الصفحة السابقة

المدرسة وأخواتُها2

 

أديب الخوري

المدرسة الكبرى

الاختلاف بين المدرسة والحياة،
هو أنَّ المدرسة تعطيك درسًا ثمَّ تختبرك فيه
أمَّا الحياة فهي تقدِّم لك اختبارًا يعطيك درسًا.
(توم بوديت)

كثيرًا ما توصَف الحياة بأنَّها المدرسة الحقيقيَّة. ويتزامن من حيث الواقع دخول الطفل "معترك" الحياة مع دخوله إلى المدرسة، فهو من جهةٍ يبدأ بتكوين استقلاليَّته وصداقاته ويبدأ بوعي حقوقه بقدر ما يُطلَب منه الالتزام بواجباته.. ومن جهةٍ أخرى يزداد عدد الأطفال الذين يلجون "معترك" الحياة بارتيادهم، إلى جانب المدرسة، مراكز تعليميَّة أو تربويَّة أخرى يتَّسع طيفها بما لا يسمح لنا بالمرور عليها جميعًا...

سوف نعود إلى المدرسة مرَّة أخرى وفي فصلٍ مستقلٍّ، لنتحدَّث عن المدرسة من الدَّاخل أو عن المدرسة بحدِّ ذاتها... أمَّا هذا الفصل فسنتابع فيه الحديث عن علاقة المدرسة بالمؤسَّسات التَّربوية الأخرى، وما سأتحدَّث عنه الآن هو نماذج من مؤسَّسات يمكن أن يتردَّد إليها الأطفال بالتَّزامن مع عمر المدرسة.

مراكز التَّعليم الدِّينيِّ

إذا تجاوزنا الحديث عن الفارق بين "دينيٍّ" و"روحيٍّ" (وهنا وقفة تفكُّرٍ أخرى لمن يشاء) نبقى مع ذلك أمام إشكاليةٍ لا تخلو من التَّعقيد بقدر ما هي شديدة الحساسيَّة. فأمام هذا العنوان، بل أمام كلمة "دينيٍّ"، سيأخذ الكثيرون وضع التَّأهُّب الفكريِّ، وسيقف العلمانيُّون خصوصًا للحكم مباشرةً: "لا يحتاج الأمر إلى نقاش، فليكن التَّعليم الدِّينيُّ لمن يريده خارج المدرسة. نقطة، انتهى". وسوف يشمِّر المتديِّنون عن سواعد أفكارهم للرَّدِّ بحزم، لا على العلمانيِّين فقط بل على بعضهم بعضًا كذلك.. وبسبب هذه الحساسيَّة وهذا التَّعقيد، سأحاول أن أطرح الأمر بعموميَّته ومن دون تفاصيل. وأنا أجد نفسي مدعوًّا لذلك – وأنا أكتب في إطار مجتمعٍ يعتبر نفسه متديِّنًا وملتزمًا على العموم – لأنَّ الطالب الذي يتابع أيَّ تعليم، حتَّى ولو كان خارج المدرسة، يبقى في كلِّ الأحوال ابن المدرسة ومسؤولاً منها، بعد والديه بالدرجة الأولى.. وبالمشاركة معهما.

ما تزال هناك مدارس في بعض الدول تفرض تعليمًا دينيًّا لدينٍ معيَّن على جميع التَّلاميذ على السَّواء. فيما يشكِّل التَّعليم الدِّينيُّ في دولٍ أخرى مادَّةً دراسيَّة في جميع المدارس ولكن لكلٍّ بحسب انتمائه [وهذا لا يمكن أن يتحقَّق من الناحية العملية لأنَّ هناك على الدَّوام بعض الأقليات الطائفية التي يجري تصنيفها مع طوائف أخرى، فضلاً عن وجود فئاتٍ من غير المؤمنين الذين يجدون أنَّ أولادهم يتلقُّون تعليمًا غير مقبول بالنسبة لهم]. وثمَّة في الطَّرف الآخر دولٌ تمنع أيَّ شكلٍ من أشكال التَّعليم الدِّينيِّ في المدارس، أو على الأقلِّ في الحكوميَّة منها.. فهناك يُعتَبر الدِّين أولويَّةً، وهنا يُعتبر الدِّين شأنٌ خاصٌّ.. وثمَّة بين هنا وهناك الكثير من النظريات والاقتراحات والمقاربات.

في جميع الأحوال، وسواء كان التلميذ أو الطَّالب يرتاد مدرسةً يُعطى فيها تعليم الدِّين أو لا، فإنَّ هناك في كلِّ مكانٍ مصادر ومراكز أخرى للتَّعليم الدِّينيِّ.

يمكن طرح العديد من المواضيع لمناقشتها هنا: هل يحسن وجود تعليم دينيٍّ في المدارس؟ أم يُترَك هذا المجال للمراكز الدِّينيَّة، لا سيَّما أنَّ الذين يتَّجهون نحو العلمانية (ونحو اللادينية) حتى في المجتمعات المحافظة والدينيَّة تقليديًّا، يزدادون بشكلٍ ملحوظ؟ [ما لا ينفي أنَّ الكثير من المادِّيِّين والعلمانيِّين تقليديًّا يعودون إلى البحث عن "حضنٍ" روحيٍّ أيضًا] ناهيكم عن كون التَّعليم الدِّينيِّ في المدرسة غالبًا ما يجري على نحوٍ شكليٍّ ويقتصر على حفظ بعض المعلومات التي يمكن أن تُنسى سريعًا، وهو تعليمٌ غالبًا ما يجري انتقاده حتَّى من قبل بعض المؤسَّسات الدِّينيَّة المختصة.

هل يُستحسن تبنِّي فكرةٍ طُرِحت مرارًا حول مادَّة يمكن أن تُسمَّى "تربيةً روحيَّة" على سبيل المثال تعرِّف التلاميذ على نحوٍ محايد بالتَّقاليد الروحيَّة لمختلف أديان وطوائف العالم؟ أم أنَّ تطبيق مثل هذا الاقتراح يمكن أن يؤدِّي إلى تشتُّت أو تشويش في الانتماء؟!

هل يمكن تبنِّي أفكارٍ أخرى طُرِحت مرارًا (في بلدٍ يضمُّ مسلمين ومسيحيِّين مثلاً) مثل تخصيص أوقاتٍ يُطلِع من خلالها مختصٌّ مسلم التلاميذ المسيحيِّين على حقيقة الإسلام، في الوقت نفسه الذي يبسط فيه مختصٌّ مسيحيٌّ أمام التلاميذ المسلمين حقيقة المسيحيَّة، على سبيل توطيد العيش المشترك مثلاً؟ ولمَ لا يقوم شخصٌ مختصٌّ آخر بإطلاع هؤلاء وأولئك على العلمانيَّة؟.. ولكن، وفي نهاية الأمر، هل يمكن أن يوجد شخصٌ ينتمي إلى قناعة دينيَّة أو غير دينيَّة محدَّدة، ويستطيع شرح قناعته أمام آخرين، وخصوصًا أمام صغار، دون أن يرمي بقدرٍ أو بآخر إلى استمالتهم إليها؟ وإن وُجِد مثل هؤلاء الأشخاص فهل يوجدون بما يكفي ليغطُّوا هذا العدد من المدارس؟!

ثمَّة الكثير من المواضيع التي تحتاج إلى نقاشٍ حقيقي وواسع والمجال هنا لا يتَّسع لأكثر من طرح التَّساؤلات السَّابقة دون أيِّ محاولةٍ للإجابة عنها، مع التشديد على ضرورة فتح هذا النقاش بشجاعة وجرأة طالما أنَّ الكثير من المفكِّرين يُرجِعون قسطًا وافرًا من أسباب ما يسود العالم من حروب إلى هنا!

إنَّما الأمر الوحيد الذي أريد مناقشته الآن هو علاقة المدرسة نفسها – سواء كانت دينيَّة أو علمانيَّة، خاصَّة أو حكوميَّة، أساسيَّة أو ثانويَّة، تدرِّس أو لا تدرِّس مادَّة تربيَّة دينيَّة، وبغضِّ النَّظر عن بلدٍ محدَّد أو دينٍ بعينه – بمراكز التَّعليم الدِّينيِّ التي يرتادها تلاميذها وطلاَّبها إن وُجِدت.

يتأثَّر التلميذ بكلِّ تأكيد بما يتابعه من تعليمٍ دينيٍّ خارج المدرسة. ويمكن لهذا التأثير أن يكون سلبيًّا أو إيجابيًّا (وهذا التصنيف: سلبي - إيجابي حمَّال أوجهٍ بالتّأكيد) ويرتبط هذا بالتلميذ نفسه وبمدى فهمه لما يتعلَّمه كما يرتبط بالمركز المعني الذي قد يكون معتدلاً أو متطرِّفًا[1].. كما يمكن لتأثُّر التلميذ أن يكون سلبيًّا في بعض وجوهه وإيجابيًّا في وجوه أخرى، وهو في كلِّ الحالات ينعكس من خلال التلميذ، على زملائه وبالتالي على المدرسة، ويزداد هذا الانعكاس كلَّما كان عدد التلاميذ الذين يرتادون مركز التَّعليم الدِّينيِّ نفسه أكبر.

نتخيَّل مدرسةً تهتمُّ بعمقٍ بتلاميذها وطلاَّبها. وتتابع من حيث المبدأ، عبر المرشدين أو الموجِّهين أو غيرهم من المختصِّين، نموَّهم، لا الدراسيَّ فحسب، بل وكذلك الفكريَّ والنفسيَّ. وتهتمُّ من ضمن ذلك بمتابعة توجُّهاتهم وخياراتهم في الحياة بمسؤوليَّة وحياد. إنَّ التواصل مع مراكز التعليم الدِّينيِّ لا بدَّ أن يكون ضروريًّا جدًّا إذًا. إذ يمكن للمدرسة إن كانت منفتحةً ومعتدلة، وعلى اختلاف توجهها العقائديِّ أو العلمانيِّ، أن تستفيد من مراكز التعليم الدِّينيِّ المعتدلة وأن تحاول القيام بنوعٍ من التَّنسيق أو التَّفاعل معها، أقلَّه على مستوى التركيز على القيم الأخلاقيَّة والسلوكيَّات الحميدة. كما يمكنها، ويكون عليها، أن تلعب دورًا كابحًا أمام مراكز التعليم المتطرِّفة والتي يمكن أن تستسلم أدمغة التلاميذ فيها لعمليَّات غسلٍ جماعيٍّ سهل[2]. وسنجد هنا فرصةً جديدة للحديث عن ضرورة التواصل الفعَّال بين الأهل والمدرسة، فوقوع التلميذ في أسر أحد المراكز المتطرِّفة يمكن أن يكون بسبب دفعٍ من الأهل، وهنا مكان تواصلٍ وعملٍ هامٍّ مع الأهل أوَّلاً، أو يمكن أن يكون سببه هروبًا من البيت ومن الأهل، وهنا مكان تواصلٍ وعملٍ، ومرَّة أخرى، مع الأهل أوَّلاً.

يمكن أن يقول قائلٌ هنا (أو كذلك في أماكن أخرى من هذا الفصل) إنَّ متابعة الطفل في مثل هذه الأماكن هو واجب واختصاص الأهل لا المدرسة. أقول – ومهما كان في الأمر تكرار - إنَّ الأهل أشخاصٌ لهم درجة وعيهم ومعرفتهم، وهم مُطالَبون بطبيعة الحال بمتابعة أبنائهم، لكن المدرسة، باعتبارها مؤسَّسةً تشكِّل جزءًا من منظومةٍ تربويَّة كبرى، وتخضع إلى قوانين وأعراف تشكِّل جزءًا من العقد الاجتماعي لكلِّ الناس في المجتمع، وباعتبار إدارتها وموجِّهيها ومعلِّميها أكثر وعيًا وخبرةً على الصعيد التَّربويِّ من الإنسان العاديِّ غير المختصِّ [أقلَّه بسبب الدراسة والتأهيل الجامعيَّين] يُفتَرض أن يكون لها دورها في متابعة الطفل أو الشَّاب، وقدرتها على لعب دورٍ إيجابيٍّ في نموِّه وعلى إضاءة طريقه، وعلى مساعدته في تجاوز ما يصادفه من عوائق على هذه الطريق. وفي كثيرٍ من الحالات يمكن للمدرسة أن تجد نفسها مدعوةً لعملٍ أوَّليٍّ مع الأهل أنفسهم ينعكس إيجابًا على الطفل كما أشرت.

المدرسة والأندية الرِّياضيَّة والمعاهد الفنِّيَّة..

تتجاوز أيُّ رياضة قيمتها الاجتماعيَّة والتَّرفيهيَّة.
فالرِّياضة أداةٌ هامَّة لتوجيه الشَّباب وتحفيز روح المحبَّة.
(إعلان أمستردام، المؤتمر العالمي الثامن حول الرياضة والتَّربية والثَّقافة، 2012)

لا يمكن لمدرسةٍ مهما بلغ اتِّساعها ومهما عظُمَت قدراتها أن تغطِّي كلَّ حاجات التلاميذ والطلاب على تنوُّعها. يمكن للمدرسة على سبيل المثال أن تُدخِل التلاميذ في عالم الموسيقا مثلاً، لكنها لا تستطيع أن تواكب كلَّ تلميذٍ في الآلة الموسيقية التي قد يختارها لتعلُّم العزف، خصوصًا عندما تبلغ الموهبة والممارسة مرحلةً تحتاج إلى عناية خاصَّة وفي كثيرٍ من الأحيان شخصية.

لا بدَّ للمدرسة بالمثل، أن تحرص على ممارسة تلاميذها للرِّياضة وأن تهتمَّ ما أمكن بلياقتهم البدنيَّة، لكن افتتاح اختصاصاتٍ للجمباز والسباحة وألعاب القوى وألعاب الكرات المختلفة (الخ) لا يبدو أمرًا واقعيًّا، ومنافسة الأندية المختلفة بمساحاتها وملاعبها وتجهيزاتها لا يبدو فكرةً معقولة.

ينطبق ذلك على مجالاتٍ كثيرة أخرى مثل الفنون التشكيلية والرقص والتمثيل والغناء.. والقائمة طويلةٌ جدًّا.

ثمَّة أماكن أخرى بطبيعة الحال لممارسة هذه النشاطات، أو لتنمية هذه المواهب المختلفة. لكن السؤال حول دور المدرسة في هذا المجال هو ما يبدو لي أمرًا يحتاج إلى الكثير من الإضاءة. وأعتقد أنَّ على الإجابة أن تدور في فلك الدَّور التربويِّ للمدرسة أوَّلاً.

ليست غايتي هنا هي تفصيل كلِّ الحالات، ولا يتَّسع المقام لذلك أساسًا. ولذلك أتناول موضوع الرياضة المدرسية نموذجًا أطرح من خلاله فكرتي عمَّا يجدر أن تكون به علاقة المدرسة مع أيِّ مؤسَّسة أخرى، من "أخواتها الصَّغيرات"، في المجالات الإبداعية المختلفة، تكمل عملها في ناحيةٍ أو أخرى.

لا تجد الرِّياضة في كثيرٍ من الأحيان موقعها المناسب في الحياة المدرسية. فهي على العموم تشكِّل مادَّةً من بين "المواد الدِّراسيَّة" وهي غالبًا ما تُعتَبَر، مادَّةً ثانويَّة، فهي في المنظور السَّائد أقلُّ شأنًا من القراءة والحساب واللُّغات...

لكن الرِّياضة – من حيث المبدأ – يمكن أن تلعب، فضلاً عن كونها مجالاً لبناء "الجسم السليم" الذي يتناسب مع "العقل السليم" كما يقول المثل الشائع، دورًا أوسع بكونها إطارًا لبناء قيمٍ عديدة هامَّة:

-        قبول المختلف في العرق أو الشكل أو غير ذلك والانطلاق من "اللَّعب معه" إلى "العيش معه".

-        الرُّوح الرياضيَّة وقبول الخسارة والربح.

-        قبول قواعد اللُّعبة والتقيُّد بها، وما يمكن أن يشكِّله هذا من مرحلةٍ للعبور إلى قبول قوانين المجتمع واحترامها والالتزام بها.

-        قيمة الانتماء إلى فريق ما يدعم الانتماء إلى المدرسة وهو مقدِّمة للشعور بالانتماء الوطنيِّ والقوميِّ العميق ضمن مفهوم مشاركة لا منافسة عنيفة مع الآخر.

وفضلاً عن كلِّ ما سبق فإنَّ الرياضة المرتبطة بدرجةٍ كبيرة باللعب (لأنَّنا – وحتَّى الآن – "ندرس" الرياضيات، لكننا "نلعب" الرياضة) هي مجال نشاطٍ وحياةٍ وفرح، ولربما كان نموّ الطفل والشَّاب وسط بيئةٍ من هذه المشاعر الإيجابية أكثر أهميةً (من أجل بناء مجتمعٍ سليم وعالمٍ يسوده السَّلام) من مقدار ما يحفظ في رأسه من معلومات مختلفة في هذا المجال أو ذاك.

لا تؤخذ روح هذه الاعتبارات بمقدارٍ كافٍ في معظم الأندية التي يُمارس فيها الكثير من التلاميذ والطلاب هواياتهم الرِّياضيَّة. فمن المعروف اليوم أنَّ الرياضة – عالميًّا، ومع كلِّ أسف – باتت مجالاً للاستثمارات الرَّأسماليَّة الضَّخمة، ومن الجليِّ أنَّ ذلك يجري على حساب القيم الرياضيَّة والأولمبيَّة، ومن الأكيد إنَّه يلقي بظلِّه على القاعدة الرياضية الواسعة في الأندية التي تدرِّب الرياضيِّين النَّاشئين وقد يطال حتَّى الرِّياضة المدرسيَّة أيضًا.

نجد على سبيل المثال طلابًا في المرحلة الثانوية ينتسبون إلى أنديةٍ لـ "كمال الأجسام" ولا يندر أن نجد بينهم مَن يقبلون تناول بعض المستحضرات التي تساعد في تضخيم العضلات بسرعةٍ أكبر وبحجمٍ مبالَغٍ به. ويحدث أيضًا أن ينقل مثل هؤلاء الشبَّان الصِّغار "معلوماتهم" و"أساليبهم" إلى أقرانهم في الصفِّ المدرسيِّ... ويحدث أيضًا، ومع كلِّ أسف.. أن يعطي مدرِّس الرِّياضة كرةً لطلابه ويتركهم يلعبون كرة القدم مدَّة حصَّة الرِّياضة، دون أن يلفت انتباهه وجود مثل هذا الطالب أو غيره!

ما هو إذًا دور المدرسة على الصَّعيد الرِّياضي؟!

أذكر "أستاذَين" للرياضة في المدرسة التي كنت طالبًا فيها. كان أحدهما يرتدي على الأغلب إن لم يكن على الدوام بذلةً رسميَّة، ولم نكن نراه، نحن الطلاب إلا في بداية الحصَّة وفي نهايتها، يسلِّمنا الكرات ويستلمها من جديد... أمَّا الآخر فكان على الدوام يرتدي من الألبسة ما يناسب الرِّياضة، وينتعل حذاءً رياضيًّا، ولا يندر أن يكون بين الطلاب لاعبًا دور الحكم في لعبةٍ أو أخرى. أعتقد أنَّ مثل هذا الحضور بين الطلاب هو المطلوب بالدَّرجة الأولى وهو حضورٌ يمكن أن يذهب إلى ما هو أبعد من مجرَّد التَّحكيم أو المشاركة في اللعب.

سبق أن أشرتُ عندما تحدَّثت عن العلاقة بين المدرسة والرَّوضة عن أهمية وجود ملفٍّ للتلميذ ينتقل معه سنةً بعد سنة. يقتصر وجود مثل هذا الملف (إضبارة الطالب) في واقعنا الرَّاهن، على النَّاحية الشكليَّة ويشمل الأمور الإجرائيَّة من تسجيلٍ ونجاحٍ ورسوبٍ ونقلٍ من مدرسةٍ إلى أخرى وما إلى ذلك... أمَّا ما أتحدَّث عنه فهو ملفٌّ متكامل يسجِّل بالتَّفاصيل نشاطات التلميذ ويُعنى بالإشارة إلى النواحي الاستثنائيَّة التي يمكن أن تشكِّل مع الوقت إشاراتٍ إلى مواهب التلميذ على كافَّة الأصعدة، أو من الناحية الأخرى إلى ما يمكن أن يعانيه من صعوبات.

لنفرض على سبيل المثال أنَّ مدرِّس الرياضة يجري اختبارًا في نهاية الفصل، وأن جزءًا من هذا الاختبار هو تسديد الطالب ثلاث رمياتٍ من نقطة الجزاء في كرة السلَّة. ولنفرض أنَّ أحد الطلاب سدَّد الرَّميات الثلاث ولم ينجح في أيِّ واحدةٍ منها. يمكن لأحد المدرِّسين أن يكتفي بتسجيل علامة الصفر على هذا الجزء من الاختبار وينتقل إلى الطالب التالي، ويمكن لمدرِّسٍ آخر أن يلاحظ أنَّ جميع المحاولات جاءت يسار السَّلَّة، فيطلب من الطالب إعادة الرَّميات، فإذا لاحظ أنَّ جهة اليسار ما تزال الجهة المفضلة عند الطالب فإنَّ بإمكانه أن يسجِّل ملاحظةً تنتقل عبر الإدارة إلى الأهل تنصحهم من خلالها (ولا سيَّما إذا أيَّدتها ملاحظاتٌ أخرى من مدرِّسين آخرين) بفحصٍ عند طبيب العيون لأنَّ الطفل قد يكون مُصابًا بانحرافٍ في النظر. فما هو الأهمُّ هنا نتيجة الاختبار أو وعي المدرِّب؟ وما هو الأهمُّ: تسجيل علامة أو عيْنَا الطَّالب؟

إنَّ السَّائد في معظم المدارس ولدى الأغلبية العظمى من المدرِّسين (في جميع المواد) هو اقتصار التقييم على العلامات، لكن ألا يُعتَبَر (وما زلنا في الرِّياضة نموذجًا) تسجيل عباراتٍ من قبيل: "يجري بسرعة ولكنَّه سرعان ما يتعب" أو "يميل إلى الرِّياضات الفرديَّة ويمكن أن ينجح فيها، ويصعب أن يندمج مع الفريق" أو "لا يتقبَّل التَّوجيه بسهولة، ويحاول دومًا تنفيذ فكرته" أو "يبدي حماسًا كبيرًا للعب كرة السلة، لكن قامته ليست بالطول الكافي للمضيِّ بعيدًا في هذه اللعبة، ويُمكن أن ينجح أكثر في كرة اليد"، أو "يبدي غرورًا تجاه زملائه بسبب تفوُّقه في كرة القدم الناجم عن التزامه بنادٍ خارج المدرسة"، الخ... ألا يُعتبر تسجيل مثل هذه العبارات أمرًا أكثر فائدةً بكثير من تسجيل الدرجات؟ فهي عباراتٌ يمكن أن تستفيد من بعضها المرشدة النفسيَّة الاجتماعية في وقتٍ ما، ويمكن أن يستفيد منها أهل الطالب، ويمكن أن يستفيد منها مدرِّس نفس المادَّة في السنة التالية، وهي في نهاية الأمر وعبر طرقٍ كثيرة تصبُّ في فائدة الطالب نفسه.

على هذا النحو يمكن للمدرسة أن تلعب دورًا هامًّا في اكتشاف الموهبة، أو المواهب المختلفة للطالب الواحد، وفي توجيهه نحو الأماكن المناسبة لتنميتها. ولا ينتهي الأمر هنا إذ يمكن للمدرسة، عبر المدرِّب المسؤول عن الطالب، أن تتابع تطوُّر الطالب في ممارسته للرِّياضة في النَّادي، وعلى الأقل من ناحية ضمان الحفاظ على القيم الرِّياضيَّة وعدم الانجرار إلى حالات تعاطي منشِّطاتٍ على سبيل المثال، إضافةً إلى ما يلزم من الدَّعم النَّفسي الاجتماعي التَّربوي اللازم للتَّمسُّك بقيم وسلوكيات وأخلاقيات المدرسة ونقلها إلى النادي المعني وليس العكس. أبعد من ذلك، وإذا لزم الأمر، يمكن للمدرسة، من باب الحرص على أولادها أن تذهب في بعض الحالات إلى حدِّ الدخول في حوارٍ مع النادي المعني، وصولاً إلى تخيير التلميذ بين المدرسة والنادي (أي أن يختار مدرسةً أخرى أو نادٍ آخر) وفي أسوأ الأحوال إلى مقاضاة النادي في حال التَّيقُّن من تأثيرٍ سلبيٍّ على التلميذ ناتجٍ عن مخالفةٍ للقوانين النَّافذة... وهنا نجد أنفسنا أمام موضوعٍ آخر متمِّم، وهو أهميَّة التطوير المستمرِّ للبيئة التشريعيَّة التي تخدم وتساعد المدرسة في رسالتها المنشودة.

يبقى أن أذكِّر مرَّة أخرى أنَّ الأمر لا يقتصر على مادَّة الرِّياضة، ولا على علاقة المدرسة مع النادي الرِّياضيِّ فحسب. فيمكن تكرار معظم ما تحدَّثنا عنه بطرق مشابهة في حالات مواد وأنشطة أخرى. إنَّ ما هو مطلوبٌ في المحصِّلة هو الحضور الواعي والمسؤول والمتابِع.

لقد جرت العادة أن تردِّد المدرسة (معلِّمين وموجِّهين وإدارةً..) على مسامع التلاميذ عبارة "المدرسة بيتكم الثَّاني"، وهي تُردِّد هذه العبارة غالبًا بهدف حثِّ التلاميذ، بطريقةٍ تبدو فظَّةً للأخيرين، على الحفاظ على النظافة والأثاث وما إلى ذلك، وأغلب الظنِّ أنَّ قلَّةً من الصِّغار يشعرون حقًّا بأنَّ المدرسة تشبه البيت.. والسَّبب على ما أظنُّ هو أنَّ على المدرسة أن تتصرَّف كما لو كانت بيتًا ثانيًا قبل أن تردِّد ذلك على مسامع تلاميذها: عندما يشعر المدرِّسون والموجِّهون والمدراء أنَّ تلاميذهم هم أولادهم، بحيث لا تنتهي علاقتهم معهم، واهتمامهم بهم، في حدود المدرسة بل تتعدَّاها إلى مجمل حياة التلاميذ، وعندما ينتقل المربُّون بمشاعرهم هذه إلى مستوى عيشها والعمل بها... فلسوف يشعر التلاميذ بأنَّ المدرسة بيتهم الثاني دون أن يخبرهم أحدٌ بذلك، وسيكتسبون أخلاق وسلوكيَّات المدرسة، وسيعتمدونها مرجعيةً أكثر من النادي أو المعهد أو المدرِّس الخاص... أو الشَّارع.

أعلم أنَّني أتحدَّث عن حالةٍ مثاليَّة... وأعتقد في الوقت نفسه أنَّ طريق الألف مكان يبدأ بخطوة.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] مع التَّشديد على عدم ربط التطرُّف بدينٍ بعينه، فكل انتماءٍ عقائديٍّ يوفِّر فرصًا للتطرف يجب الانتباه إليها.

[2] لا بدَّ من التَّمييز أيضًا بين مراكز دينيَّة واضحة المرجعيَّة، وأخرى مشكوكٌ بأمرها. ثمَّة وقائع مسجَّلة في أماكن عديدة من العالم، القريب منَّا أو البعيد عنَّا، جرى خلالها نوع من الاستقطاب لمجموعاتٍ من "الأتباع" من جانب "معلِّم" قد يكون جزءًا من جسمٍ دينيٍّ معروف أو لا. إنَّ أشهر تلك الحالات هي تلك التي انتهت بانتحاراتٍ جماعية مثلاً، لكنَّ حالاتٍ مشابهة وإن بمقدارٍ أقل خطورة يمكن رصدها، بين وقتٍ وآخر، في كلِّ المدن الكبيرة تقريبًا. لا بدَّ من التَّنويه أخيرًا إلى أنَّ طلاَّب المدارس الثانوية والجامعات كثيرًا ما يقعون ضحايا لمثل هذه الحالات.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني