يكشف
تدقيق النظر في مصنفات ابن قتيبة عن ممارسة تأليفية متميزة يصدر فيها
صاحبها عن تصوُّر خاص لوظيفة التأليف ومقاصده. وهو تصوُّر يحكمه النسق
الفكري والعقدي الذي ارتهن إليه المؤلف؛ فلم يكن ابن قتيبة، فيما يبدو،
يفصل بين شخصية الأديب وشخصية الفقيه. لقد أراد إقامة بلاغة متوافقة مع
منهج أهل السنة في فهم أصول العقيدة. وقد كان إنتاج هذه البلاغة يتعارض
مع بلاغة أخرى نقيضة هي بلاغة الاعتزال، التي كانت تستند إلى أصول
فكرية ومذهبية مخالفة. فكيف وظفت البلاغة لحلِّ مشكلات العقيدة؟ وما هي
مظاهر هذا التوظيف؟
يمثِّل
التصوف الديني القدرة التأويلية للفكر الإنساني في تجاوز ظاهر النص
للوصول إلى أعماق أكثر اتساعًا وبلوغ حقائق أكثر يقينية، وفي سبيل ذلك
يسعى العارف إلى تجاوز الفعالية العقلية ومدارك المحسوسات المادية
بانتخاب ملكات الذوق ومحجَّات الحدس لاستشراف رؤيته القلبية في معرفة
خفايا الكون واكتناه أصل الوجود،
كذلك تتبدى الرؤية الفنية في قدرتها على الحركة في فضاء لازمني أفقه
مفتوح دائمًا نحو انبعاثات مستمرة تردم الهوة بين الواقع المتناهي
والإبداع الخلاق.
يسعى هذا
البحث
إلى الكشف عن صوفية شعرية جديدة عند أدونيس من خلال هذه الصلة الجوهرية
بين الإشراق الصوفي والرؤية الفنية في الحداثة الشعرية، والتي تتعدى
الأقفاص العابرة للغة في محاولة الوصول إلى ذلك المعدن اللامرئي للوجود
وتلك اللحظة الإكسيرية لنقاء العالم، وهو الذي سعى إلى خلخلة أرض اللغة
لكتابة دم الآلهة
حاملاً في مهيض جراحته نبض ارتجافة الإنسان حتى ترن أجراس الكون بصلاة
آلام إنسانية عظيمة، وقد جعل من اللغة مدار تحولاته، مغيبًا ذاته في
حبر المعنى لملابسة إشعاع لحظة الخلق الشعري المطلق التي تنفرج كانبعاث
ضوء موشوري يمتد من محيط العدم حتى سرمد الإحاطة.
"سخافة" في عالمٍ مأزوم: الفرح
لا ينقضي يوم من غير أن يقوم خبراء - بحسب اختصاصاتهم العلميَّة –
بتحليل الأزمة التي يجتازها العالم حاليًّا: فمن الانهيارات
الاقتصاديَّة إلى تلوُّث البيئة، ومرورًا بفقدان القيم الأخلاقيَّة،
تصيبنا بالتُّخمة وتستهدفنا وغالبًا ما تحشرنا في مواجهة جدار من
التَّشاؤم، المعطياتُ المختلفة والنَّظريَّات والتَّخمينات، الكارثيَّة
بالأولى، التي يقدِّمها العلماء بهدف إنذار الجنس البشريِّ وكوكبه.
ينبئنا المنطق إذًا أنَّ الوقت قد حان كي يلجأ البشر إلى تحت الأرض، كي
يكدِّسوا احتياطاتٍ غذائيَّة في مخازن محصَّنة عميقة، وفي أسوأ
الأحوال، كي يستعدوا للجلاء في حشود إلى كواكب أخرى.. إنَّ اقتراحي هنا
هو عدم الاستسلام إلى النظرة التَّشاؤميَّة. ألاَّ نقتصر على اتِّباع
طريق المنطق العلميِّ (الضروريِّ مع ذلك) بل، عبر قلبٍ فعليٍّ للوجهة،
أن نغتنم الفرصة
التي تقدِّمها لنا هذه الأزمة لكي ندمج في حياتنا قيمةً يبدو أنَّ
الناس قد نسَوها ألا وهي الفرح.
على
صعيد الخير والشر، يمكن أن يكون هناك امتثال أو عدم امتثال لإرادة الله
بحسب العلاقة بالخير وبالشر. يقوم الإيمان بالعناية الإلهية على اليقين
بأن الكون في كُلِّيَّته ممتثل لإرادة الله ليس فقط بالمعنى الأول ولكن
بالمعنى الثاني أيضًا؛ أي أن الخير يغلب الشرَّ في هذا الكون. وهنا لا
يمكن أن نقصد سوى الكون بكُلِّيَّته،
لأننا في الأمور الجزئية لا يمكننا للأسف أن نشكَّ في وجود الشر. وهكذا
فإن موضوع هذا اليقين هو ترتيب أزلي وكلِّي يشكِّل أساسَ النظام الثابت
للعالَم. إذا لم أخطئْ، لا تظهر العنايةُ الإلهية أبدًا بغير هذا الوجه
لا في الكتب المقدسة للصين والهند واليونان ولا في الأناجيل.
كثيرًا
ما توصَف الحياة بأنَّها المدرسة الحقيقيَّة. ويتزامن من حيث الواقع
دخول الطفل "معترك" الحياة مع دخوله إلى المدرسة، فهو من جهةٍ يبدأ
بتكوين استقلاليَّته وصداقاته ويبدأ بوعي حقوقه بقدر ما يُطلَب منه
الالتزام بواجباته.. ومن جهةٍ أخرى يزداد عدد الأطفال الذين يلجون
"معترك" الحياة بارتيادهم، إلى جانب المدرسة، مراكز تعليميَّة أو
تربويَّة أخرى يتَّسع طيفها بما لا يسمح لنا بالمرور عليها جميعًا...
سوف نعود إلى المدرسة مرَّة أخرى وفي فصلٍ مستقلٍّ، لنتحدَّث عن
المدرسة من الدَّاخل أو عن المدرسة بحدِّ ذاتها... أمَّا هذا الفصل
فسنتابع فيه الحديث عن علاقة المدرسة بالمؤسَّسات التَّربوية الأخرى،
وما سأتحدَّث عنه الآن هو نماذج من مؤسَّسات يمكن أن يتردَّد إليها
الأطفال بالتَّزامن مع عمر المدرسة.