمال والتسلسل الزمني.

لقد أدخلَتِ المسيحيةُ إلى العالَم مفهومَ التطور هذا والذي كان مجهولاً فيما سبق؛ إنَّ هذا المفهوم الذي أصبح سُمًا للعالَم الحديث يجتثُّ هذا العالَم من المسيحية. فلا بد من التخلي عنه.

ينبغي التخلص من خرافة التسلسل الزمني للعثور على الخلود.

24- ليست عقائد الإيمان أشياءً ينبغي إثباتها. إنما هي أمور ينبغي النظر إليها من مسافة معيَّنة، باهتمام واحترام ومحبة. إنها الأفعى البرونزية التي خاصيتها أنها من رآها يحيا. هذه النظرةُ الدقيقة والمُحِبة تُفجِّر في النفس، من خلال صدمة راجعة، نبعَ ضياء ينير كلَّ جوانب الحياة الإنسانية على الأرض. فالعقائد تفقد هذه القوة عندما نثبتها. إنَّ عبارتَيْ "المسيح هو الله" أو "الخبز والخمر المكرَّسان هما جسد المسيح ودمه" المذكورتَينِ كوقائعَ ليس لهما حرفيًا أيُّ معنى.

فقيمةُ هذه العبارات مختلفةٌ قطعًا عن الحقيقة المتضمَّنة في النص الدقيق لأمر ما (مثال: سالازار Salazar هو رئيس الحكومة البرتغالي) أو لنظرية هندسية.

لا تتكلم هذه القيمةُ حرفيًا عن مستوى الحقيقة، بل عن مستوى أسمى، لأنها قيمة لا يدركها العقلُ، إلاَّ بطريقة غيرِ مباشرة، من خلال النتائج. والحقيقةُ، بالمعنى الدقيق، تنتمي إلى مجال العقل.

25- ليست المعجزاتُ أدلةً على الإيمان (مقولة لا أدري أي مجْمع حرَمها).

إذا كانت المعجزاتُ تشكِّل براهينَ، فإنها تغالي في البرهان. لأنَّ لجميع الأديان دائمًا معجزاتِها أمسِ واليومَ، بما في ذلك البِدَع الأكثر غرابةً. يدور الموضوع، عند لوسيان Lucien، حول أموات قاموا. إنَّ المنقولاتِ الهندوسيةَ مليئةً بقصص كهذه، ويقال إنَّ المعجزاتِ اليوم أيضًا في الهند هي أحداث لا أهمية لها نظرًا لسخافتها. إنَّ التأكيد بأنَّ المعجزاتِ المسيحيةَ هي وحدها حقيقية وأنَّ جميع المعجزات الأخرى كاذبة أو التأكيد بأنها وحدها من الله وأن جميع المعجزات الأخرى من الشيطان إنما هي حيلة تافهة. لأن هذا تأكيد تعسُّفي، وبذلك لا تبرهن المعجزاتُ على شيء؛ إنها تحتاج هي نفسُها إلى برهان، لأنها تحصل من الخارج على مصادقة على صحتها.

يمكننا أن نَذْكر من المعجزات كثيرًا من النبوءات والموت بالشهادة.

عندما يَذْكُر المسيحُ "كالايرغاتِه" kalaerga فليس من داعٍ لترجمتها بـ "معجزات". يمكننا أيضًا ترجمتها بـ "صنائع"، "أعمال حسنة". هكذا أفهمُها: فكرة المسيح هي أنه لا بد أن نعترف به كقديس لأنه كان يفعل الخيرَ دائمًا ولا شيءَ غير الخير.

قال: "لولا أعمالي لكانوا بلا خطايا"، ولكنْ "لولا أقوالي لكانوا بلا خطيئة"، وذلك بوضع الفكرتين على المستوى نفسه. وعليه فإنَّ أقوالَه لم تكنْ إعجازيةً قط، بل كانت جميلةً فقط. حتى إنَّ مفهوم المعجزة هو مفهوم غربي وحديث؛ ويرتبط بالمفهوم العلمي للعالَم والذي تتنافى معه المعجزةُ رغم ذلك. فما نراه على أنه معجزاتٌ يرى فيه الهندوسُ نتائجَ طبيعية لقدرات استثنائية توجد عند قليل من الناس، وفي أغلب الأحيان عند القديسين. إنها تشكِّل، أذَنْ، قرينةً على القداسة. فكلمة "آيات" في الإنجيل لا تعني أكثر من ذلك. ولا يمكنها أن تعنيَ أكثر من ذلك. لأن المسيح قال: "كثير يقولون لي: ألم نصنعْ باسمِكَ قواتٍ؟ فالحق أقول لهم: ابعدوا عني يا فاعلي الإثم..." وقال: "سيقوم أنبياء كذبة ومُسَحاء كذبة ويُعطَون آياتٍ عظيمةً وعجائبَ حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا". يبدو أن رؤيا يوحنا اللاهوتي l’Apocalypse (الإصحاح 13، 3-4) تشير إلى موت المسيح الدجال وقيامته.

يقول سِفْرُ التثنية: "لو دعا نبيٌّ إلى عبادة غير الله يُقْتَـل وإن كان ذا معجزات عظيمة."

إذا كان اليهود مخطئين عندما قتلوا المسيحَ فليس بسبب معجزاته إذًا، ولكنْ بسبب قداسة حياته وجمال أقواله. فيما يتعلق بالصحة التاريخية للوقائع التي نسميها معجزاتٍ، ليس هناك من دواعٍ كافية لتأكيدها ولا لنفيها نفيًا قاطعًا.

وإذا قبِلْنا بهذه الصحة، فإن هناك عدةَ طرق ممكنة لتصور طبيعة هذه الوقائع. إحدى هذه الطرق تنسجم مع المفهوم العلمي للعالَم. ولهذا فهي مفضَّلة. ينبغي عدمُ فصل المفهوم العلمي للعالَم مُدْرَكًا إدراكًا جيدًا عن الإيمان الحقيقي. لقد خلقَ الله هذا العالَمَ كنسيج من الأسباب الثانوية؛ ويبدو أن من الكفر افتراضَ وجود فجوات في هذا النسيج، وكأن الله لا يستطيع بلوغَ غاياتِه من دون انتهاك صنعه.

وإذا قبِلْنا بمثل هذه الفجوات فسيكون من المعيب بحق الله ألاَّ يقومَ بشيء من هذه المعجزات لإنقاذ الأبرياء من الشقاء. لا يمكن أنْ يَظهَرَ الاستسلامُ لشقاء الأبرياء في داخل النفس إلاَّ بالتأمل أو بقبول الضرورة، تلك الضرورةُ هي التسلسل الصارم للأسباب الثانوية. وإلاَّ فسنكون مجبَرين على اللجوء إلى خِدَع تنفي جميعُها الحادثةَ نفسَها لشقاء الأبرياء؛ وبالتالي تُشوِّه كلَّ فهم للوضع البشري وتُفسِد النواةَ نفسَها للتصور المسيحي.

تتوافق الأفعالُ المسماةُ بالمعجزات مع المفهوم العلمي للعالَم إذا سلَّمْنا بأنه قد يكون في إمكان علم متقدم بما يكفي أنْ يقدِّمَ تفسيرًا لها.

هذه المسَلَّمة لا تلغي صلةَ هذه الأفعال بالخوارق.

يمكن لفعل أنْ يرتبطَ بالخارقة بثلاث طرق.

قد تكون بعضُ الأفعال نتائجَ إمَّا لما يجري في الجسد وإمَّا لعمل الشيطان على النفْس وإمَّا لعمل الله. وهكذا، فهناك إنسان يبكي من ألم جسدي؛ وإلى جانبه إنسان آخر يبكي متفكرًا في الله بحب صافٍ. في الحالتين هناك دموع. وهذه الدموع هي نتائج، هي آلية نفسانية-فيزيولوجية. ولكنْ في إحدى هاتين الحالتين يكون عنصرٌ من هذه الآلية خارقًا. إنه الإحسان [البِر]. وبهذا المعنى، حتى وإن كانت الدموع ظاهرةً عادية جدًا فإنَّ دموع القديس وهو في حالة تأمل حقيقي هي دموع خارقة.

بهذا المعنى، وبهذا المعنى فقط، تكون معجزاتُ القديس خوارقَ. تكون خوارقَ مثلها مثل جميع النتائج المادية للإحسان. فالصدقة التي تتم ببِرٍّ خالص هي معجزة عظيمة كمعجزة المشي على الماء.

إنَّ القديس الذي يمشي على الماء يشبه تمامًا القديسَ الذي يبكي. في كلتا الحالتين هناك آلية نفسية-فيزيولوجية أحدُ عناصرها الإحسان – وهنا تكمن المعجزة، أنْ يكونَ الإحسانُ أحدَ عناصر مثل هذه الآلية – وأن تكون له نتائجُ مرئية. فالنتيجة المرئية هي المشي على الماء في إحدى الحالتين والدموع في الحالة الأخرى. الحالة الأولى نادرة. هذا هو الفرق الوحيد.

هل هناك بعض الأفعال لا يمكن أن يصنعها الجسدُ وحدَه على الإطلاق، ولكنْ تصنعها فقط آلياتٌ يدخل في عناصرها إمَّا الحبُّ الطبيعي وإمَّا الكراهيةُ الشيطانية؟ هل المشي على الماء من هذا القبيل؟ هذا ممكن. إننا أجهلُ من أنْ نتمكن من التأكيد أو النفي في هذا الموضوع.

وهل هناك أفعال لا يمكن أنْ يصنعَها لا الجسدُ ولا الكراهيةُ الشيطانية، والتي يمكن أن تنتجَ فقط عن آليات يكون أحدَ عناصرها الإحسانُ؟ قد يكون مثلُ هذه الأفعال دلالاتٍ أكيدةً على القداسة. قد يكون هناك أفعال من هذا القبيل. وهنا أيضًا نكون أجهل من أن يكون بمقدورنا التأكيد أو النفي. ولكنْ لهذا السبب نفسِه، إذا كان مثل هذه الأفعال موجودًا فلا يمكن أنْ يكونَ له أيةُ فائدة لنا. يمكن أنْ تفيدَنا هذه الأفعالُ كدلائلَ، لأنه لا يمكن أن يكون لدينا أيُّ يقين في شأنها. وما هو غير أكيد لا يمكنه أنْ يقدِّم أيَّ شيء أكيد.

كانت القرونُ الوسطى تستحوذ عليها فكرةُ البحث عن معيار مادي للقداسة. وهذا هو معنى البحث عن حجر الفلاسفة[40]. ويبدو أنَّ البحث عن الكأس المقدَّسة[41] Graal يدور حول الموضوع نفسِه.

إنَّ حجر الفلاسفة الحقيقي والكأسَ المقدَّسة الحقيقية هما المناولة [الإفخارستيَّا]. لقد دلَّنا المسيحُ على ما ينبغي أن نراه كمعجزات من خلال وضع معجزة غيرِ مرئية في قلب الكنيسة نفسها، معجزةٍ يمكن أن نقول أنها مجرد اصطلاحية conventionnel (الاصطلاح convention يقرُّه الله فقط).

يريد الله أنْ يبقى محجوبًا، "أبوكم الساكن في السر."

فلو استطاع هتلرُ أن يموت ويقوم من موته خمسين مرة فإنني لا أعتبره ابنَ الله. ولو حُذِفَ من الإنجيل كلَّ إشارة إلى قيامة المسيح لكان الإيمان يبدو لي أسهل. يكفيني الصليب وحدَه. إنَّ البرهانَ عندي والشيءَ المعجزَ حقًا هو الجمال الكامل لروايات آلام المسيح، مضافًا إليها بعض أقوال إشَعْياء الساطعة: "شُتِمَ وأُسيءَ معاملتُه ولم يفتحْ فمَه" وقول بولس الرسول: "لم يرَ المساواةَ مع الله غنيمةً. فتعبَ واستسلم حتى الموت، موت الصليب. ولُعِنَ."

هذا ما يجبرني على الإيمان.

قد لا يزعجني عدمُ الاكتراث بالمعجزات، لأن الصليب يُحْدِث فيَّ الأثرَ نفسَه الذي تُحْدِثُه القيامةُ في الآخرين، دون أن يحرمَني أيُّ مجمع مسكوني.

من جهة أخرى، إذا لم تضع الكنيسةُ مذهبًا مُرْضيًا للأفعال المسماة بالعجائب فإن كثيرًا من النفوس ستتوه من جَرَّاء خطأ الكنيسة بسبب التعارض الظاهر بين الدين والعلم. وسيتوه كثير آخرون لأنهم، باعتقادهم أن الله يتدخل مرارًا في نسيج الأسباب الثانوية لإحداث أفعال خاصة بنيَّة خاصة، سينسبون إليه جميعَ الأعمال الوحشية التي لا يتدخل فيها.

إن المفهوم الدارج للمعجزات إمَّا يَحُوْل دون القبول غير المشروط لإرادة الله وإمَّا يُجبِر على العمى عن رؤية كمية الشر الموجود في العالَم وطبيعته. – وهو أمر يسيرٌ، طبعًا، داخل الدير؛ وحتى في هذا العالَم داخل مكان ضيق.

لذلك، نلاحظ عند كثير من النفوس التقية وحتى القديسة سذاجةً طفولية يُرثى لها. ربما لم يكنْ كتابُ أيوب لِيُكتبَ أبدًا طالما أن الوضع البشري مجهول. عند نفوس كهذه، ليس هناك إلاَّ خاطئون من جهة وشهداء يموتون وهم يغنُّون من جهة أخرى. ولذلك فإن الإيمان المسيحي لم يؤثر ولم ينتشرْ من نفْس لنفْس كانتشار الحريق.

فضلاً عن ذلك، لو كان للمعجزات الطبيعةُ والمعنى والقيمةُ التي نضْفيها عليها فإنَّ نُدْرتَها اليوم (على الرغم من وجود لورد Lourdes وغيرها) قد تَحْمِل على الاعتقاد بأنه لم يعدْ للكنيسة، إلاَّ نادرًا، نصيبٌ في الله.

لأن المسيح الذي قام من بين الأموات قال: "من آمن وتعمَّد خَلُصَ، ومن لم يؤمنْ يُدانُ. هذه هي الآياتُ التي ترافق من يؤمنون. باسمي يطردون الشياطين ويتكلمون لغاتٍ جديدةً ويمسكون الأفاعي؛ وإذا شربوا سُمًا قاتلًا لن يضرَّهم؛ يضعون أيديَهم فيَشفون."

كم عدد المؤمنين اليوم حسب هذا المعيار؟ (من حسن الحظ أن هذا النص غير صحيح. ولكنَّ الـﭭولغاتا[42] Vulgate تأخذ به.)

26- ليست الأسرارُ موضوعًا للعقل كمَلَكة تتيح المجالَ للقبول والنفي. وليست من مستوى الحقيقة، بل فوق ذلك. إن الجزء الوحيد من النفْس البشرية القادر على تواصل حقيقي مع الأسرار هو ملَكة المحبة الفائقة. وبالتالي فهي الملَكة الوحيدة القادرة على الانضمام إلى هذه الأسرار.

إن وظيفة الملَكات الأخرى للنفْس، ابتداءً من العقل، هي فقط التحققُ من أنَّ ما تتواصل معه المحبةُ الفائقة إنما هو حقائق وأنَّ هذه الحقائقُ تسمو على مواضيعها والصمتُ عندما تستيقظ المحبةُ الفائقة بطريقة حاضرة في النفس.

إنَّ فضيلة الإحسان هي ممارسة ملَكة المحبة الفائقة. وفضيلة الإيمان هي تعلُّق جميع ملَكات النفْس بملَكة المحبة الفائقة. وفضيلة الرجاء هي توجُّه النفْس نحو تحوُّلٍ تصبح بعده النفْسُ بكُلِّيتها محبةً ولا شيءَ غير المحبة.

لكي ترتبطَ جميع الملَكات الأخرى بملَكة المحبة، لا بد لكل واحدة منها أنْ تجدَ في ملَكة المحبة خيرَها الخاص؛ وخاصةً ملَكة العقل، التي هي أغلى ملَكة بعد المحبة. كذلك الأمر فعليًا.

عندما يعاود العقلُ العملَ بعد أنْ يصمتَ ليدعَ المحبةَ تغزو النفْسَ فإنه يجد نفسَه محاطًا بنور أكثر مما مضى وبكفاءة أكثر على فهم الأشياء والحقائق الخاصة به.

لا بل أعتقد أن لحظاتِ الصمت هذه تشكِّل تربيةً للعقل لا يمكن أنْ يكون لها مثيل قط وتتيح له إدراكَ حقائقَ لولا ذلك لبقيَتْ محجوبةً عنه على الدوام.

هناك حقائق تكون في متناول العقل، فيدركها، ولكنه لا يدركها إلاَّ بعد أنْ يمرَّ صامتًا عِبْرَ اللامعقول. أليس هذا ما يقصده القديسُ يوحنا الصليب من تسميته الإيمانَ بالليل؟

لا يمكن للعقل أن يعترفَ إلاَّ بالاختبار، وبعد فوات الأوان، بحسنات هذا التعلق بالمحبة. لا يستعجل في طلبها. ولا يجد أصلًا أيَّ سبب عقلاني لقبول هذا التعلق. ولهذا فإن هذا التعلق شيء خارق للطبيعة. يجترحه اللهُ وحدَه. إنَّ أولَ صمت، صمتٍ لا يكاد يتجاوز لحظةً ويحصل عِبْرَ النفْس بكُلِّيتها بفضل الحب الفائق، إنما هو الحبة التي يلقيها الزارع، إنما هو حبة الخردل التي لا تكاد تُرى والتي تصير، يومًا ما، شجرةَ الصليب. كذلك، عندما نصغي كلَّ الإصغاء لموسيقى جميلةٍ كلَّ الجَمال (وكذلك الأمر في العمارة والرسم وغيرهما)، لا يجد العقلُ فيها أيَّ شيء ليؤكِّدَه أو ينفيَه. ولكنَّ جميعَ ملَكات النفْس، بما فيها العقل، تلزم الصمتَ وتتعلق بملَكة السمع. فملَكة السمع تطبَّق على موضوع غيرِ مفهوم ولكنه ينطوي على حقيقة وخير. حتى العقلُ الذي لا يدرك فيه أيةَ حقيقة يجد فيه مع ذلك غذاءً له.

أعتقد أنَّ أسرارَ الجَمال في الطبيعة وفي الفنون (فقط في الفن من الدرجة الأولى، الكامل أو شبه الكامل) هي انعكاس محسوس لسرِّ الإيمان.

27- إنَّ كلَّ سلوك دائم وغير مشروط من الإصغاء المحترم وليس الموافقة يعود فضلُه إلى الضوابط التي اعتقدَتِ الكنيسةُ أنَّ عليها أنْ تحيطَ بها أسرارَ الإيمان وخاصةً إلى إداناتها (...فلْيُحرَمْ anathema sit...).

كما يعود فضلُ الإصغاء المحترم إلى الآراء المدانة، يكفي أنَّ مضمونَها، أو حياةَ من طرحوها، تحتوي على بعض مظاهر الخير.

ولا يعود فضلُ موافقة العقل أبدًا إلى أي شيء كان. لأن ذلك شيء غير إرادي في أي درجة منه على الإطلاق. الانتباه وحدَه إرادي. لذلك فهو وحدَه موضوع الالتزام.

إذا أراد المرءُ أنْ يسبب في داخله إراديًا موافقةَ العقل فما يحصل ليس موافقةَ العقل إنما الإيحاء. وإلى هذا يرجع منهج باسكال. لا شيء يفسد الإيمان أكثر من ذلك. فيحصل بالضرورة عاجلاً أم آجلاً ظاهرةُ تعويض على شكل شكوك و"إغواءات ضد الإيمان".

لا شيء يساهم في إضعاف الإيمان ونشر التشكيك أكثر من التصور الخاطئ لالتزام العقل. إن كل التزام مفروض على العقل غير الإصغاء نفسه، خلال ممارسة وظيفته، يخنق النفْسَ؛ كلَّ النفْس وليس العقلَ وحدَه.

28- إنَّ قوانين الكنيسة فيما يخص الإيمانَ حسنةٌ بمقدار ما تفرض على العقل نظامَ إصغاء معيَّنًا؛ وبمقدار ما تمنعه من الدخول في مجال الأسرار الغريب عنه والشرود فيه.

وهي سيئة تمامًا لكونها تمنع العقلَ، في تقصِّيه عن الحقائق الخاصة به، من أنْ يستعملَ بحرِّيةٍ تامة النورَ الذي ينشره في النفْس التأملُ المُحِبُّ. فالحرية التامة في هذا الميدان جوهرية للعقل. ينبغي على العقل إمَّا أنْ يعملَ بحرِّية تامة وإمَّا أنْ يصمت. ليس للكنيسة أيُّ حق في القضاء في ميدان العقل، وبالتالي فإنَّ جميع "التعريفات" التي تدور حول إيجاد أدلَّة تصبح، بصورة خاصة، غيرَ شرعية.

بمقدار ما تكون مقولة "الله موجود" قضيةً عقلية – وبهذا المقدار فقط – يمكننا نفيها دون أن نرتكبَ أيةَ خطيئة بحق الإحسان ولا بحق الإيمان. (وحتى هذا النفي المؤقَّت هو مرحلة ضرورية في البحث الفلسفي.)

هناك، في الواقع، ومنذ البداية تقريبًا، مضايقة للعقل في المسيحية. مرَدُّ هذه المضايقة إلى الطريقة التي تتصور بها الكنيسةُ سلطتَها القضائية وبصورة خاصة إلى استخدام صيغة فلْيُحرَمْ anathema sit. فحيث تكون مضايقةُ العقل يكون اضطهاد الفرد من خلال الواقع الاجتماعي الذي يسعى لأنْ يكونَ توتاليتاريًا [شموليًا]. في القرن الثالث عشر بصورة خاصة، أرستْ الكنيسةُ بدايةَ التوتاليتارية. وبهذا فهي لا تُعفى من مسؤوليتها في الأحداث الحالية. إذْ تشكَّلَت الأحزابُ التوتايتارية من جَرَّاء آلية مماثلة لاستخدام عبارة فلْيُحرَمْ anathema sit.

إن هذه العبارةَ واستخدامَها حالت دون أنْ تجعلَ الكنيسةَ كاثوليكيةً إلاَّ بالاسم فقط.

29- قبل المسيحية، كان هناك عدد غير محدَّد من الناس، في إسرائيل وخارج إسرائيل، ربما ذهبوا بعيدًا كما ذهب القديسون المسيحيون في المحبة ومعرفة الله.

كذلك الأمر، منذ عهد المسيح، فيما يخص الجزء من البشرية الموجود خارج الكنيسة الكاثوليكية ("الكفار"، "الهراطقة"، "الملاحدة"...). بصورة أعم، من غير المؤكَّد أنه كان هناك منذ عهد المسيح محبةٌ ومعرفة إلهية في العالَم المسيحي أكثر منها في بعض البلاد غيرِ المسيحية، كالهند.

30- من المحتمل جدًا أن يكون المصيرُ الأبدي هو نفسه لطفلَينِ ماتا بعد عدة أيام من ولادتهما، أحدهما تعمَّد والآخرُ لم يتعمَّدْ (حتى وإنْ لم يكنْ أبدًا في نية أهل الطفل الثاني أنْ يعمِّدوه).

31- يمكن أنْ تستوعبَ النفْسُ المسيحية عددًا قليلاً فقط من بين جميع كتب العهد القديم (إشَعْياء، أيوب، نشيد الأَنشاد، دانيال، توبياس Tobie، جزء من حزقيال، جزء من المزامير، جزء من أسفار الحكمة[43]، بداية سِفْر التكوين...) وبعضَ العبارات المتناثرة في الكتب الأخرى. وما تبقَّى لا يمكن هضمُه [هكذا]، لأنه تنقصه حقيقةٌ جوهرية، تقع في صُلْب المسيحية، وكان اليونانيون يعرِفونها حقَّ المعرفة؛ ألا وهي إمكانية شقاء الأبرياء.

تقترن الخطيئةُ بالشقاء، وتقترن الفضيلةُ بالفلاح، في نظر العبرانيين (على الأقل قبل النفي وفيما عدا الحالات الاستثنائية)، مما يجعل من يَهْوَه أبًا أرضيًا لا سماويًا، مرئيًا لا محجوبًا. فهو إله مزيَّف إذَنْ. ويكون فعلُ الإحسان الخالص مستحيلاً بوجود هذا التصور.

32- يمكن أنْ نطرحَ كمسَلَّمة:

يكون خاطئًا كلُّ تصور عن الله يتعارض مع بادرة إحسان خالص.

يكون صحيحًا، بدرجات متفاوتة، جميع ما عدا ذلك.

الحب ومعرفة الله لا ينفصلان في الحقيقة، لأنه قيل في سِفْر ابن سيرا [حكمة يوشع بن سيراخ] l’Ecclésiastique [Siracide]: "يعطي [الربُّ] الحكمةَ لمن يحبونه."

33- إنَّ قصة الخَلْق والخطيئة الأصلية في سِفْر التكوين قصةٌ صحيحة. ولكنَّ القِصصَ الأخرى التي تتحدث عن الخَلْق والخطيئة الأصلية في المنقولات الأخرى صحيحةٌ أيضًا وتنطوي أيضًا على حقائقَ ذات قيمة لا تضاهى.

إنها انعكاساتٌ مختلفة لحقيقة واحدة لا تترجَم بكلام بشري. يمكن أن نستشعرَ بالحقيقة من خلال أحد هذه الانعكاسات. ونحس بها بصورة أفضل أيضًا من خلال أكثر من انعكاس.

(يحتوي الفلكلور بصورة خاصة، إذا ما تمَّ تأويلُه تأويلاً صحيحًا، على كنوز من الروحانية.)

34- لم تؤدِّ الكنيسةُ على الأرجح مهمتَها على أكمل وجه كمحافِظة على العقيدة. وينقصها الكثير. ذلك ليس لأنها أضافت ضوابطَ وقيودًا ونواهيَ ربما كانت تعسُّفيةً فحسب، بل لأنها أيضًا أضاعت كنوزًا بلا ريب. وبقي دليلاً عليها فِقْراتٌ من العهد الجديد هي آيةٌ في الجَمال ولكنها عصيةٌ على الفهم تمامًا اليوم، وما كان ينبغي لها أن تظلَّ كذلك دائمًا.

- أولاً، كلُّ سِفْر الرؤيا l’Apocalypse تقريبًا.

- فِقْرة القديس يوحنا: "...المسيح الذي جاء عبر الماء والدم. ليس في الماء فقط، بل في الماء والدم... ثلاثة يشهدون، الروح والماء والدم، وهؤلاء الثلاثة هم في الواحد." وتأكيد القديس يوحنا نفسه على الماء والدم الَّذَينِ خرجا من جنب المسيح.

- الحديث مع نيقوديموس[44] Nicodème كان شديدَ الغموض.

- القديس بولس: "... لتثبتوا وتتأسسوا في المحبة، ليكنْ لكم قوة أن تلتقطوا، كما فعل جميعُ القديسين، ما هو الطول والعرض والارتفاع والعمق وأن تعرفوا ما يتجاوز كلَّ معرفة، حب المسيح". إن أوريجانوس Origène الذي يفصله عن القديس بولس زمنٌ قليل جدًا قد شرح أصلاً هذا المقطعَ الجميل بطريقة أكثر سطحية.

- فِقْرة القديس بولس عن ملْكي صادق: "... بلا أب، بلا أم، بلا نسب، كاهن إلى الأبد، مشبه بابن الله".

- عقيدة قيامة الجسد. الجسد الحي الذي ينبغي أن يفنى، "الجسد الروحاني" (pneumatikê – ألا ينبغي التفكير بالنظرية الفيثاغورية للنفَس pneuma المحتوى في النطفة؟) الذي يبقى خالدًا. العلاقة بين هذه العقيدة والأهمية التي يولونها للعفة؛ ("كل خطيئة يرتكبها الإنسان هي خارجة عن الجسد؛ فالزاني fornicateur يرتكب خطيئةً بحق جسده." "الطعام للبطن والبطنُ للطعام؛ والله يهلك هذا وذاك. ولكنْ ليس الجسد للزنى، بل للربِّ، والربُّ للجسد"). [ما هو معنى كلمة "جسد" هنا، إذا كانت تُقابلُ بصورة خاصة وغريبة كلمةَ "بطن"؟]

إن دراسة العقائد الهندوسية تلقي على هذا الموضوع ضوءًا أكثر من أي نص مسيحي على حد علمي. فالمسيحيون لم يقولوا أبدًا، على ما أعلم، لماذا للعفة (وخاصةً العذرية) قيمةٌ روحية. إنها ثغرة خطيرة تُبعِد عن المسيح كثيرًا من النفوس.

- العلاقة بين عقيدة الفداء، حيث يكون الإنسان هو الهدف (والتي هي غامضة تمامًا، كما أشار أبيلار[45] Abélard بوضوح) وبين العقيدة المناقضة ظاهريًا والمشار إليها بالكلمات: "أراد الله أنْ يعطيَ ابنَه إخْوةً كثيرين". (نكون بذلك قد خُلِقْنا بسبب التجسد.)

- العلاقة الغامضة بين الشريعة والخطيئة، والتي عبَّر عنها القديس بولس بطريقة غريبة جدًا أحيانًا. وهنا أيضًا يقدِّم الفكرُ الهندوسي قليلاً من الإضاءة.

- التأكيد على تكرار عبارات مثل: "... معلَّق على خشبة"، "...ملعون fait malédiction". وهنا شيء ما مفقود إلى غير رجعة.

- العنف غير العادي للمسيح ضد الفرِّيسيين الذين يمثلون أنقى فكر في إسرائيل. فالنفاق وضيق الأفق والفساد والعيوب المشتركة لدى الصنف المسمى بالإكليروس (رجال الدين) بسبب الضعف البشري لا تفسِّر هذا العنفَ. إن كلامًا ذا نبرة غامضة يشير إلى وجود شيء آخر: "أخذْتم مفتاحَ المعرفة[46]." فقد كان الفيثاغوريون يطْلقون كلمةَ "مفتاح" على الوساطة بين الله والخَلْق. وكانوا يسمونه أيضًا تناغمًا.

- إن مقولة "فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" التي تلي مباشرةً مقولةَ "أبوكم، الذي في السماوات، يُشرق شمسَه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" تنطوي على عقيدة بكاملها لم تُشْرَح في أي مكان على حد علمي. لأن المسيح يذْكر علامةً سامية تدل على عدل الله وهي العلامة التي نتذرَّع بها دائمًا (مثال أيوب) لنتَّهمَه بالظلم، أي أنه يساعد الأشرارَ والصالحين على حد سواء.

كان من المفروض أن يكون ثمة في تعاليم المسيح مفهوم لنوع من فضيلة الترفُّع [أو التجرُّد] indifférence شبيهة بما يمكن أن نجده عند الرواقية[47] stoïcisme اليونانية والفكر الهندوسي.

يُذكِّر كلامُ المسيح هذا بصيحة ﭙروموثيوس الأخيرة: "السماء التي من خلالها يرجع النورُ العام للجميع..."

(فضلاً عن ذلك، فإن لهذا النور ولذلك الماء معنىً روحيًا أيضًا على الأرجح، أي أنَّ الجميعَ – في إسرائيل وخارجها، في الكنيسة وخارجها – يغمرهم الفضلُ أيضًا، على الرغم من أن أغلبهم يرفضونه.) وهذا مناقضٌ تمامًا للتصور الشائع الذي يقول بأن الله يرسل بطريقة اعتباطية نعمةً أكثر لأحدهم ونعمةً أقلَّ للآخر، وكأنه ملِك متقلِّب المزاج؛ وذلك بحجة أن هذه النعمة لا تجب عليه! ينبغي على طيبته اللامتناهية أنْ تمنح كلَّ مخلوق تمامَ الخير. ينبغي بالأحرى التفكير بأنه ينشر باستمرار على كل فرد تمامَ النعمة، ولكنْ يقْبلونها بتفاوت. في الشأن الروحي حصرًا، يلبِّي الله جميعَ الرغبات. فالذين يمتلكون أقلّ يكونون قد طلبوا أقلّ. حتى إنَّ مجرَّد ترجمة كلمة لوغوس Logos بكلمة ﭭيربوم Verbum يشير إلى أن هناك شيئًا ما قد ضاع، لأنَّ كلمة Logos تعني قبل كل شيء علاقة rapport، وترادف كلمة أريثماس arithmas، أي عدد، عند أفلاطون والفيثاغوريين. العلاقة تعني التناسب proportion. والتناسب يعني التناغم harmonie. والتناغم يعني الوساطة médiation. ربما أترجم هكذا: في البدء كانت الوساطة [الشفاعة].

(بداية إنجيل يوحنا هذه كلها غامضة جدًا. فمقولة "كان النور الحقيقي الذي ينير كلَّ إنسان آتيًا إلى العالَم" تتعارض كليًا مع العقيدة الكاثوليكية الخاصة بالمعمودية. لأنه عندئذٍ تسكن الكلمة سرًا في كل إنسان، سواءً كان معمَّدًا أم لا؛ وليست المعمودية هي التي تُدخِلها في النفْس.)

ربما يمكننا ذِكْر فِقْرات أخرى كثيرة.

إن عدم فهم قسم من التلاميذ حتى بعد العَنْصرة[48] من جهة (والذي أثبتَه مشهد بطرس وكورنيلوس Corneille) والمجازر التي سبَّبَها الاضطهادُ من جهة أخرى يفسِّر هذا القصور في النقل. ربما قُتِلَ جميعُ الذين كانوا قد فهموا وذلك نحو بداية القرن الثاني الميلادي، أو جميعهم تقريبًا.

تحتوى الطقوسُ [الليتورجيا] أيضًا على كلام ذي نبرة غامضة.

- "ذهبْتَ بحثًا عني، جلسْتَ، متعبًا[49]" ينبغي أن يكون لها علاقة مع شيء آخر أيضًا غير رواية مشهد السامرية لدى القديس بولس. إن مقارنة هذا الكلام بموضوع عدد كبير من روايات الفلكلور يلقي ضوءًا ساطعًا عليها. وإن لفكرة بحث الله عن الإنسان تألُّقًا وعمقًا لا حدَّ لهما. فعندما تُبدَّل بفكرة بحث الإنسان عن الله، يحصل انحطاطٌ.

- "طوبى للشجرة! على ذراعيكِ – معلَّقة فدية العالم. – أنتِ الميزان الذي عليه يوزن هذا الجسد الذي انتزع من الجحيم فريستَه[50]."

إنَّ لرمزِ الميزان هذا عمقًا مدهِشًا. كان الميزانُ يلعب دورًا كبيرًا في الفكر المصري. وعندما مات المسيح كانت الشمسُ في برج الحمَـل وكان القمر في برج الميزان. لاحظْ أنَّ هذا البرجَ كان يُدْعى "مِلْقط السرطان" «Pinces du Cancer». ولم يبدأ الكُتَّابُ بإطلاق اسم "الميزان" عليه إلاَّ قبل بداية العصر المسيحي بزمن قصير (قبل شهر كانت الشمس في برج الحوت Poisson وكان القمر في برج العذراء Vierge؛ راجع المعنى الرمزي للحوت [السمكة]).

إذا فكرنا بهذه الاستعارة فإنه يمكن رؤية كلام أرخميدس "أعطِني نقطةَ ارتكاز أرفعْ لكَ الأرض" كنبوءة. فنقطة الارتكاز هي الصليب، نقطة تلاقي الزمن بالأزل.

"كما يُرسِل النجمُ شعاعَه / تضع العذراءُ في الأرض طفلاً / بجمال مماثل. / كما لا يُفسِد الشعاعُ النجمَ / كذلك لا يدنِّسُ الطفلُ بولادته طهارةَ الأم[51]."

تقدِّم هذه الأبياتُ نبرةً غريبةً جدًا.

إن المقطع الشعري السابق ("تجهل الشمس مغيبَها / نجمةً ساطعةً دائمًا / مضيئةً دائمًا[52].") يصبح رائعًا إذا ما قارنَّاه بحكاية من حكايات هنود أمريكا، حيث تعشق الشمسُ [وهي مذكَّر le Soleil] ابنةَ زعيم كانت قد رفضَتْ جميعَ المتقدمين للزواج منها، فتنزل على الأرض على هيئة صبي سقيم، شبهِ أعمى، ذي فَقْرٍ مُدْقِع. يرافقه نجمٌ تجسَّد على هيئة عجوز بائسة، هي جدة الصبي. يعلن الزعيمُ مسابقةً لطلب يد ابنته ويضع اختباراتٍ صعبةً جدًا. ولكنَّ الصبي المسكين، على الرُّغم من سُقْمِه ونومه على فِراش من قش، يجتاز جميعَ الاختبارات خلافًا لجميع التوقعات. وتذهب ابنةُ الزعيم زوجةً للصبي، رُغْمَ اشمئزازها منه، وذلك وفاءً لكلام أبيها. فيتحول الصبيُّ الشقي إلى أمير رائع ويُحوِّل زوجتَه مغيِّرًا شَعرَها وثيابَها إلى ذهب.

مع ذلك لا يمكننا أنْ ننسبَ هذه الحكايةَ إلى تأثير مسيحي، على ما يبدو...

- في ليتورجيا الأيام المقدَّسة، تقدِّم هذه العباراتُ أيضًا نبرةً غريبة: "دلَّ هو نفسُه إذَنْ على الخشب ليُصْـلِحَ الشرَّ الذي كان قد سبَّبَه الخشبُ[53]."

- "... شجرة نبيلة بين الجميع، شجرة فريدة؛ لا تقدِّم أيةُ غابة مثيلاً لكِ، في الأوراق والزهر والثمر[54]". هذه الكلماتُ رائعة؛ كان ينبغي أن تُنسَبَ إليها رمزيةٌ بكاملها مفقودةٌ اليوم. من جهة أخرى، يفوح من ليتورجيا أسبوعِ الآلام بكاملها عطرٌ مذهل إذا صح التعبير من العصور القديمة.

- تشير أسطورة الكأس المقدَّسة Graal إلى تركيبة غير مفهومة اليوم، وُضِعَتْ بلا شك على مر سنوات تلَتْ موتَ المسيح، على الرغم من أن القصائد يعود تاريخُها إلى القرن الثاني عشر، ما بين دِين الغاليين [الكلتية] druidisme والمسيحية. نلاحظ أن الكنيسة لم تُدِنْ أبدًا القصائدَ المتعلقة بالكأس المقدَّسة (الغرال) رُغمَ الخليط الواضح فيها للمسيحية مع موروث ديني غير مسيحي. فبعد آلام المسيح مباشرةً تقريبًا، أُرسِلَ هيرودس Hérode للإقامة الجبرية في ليون، يرافقه عدد من الأتباع حيث كان من المفروض أن يكون بينهم مسيحيون. (ربما يوسف الرامي؟) وقد استُؤصِلَتْ شأفةُ الكهنة الكلتيين druides على يد كلود Claude بعد عدة سنوات.

- إن ديونيسيَّاتِ [خَمْريات] Dionysiaques نونوسَ Nonnos، وهي قصيدة لرَجُـلٍ مصري، مسيحي على الأرجح، من القرن السادس الميلادي، يدور موضوعها حصرًا حول الآلهة اليونانية والتنجيم. وتُظهِر تشابهاتٍ فريدةً مع رؤيا القديس يوحنا [عن القيامة]، لا بد أن تكون مستوحاةً من تركيبة من النوع نفسِه.

(ملاحظة: يدور الموضوع فيها حول الملك لوكورغوس Lycurgue، المذكور اسمه أصلاً عند هوميروس، والذي هاجم غدرًا ديونيسوسَ الأعزلَ وأجبرَه على اللجوء إلى عمق البحر الأحمر. كان مَلِكَ العرب الذين كانوا في جنوب جبل الكرمل Carmel. جغرافيًا، لا يمكن أن يكون المقصود إلاَّ إسرائيل. إذا سلَّمْنا بأن إسرائيل كان يَنظُر إليه القدماءُ على أنه شعبٌ ملعون لأنه رفضَ فكرةَ الإله الوسيط والمتألم والفادي، والتي ظهرَتْ في مصر، فسنفهم ما لا يمكن تفسيره بطريقة أخرى: وهي أن هيرودوت، المتعطش جدًا إلى جميع أنواع النوادر ذات الطابع الديني، لم يتكلَّمْ أبدًا عن إسرائيل. لنلاحظْ أن إسرائيلَ كُتِبَ عليه أنْ يكون مهدًا للمسيح – وأنْ يقتلَه أيضًا. لنلاحظْ أيضًا أن ديونيسوسَ، بحسب شهادات عديدة، هو الإله أوزيريس نفسُه. لو كان في حوزتنا الرواية المصرية لقصة موسى لكانت لدينا ربما مفاجآت...)

قد تكون رُونيَّةُ أودِن la Rune d'Odin، المذكورة سابقًا، بقايا لخليط مماثل، إنْ لم تكنْ سابقةً على أي احتكاك بالمسيحية. وقد لا يكون ذلك أقلَّ روعة.

ألم يكنْ هنالك، عند بداية رُسُل المسيح، ولفهم مقولة "اذهبوا علِّموا الأممَ"، الطريقةُ التي أراها جيدة؟

35- إنَّ السرَّ العميق الذي يكتنف تاريخَ العصور الأولى يجعل فهمَ المسيحية شبهَ مستحيل علينا. يتعلق هذا السرُّ قبل كل شيء بعلاقات المسيحية مع إسرائيل من جهة ومع الموروثات الدينية للأمم gentes من جهة أخرى.

من المستبعَد جدًا أنه لم يكنْ هناك في البدايات محاولاتٌ توفيقية مماثلة لما كان يحلم به نيكولاوس [اكْرِبْس] دو كويس Nicolas [Krebs] de Cues. وعليه، فليس هناك أي أثر لإدانة قامت بها الكنيسةُ بحق مثل هذه المحاولات. (عدا عن ذلك، فإن نيكولاوس دو كويس لم يُدَنْ هو أيضًا.) مع ذلك، فقد جرى كل شيء في الواقع وكأنها أُدينَت.

إلى جانب حماقات إكليمندس الإسكندري Clément d’Alexandrie – الذي لم يكنْ يعرف حتى الروابطَ المتينة التي تجمع الفلسفةَ اليونانية الكلاسيكية بدِين الأسرار – لا بد أنه كان هناك أناس رأوا في البشارة تتويجًا لهذا الدين. ماذا حصل لأعمالهم؟

كان ﭙورفيروس[55] Porphyre يقول أن أوريجانوس كان قد فسَّر رمزيًا الكتاباتِ المقدسةَ لإسرائيل مستخدمًا كتبًا سرية للفيثاغوريين وللرواقيين. مع ذلك، عندما يتكلم أوريجانوسُ عن الفلسفة اليونانية يدَّعي رفضَها. لماذا؟ لأنها من المحل المقابل؟ أو لسبب آخر؟ هل كان يريد إخفاءَ دَينَه تُجاهها؟ ولماذا؟ هذا المقطع لـﭙورفيروس يكشف بوضوح أن الأسرار بُنِيَتْ جميعُها من الرموز.

يستشهد يوسابيوس Eusèbe بهذا المقطع ويُكَذِّب ﭙورفيروسَ لقوله بأن أوريجانوسَ قد بدأ "بالهَـلْـيَـنَة" [بإضفاء الطابَع الهِلِّيني]. ولكنه لا ينفي الباقي.

ويستشهد يوسابيوس Eusèbe أيضًا برسالة غريبة جدًا من الأُسقُف ميليتو Mélito إلى مُرْقُص أوريليوس Marc Aurèle، مكتوبة بنبرة ودية جدًا. (التاريخ الكنسي Hist.، 4، 26.):

"تطورَت فلسفتُنا أولاً عند الهمجيين، ولكنَّ ازدهارَها كان بين شعوبِكَ (tais sois ethesin) في العهد الميمون لأُغُسْطُسَ."

هؤلاء "الهمجيون" لا يمكن أن يكونوا إلاَّ العبرانيين. ولكنْ ماذا تعني بقية الجملة؟

تُوفِّيَ أُغسطسُ في السنة 14 م. كان المسيح يافعًا. ولم تكن المسيحيةُ موجودةً. "فلسفتنا"، أليس المقصود ربما لوغوسنا [كلمتنا] Logos، المسيح؟ ألم تكنْ زهرةُ عمره (أي شبابه) بين الأمم gentes في اليونان أو في إيطاليا؟

يضيف هذا المطرانُ: "خير دليل على أن كلمتنا Logos ترعرعَت في البداية الجميلة للإمبراطورية نحو الخير، هو أنها لم تتلقَّ أيةَ إهانة من سلطة أُغسطس، بل على العكس كلَّ تألُّق وكل مجد وفق تمنيات الجميع."

نتكلم دائمًا عن "الحياة الخفية للناصرة". وننسى مع ذلك، هذا إذا كان صحيحًا أن هذه الحياة كانت خفية، أننا نجهل تمامًا إن كانت قد جرت في الناصرة.

إليكَ كلَّ ما نعرفه عن حياة المسيح، حسب الإنجيل، قبل معمودية يوحنا.

وُلِدَ في بيت لحم. كان لا يزال صغيرًا عندما أخذَتْه عائلتُه إلى مصر. وبقيَ فيها زمنًا غير محدَّد. (عاد يوسفُ بعد وفاة هيرودوس، ولكنْ لا شيءَ يُذْكَر بعد ذلك؛ قد يكون مضى سنوات.) في سن الثانية عشرة، أمضى أعيادَ الفصح la Pâque [اليهودية] في أورشليم. كان أهلُه يقيمون إذَنْ في الناصرة. (من المستغرَب أن لوقا لم يَذْكرِ الهروبَ إلى مصر.) وفي سن الثلاثين، عمَّده يوحنا. وهذا كلُّ شيء بدقة متناهية.

وهنا أيضًا يوجد سرٌّ غريب جدًا.

هناك سر ثالث هو سر علاقات المسيحية بالإمبراطورية. كان [الإمبراطور الروماني] تيبيريوس Tibère يريد وضع المسيح في الـﭙـانثيون [معبد الآلهة] وكان يرفض في البداية اضطهادَ المسيحيين. وغيَّر موقفَه فيما بعد. كان ﭙيزون Pison، وهو ابن غالبا Galba بالتبني، من عائلة مسيحية على الأرجح (راجِعْ أعمالَ م. هيرمان M. Hermann).

كيف نفسر أن رجالاً مثل تراجان Trajan وخاصةً مُرْقُص أوريليوس Marc Aurèle قد اضطَهدوا المسيحيين بلا أدنى رحمة؟ ومع ذلك، فقد قام دانتي Dante بوضع تراجان في الجنة... على العكس، فقد قام كومودوس[56] Commode وأباطرةٌ مجرمون آخرون بتشجيعهم بالأحرى. وكيف تبنَّت الإمبراطوريةُ، فيما بعدُ، المسيحيةَ كدِينٍ رسمي؟ وبأية شروط؟ وأي انحطاط كان عليها أن تعانيَ منه بالمقابل؟ وكيف تمَّ هذا التواطؤ بين كنيسة المسيح والوحش la Bête؟ لأنَّ الوحش المذكور في رؤيا يوحنا اللاهوتي هو بالتأكيد الإمبراطورية.

كان نظامُ الإمبراطورية الرومانية نظامًا توتاليتاريًا مستبِدًا وماديًا فظًَّا يتأسس على عبادة الدولة فقط، مثل النازية. وكان هناك عطش للروحانية كامنٌ عند الأشقياء الخاضعين لهذا النظام. وقد أدركَ الأباطرةُ منذ البداية ضرورةَ إروائه بتصوف مزيَّف، خشيةَ ألاَّ يَظهَر تصوُّفٌ حقيقي ويقلب كلَّ شيء رأسًا على عقِب.

كانت هناك محاولةٌ لنقل أسرار ألفسينا Éleusis [الأسرار الأليوسينية] إلى روما. لقد فقدَت هذه الأسرارُ بالتأكيد كلَّ مضمون حقيقي – وهناك مؤشرات حاسمة تدل على ذلك. فالمجازر الفظيعة التي كانت قد جرت غالبًا في اليونان وخاصةً في أثينا، منذ الغزو الروماني وحتى قبله، استطاعت تمامًا أن تؤثِّرَ في هذا النقل؛ ربما أعاد مسارَرون من الدرجة الأولى صناعةَ الأسرار. وهذا قد يفسر الازدراءَ الذي يتكلم به إكليمندس الإسكندري عنها، على الرغم من أنه ربما كان مسارَرًا. مع ذلك، فقد أخفقَت محاولةُ النقل.

بالمقابل، فقد تم القضاءُ على الكهنة الكلتيين وعلى أتباع العبادة السرية لديونيسوس وتمَّتْ ملاحقةُ الفيثاغوريين وجميع الفلاسفة بدون رحمة، ومُنِعَتْ العباداتُ المصرية، وعومِلَ المسيحيون بالطريقة التي نعرفها.

يشبه تكاثرُ العبادات الشرقية في روما في ذلك العصر تمامًا تكاثُرَ البِدَع من النوع الثيوصوفي اليوم. بحسب ما ندرك، لم تكن المادةُ حقيقيةً في كلتا الحالتين، بل كانت صناعاتٍ مزيَّفةً موجَّهة للمتباهين snobs.

لقد كان الأنطونيون[57] les Antonins مثلَ واحة في التاريخ الشنيع للإمبراطورية الرومانية. فكيف استطاعوا اضطهادَ المسيحيين؟

يمكن أن نتساءل إذا لم يتسلَّلْ بين المسيحيين عناصرُ إجرامية فعلاً بفضل الحياة السرِّية.

ينبغي، بصورة خاصة، أن نأخذَ فكرَ القيامة الذي يحرِّكهم بعين الاعتبار. فانتظارُ المجيء الآتي لمملكة السماء يثير حماسَهم ويثبِّتهم في أعمال بطولية استثنائية، كما يَفعل اليوم بالشيوعيين الانتظارُ القريبُ للثورة. لا بد أن يكون هناك تشابُهٌ بين النفسيتين.

ولكنْ في الحالتَينِ أيضًا، يكون مثلُ هذا الانتظار خطَرًا اجتماعيًا كبيرًا. فالمؤرخون القدماء ممتلؤون بقِصص المدن التي لم يعدْ يتمكن أسيادُها، عقِبَ اتِّخاذ أحد الطُّغاة لسببٍ ما إجراءً بتحرير بعض العبيد، من إخضاع العبيد الباقين.

كانت العبوديةُ حالةً من شدة عنفها لا تطيقُها إلاَّ نفوسٌ يسحقُها الغيابُ التام للرجاء. وما إنْ يلوح وميضُ رجاءٍ حتى يصبحَ العصيانُ مستعصيًا.

ما هو الأثر الذي لا ينبغي أنْ يوَلِّدَه الرجاءُ الذي تحمله البشارةُ؟ لم تكن البشارةُ فداءً فحسبُ، بل اليقينَ شِبْهِ التام بالمجيء القريب جدًا للمسيح الممجَّد على الأرض.

ربما كان القديسُ بولسُ، مقابِلَ نصيحة واحدة باللطف والعدل يوجِّهُها إلى الأسياد، يوجِّهُ عشرَ نصائحَ للعبيد يأمرهم فيها بالعمل والطاعة. يمكن في أسوأ الحالات أنْ نفسِّرَ ذلك ببقايا الأحكام الاجتماعية المسبقة الموجودة لديه رغم مسيحيته. ولكنَّ إقناعَ الأسياد المسيحيين باللطف كان أسهلَ على الأرجح من إقناع العبيد المسيحيين الذين يُسْـكِرُهم انتظارُ اليوم الأخير بالطاعة.

ربما كان مُرْقُص أوريليوس Marc Aurèle يستنكر العبوديةَ؛ لأنه ليس صحيحًا أن تمتدحَ الفلسفةُ اليونانية، عدا أرسطو، هذه المؤسسةَ. فبعض الفلاسفة، مستشهدين بأرسطو، كانوا يدينونها كـ "مناقِضة كليًا للطبيعة والعقل". ولا يتصور أفلاطونُ، في الجمهورية [السياسة] le Politique، أنَّ للعبودية استخدامًا مشروعًا إلاَّ في المجال الجنائي، كما هي الحال عندنا في السجن والأشغال الشاقة.

ولكنَّ مهنةَ مرقص أوريليوس هي الحفاظ على النظام قبل كل شيء. وكان يكرِّر ذلك بمرارة. ويُبرِّر الكاثوليكُ غالبًا المجازرَ التي يرتكبونها بحق الهراطقة بالخطر الاجتماعي المرتبط بالهرطقة. ولم يخطرْ ببالهم أن الاضطهاداتِ المرتكبةَ بحق المسيحيين في العصور الأولى تَقْبل التبريرَ نفسَه وبالمقدار نفسِه من الصواب على الأقل. وأكثر بلا شك، لأنه لم يكنْ هناك أيةُ هرطقة تحتوي فكرةً تُبلْبِلُ كما تبلبِلُ فكرةُ الانتظار شبهِ الأكيد للمجيء القريب للمسيح الملِك.

من المؤكد أنَّ موجةَ عصيان بين عبيد الإمبراطورية كانت ستقوِّض صرحَ المجتمع برُمَّتِه وسط فوضى رهيبة.

في عصر قسطنطين Constantin، من المفترض أنْ يكون انتظارُ القيامة قد استُهلِكَ كثيرًا. من جهة أخرى، فإن المجازر التي قام بها المسيحيون، مشكِّلةً عقبةً أمام نقلِ العقيدة الأعمق، ربما – بل وعلى الأرجح – كانت قد فرَّغَتْ المسيحيةَ من جزء كبير من مضمونها الروحي. لقد استطاع قسطنطين أن ينجزَ في المسيحية العمليةَ التي لم ينجزْها كلود في ألفسينا.

ولكنْ لم يكنْ من مصلحة الإمبراطورية ولا من مكانتها أن يَظهَر دِينُها الرسمي استمرارًا وتتويجًا للموروثات القديمة للبلاد التي غزَتْها روما وسحقَتْها وحطَّت من شأنها – أي مصر واليونان وبلاد الغال. ولم يكن لهذا، في نظر إسرائيل، أيةُ أهمية؛ فالشريعة الجديدة كانت، أولاً، بعيدةً كلَّ البعد عن الشريعة القديمة؛ ثم إنَّ أورشليم، بصورة خاصة، لم تكنْ موجودةً على الإطلاق. فضلاً عن ذلك، لم تكنْ روحُ الشريعة القديمة، البعيدة جدًا عن أي تصوف، مختلفةً جدًا عن الروح الرومانية. كان في إمكان روما أنْ ترضى بربِّ الجنود إلهًا. وحتى الروح القومية اليهودية كانت، في نظر روما، عنصرًا محبَّذًا في المسيحية، ذلك أنها تَحُوْلُ أمام كثير من المسيحيين، منذ البدء، دون أنْ يعترفوا بعلاقة القربى بين المسيحية والروحانية الحقيقية للأمم gentes. هذه الروح، وهو أمر غريب، انتقلَت حتى إلى "وثنيين" دخلوا في المسيحية.

لقد اجتثَّتْ روما، كأي بلد مستعمِر، البلادَ المغلوبةَ من جذورها الأخلاقية والروحية. تلك هي نتيجة الغزو الاستعماري دائمًا. لم يكن الهدفُ إعادةَ جذورهم إليهم. كان لا بد من اقتلاعها أكثر قليلاً أيضًا.

[لاحظْ، كتأكيد على ذلك، أنَّ النبوءةَ الوثنية الوحيدة التي ذكرَتْها الكنيسةُ على الإطلاق هي نبوءة [العَرَّافة] سيبيل Sibylle التي كان الموروثُ الروماني قد ضمَّها. (فضلاً عن ذلك، لا بد أنه كان هناك، حقًا، انتظارٌ مسِّياني [خلاصي] messianique في روما شبيه بانتظار اليهودية la Judée وجسديٌّ أيضًا، والقصيدة الرعوية églogue الرابعة[58] تُظهِر ذلك بوضوح.)

إنَّ المسيحيةَ، التي خضعَت للتأثير المشترك لإسرائيل وروما، قد نجحَت فيهما نجاحًا باهرًا. واليوم أيضًا، أينما يحملها المبشرون يكون هناك العمل نفسه وهو اقتلاع الجذور.

كل هذا نسيج من الافتراضات طبعًا.

ولكنْ هناك شبه يقين، شبه يقين بأنهم أرادوا إخفاءَ شيء ما عنا؛ وقد نجحوا في ذلك. فليس من قبيل المصادفة أنَّ هناك كثيرًا من النصوص أُتلِفَتْ وكثيرًا من الظلمات فُرِضَتْ على جزء مهم جدًا من التاريخ. كان هناك على الأرجح إتلاف منهجي للوثائق. وقد نجا من ذلك أفلاطونُ؛ وبأي حسن حظ؟ ولكنْ ليس لدينا [نص] ﭙروموثيوس المحرَّر لأسخولوس Eschyle، والذي كان سيجعلنا نستشفُّ المعنى الحقيقي لقصة ﭙروموثيوس، الحب الذي يجمع ﭙروموثيوس مع زيوس، والذي أُشيرَ إليه أصلاً، ولكنْ عرَضًا، في ﭙروموثيوس المقيَّد. وكم عدد الكنوز الأخرى التي ضاعت! لقد جاءنا المؤرخون بثغرات كبيرة. لم يبقَ شيءٌ من الغنوصيين، ولم يبْقَ إلاَّ النزْرُ اليسيرُ من كتابات مسيحيي القرون الأولى. وإذا كان هناك كتابات لا تعترف بمكانة إسرائيل فإنها تُحذَف. مع ذلك، لم تعلن الكنيسةُ أبدًا أنَّ الموروثَ اليهودي-المسيحي هو وحدَه الذي يمتلك كتاباتٍ منْزَلةً، أسرارًا، معرفةً فائقة عن الله. ولم تعلنْ أبدًا عن عدم وجود أية صلة قربى بين المسيحية والمنقولات الصوفية لبلاد أخرى غير إسرائيل. لماذا؟ أليس ربما لأنَّ الروحَ القدس، على الرغم من كل شيء، قد صانها من الكذب؟

إنَّ لهذه المسائلِ اليومَ أهميةً رئيسيةً ومُلِحَّةً وعملية. لأنه لما كانت الحياةُ الدنيوية برُمَّتها لبلادنا تَصْدر مباشرةً عن حضارات "وثنية"، وطالما بقيَ وهمُ القطع بين ما يسمونه وثنيةً على حد قولهم وبين المسيحية، فإنَّ المسيحيةَ لن تتجسَّدَ ولن تؤثِّرَ على الحياة الدنيوية برُمَّتِها كما يجب وستبقى منفصلةً عن الوثنية، وبالتالي غيرَ فاعلة.

كم ستتغير حياتُنا لو أننا رأينا أنَّ الهندسةَ اليونانية والإيمانَ المسيحي يَصْدُرانِ من مشْكاةٍ واحدة!

ترجمة عن الفرنسية: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] مجْمعِ "ترانت" [ترينتو] Trente هو المَجْمع التريدنتيني المسكوني التاسع عشر، من 13 كانون الأول 1545 إلى 4 كانون الأول 1563 في مدينة "ترينتو" الإيطالية. (المترجِم)

[2] ملْكي صادق [ملْكيصادق] Melchisédech: هو مَلِك البِرِّ، مَلِك "شاليم" أي "أورشليم"، كاهن الإله العلي. (المترجِم)

[3] هيرودوت أو هيرودوتُس: مؤرِّخ إغريقي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد (484 ق. م - حوالي 425 ق. م). عُرِفَ بأبي التاريخ. وصَفَ في كتابه تاريخ هيرودوتس أحوالَ البلاد والأشخاص التي لاقاها في ترحاله حول حوض البحر الأبيض المتوسط والحروب بين الإغريق والفُرْس أو الميديين. (المترجِم)

[4] أوزيريس: إله مصري قديم، زوج إيزيس وأبو حورس. وهو إله البعث والحساب ورئيس محكمة الموتى. جعلَ منه موتُه وقيامتُه مخلِّصًا يكفل البقاءَ في الآخرة. وقد انتشرت عبادتُه وعبادة إيزيس في العالم اليوناني والروماني. (المترجِم)

[5] إشارةً إلى ما ورد في سِفْر التكوين عن إبراهيم الذي يضحي بشرف زوجته سارة خوفًا فيأمرها بالكذب: "قولي إنكِ أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلكِ". (المترجِم)

[6] إلفسينا Elefsina: مدينة يونانية تقع جنوب وسط البلاد ضمن منطقة أتيكا وتبعد عن أثينا 21 كم. عُرِفَتْ بطقوسها الأليوسينية. أهم معالمها الأثرية مَجْمع معابد إليفسيس القديمة. عُرِفت بأنها موطن البطل الإغريقي أخيلوس الذي كان شخصية أساسية في الحروب الطروادية. (المترجِم)

[7] ديميتر: إلهة الطبيعة والأرض والخصب عند اليونان. (المترجِم)

[8] ديونيسوس: إله الكَرْمة والخمرة عند اليونان. (المترجِم)

[9] إشارةً إلى قول السيد المسيح: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وفرح" (يو 8: 56). وهذا الإعلان قد أثار حفيظة اليهود وقالوا له: "ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟" (يو 8: 57). (المترجِم)

[10] ﭙروموثيوس Prométhée: أحد الجبابرة في الميثيولوجيا اليونانية، كان محبَّبًا إلى الآلهة، فأوكل إليه زيوسُ ربُّ الأرباب وكبيرُ الآلهة مهمةَ خَلْق المخلوقات الأرضية، فخلقَ الحيواناتِ كلَّها وأعطاها الصفات، حتى إذا جاء ليخلقَ الإنسانَ لم يجدْ له صفةً غيرَ صفةِ الآلهة فخلقه على هيئتها ومثالها، مما أثار غضبَ الآلهة عليه. كان محبًا للبشر رؤوفًا بهم. ولما حرمتْهم الآلهةُ من النار لتفريطهم في حقها، قام ﭙروموثيوسُ بسرقة النار من الآلهة وأعطاهم إياها. فغضِبَ زيوسُ عليه وعاقبه بربطه إلى صخرة، ثم أطلق عليه عُقابًا اسمُه "إثون" يأكل كبدَه في النهار فيجددها زيوسُ في الليل. يقوم هيراقليطسُ، في نهاية المطاف، بتحريره، ويعود إلى أوليمـﭙوس. يرى الإغريقُ تقديمَه النارَ للبشر دليلاً على مساهمته في صناعة الحضارة الإنسانية. (المترجِم)

[11] أﭙولو Apollon: عند الإغريق هو إله الشمس والتألق والموسيقى والشعر والرسم والنبوءة والشفاء. (المترجِم)

[12] أرتميس Artémis: بحسب الميثولوجيا الإغريقية، هي إلهة الصيد والبرية، حامية الأطفال، وإلهة الإنجاب. ترتبط بالقمر مقارنةً بأﭙولو الذي يرتبط بالشمس. هي ابنة زيوس وليتو، وهي أيضًا الأخت التوأم لأﭙولو (أﭙولون). تقابل آرتميس إلهةَ الصيد ديانا عند الرومان. (المترجِم)

[13] أفروديت: إلهة الحب والجَمال عند الإغريق. وهي ﭭينوس عند الرومان. (المترجِم)

[14] ﭙروسيرﭙينا Proserpine: هي إلهة الجحيم في الميثيولوجيا الرومانية، وتقابل بيرسيفوني Perséphone أو كورا Coré إلهة الجحيم في الميثيولوجيا اليونانية، والتي هي ابنة زيوس وديميتر ربة القمح والحصاد وزوجة هاديس إله العالَم السفلي. (المترجِم)

[15] هستيا Hestia: ربة الموقد والحياة العائلية، وهي بنت كرونوس وريا وأخت زيوس. وتقابل فستيا عند الرومان. (المترجِم)

[16] أثينا Athéna: إلهة الفكر والفنون والعلوم والصناعة. (المترجِم)

[17] هيفيستوس Héphaïstos: ابن زيوس وهيرا وأخو هيستيا. وهو إله الحدادة والنار والصناعة. وهو من شجَّ رأس أبيه زيوس لتخرج منه أثينا. وهو زوج أفريدويت. (المترجِم)

[18] يقول الإسكندناﭭيون إن "أودين"، كبير آلهتهم، هو الذي ابتكر الأبجدية الرونية أو الفوثاركية (الفوثارك: نسبةً إلى الأحرف الستة الأولى)، وهذا ما تُعبِّر عنه صراحةً قصيدةٌ إسكندناﭭية قديمة تُدعى "هَفَمال" وتعني: "كلمات الواحد الأعلى" الذي هو "أودين". (المترجِم)

[19] أودِن أو أودين أو ﭭوتان Odin, Odhin, Wotan: كبير الآلهة في الميثيولوجيا الإسكندناﭭية. يُدعى بأبي الآلهة. اسمه مشتق من كلمة تعني الحماسة والغضب والشعر. هو إله الحكمة والحرب والمعركة والموت. (المترجِم)

[20] الطوطمية: تنظيم اجتماعي يتأسس على الطوطم، وهو حيوان أو نبات يعتبره أبناءُ جماعة أو قبيلة ما جَدًا أسطوريًا لهم فيتَّخذونه رمزًا. (المترجِم)

[21] إنجيل متَّى، 10، 34. (المترجِم)

[22] الـﭙنوما pneuma هو النفَس أو الهواء الساخن المتحرك. وفي العربية: النفَس هو الريح تدخل وتخرج (المتحركة) من أنف الحي ذي الرئة وفمه حالَ التنفس. ومنها النفْس. والنفْس هي الروح. وأصل الروح من الريح، أي الهواء إذا تحرك. يقال للنفَس أيضًا: نسَمة ونسَم. والنسَمة هي الإنسان. ونسَمَتِ الريحُ تنسِمُ نسْمًا ونسيمًا: هبَّت رويدًا. (المترجِم)

[23] نسبةً إلى الأمير الشاعر أورفيه Orphée الذي كتب التعويذاتِ والذي يُنسَب إليه تيارٌ ديني يُدْعى الأورفية orphisme. يعتقد أتباعُ هذا التيار أنَّ البشرَ مولودون من الرماد والعمالقة Titans وأنَّ روح الإنسان المحبوسة في سجن الجسد تحمل عبءَ خطيئة أصلية هي خطيئة العمالقة. ولهذا فإنَّ الروح لا تتحرر من سجنها إلاَّ بعد تطهيرها من خلال المرور بعدة دورات حياة وعن طريق الصوم والتقشف والمسارَرة. (المترجِم)

[24] ﭙـان [ﭙـانيون] Pan: هو إله الكل، إله الطبيعة بكاملها (إله الرعاة والقطعان والجبال...) عند اليونان مماثل لـ "فانيس" Phanès أو "ﭙروتوغونوس" Protogonos. (المترجِم)

[25] المقصود هو اسم الله: الخير المُطْلَق؛ وقد يقابله في الموروث الإسلامي اسم الله: "الجامع". (المترجِم)

[26] إنجيل لوقا، الإصحاح 12، فقرة 49. (المترجِم)

[27] الإلهة "معات" Maât إلهة الحقيقة والعدالة وإبنة رع عند المصريين القدماء. (المترجِم)

[28] أوقيانوسيا: أحد أجزاء العالَم الخمسة، وتضم القارة الأسترالية مع بعض الجُزُر، وتنقسم إلى 3 أجزاء: ميلانيزيا la Mélanésie وميكرونيزيا la Micronésie وﭙولينيزيا la Polynésie [جُزُر السود]. (المترجِم)

[29] الرجم بالغيب: التخمين والظن من غير دليل. استُخدِم هذا التعبيرُ في القرآن في معرِض الكلام عن عدد أهل الكهف: (... ويقولون خمسةٌ سادِسُهم كلبُهم رجمًا بالغيب، ويقولون سبعةٌ وثامنُهم كلبُهم، قلْ ربي أعلمُ بعِدَّتِهم...) سورة الكهف، الآية 23. (المترجِم)

[30] ربما تقابل كلمةُ gentils الأميين في التعبير القرآني، وهم الأمم أو القبائل التي ليس لها كتاب ديني ترجع إليه، وكان يُقصَد بهذه الكلمة الأمم من غير اليهود. وعليه، فقد كان العربُ قبل الإسلام أميين (وثنيين) ليس لأنهم لا يقرؤون الأبجديةَ، لأنَّ منهم من يقرأ، بل لأنه ليس لديهم كتاب مقدَّس كأمٍّ (نموذج بدْئي Archétype جمعي) يرجعون إليه؛ فأُمِّيتهم ليست لغوية بل دينية. وهو ما ترمي إليه الآية: (هو الذي بعثَ في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِه ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتابَ والحكمة وإنْ كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين.)، سورة الجمعة، الآية 2. (المترجِم)

[31] الدوكيتيون Docètes (القرنان الثاني والثالث الميلاديان): يرون أن المسيحَ، لكونِه الله، لا يجوز عليه أنْ يعيشَ ثمَّ يتألَّمَ على الأرض إلا من حيثُ الظاهر (نفي طبيعته البشرية). (المترجِم)

[32] اللاوي lévite: نسبة إلى لاوي بن يعقوب؛ من سِبْطه خرج اللاويون كهنةُ إسرائيل. (المترجِم)

[33] أوريجانوس Origène: (الإسكندرية 185 – صوْر 252/254): شارح ولاهوتي كبير يُعَدُّ أبا الكنيسة اليونانية. جعلَ من مَدْرسة الإسكندرية مَدْرسةً لاهوتية شهيرة. أُدينَتْ أفكارُه. (المترجِم)

[34] حام Cham: هو الابن الثاني لنوح. لُعِنَ، بحسب الكتاب المقدَّس، هو وذريتُه الكنعانيون لقلة احترامه لأبيه. (المترجِم)

[35] سام Sem: هو الابن البكر لنوح وجد الساميين. ويافث Japhet هو الابن الثالث لنوح. (المترجِم)

[36] البُسُط Stromates: من مؤلفات إكليمندس الإسكندري [تيتوس فلافيوس إكليمندس]. وهي سلسلة من ثمانية أجزاء غرضها الأساسي التقريب بين الإيمان المسيحي والفلسفة الهيلينية. (المترجِم)

[37] مرقص أوريليوس Marc Aurèle: (161 – 180): إمبراطور وفيلسوف روماني. (المترجِم)

[38] ﭙـلوتُس Plaute: (254 – 184 ق. م.): شاعر كوميدي لاتيني. (المترجِم)

[39] لوقريطُس Lucrèce: شاعروفيسلوف لاتيني (98 – 55 ق. م.). واسمه: تيطُس لوقريطيوس قارُس Titus Lucretius Carus. (المترجِم)

[40] حجر الفلاسفة pierre philosophale: حجر خرافي كان القدماءُ يعتقدون أنه يحوِّل المعادنَ إلى ذهب. (المترجِم)

[41] الكأس المقدَّسة Graal (le Saint-Graal): هي الكأس المقدَّمة للمسيح في العشاء الأخير la Cène والتي استخدمها يوسفُ الرامي Joseph d’Arimathie لجمع دم المسيح الذي سال من جنبه. (المترجِم)

[42] الـﭭولغاتا Vulgate: الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس، من عمل القديس جيروم Jérôme. وهي الترجمة الرسمية للكنيسة اللاتينية بعد أن اعتمدها مَجْمع ترانت عام 1546. (المترجِم)

[43] أسفار الحكمة Sapientiaux هي خمسة أسفار: الأمثال، أيوب، الجامعة Ecclésiaste، بن سيرا [حكمة يوشع بن سيراخ] l’Ecclésiastique ou Siracide، الحكمة. (المترجِم)

[44] القديس نيقوديموس Nicodème: (في القرن الأول الميلادي): أحد أعيان اليهود وعضو المَجْمع اليهودي Sanhédrin. كان فرِّيسياً وأصبح تلميذًا للمسيح في السر. وهو الذي ذهب مع يوسف الرامي Joseph d’Arimathie لطلب جسد المسيح من بيلاطُس البِنطي Pilate Ponce. (المترجِم)

[45] يير أبيلار Pierre Abélard: (1079 – 1142): فيلسوف ولاهوتي فرنسي. (المترجِم)

[46] "ويلٌ لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذْتم مفتاحَ المعرفة. ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم." أنجيل لوقا، الإصحاح رقم 11، الفقرة 52. (المترجِم)

[47] الرواقية stoïcisme: مذهب الفلاسفة الرواقيين الذي يقول بأن كل شيء في الطبيعة يوجد بالعقل الكلي والقدَر وإطاعة ما يأتي به القدَر من رضا واختيار ويرى أن ماهية الإنسان جزء من الوحدة الجامعة بين الله والطبيعة. ويعبِّر عن عدم مبالاة باللذة أو الألم. (المترجِم)

[48] العَنْصَرة Pentecôte: حلول الروح القدس على التلاميذ. (المترجِم)

[49] مقتطف من ترنيمة Dies irae التي يتم إنشادها في قداس المأتم في الليتورجيا الكاثوليكية: « Quaerens me sedisti lassus ».

[50] مقتطف من نشيد Vexilla regis:

«Beata (arbor) cujus brachiislPretium pependit saeculilStatera Jacta corporis.lTulitque praedam Tartari.»

[51] ترنيمة تُنشَد في صلاة الغروب في عيد الميلاد:

«Sicut sidus radium/profert Virgo filium/pariforma./Neque sidus radio/neque mater filio/fil corrupta. »

[52] «Sol occasum nesciens/stella semper rutilans/semper clara.».

[53] مقتطف من نشيد Pange lingua الذي يُنشَد يوم الجمعة العظيمة:

«Ipse lignum tunc notavit, damna ligni ut solveret.»

[54] المرجع المذكور: « ... arbor una nobilis/nulla silva talem profert/fronde, flore, germine.»

[55] ﭙورفيروس Porphyre: (صُوْر 234 – روما 305): فيلسوف يوناني، أفلاطوني، نشرَ إنياذةَ Ennéades أستاذِهِ أفلوطين Plotin وحارب المسيحيين. (المترجِم)

[56] الإمبراطور مرقص أوريليوس كومودوس Marcus Aurelius Commodus (161 – 192) بن مرقص أوريليوس. (المترجِم)

[57] الأباطرة الأنطونيون Antonins: اسم الأباطرة الرومان السبعة: نيرﭭـا، تراجان، أدريانوس، أنطونينوس، مَرقُص أوريليوس Marc Aurèle، ﭭـيروس، كومودوس. (المترجِم)

[58] القصيدة الرعوية églogue: هي أحد القصائد العشر التي كتبها ﭭرجيلُ. (المترجِم)

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود